الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22798 18
الدرس الرابع

عمدة الأحكام 2

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله وبيَّاكم، مرحبًا بطلاب العلم، حيَّاكم الله في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حيَّاكم الله شيخنا المفضال}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{الله يحفظكم ويبارك فيكم، توقفنا عند حديث أم عطية، نسيبة الأنصارية، نستأذنكم شيخنا في البدء.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -نُسَيْبَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ- قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ وَفِي لَفْظٍ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ»)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فحديث أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أصلٌ من أصول باب صلاة العيدين، حتى إنَّ جماعة من العلماء قد ذهبوا إلى وجوب صلاة العيدين، واستندوا في ذلك على حديث أم عطية، نسيبة الأنصارية -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
وبوجه عام: فإنَّ أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قد حفظت لنا جملة من السنن الجليلة عن رسول الله ، فحفظت لنا سنة رسول الله في صلاة العيدين، وأمره للنساء والحيَّض بأن يخرجنَ في صلاة العيدين، وحفظت علينا صفة غسل الميت، حيث إنَّ أحسن مَن رَوَىَ صفة غسل الميت هي أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها-، وحفظت لنا أيضًا الحكم الشرعي للمحدَّة، وأنَّ النبي «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، ولا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، ولا تَكْتَحِلُ، ولا تَمَسُّ طِيبً» ، هذه كلها من السنن التي روتها أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
ويلاحظ أنَّ هذه السنن كلها لها عناية بالجانب النِّسائي -جانب المرأة- لأن أم عطية لَمَّا وصفت غسل الميت إنما وصفتها لأجل أنها كانت هي غاسلة الميتات على عهد النبي ، فإنها إنما وصفتها أو وصفت غسل بنت النبي رقية أو أم كلثوم، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه يدل على أنَّ نساء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- كنَّ يحفظن من الأحكام ما تُعنى به المرأة، ومن أجل ذلك فإذا اختلف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في أمر يتعلَّق بالنساء ردوه إليهن، وهذا مِن ردِّ العلم إلى أهله، حتى العلم المختص بالنساء ينبغي للمرأة أن تكون ذات عناية به، ولهذا فإنَّ من الأمور التي ينبغي للمرأة بوجه عام أن تعتني بها وأن تحتسب، وأنا أعني طالبات العلم؛ لأنَّ طالبات العلم يشاركن الرجال في علوم كثيرة، وهذا أمر جيد، لكنه مفضول لا فاضل؛ لأنَّ الفاضل أن تتخصَّص المرأة في المسائل التي تُعنى بها.
والسبب في ذلك بوجه عام: أنَّ الرجال إنما يرد إليهم غالبًا، فلن تجد المرأة مَن تسألها عن أحكام الصَّلاة وأحكام الزكاة -أعني طالبة العلم- وأحكام الحج؛ لأنَّ النساء سيسألن الرجال، وهذا نوع من الأمر مستقر في نفوس النساء، تجد أنَّ المرأة تثق بقول العالم، لكن طالبات العلم بحاجة إلى أن يُسألن في المسائل التي تُعنى بها النساء، كأمور الحيض والنفاس وأمور الحمل، وغيرها من الأمور التي ينبغي للمرأة أن تعتني بها، فينبغي على طالبات العلم أن يتوجهن إلى مثل هذه المسائل، وأن يتوجهن بخاصة إلى المسائل النوازل التي يُحتاج إليها في هذا العصر من قبل النساء، كجملة من أحكام التجميل وضوابطها وما هي الأضرار المترتبة عليها التي تسوغ للمرأة أن تقدم على عملية التجميل ونحو ذلك! هذه كلها من الأمور التي تستفاد من فقه الصحابيات؛ لأننا نعلم أنَّ أكثر الفقيهات من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- هي عائشة الصديقة، فهي أعلم نساء الأمة بالإجماع، وقد كان يُرد إليها كثيرًا، لكن إنما كانت تُقصد في الأمور الخاصة بالنساء، أو الأمور التي يستسرُّ بها.
ولهذا لَمَّا اختلف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كما رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهم -وهذا من مسائل الاجتهاد الجماعي- لَمَّا اختلف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- مما يكون الغسل؟ هل هو من الإيلاج أو من الإنزال؟ وجمعهم عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فتنازع بين يديه المهاجرون والأنصار، كل يقول بقولٍ، فقال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قد اختلفتم في هذا وأنتم أصحاب الله ؛ فكيف يكون الشأن فيمن بعدكم؟! فقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا من حكمته -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا أمير المؤمنين ألا أدلك على أعلم الناس بهذا الأمر؟ سلْ عنه زوجات رسول الله ، فأرسل إليهن فجاءه منهن الخبر اليقين، ورجع إليهن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وردَّ إليهن، فدلَّ ذلك على أن المرأة ينبغي لها أن تعتني بالأحكام التي تحتاج إليها المرأة، حتى تكون مرجعًا للنساء، لأن كثير من النساء يستحين، فتستحي المرأة أن تسأل الرجال في بعض الخاصَّة، سواء المتعلقة بالحياة الزوجية أو المتعلقة بأمور النساء، فإذا كان ثَمَّ فقيهة أحيل عليها، أولم يقل ابن سيرين لما سُئل عن مسائل الحيض والنفاس وهو ابن سيرين -رَحِمَهُ اللهُ- في جلالته وقدره ومن كبار أئمة التابعين، قال: "النساء أعلم بذلك". أي: يرد إليهن، لأن الأمر يتعلق أيضًا بأمور عرفية بينهم، المرأة تعرف ما هي العادة وما هي أنواع العادة، الرجل قد يخفى عليه كثير من مثل هذه المسائل، فهذه من الجوانب التي ينبغي أن تراعى في مثل طلب العلم للمرأة بوجه عام، نقول: المرأة تطلب العلم بعامة لكنها تركز على ما تحتاج إليه النساء.
ولأجل ذلك تخصَّصت أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في جملة من المسائل التي تحتاج إليها النساء، لو لم يردنا حديث أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في صفة غسل المرأة الميتة لَما عرفنا كيف نغسلها، ولظننا أنها إنما تُكفَّن فيما يُكفَّن فيه الرجل، حتى جاءنا حديث أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فإذًا المرأة لها صورة أخرى وصفة أخرى في الكفن، فيها مزيد عناية ومزيد ستر ومزيد خصوصية.
روت أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- هذا الحديث، قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ».
العاتق: هي الجارية البكر التي ناهزت أو قاربت الاحتلام.
ذوات الخدور: هي الجارية أيضًا.
ولهذا قال بعض العلماء: العواتقُ هن ذوات الخدور، والعطف هنا لا معنى له، وإنما العواتق هنَّ ذوات الخدور؛ لأنَّ المرأة الجارية مخدَّرة، كانت تُخدَّر وتوضع في الخِدر، ولخدر عبارة عن غرفة في البيت، فيضعون في جانب منه يكون فيه ستار ويكون هذا هو مكان الجارية، لا تكاد تخرج منه، تجلس فيه وتغزل وتستقبل من يأتيها من النساء وما إلى ذلك، هذا هو وقتها، وهذا هو عملها، فكانوا يسمونها مخدَّرة أو مخبَّأة، ألم تسمع إلى قول عامر بن ربيعة لَمَّا رأى سهل بن حنيف وقال: "ولا كجلد مخبأة"، وإنما كانوا يخبئون المرأة ليس لأجل ما يظن بعض الناس الستر، لا، فالستر كان مقصودًا عندهم ومرادًا، لكن لأمر آخر وهو أنهم كانوا يخبئونها قبيل فترة الزواج حتى تبيض ويصبح جلدها ما يصاب بالشمس، فتصبح فيها بياض، فكانت تُخبَّأ فإذا تزوجت أصبح شأنها كشأن بقية غيرها من النساء.
قالت: «وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ»، لَمَّا يأمر النبي بإخراج هذا الجنس أو هذا الصنف من النساء الذي يخرج عادة وهو صنف العواتق اللاتي ناهزن الاحتلام أو قاربنه ممن لا تجب عليهن الصَّلاة ابتداء، ويأمر أيضًا بإخراج الحُيَّض التي لا تجب عليهن الصَّلاة، فإنَّ ذلك يدل على مزيد تأكيد في صلاة العيد، هذا أمر.
الأمر الثاني: يدل على أنَّ هذا المشهد من تعظيم حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا حقيقة معنى جليل يغيب عن أذهان كثير من الناس، خاصَّة في عصور المادة، يقول الإنسان: ما هي الحاجة الآن إلى أن أُخرج نسائي؟
نقول: هذا من تعظيم الشعائر، ولأجل ذلك شرع النبي صلاة العيد في المصليات؛ لأجل أنها أبرز في إظهار الشعائر، فتصبح عامة للناس فيشاهدونها، فلأجل ذلك شرع النبي هذه الصَّلاة.
وهذه من المعاني التي ينبغي للإنسان أن يستحضرها، فإذا جاء العيد وحلَّ أخرج أهله وذويه -بناته وأولاده وزوجاته- يخرجهم حتى ذوات الحيض منهن يخرجن فيعتزلن مصلى المسلمين.
لو قال الإنسان: طيب الآن الصَّلاة إنما تقام في المساجد بوجه عام.
نقول: إذا كان ثَم مكان خارج تصلي فيه النساء وهذا الآن في اغلب المساجد، أصبح بعض أئمة المساجد -جزاهم الله خيرًا- يعلمون هذا الحديث، فيراعون أمر الحيَّض، فتجد أنه يضع لها في خارج المسجد مكانًا فيصلين فيه، وهذا مما يدل على تقرير حكم أن الحائض لا تدخل المسجد.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ»).
من المعاني الجليلة في إخراج النساء والأطفال في هذا اليوم المبارك: رجاء بركة اليوم وطُهرته، وهذا من المعاني التي تخفي عن كثير من الناس، فمن تعظيم شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يخرج الرجل بأهله وذويه حتى يلتمسوا البركة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذا اليوم، بركة تحل من الله -عَزَّ وَجَلَّ- على عباده الذين يصلون صلاة العيد التي هي كصلاة الشكر لله -تبارك وتعالى- على أن بلغهم صيام رمضان، وكصلاة الشكر لله -تبارك وتعالى- على أن بلغهم تمام المناسك، وتمام حج بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا كلها من المعاني التي ينبغي ألا تغيب عن الإنسان.
وفيه أيضًا معنى آخر: وهو أنه للحائض بوجه عام إذا مُنعت من الصَّلاة أن لا يحول هذا بينها وبين كثرة ذكر الله -تبارك وتعالى- وهذا معنى يغفل عنه كثير من النساء، بعض النساء -هداهن الله- إذا جاءتها الدورة قالت: الآن لا صلاة ولا عبادة! نقول: لا، هذا مسلك خطير، لا صلاة نعم، فقد أسقطها الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلم حال المرأة فيها، وهذا من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتخفيفه، لكن العبادة لا تسقط مهما كان وبأي حال، وأنتِ أصلًا مأجورة، درجاتك وحسناتك تمشي عليك حتى وإن كنتِ لا تصلين، فإذًا إذا أعفاكِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أو منعكِ من الصَّلاة وأسقطها عنكِ فلا تعفي نفسك من باقي العبادات من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فتكثر المرأة من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا قال: «فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ»، فالمرأة في مثل هذه المواطن تدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- وحتى أيضًا في أحوال حيضها ما في بأس أن المرأة تلتمس آخر ساعة من يوم الجمعة، وينبغي لها ذلك، وتدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولما يعلم الله -عَزَّ وَجَلَّ- منها أنها خرجت بحالها وهي في عذرها الشرعي، ومع ذلك ترجو بركة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورحمته، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء. فهذه كلها من المعاني التي ينبغي أن تقرر في حديث أم عطية -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وأرضاها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعُوا. وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ»)
}.
شرع المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر صلاة أخرى من الصلوات الثابتة عن رسول الله ، والمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- قد قدَّم الصلوات التي يُجمَّع لها، لما فرغ من صلاة الوتر التي قد اختلف العلماء -رحمهم الله- في وجوبها ذكر ما يعقبها من صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف؛ وهذه كلها يجمعها أنها مما يُجمَّع لها، أي: مما يجتمع لها الناس.
وصلاة الكسوف بوجه عام هي الصلاة التي تقع عند خسوف القمر أو كسوف الشمس، والأولى أن يقال في الشمس: كسفت. وفي القمر: خسف، اتباعًا للقرآن، قال تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ [القيامة/8]، فإذًا الأولى في ذلك أن يقال: خسف القمر وكسفت؛ لكن لو أن الإنسان غاير بينهما فلا بأس، وكلا المعنيين يراد، فالخسوف والكسوف بمعنى واحد، وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو ذهاب بعضهما.
والأصل في هذه الآية: أنها آية يخوِّف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها عباده، فهي جارية وفق معادلات حسابية لا نخالف فيها، ولهذا يُتنبأ الناس بها قبل حدوثها وتقع عند تنبؤهم، فلا يعني ذلك أنها ليست مما يخوف به الله -عَزَّ وَجَلَّ-، نقول: لا، بل هذا المعنى -أعني جريانها وفق هذه العادة- دلالة على هدم ما كان يعتقده الجاهليون، من أنها إنما كانت تخسف أو تكسف لموت عظيم من العظماء، لكنها تقرير جليل وعظيم لما قرره الشرع، من أنها للتَّخويف فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لما يطمس ضوء الشمس وضوء القمر يعطينا آية من آيات يوم القيامة، أولم يقل الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير/1]، وقال: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ [القيامة/8]؛ فهذه كلها من أهوال يوم القيامة، فإذا نظر الإنسان إلى الشمس المضيئة التي تملأ الدنيا وهجًا، وكما قيل:
طَلَعَ النَّهارُ فأَطْفِئُوا القِنْدِيلا ... .......................

إذا طلعت الشمس لن تحتجْ إلى في هذه الأضواء ولا لهذه الأنوار، ما تغني عنك خاصة إذا كنت في المكشوف، ومع ذلك فإنها ما بين عشية وضحاها وبأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقدرته يصيرها كأن لم تكن، سوداء مظلمة، وكذلك أيضًا القمر الذي هو السراج المنير، في الليل يُخسف؛ فهذا كله من معاني يوم القيامة، يتذكر بها الإنسان اليوم العظيم، ويتذكر به عظمة الله -عز وجل- وإذا كان كذلك بادر إلى الصَّلاة، وإلى رعاية حق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإلى استدفاع ما يغضب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولأن الشمس والقمر كسوفهما وخسوفهما متكرِّر لا تكاد تمر سنة إلا ويمر خسوف أو كسوف، فإذا استصحبَ العبدُ هذا المعنى معه في كل أحواله فإن العبد يكون مرتبطًا بالآخرة، فهذا معنى من المعاني التي تربط العبد بالآخرة، كما أن زيارة القبور تربط العبد بالآخرة، وكذلك وجود الزلازل هذه تربط العبد بالآخرة، وجود الخسوف الكسوف، رؤية الموت تربط العبد؛ فهذه كلها معاني ينبغي للعبد ألا يغفل عنها لأنه متى ما عمِيَ عنها وأجراها مجرى العادة ماتَ قلبه ولهذا من الأمور التي يُتعجَّب منها أنَّ كثيرًا من الناس كثيرًا ما يتوتَّر فيما يتعلق بجوانبه الماديَّة، وفيما يتعلق بالنوازل والبلايا التي تنزل به، ولهذا فإن من أعظم الأمراض المنتشرة عند الناس نوبات الخوف والهلع والقلق والاكتئاب على المستقبل، مع أعظم ما يُقلَق منه ويُكتئَب منه ويخاف منه وهو الموت ولقيا الله -عَزَّ وَجَلَّ- الناس عنهم معرضون، وهذا نوع من التناقض، نوع من الانشغال بالأمور الصغيرة ونسيان الأمور الكبار العظام التي يقصد لها، هذا أمر.
أمرٌ آخر أجلُّ منه وهو يساعد على علاج هؤلاء، وهو أن يقال مع أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد ذكَّرك بالموت وذكَّرك بالآخرة وحذَّرك منها إلا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- مع ذلك قد راعى الجوانب الفطريَّة التي في الإنسان، أن تعمر الأرض وأن تتزوج وأن تأكل مما أحل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن تشرب، هذه كلها مَن فعلها ما يقال له: إنك أنت نسيت الموت، ونسيت لقاء الآخرة، فإذا كان كذلك؛ فكل من ابتُلي بمثل هذه الأمور يقال له: عزاؤك في أن تعلم أن أمامك ما هو أعظم من ذلك كله ولم يشغلك عنه.
فإذًا هذه كلها من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يستحضرها، ومتى ما استحضرها العبد كان على سنة رسول الله .
{في إشكال: بعض الناس يُهوِّن من ظاهرة الخسوف والكسوف، ويقول: إن هذا أمر طبيعي يحدث كل سنة -تهوينًا لهذا الأمر- فما هو الرد على هؤلاء ممن يهونون من هذه الآيتان العظيمتان التي يخوف الله تبارك وتعالى بهما عباده؟}.
هذا هو ما ذكرنا الجواب عنه قبل قليل حينما قلنا: إن جريان هذه العادة وفق سنة من سنن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يعني البتة أنها ليست آية من آيات التخويف، كما أن الموت يجري في الناس كلهم وهو من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- التي يخوِّف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها عباده، وكما أن الفقر والجوع وفقدان الأمن كلها تجري في الناس، ومع ذلك فإنها من الآيات التي يخوِّف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها عباده، وإنما دخل الوهم على كثير من الناس لظنهم أن الكسوف والخسوف إنما يقع بغتة، وأن العلماء -رحمهم الله- إنما قرروا أنه أن يقع بغتة ومن دون أسباب، نقول: ما أحد من العلماء قرَّر ذلك، بل شيخ الإسلام ابن تيمية ومَن قبله ابن حزم وغيره من العلماء يقولون: إن الكسوف والخسوف يخضع لأمور حسابية، لكن هذا لا يعني أن يكون مما يخوف الله -عَزَّ وَجَلَّ- به عباده، تمامًا كما أن وجود الكواكب والقمر هي مما يزيد إيمان العبد ويقينه بالله -عَزَّ وَجَلَّ- مع أنها أمور هي خاضعة أيضًا لتقدير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لم يكن وجودها سببًا في أن يقول الإنسان إن هذه أمور موجودة طبيعيًا، وبناء عليه فليس للإنسان أن ينظر فيها ولا يتفكَّر فيها ولا يعتبر فيها، نقول: هذه كلها ينبغي أن يُعتبر فيه ويُتأمل فيه.
ذكر المؤلف حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- الذي هو أصل أحاديث هذا الباب، وقلنا إنه أصل أحاديث هذا الباب أمرين:
الأمر الأول: أنه هو الأصح إسنادًا في كل هذه الأحاديث، مع أن ما غيره صحيح الإسناد.
الأمر الثاني: أنه حسن السياق، فإن عائشة قد وضَّحت أن النبي صلى أربع ركعاتٍ في ركعتين وأربع سجدات، ثم شرحتها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
الأمر الثالث: أن فيه بيان النداء لصلاة الكسوف، لأن الأصل في الصَّلاة بوجه عام -كما ذكرنا في مجالس سابقة- أن الصَّلاة على ثلاث أنواع:
- منها صلوات ينادى لها بالنداء الشرعي الذي هو الأذان، وهي الصلوات الخمس فحسب.
- ومنها صلوات لا ينادى لها البتَّة، وذكرنا أنَّ منها صلاة التراويح، فإنَّه لا يشرع النداء لها.
- ومنها صلوات يشرع أن ينادى لها، ومنها صلاة الكسوف، فإنَّ النبي لَمَّا كسفت الشمس نادى في الناس «الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ».
قالت: «فَاجْتَمَعُوا وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ»، لَمَّا اختلفت هيئة الشمس والقمر عن هيئتهما الطبيعية اختلفت هيئة الصَّلاة لاختلافهما، ولَمَّا كان حالهما خارجًا عن المألوف خرجت هذه الصَّلاة عن الصَّلاة المألوفة، فإنَّ الصَّلاة المألوفة أن يُصلي الإنسان ركعة ثم يقوم منها ثم يسجد سجدتين، هذه لَمَّا ركع النبي الركعة الأولى ورفع ظن الصحابة أنه واقع للسجود، شرع النبي في القراءة، قرأ الفاتحة وقرأ بعدها سورة طويلة، ثم ركع الركعة الثانية، ثم رفع ثم سجد سجدتين، ثم قام إلى الركعة الثانية فصنع فيها كذلك؛ فأصبحت أربع ركعات في ركعتين.
معنى قولها «فِي رَكْعَتَيْنِ»، يعني أن أصل الصَّلاة إنما كانت ركعتين، لكنه صلاها أربع ركعات.
قالت: «وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ»، هذه هي أصح الصفات في صلاة الكسوف، وقد جزم جماعة من الحفاظ بأن ما سواها صلاة الكسوف لا يصح، ولهذا فإن الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- إنما اكتفى بهذه الصفة، نقول: هذه هي الصفة الصحيحة، لأنه قد جاء في بعض الصفات أنه صلَّى ثلاث ركعات في ركعة، وفي بعضها أنه صلى أربع ركعات في ركعة، في بعضها أنه صلى خمس ركعات في ركعة، وفي بعضها أنه صلى ركعة في ركعة، لكن أصحها إنما هو حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»)}.
حديث أبي مسعود، عقبة بن عمرو البدري الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد قاله رسول الله بعد أن فرغ من صلاة الكسوف، والظاهر -والله أعلم- أنَّ كسوف الشمس على عهد النبي إنما وقع مرة واحدة، هذا على ما قاله وقرره جماعة من أهل العلم، فأمَّا خسوف القمر فقد وقع مرارًا، لكن كسوف الشمس هو الذي ارتاع وفزع له رسول الله ، وهو الذي كما قالت عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهم: «فَقَامَ فَزِعًا، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ».
فصلى بهم رسول الله ، فلمَّا فرغ قال لهم: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»، وكان الداعي إلى أنَّ النبي قال هذا القول أنَّ كسوف الشمس صادف موت إبراهيم، فظن بعض الناس أنَّ هذا لِما كانوا يعتقدونه في الجاهلية من أنَّ الشمس والقمر إنما ينكسفان بموت عظيم من العظماء، أو لولادة عظيم من العظماء، فكانوا إذا كسفت تلمَّسوا، هل مات أحد؟ فإذا قالوا: ما مات أحد، قالوا: فإذا وُلد عظيم، انتظر عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة حتى تعرف صدق ظنهم وصدق حدسهم، ومن المعلوم والمتقرر أن العرب لم يكونوا يدوِّنون التواريخ، فكان هذا من الحدس في الباطل، فأخبر النبي «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ»، حتى لو كان إبراهيم ابن رسول الله .
قال: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»، أمر النبي بالصَّلاة وأمر بالدعاء، وأمر كما في حديث أسماء -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أيضًا بالصَّدقة والعتاقة؛ هذه كلها مما يُستدفع بها البلاء، فإذا نزل بالإنسان بلاء، سواء كان بلاء في دينه أو في دنياه فعليه أن يفزع إلى الصَّلاة، لأن النبي فزع إليها في أعظم الآيات التي هي آية الكسوف.
ثم فزعته أيضًا إلى الصَّلاة ينبغي أن تقترن أيضًا بطول الصَّلاة، فإن النبي لما فزع هذه الفزعة أطالَ الصَّلاة أيما إطالة حتى قالت عائشة وعبد الله بن عمرو وأسماء بنت أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: فصلى بأطول قيام قامه وبأطول ركوع ركعه وبأطول سجود سجده ، خالف كل هيئات الصلاة وأطال في ذلك إطالة عظيمة، حتى كاد يُغشى على أسماء -رَضِيَ اللهُ عَنْها- من شدَّة إطالة النبي ، تقول: "فَقُمْتُ حتَّى تَجَلَّانِي الغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي المَاءَ" ، تنظر للمرأة التي أكبر منها فتتصبر وتنظر للمرأة أصغر منها فتتصبر.
فإذًا هذا هو معنى حديث أبي مسعود الأنصاري البدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأرضاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّاسِ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ -وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ- ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ -وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ- ثُمَّ سَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». وَفِي لَفْظٍ «فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ»)}.
هذا حديث عائشة -رضي الله عنها- هو الحديث الأول الذي ذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ-، ولكن الحديث الأول مختصر من هذا الحديث، وقد كان الأولى بالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يذكر هذا الحديث عقيب الحديث الأول، أو يكتفي بهذا الحديث عن الحديث الأول، لأن هذا الحديث أكثر تفصيلًا من الحديث الأول.
قالت عائشة: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ» وصفت الشمس بالخسوف، مع أنه قد تقرر سابقًا أن الأصل أن يقال: كسفت الشمس، لكن هذا كله مما يُرخص فيه ويسهل فيه.
وفيه: «فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّاسِ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ»، قراءة طويلة قدرًا من نحو سورة البقرة، هذه قراءته في الركعة.
وفيه أنَّ النبي مدَّ صلاته حتى تجلَّت الشمس، وهذا هو تمام صلاة الكسوف، نقول: تمام صلاة الكسوف أن يصلي حتى تتجلَّى الشمس، ويجوز للإنسان أو الإمام وهو يصلِّي أن يرفع بصره شيئًا يسيرًا ينظر هل تجلت الشمس أو لا حتى ينهي الصَّلاة، هذا هو الأولى في الصَّلاة وهو الأتم، ويجوز للإنسان أن يصلي الصَّلاة المعتدلة، وبعد ذلك ينشغل بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودعائه واستغفاره.
وأمَّا ما يفعله بعض الناس من كونه يصلي الكسوف، ثم يخرج فينشغل في دنياه؛ فنقول: هذا خلاف هدي وسنة النبي .
وفيه أيضًا مشروعية أن تكون صلاة الكسوف أو الخسوف مترتبة، بمعنى أن تكون الركعة الثانية أقل من الركعة الأولى -يعني أخف منها- سواء في قيامها أو في سجودها أو في ركوعها، وكذلك أيضًا الركعة الثالثة والرابعة، الآن فيها أربع ركعات كما سبق، هذه كلها إنما تستفاد من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
ثم قوله: «فَخَطَبَ النَّاسَ»، هذا فيه مشروعية الخطبة وهو مذهب الشافعي، لكن ذهب أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- إلى أنها لا تُستحب إلا للحاجة، وهذا هو القول الظاهر -والله أعلم- لأنَّ النبي إنما خطب لحاجة الناس، من جهة أنه يريد أن يُبين لهم هذا المعنى، وهو أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته، وإلا لو كان الأمر غير ذلك لوعظهم النبي بغير ذلك، ولو خطب الإنسان لم يكن عليه بذلك بأس، لكن لو أراد يخطب، نقول: الخطبة تكون متعقبة للصلاة.
{هل تكون مثل خطبة الجمعة خطبتين؟}.
لا، لو خطب فإنها تكون خطبة واحدة، هي خطبة واحدة لا تقاس على صلاة الجمعة بوجه من الوجوه، بل هي خطبة واحدة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإذا كانت فينبغي أن تكون خطبة مختصرة، يذكرهم الإنسان فيها بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وبالجنة والنار، النبي قد جاء في بعض الأحاديث أنه ذكرهم فيها بالجنة والنار، قال: «إنَّه عُرِضَ عَلَيَّ كُلُّ شيءٍ تُولَجُونَهُ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ، حتَّى لو تَنَاوَلْتُ منها قِطْفًا أَخَذْتُهُ، أَوْ قالَ: تَنَاوَلْتُ منها قِطْفًا، فَقَصُرَتْ يَدِي عنْه، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِن بَنِي إسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لَهَ» .
ثم وعظهم بهذه الموعظة فقال: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا»، هذه كلها من المعاني التي يستدفع بها البلاء، معنى الصدقة من المعاني التي يغفل عنها كثير من الناس وهي من السنن المهجورة، تجد أن كثير من الناس يبادر بالصَّلاة لكن لا يبادر بالصدقة، ربما يغفل عنها؛ فنقول: إن من السنن في مثل هذه الحالة أن يتصدَّق الإنسان، ويحتسب في مثل هذا يحيي الإنسان سنة، قد أماتها كثير من الناس، أعني سنة الصدقة عند خسوف الشمس أو عند كسوفها.
ثم قال : «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»، غيرة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن تؤتى محارمه، فكما أن الإنسان يغار على محارمه أن تنتهك فالله -تبارك وتعالى- أشد غيره، يغار على محارمه -عَزَّ وَجَلَّ- أن تُنتهك وأن يُعتدى عليه.
وهذا مما جعل بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن ترك المحظورات أولى من الإتيان بالمأمورات، ما دام الإنسان أتى بأصل الدين الذي هو التوحيد والصَّلاة فما سواها من ترك المحظورات أولى من الإتيان.
قالوا: الدليل على ذلك قول النبي : «وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»، أو «إلَّا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ» كما في الحديث الآخر، هذه كلها من غيرة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فينبغي للإنسان أن يستشعر هذا المعنى، كما أن كثيرًا من الناس يكفَّ عن انتهاك محارم الغير إما خشية الرَّادع الإيماني أو الرَّادع السلطاني؛ فنقول أيضًا: ينبغي للإنسان أن يكف عن انتهاك محارم الله -عَزَّ وَجَلَّ- إذا خلا بها، لا ينتهك محارم الله -عَزَّ وَجَلَّ- التي حرمها، هذا كله من التعدِّي على حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والتعدِّي على جانب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»، قد جاء عن النبي أنه أخبر أنه لو كُشف للناس عذاب القبور لما تنعموا بدنياهم، قال: «ثُمَّ يُضْرَبُ بمِطْرَقَةٍ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً بيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَن يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ» ، هذا المعذَّب في قبره، ومن المتيقَّن الآن حتى في العلم الحديث -مع أن العلم لا يستند إليه ولا حتى يستأنس به، ولكن كثيرا من الناس فتن به- الآن المتيقَّن في العلم الحديث والمجزوم به أن الحيوانات تسمع ما لا يسمعه الناس، ولهذا هي تتنبأ بالزلازل، وتتنبأ بالفيضانات، وتتنبأ بكثير من الكوارث قبل حدوثها؛ فمما تسمعه هي أيضًا عذاب الناس في قبورها، ولهذا قد جاء عن بعض السلف أنه كان يأتي على بعض القبور فتنفر منها الدابة بما تسمعه من العذاب، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- قد ذكر لما تكلَّم عن بعض ما يعتقده من الناس في زمانه من الطواف بالقبور، قال: إن بعض القبور كانت إذا تعسَّرت على الدابة الإخراج -أكرمكم الله والسامعين- أتوا بها على هذا القبر فطافوا به فتنحل، فيظنون إنما انحلت ببركة صاحب هذا قبر! قال: ولا يعلمون أنها ربما انحلت لما يعذَّب في قبره. وهذا هو الأقرب -والله أعلم- لأن الشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر أن كثيرًا من الناس الذين تُنصَب قبورهم وشواهدهم إنما كانوا من أعظم الناس فسقًا وانحرافًا عن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، كانوا أصحاب شركيات وأصحاب بدع وأصحاب خرافات. فهذا من المعاني التي ينبغي أن تقرَّر.
قال: «وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ»، وقد كان هذا كله مكشوفًا للنبي ، ولهذا لما خرج النبي كما في حديث أبي أيوب الذي رواه الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- قال: خرج النبي وقد غربت الشمس أو كادت تغرب، فسمع صوتا، فقال: «يهود تعذب في قبورها»، ومرَّ بالقبرين فسمعهما، ورأى النبي في هذه الصلاة الجنة وما فيها من النعيم والبهجة، ورأى النار يحطم بعضها بعضًا.
وفيه دلالة على معنًى آخر جليل: وهو معنى مراعاة الحال.
وأعني بمراعة الحال: أنه ينبغي للإنسان العالم بالله -عز وجل- وبهدي رسول الله -- الحكيم أن يعامل الأحوال بما ينبغي لها، فما يأتي إلى الخسوف والكسوف يذكر الناس فيه بعظيم رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويترك تحذيرهم من غضبه، فليس هو مقامه، ولا يأتي إلى الإنسان المريض المشرف على الموت فيجزِّعه وإنما يعطي كل مقامٍ حقه، كما كان هدي النبي لما أعطى مثل هذه المقامات حقَّها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ . فَقَامَ فَزِعًا، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ. فَقَامَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ»)}.
حديث أبي موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو كالمكمِّل لما قبله من الأحاديث عن رسول الله ، وأحاديث رسول الله يُصدِّق بعضها بعضًا، ومن عظيم رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الأمَّة أن سخَّر لها هؤلاء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- الذين تتابعوا على حفظ حديث رسول الله ، حتى قال كثير من الناس ممن لا معرفة له بالعلم: ما هو الفائدة من هذه الأحاديث المكررة؟ حديث أبي موسى وحديث أبي بكرة وحديث المغيرة بن شعبة وحديث عائشة وحديث عبد الله بن عمرو كلها تأتي بمعنى واحد؟
نقول: كلها تدل على أنَّ هذا الدين قد نُقِل نَقْلَ الأثبات، فإنهم إذا تتابعوا على نقلٍ لم يختلفوا فيه وإنما ينقلونه نقلًا صحيحا، وهذا مما يزيد اليقين بحسن نقل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لسنة النبي ، وأنهم أعظم الناس منَّة على هذه الأمة بعد رسول الله ، كما أن رسول الله هو أعظم الناس منَّة عليهم، فإنهم نقلوا إلينا هذه السنة نقلًا صحيحًا، ما وقع من الصحابة -رضي الله عنهم- التَّحريف ولا وقع منهم الكذب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- حاشاهم! والله ما يستطيع أحد أن ينقل حرفًا واحدًا كذب فيه الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، كيف والله -عَزَّ وَجَلَّ- قد اختارهم لصحبة نبيه ولتبليغ هذه الرسالة؟! ولو أن واحدًا منهم كذب لوقع الشَّك فيمن سواه، لكن صانهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك، ولهذا وقع الإجماع بين الأمة على أن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كلهم عدول، وعدالتهم تقتضي عدم تعمدهم للكذب، ولكنها لا تقتضي عدم وقوع الخطأ منهم، قد يقع من الإنسان الخطأ لكنه يُستدرك بحمد الله، وإذا نُبه الواحد منهم إلى الخطأ رجع، خصوصًا في أمور نقل الدين، بل بالعكس هذا مما يفيد اليقين والثبات، فنقول: إن الصحابة على علو مقامهم وقدرهم ومنزلتهم، إلا أن ذلك لا يمنع إذا أخطأ الواحد منهم أن يقال له: أخطأت، ولكان أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يقولون له: أخطأت، فيخطئونه؛ لكن إذا رأينا أخطاءهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في جانب ما نقلوه هي نزر يسير لا يكاد يذكر، حتى لو نقيسه بالنسب المئوية ربما لا يجاوز الواحد في المئة، ويبحث الناس كلهم عن رجل نُقلت إلينا سيرته بعشر معشار ما نقلت إلينا سيرة رسول الله ، حتى المسيح الذي أتباعه الآن من أكثر الأتباع، وكان دينه هو الدين المهيمن على الأرض على مدار سبع مئة سنة أو ست مئة سنة قبل بعثة النبي ، ومع ذلك فإن سيرة المسيح لم تُنقل نقلًا صحيحًا البتة، بل إن الأناجيل التي أنزلها الله -عَزَّ وَجَلَّ- على المسيح غير محفوظة، هذه الأناجيل الأربعة الموجودة عندهم كلها أناجيل مستحدثة، ليست محرفة فقط بل هي مستحدثة، والدليل أنها تذكر سيرة عيسى، كيف ينزل الله -عز وجل- على عيسى إنجيل يذكر فيه سيرته؟ إنما كان مقصد الإنجيل هو ذكر الأحكام والمواعظ، لكن لَمَّا جاء الصحابة -رضي الله عنهم- حفظوا لنا هذين الأصلين: حفظوا لنا القرآن بكتابته، لما جاء عمر -رضي الله عنه- إلى الصديق -رضي الله عنه- فقال: "إن القتل قد استحر بأهل اليمامة، وإني أخشى إن استمر الأمر على ذلك أن يضيع قرآن كثير"، فجمعه الصديق -رضي الله عنه-، ثم كان عثمان -رضي الله عنه- فجمع الناس أيضًا على مصحف واحد خشية الاختلاف، فهذا كله من معاني حفظ الصحابة -رضي الله عنهم- لدين الله -عز وجل- ومن الأمور التي تجعلنا كلما ذكرناهم ترضينا عنهم، ونعلم أنهم باب من أعظم الأبواب التي تحول بين الإنسان وبين الزندقة، كل مَن طعن في أصحاب النبي فقد تقحَّم الزندقة من أوسع أبوابها، ولهذا قال أبو زُرعة -رَحِمَهُ اللهُ: "إذا رأيتم الرجل يقع في أصحاب النبي فاتَّهموه، فإن الدين إنما نقل إلينا عن طريقهم"، فكلهم عدول أثبات، فإذا طعنت في الصحابة؛ فنقول لك: مَن ينقل لك الدين؟! حتى ما في كتاب الله -عز وجل- فإنما هم مَن نقلوه إلينا، الروايات العشر كلها للقرآن تنتهي إلى الصحابة، لو لم تنتهي إلى الصحابي لأصبحت منقطعة أو مرسلة.
إذًا؛ حديث أبي موسى -رضي الله عنه- مكمل لِمَا قبله من الأحاديث، قال: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ . فَقَامَ فَزِعًا، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ»، هذا كالمقرِّر لحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها-، حيث قالت: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ علَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَفَزِعَ فأخْطَأَ بدِرْعٍ»، من شدة فزعه أخذ مرط النساء.
قالت: «حتَّى أُدْرِكَ برِدَائِهِ» فزع النبي فزعًا وذهل عمَّا حوله، وقام فزعًا إلى المسجد، دلالة على أنَّ هذه الصَّلاة إنما تقام في المساجد، ودلالة على أن الإنسان إذا حزبه أمرٌ ينبغي له أن يفزع إلى الصَّلاة، وأن يفزع أيضًا إلى الصَّلاة في المساجد، ما في بأس يصلي الإنسان في مسجده، ليس من شرطه أن تكون جماعة.
قال: «فَقَامَ فَزِعًا، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ. فَقَامَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ قَطُّ»، هذا هو ما ذكرناه سابقًا وهو أنه قد أطالَ الركوع والسجود والقيام إطالة خارجة عن المعتاد حتى تجلَّت الشمس.
قال: «ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»، قوله «ثَمَّ قَالَ»، وقوله في حديث عائشة «ثَمَّ وخَطَبَ»، دلالة على أنه إذا خطب فإنه لا يشترط فيها يقوم على المنبر؛ لأنهم ما ذكروا المنبر، بل إنَّ بعض العلماء -رحمهم الله- قال: يُشرع في مثل هذه الصلوات إذا خطب الإنسان أن لا تكون على منبر، وهذا مما يدل على أن الخطبة ليست مقصودة بالقصد الأول، لو كانت مقصودة لفعل بها النبي كما يفعل بصلاة الجمعة، وجاء عن عبد الله بن يزيد أنه "اسْتَسْقَى، فَقَامَ بِهِمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ" ، كأنما كان يقتدي برسول الله في صلاة الاستسقاء.
فهذا مما يحقق ويقرر أنَّ الخطبة في صلاة الاستسقاء ليست بواجبة، لكن بعض الأئمة يفرغ من صلاة الاستسقاء ثم يلقي كلمة هي خطبة؛ نقول: إذا كان كذلك فيشرع أن يكون الإنسان حينما يخطبها واقفًا؛ لأنَّ هذا هو هدي النبي وهو نوع من تعظيم حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالخطب إنما تكون واقفة وهذا هو الأصل في الخطب بوجه عام.
قال: «إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ»، كلهم تتابعوا على الفزع إلى ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى الفزع إلى الدعاء والاستغفار، والاستغفار هو نوع من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ، والفزع أيضًا إلى الصَّلاة.
{شيخنا تبقت مسألة قد تنقدح في ذهن المشاهد، ألا وهي: ماذا لو حلَّ الكسوف أو الخسوف في وقت نهي، فما هو الحكم في هذا؟}.
هذه المسألة من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، هل هي من الصلوات ذوات الأسباب أو لا؟
والظاهر -والله أعلم- أنها من صلوات ذوات الأسباب، فإنَّه يشرع في مثل هذه الحالة أن تقام الصَّلاة حتى لو كانت في وقت نهي، بل هو الظاهر -والله أعلم- أنَّ كثيرًا من الكسوف الذي يقع -خاصة كسوف الشمس- إنما يقع في وقت نهي، فيقال: يشرع للإنسان أن يبادر؛ لأنَّ النبي ما منعه من هذه الصَّلاة شيء، ومدَّها مدًّا طويلًا، فإذًا الأصل فيها أن تُصلَّى حتى في وقت النَّهي، خاصة إذا استصحبنا أنَّ النَّهي عن الصَّلاة بعد العصر وبعد الفجر إنما هو لفعل مشابهة ما كان يفعله المشركون من تحري الصَّلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ولهذا كان من أحسن الأقوال في مثل هذه المسألة مذهب الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- الذي وسع في الصلوات ذوات الأسباب، فيرخِّص مثلًا في ركعتي الطواف، ويرخِّص في قضاء الفائتة، وقد صلَّى النبي الفائتة وشرع صلاتها حتى في وقت النَّهي، فكذلك أيضًا صلاة الاستسقاء.
الأصل بوجه عام في صلاة الكسوف أن يقال: إن صلاة الكسوف تُصلى كل حال، سواء كان هذا عند غروب الشمس أو عند طلوع الشمس قبل ارتفاعها قيد رمح، وهذا أيضًا مما يحقق أن هذه الصَّلاة مما يذهل فيها أصلًا عن مراعاة الوقت، لأن الإنسان حينما يشرع في مثل هذه الصَّلاة أو ينزل به هذا الخطب الواجب عليه أنه يبادر، وأن يفزع مباشرة ويترك كل ما في يمينه، والحقيقة يا إخوان أنه إذا لم يفزع الإنسان فليستفزع نفسه، كما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فإن كان ثَم بكاء وإلا تباكينا"، والحقيقة أن الإنسان إنما يأتي في مثل هذه الأمور على ما يعتاده، فإذا بدأ يعظِّم حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قلبه عظَّمها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حتى يتحوَّل الفزع الذي يكون أول الأمر فزعًا متكلَّفًا إلى أن يكون فزعًا طبيعيًّا؛ لأنَّ الفزع إنما يكون بقدر مخافة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وبقدر رعاية حق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا ما فزع أحد كما فزع النبي ، بقية الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أول الأمر ما فزعوا، كان يظنون أن الأمر على ما كان عليه في عادتهم، وأنه ظاهرة طبيعية، لكن أخبرهم النبي أنَّ هذه آيات من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- يخوِّف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها عباده. لعلنا نكتفي بهذا.
{نسأل الله أن يفتح لكم شيخنا وينفع بكم ويزيدكم فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم في لقاءات أخرى، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك