الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22799 18
الدرس الثاني

عمدة الأحكام 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، مرحبًا بكم وحياكم الله وبياكم مشاهدينا الكرام، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم.
حياكم الله في هذه الحلقة الجديدة والمتجددة من برنامج (جادة المتعلم) المستوى الثاني والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي مع فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا المبارك}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{الله يحفظكم. نستأذنكم شيخنا في البداية.
بسم الله الرحمن الرحيم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ. فَنَظَرَ إلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي».
" الْخَمِيصَةُ " كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ أَعْلَامٌ وَ " الْأَنْبِجَانِيَّة " كِسَاءٌ غَلِيظٌ)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في صلاته في الخميصة التي لها أعلام، وقد أورده المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في باب الذكر عقيب الصلاة، وقد كان الأولى به أن يذكره في الباب الجامع؛ لأنه أنسب مكان له، لأنَّ هذا الحديث مما يدلُّ على مشروعية الخشوع في الصلاة، ويدل كذلك على ضرورة أن المصلي إذا أقبل على صلاته فعليه أن يصرف عن نفسه كل ما يشغله، سواء كان ذلك في جسده أو في مصلَّاه، وقد ثبت أنَّ النبي صلَّى في خميصة لها أعلام، والخميصة: الكساء المخطَّط، يعني كساء مُعلَّم، فنظر إلى أعلامها نظرة، فرأى النبي أنَّ هذه النَّظرة مما يُنقص الصلاة، وكم ننظر نحن في صلاتنا مثل هذه النظرات! ينظر الإنسان أحيانًا كثيرًا إلى ساعته، أو إلى ثيابه أو ربما نظر إلى بعض زخارف المسجد، ونحو ذلك، ولهذا نهى الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- عن زخرفة المساجد، وقد قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَتُزخرِفُنَّها كما زخرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى" ، وقال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أوصاهم ببناء المسجد: "أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ" ؛ لأنَّ هذا مما يُفتن به الناس عن الصلاة ويلهي؛ فينشغل الإنسان بذلك، والأصل أنَّ الإنسان إذا قدم إلى الصلاة ألا يجعل بينه وبين الصلاة شيئًا يحول بينه وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- أو يشغله عن الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ومما يدل على تقرير هذا المعنى: أنَّ النبي قد رخَّص في تأخير الصلاة لمن يريد الطعام، فقال: «لًا صَلَاةَ بحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولَا هو يُدَافِعُهُ الأخْبَثَانِ» ، هذا كله حتى يُقبِل على الصلاة وهو منشرح الصدر، غير منشغلٍ بشيء سوى الصلاة، وهذا من المعاني التي ينبغي أن تُقرَّر، ولذا لا ينبغي للإنسان أن يضع في مُصلَّاه شيئًا يحول بينه وبين ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، حتى هذه السجاجيد التي يُصلى عليها، فالأصل فيها إذا كان ثم احتياج لها فلتكن غير منقوشة حتى لا تشغله، وربما فتح له الشيطان أبوابًا كثيرة، ولربما وجد فيها حينما ينظر إليها في الصلاة شيئًا من الصُّلبان، أو وجد فيها الصور مما لم يكن يشاهده قبل الصلاة، ولكن يفتحه عليه الشيطان، فهذا كله مما ينشغل به الإنسان، وينشغل به قلبه، ولهذا النبي قال : «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمٍ»، تخلَّص منها ، فدلَّ ذلك على أنه يشرع للإنسان إذا صلَّى أن يذهب بثياب ليس فيها ما يشغله عنها، ثياب العادة، شماغ ليس فيه ابتكارات ولا فيه نقوش، سواء كان أبيض اللون أو أحمر اللون شرط أن لا يكون فيه ما يلهيه ويشغله عن الصلاة، وإذا صلى فعليه أن يصلي أيضًا في مسجد ليس فيه ما يشغله، وهذا مما ينبغي أن يلاحظ في المساجد؛ لأنَّ بعض الناس يسأل ويقول: أنا عندي مسجدان، في أيهما أصلي؟
نقول: صلِّ فيما كان أكثرهما لك خشوعًا، وأجمع لقلبك؛ لأنَّ هذا هو لُب الصلاة، وهو الغرض من الصلاة، فإذا كان المسجد الأبعد أقرب لك في الخشوع من حيث أنك ترى فيه راحة نفسية، وليس فيه كثرة زخارف، ولا كثرة ضجيج، ولا فيه خلاف بين الجماعة، لأن هذا أيضًا مما يُفقد الخشوع في الصلاة ويُذهب البركة، أولم يقل النبي : «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ» ، فالمسجد الذي فيه تلاحي وخصومة بين الناس مما ترفع منه البركة، ويؤثر سلبًا على نفس المصلي، ومما لا شك فيه أنه يؤثر على خشوع الإنسان، ربما دخل في مشاكله وفي نزاعات، فنقول: الأصل في ذلك أن يتوخَّى الإنسان أحب الأماكن إلى قلبه وأكثرها له خشوعًا، ولهذا فقد ذهب العلماء -على الرُّغم من أن إغماض العين في الصلاة ليس مما يشرع- إلى أنَّ المصلي إذا وجد في قبلته ما يشغله عن الصلاة؛ فإنه يُشرع ويُرخَّص له في أن يغمض عينيه حتى لا ينظر إلى مثل هذه الأمور التي تشغله عن الصلاة؛ لأنَّ الهدف واللب والمقصد من الصلاة إنما هو خشوع القلب وإقباله على الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»)
}.
هذا الباب بابٌ جليل، وهو باب الجمع بين الصلاتين في السفر.
والجمع إذا أُطلق فإنما يُراد به الجمع الحقيقي، والجمع الحقيقي: أن توقع إحدى الصلاتين في وقت الثانية، إمَّا جمع تقديم بأن يصلي صلاة العصر في وقت صلاة الظهر، أو جمع تأخير بأن يُصلي صلاة الظهر في وقت صلاة العصر، وأمَّا ما فهمه بعض العلماء كالحنفية وغيرهم من أنَّ المراد من الجمع هنا إنما هو الجمع الصوري، وهو أن يؤخِّر صلاة الظهر مثلا إلى قريب من انتهاء وقتها، ثم يصليها ثم يصلي صلاة العصر في أول الوقت، فنقول: إن هذا ليس مُرادًا البتة، وليس هذا مما يقع به التيسير؛ لأنَّ الأصل في الجمع بوجه عام أنَّه من الرخص التي رخصها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولو قيل للمسافر: إنَّ هذه الرخصة مُقيَّدة بمثل هذه الصورة لكان في ذلك أعظم المشقة عليه، وقال: لأن أصلي الصلاة في وقتها أحب إليَّ من أن أتوخَّى هذا الأمر، بمعنى أن أنزل قبل خروج وقت الظهر بشيء يسير فأصليها، وأين أجد المسجد أو المكان الذي أصلي فيه؟
فنقول: إنَّ هذا كله مما يخالف التيسير الذي أراده الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأراده رسوله حينما شرع الجمع بين الصلاتين في السفر.
ونقول: إنَّ الجمع بين الصلاتين في السفر كان من هديه في حالة واحدة، وهو أنه إذا كان على ظهر سير، هذا هو الأصل في الجمع، يعني: رجل مسافر ولم يصل إلى مقرِّه، حتى لو استقرَّ في منطقة يرتاح فيها شيئًا يسيرًا، نقول: هو لا يزال على ظهر سير حتى يصل إلى غايته، فإذا وصل إلى غايت فإنه لا يشرع في حقه الجمع وإن كان ذلك جائزًا.
فإذًا نقول: المسافر له حالان:
الحالة الأولى: أن يكون على ظهر سير، أي: لم يصل إلى وجهته، ولا يزال في الطريق: ففي هذه الحالة يُشرع له ويُسن في حقه استحبابًا أن يجمع وأن يقصر، يسن له في مثل هذه الحالة الجمع والقصر، سواء كان هذا الجمع جمع تقديم أو جمع تأخير، نقول: افعل الأوفق، إذا أردت أن ترحل من الموضع الذي أنت فيه وقد أذن الظهر فالأوفق في مثل حالتك، أن تجمع جمع تقديم، وإذا كنتَ راحلاً قبل أذان الظهر، فالأوفق في حالك أن تجمع جمع التأخير.
{وما الأفضلية يا شيخنا؟}.
الأفضلية هو الأوفق أو الأريح لحال المسافر؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- إنما قصد بهذا الجمع التيسير عليه، فالأيسر عليك افعله، ووقت الجمع يبدأ في حقك من دخول وقت الظهر إلى انتهاء وقت الاختيار في العصر وليس الاضطرار، يعني: لك من أذان الظهر إلى أن تقارب الشمس من الاصفرار، وأمَّا ما يصنعه بعض الناس من تأخير الصلاة إلى ما بعد الاصفرار فنقول: لا، إنما هذا في حق المضطر، وأنت لست مضطرًا، أنت محتاج ولست مضطرًا، ولا تجعل من رخص الله -عز وجل- وسيلة إلى أن تتهاون في هذه الرُّخص.
وفيما يتعلق بالعشائين: يبدأ وقتهما من أذان المغرب إلى منتصف الليل، هذا كله وقت، تجمع حيثما شئت، وحيثما كان الأوفق لك.
الحال الثانية: إذا استقررت حتى لو لم تنوِ إقامة طويلة، يعني: لو كنت تريد أن تُقيم يومين أو ثلاثة أيام؛ فيُشرع لك أن تقصر ولا تجمع.
أمَّا الحال الأولى: فإنَّا تتبعنا هدي النبي فوجدناه كثيرًا ما يصنع ذلك، وقد جاء هذا في حديث جابر -رضي الله عنه- وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وحديث ابن عباس -رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ»، فقوله: «كَانَ» يدل على التكرار، هذا ما يتعلق بمَن كان جادًّا على ظهر سيرٍ.
أمَّا ما يتعلق بصلاته إذا استقر، فإذا نظرنا في أعظم مشهد أقامه النبي في مكة، وقد كان مسافرًا فيه، وعامل نفسه معاملة المسافر في أيام مِنى، فإنه أقام فيها أربعة أيام -اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر- كلها يقصر ولا يجمع، فيصلي كل صلاة في وقتها، كذلك أيضًا يوم التروية فإنه صلى كل صلاة في وقتها.
فإن قال قائل: فصلاته يوم عرفة حينما جمع، وصلاته حينما جمع؟
قلنا: أمَّا صلاته في مزدلفة فإنه كان على ظهر سير؛ لأنه انتقل من عرفة إلى مزدلفة، وأمَّا عرفة فلأجل أن يتفرَّغ للمشهد الأعظم وهو الدعاء، وهذا يدل على أنه يجوز للمسافر الجمع، ولا يحرم عليه، فهو مفضول، فيجوز للمسافر أن يجمع.
ومما يدل عليه: حديث معاذ -رضي الله عنه- في جمع النبي في تبوك؛ لأنه كان يجمع بين الصلاتين في تبوك، لكن ليست هي عادته، فعادة النبي أنه كان إذا أقام في مكان ما صلى كل صلاة في وقتها قصرًا دون أن يجمع؛ لأنه لا حاجة للجمع، لكن القصر؛ لأنه فريضة المسافر، وهذا مما يؤكِّد معنى القصر ويقرر، فيُقال: إنَّ القصر في حق المسافر قد يصل إلى حد الوجوب؛ لأنَّا تتبعنا هدي النبي فلم نرَهُ مرَّة واحدة صلَّى صلاةً تمامًا في سفر، ما أحد يستطيع ينقل عن النبي أنه أتم الصلاة في السفر، ولو كان جائزًا لفعله النبي ، لكنه لم يفعله، ومَن فعله من الصحابة -رضي الله عنهم- فإنما يُتأوَّل لهم ويُعتذَر لهم، لكن ما يُعترض به على سنة النبي ، والأفضل للإنسان إذا كان مُسافرًا أن يتبع هدي النبي بلا شك، وأن يأخذ بالرخص، ومن الرخص التي رخصها الله -عَزَّ وَجَلَّ- له رخصة القصر، ولكن يقال له: لا يُسن في حقك الجمع، ولو جمع لم يكن عليه بأس؛ لأنَّ بعض المسافرين قد يكون عليه مشقة ويصل متأخرًا، فيقول: إن لم أجمع ضاعت علي مثلا صلاة الظهر والعصر فيجمع بينهما فلا بأس. هذا أمر.
الأمر الآخر: ينبغي أن يقال: مذهب الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الباب هو أوسع المذاهب، وقد تلمَّس الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- الحكمة بوجه عام من الجمع، ونظرَ إلى حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أنَّ النبي «صَلَّى النَّبِيُّ سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعً» ثمانيًا جميعًا، أي: الظهر والعصر. وسبعًا جميعًا: المغرب والعشاء.
قال: «من غيرِ خوفٍ ولا سَفَرٍ»، فدلَّ ذلك على أنه يجوز استثناءً، ولمن لم يكن ذلك له عادة أن يجمع بين الصلاتين إذا احتاج إليها، كما لو رجع الإنسان من سفر، وكان مُرهقًا، وقد أذن الظهر وعلم أنه إن نام لم يستيقظ البتة إلا على أذان المغرب أو قريب منه، فيقال له في مثل هذا: قد يشرع في حقك أن تجمع بين الصلاتين، لقول ابن عباس: "أرادَ ألَّا تُحرَجَ أمَّتُهُ" ، لكن لا تكون عادة.
وقد جاء في بعض الأحاديث عن النبي أنه قال: «مَن جمَعَ بينَ صَلَاتَينِ من غَيرِ عُذرٍ، فقد أتى بابًا من أبْوابِ الكَبائرِ» ، وهذا الحديث لم يصح عن النبي إلا أنَّ معناه متقرر عند العلماء، حتى ذكر الإمام الترمذي -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ العلماء قد عملوا به.
قوله: «من غَيرِ عُذرٍ»، يعني: من غير حاجة، يعني: إذا احتاجت الأمة إلى ذلك جاز لها، وأمَّا أن يُتخذ ذلك ديدنًا؛ فإنه ليس من هدي أهل السنة، بل هو من هدي الرافضة، فمن هديهم الجمع بين الصلاتين، وليس هو من هدي أهل السنة بوجه من الوجوه.
فنقول: الجمع لا يجوز إلا في الحالات النادرة، ولمن لم يكن ذلك له عادة.
قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ»، ذكر الجمع من غير أن يذكر أنه جمع تقديم أو جمع تأخير، فدلَّ ذلك على أنَّ الأمر فيه واسع.
قال: «وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»، أيضًا إذا كان على سفر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ»، هَذَا هُوَ لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْحَدِيثِ. وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «أَكْثَرُ وَأَزْيَدُ»)
}.
قوله: (بَابُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ)، كما قدمنا قبل قليل أنَّ قصر الصلاة من سنن النبي المؤكَّدة، وقد ذهب جماعة من العلماء -رحمهم الله- كالحنفية والظاهرية وغيرهم إلى أنَّ القصر واجب، وقالوا: إن أتم لم تقبل صلاته، قالوا: ومما يدل على ذلك حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن النبي قال: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ» ، قالوا: فدل ذلك على أنَّ الأصل في صلاة السفر أنها ركعتان، وقد جاء ذلك أيضًا في حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قالوا: فهذا هو حق صلاة السفر، وكما أنَّ الإنسان لو صلى في الحضر صلاة الفجر أربع ركعات بدلا من اثنتين، قالوا كذلك حال مَن يزيد في السفر، إذا صلى الركعتين -الظهر- أربعًا فكأنما زاد في الفجر في وقت الحضر، وهذا يدل على أن هذا المعنى متقرر عند العلماء -رحمهم الله- ولهذا حكي الإجماع على أنه مسنون، ما هناك خلاف بين العلماء -رحمهم الله- وما قال أحد من العلماء بمشروعية الإتمام، وإنما روي في ذلك روايات عن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنهم كانوا يتمون الصلاة، فإنَّ عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد كان يقصر الصلاة بمنى كما كان هدي النبي وهدي صاحبيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- حتى كان آخر عمره فأتمها، وقد كان ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يصلي مع عثمان فيتم ويقول: "الخلافُ شرٌّ"، ويقول: "صليتُ مع النبيِّ ركعتَينِ ومع أبِي بكرٍ ركعتَينِ ومع عمرَ ركعتَينِ ومع عثمانَ صدرًا من إمارتِه ثم أتمَّها، ثم تفرقَتْ بكم الطرقُ فلوددتُ أنَّ لي من أربعِ ركعاتٍ ركعتَينِ مُتقبَّلتَينِ" .
وكان ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إذا رأى مَن يتنفل في السفر قال: "لو كنت مُتنفلًا لأتممت صلاتي"، فدلَّ ذلك على أن هذا المعنى متقرر، والظاهر والله أعلم أنَّ عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إنما صنع ذلك لأحد أمرين:
الأمر الأول: أنه جاءه أعرابي فقال: "يا أمير المؤمنين، والله ما زلت أصلي ركعتين منذ رأيتك عام أول تصلي بنا ركعتين"، يعني: ظنَّ الصلاة ركعتين فذهب إلى قومه وأخذ يصلي بهم ركعتين، لكن قال بعض العلماء: إنَّ هذا قد يحتمل وقوعه حتى من النبي .
الأمر الثاني: قال بعض العلماء إن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان قد تأهَّل، يعني اتَّخذ أهلا له في مكة، وهذا بعيد؛ لأنَّ عثمان مهاجر، وقد ثبت عن النبي أنه قال: «يُقِيمُ المُهَاجِرُ بمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثً» ، كما في حديث العلاء الحضرمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فإذًا الظاهر -والله أعلم- أن هذا اجتهاد من عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يوافقه عليه الصحابة.
وقد كان أيضًا ممن أتم عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ولَمَّا سئل عروة عن ذلك قال: "تأوَّلت كما تأول عثمان" لكن سنة النبي وهو قول جماهير العلماء على أنَّ حقَّ السفر القصرُ، وعلى أنَّ الصحيح من أقوال أهل العلم أنه ليس من باب الخيار وإنما هو واجب، فيجب على الإنسان أن لا يزيد في السفر عن ركعتين في الرباعيات، يعني: يجب عليه قصر الصلاة، هذا على الصحيح من أقوال أهل العلم، إلا إذا صلَّى خلف مُقيم؛ فإنه يتم الصلاة، كما جاء عن ابن العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه قال: "هي سنة رسول الله ".
{شيخنا قد يرد سؤال: هل هنالك مدة للقصر؟}.
هذه مسألة خلافية بين العلماء قد تنازع فيها العلماء نزاعًا كبيرًا، فجماعة من العلماء -رحمهم الله- يذهبون إلى أنَّ القصر إنما مدته أربعة أيام، ثم اختلفوا هل توقَّت بالأوقات أو توقَّت بالفروض؟ فيقال عشرين فرضًا؟
وأصح الأقوال في ذلك -والله أعلم- أنه ليس للسفر قدر معين، وإنما هو من الأسماء المناطة بالعرف، هو اسم عرفي؛ لأنه لو كان له قدر معين لكان من أحوج ما يريد أن يُبينه الشَّارع، الشارع ما ترك دقيقة ولا جليلة إلا بيَّنها لنا، فهل يُتصور أن يترك الشارع ما يتعلق بأمر الصلاة؟ هذا بعيد.
فإذًا الشَّارع جعل أمر السفر إلى عرف الناس، وبناء عليه نأتي إلى الناس فنقول لهم: هل من عرفكم أنكم تسمُّون من جاوز أربعة أيام مقيم أو تعدونه مسافرًا؟
يقولون: لا ما يتغير فيه حال شيء، أربعة أيام أو خمسة أيام أو عشرة أيام مسافر، ما لم ينوِ إقامة طيب نقول: ما هي معايير الإقامة عندكم؟ قالوا: معايير الإقامة معروفة عندنا، الإنسان إذا أراد أن يستوطن البلد حتى لو كان استيطانًا مؤقتًا، يعني: يريد أن يقيم فيه مثلا سنة أو سنة ونصف أو سنتين، يعمل ما يعمل المستوطن، تجد أنه يستأجر إيجارًا طويل المدى، يؤسس أثاثًا كاملًا، وإذا كان عنده أولاد نقلهم إليه، فاتخذه موطنًا له، فهذا كله من المعاني التي يدل عليها العرف، ويفرق الناس فيها بين المسافر وغيره، بل حتى النظام يفرق فيها، فيجعل لهذا الآن عنوانًا وطنيًّا دائمًا إذا انتقل إلى مثل هذه الأماكن، ولا ينتسب إلى عنوانك القديم، هذا كله دلالة على أن العرف مُعتبر في الشرع.
فإذًا الصحيح في مثل هذه المسألة: أنَّ السفر مُقيَّد بالعرف، فما تعارف الناس عليه على كونك صرت تعامل معاملة أهل البلد، لأن أولادك يدرسون، وأنت مستأجر؛ فتأخذ حكم المقيم، وهذا بخلاف من يستأجر شقة مفروشة لمدة خمسة أيام أو عشرة أيام أو عشرين يوم، فإن كنت تستأجر الشقق التي يستأجرها أصحاب الإقامة، فهديك الآن هدي المقيم، وما سوى ذلك فالأصل فيه أنه يكون مسافرًا.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ»)، هذا نص واضح استشهد به المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- مع وجود نصوص أخرى في الصحيحين على أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا ينقلون عن النبي أنه كان يقصد الصلاة، لكن هذا النَّص نصٌّ ظاهر وواضح في قوله: (كَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ)، وابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أكثر الصحابة اتِّباعًا واقتداءً لرسول الله ، فالأصل فيه -رضي الله عنه- أنه إنما ينقل ما عهده من سنة النبي مع ما كان عليه ابن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- من كونه ربما أحيانًا حرص على الجد في العبادة، أو لم ينقل عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه يقول: "إني لأغسل باطن عيني حتى خشيت أن يذهب بصري"، هذا من حرصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أو لم ينقل عنه أنه كان يغسل عنقه، فنقل المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الخبر عن ابن عمر حتى يقول: إذا كان ابن عمر مع ما يُعرف عنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من حرصه على العبادة، ومع كونه من عبَّاد الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ينقل هذا الخبر عن رسول الله وهو أنه لا يزيد في السفر على ركعتين، ولا الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولا عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلا في آخر حياته؛ فدلَّ ذلك على أنها سنة النبي المطردة، وفي الزيادة التي عند مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- وهي أيضًا مروية عند الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- أن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رأى أناسًا يتنفَّلون فقال: "لو كنت متنفلًا لأتممت"؛ فدل ذلك على أنَّ المسافر يُشرع في حقه القصر، ويشرع في حقه ترك السنن الرواتب، ما يتنفل إلا نافلة الفجر.
إن قيل: من أين استثنيتم نافلة الفجر مع أنَّ الأصل في حديث ابن عمر تعميمها؟
قلنا: استثنيناها من حديث أبي قتادة الذي رواه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- وأصله في البخاري، وفيه أنَّ النبي لَمَّا فاتته صلاة الفجر في السفر قام صلى ركعتي الفجر، وقال: «من كانَ منكم يركعُ ركعتيِ الفجرِ فليركعْهُم» ؛ دلَّ على ذلك أنها لا تترك حتى في السفر، كما أنَّ من السنن التي لا تُترك في السفر الوتر.
إن قلنا من أين؟
قلنا: لأن ابن عمر بين أنَّ النبي كان يوتر في السفر على راحلته، فإذا كان ابن عمر قد استوعب لنا هذا؛ أفادنا ذلك طمأنينة ويقين بأمور:
الأمر الأول: أنه لم ينقل عن النبي أنه أتم صلاته في سفر البتة.
الأمر الثاني: أنه لا تشرع السنن الرواتب ولو كانت تشرع لنقلها ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي كان حريصًا على عبادة النبي غاية الحرص.
الأمر الثالث: أن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نقل لنا ما فعله النبي من السنن، فكان ابن عمر في معرفته بعبادة النبي في السفر كجابر في معرفته بحج النبي ، جابر هو المرجع في حجة النبي ، وإذا اختلف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أو تنازعت الأحاديث؛ رجعنا إلى حديث جابر، لأننا رأيناه ساقه سياقه عجيبة، فكذلك ابن عمر.
إذا قال قائل أيضًا: زيدونا.
نقول: نزيدك أن ابن عمر كان يعرف المواطن والأماكن التي يصلي فيها النبي في سفره، وهذا غاية ما يكون من الضبط والدقة والحفظ لسنة النبي ، فهل يتصور أنَّ ابن عمر الذي ذكره الإمام البخاري لما قال: (باب ذكر المواضع التي كان يصلي فيها رسول الله في الطريق بين المدينة إلى مكة) لَمَّا ذكرها وذكر نزول ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مواضع صعب حفظها، ومع ذلك فقد كان ابن عمر لا يخطئها، ينزل عليها جميعًا؛ فهل يتصور أنَّ هذا الذي ينقل هذه المواضع يغفل عن نقل أنَّ النبي صلى مرة صلاة تامَّة! كلا. يغفل عن أنَّ النبي كان يصلي السنن الرواتب! كلا، بل وينكر على من يفعلها، فهذا كله مما يعطينا اليقين والطمأنينة على أنَّ ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان أحفظ الناس لهدي النبي في العبادة في السفر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الْجُمُعَةِ.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ. ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي وَفِي لَفْظٍ صَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى»)
}.
الجمعة من شعائر الدين الظاهرة، وهي من الأصول القرآنية، وقد ذكرنا أنَّ الأصول القرآنية هي في غاية ما يكون من الثبوت، فمثلًا: الوتر ليس أصلًا قرآنيًا، وإنما أصلٌ ثبت بسنة النبي ، لكن الأصول التي تثبت بالقرآن هي أعلى ما يكون من الثبوت؛ لأنّ القرآن إذا ثبت بها فإنَّ السنة ستأتي بها أيضًا جزمًا، فإذًا الجمعة من الأصول القرآنية، وقد نزلت بها سورة بتمامها، وهي سورة الجمعة، وإنما سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وهو اسم إسلامي، وقد كان اسم يوم الجمعة قبل الإسلام "العَروبة"، فلمَّا جاء الإسلام سماه باسم "الجمعة"، فهذا هو اسم إسلامي، وقد جعله عيدًا، ونهى عن صيامه، كما في حديث جابر، وحديث أبي هريرة، وحديث جويرية؛ كل هذه الأحاديث مُتتابعة في أنَّ النبي نهى عن صيام يوم الجمعة؛ لأنه يوم عيد، فهو يوم يجتمع فيه المسلمون، وهو من أجل الأيام، وهو من خصائص هذه الأمة، وقد جاء عن النبي أنه قال: «مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» .
وقد ثبت عن النبي في حديث أبي هريرة، وفي حديث حذيفة، وفي حديث غير ما واحد من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنَّه قال: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، وهذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم فاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدانا اللَّهُ له»، الأصل أنَّ اليهود أمة سابقة على النصارى، فكان عيدهم يوم السبت، والنصارى الأحد، فكان يتصور أنَّ المسلمين يوم الاثنين، فأراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذه الأمة أن تسبق، فجعل اليوم يوم الجمعة، قال: «فَهُمْ لنا فيه تَبَعٌ، فالْيَهُودُ غَدًا، والنَّصارَى بَعْدَ غَدٍ».
{في هذا دلالة يا شيخنا على مخالفة اليهود والنصارى}.
بلا شك أنَّ من المعاني الجليلة التي قررها رسول الله في مخالفة اليهود والنصارى، وفي الاستعلاء بالإسلام، وأنَّ اليهود والنصارى يُفترض عليهم الاقتداء بالمسلمين وليس العكس، كما أنه اتبعك في عيده، فكذلك يتبعك في بقية الشعائر، ولا يجوز أن ينعكس الأمر وأن تنعكس الحال، ولهذا لَمَّا كان المسلمون هم أهل الاستعلاء كان اليهود والنصارى يقتدون بهم، وكان مَن رغب أن يكون له جاه ومنزلة اقتدى بالمسلمين، يقتدون بهم أحيانًا في اللباس، ويقتدون بهم في هيئاتهم، وفي مآكلهم وفي مشاربهم، وذلك لَمَّا كان للإسلام الشأن والظهور، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون في كل حاله، فيكون مُعتزًا بدينه، وأن يرى أن الأمم إنما تتبع دين الله -عز وجل- وأنَّ الدين عند الله -عز وجل- هو الإسلام، وهو ختام هذه الأديان والمهيمن عليها.
والحكمة في الجمعة بوجه عام ظاهرة، وهي أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- إنما شرعها لاجتماع الناس، وحتى يتآلف المسلمون.
ولهذا فإنَّ النبي غلَّظَ فيها، فقال: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، فلا يشرع ترك الجمعة ولا يتهاون بها، وقد ثبت عن النبي أنه همَّ بتحريق مَن لا يشهد الجمعة، كما في بعض الأحاديث الواردة عنه في المسند وغيره.
والجمعة فيها مصالح عظيمة ليس هذا مقام ذكرها، لكن يراها المسلمون جليَّة ظاهرة، ويعلمون أنَّ من أعظم محاسن هذا الدين يوم الجمعة، لِمَا يكون فيه من الاجتماع، ولِمَا يكون فيه من الاستماع إلى ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولِمَا يكون فيه من التآلف، ولِمَا تنشرح فيه النفوس من الصدقة والبر والبذل والعطاء ونحو ذلك، وهو صورة مُصغرة لِمَا ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين بوجه عام، كما أنكم تجتمعون في مسجد واحد أو في جامع واحد وتصلون خلف إمام واحد فكذلك الحال، الأصل في المسلمين الاجتماع لا التفرق، ولهذا نهى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن التفرق وذمَّه وتوعَّد عليه.
ذكر ها هنا المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث سهل بن سعد الساعدي-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فقال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ»، وقد كان لهذا المنبر أمر، وهو أنَّ النبي قد كان يخطب على جذعٍ، فجاءت امرأة من الأنصار فقالت يا رسول الله: ألا أصنع لك شيئًا تقوم عليه؟ فقال: «إن شِئْتِ»، وفي بعض الروايات أنَّ النبي أرسل إليها: «مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لي أعْوَادًا، أجْلِسُ عليهنَّ» ، فصنع لرسول الله هذا المنبر، وقد كان من ثلاث درجات، فكان النبي يقوم عليه فيخطب، ولَمَّا قام عليه في أول يوم علَّم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- صفة الصلاة، فصلَّى عليه، فدلَّ ذلك على أنه يجوز للإمام أن يُصلي في مقام أعلى من مقام المأمومين لكن بغرض التَّعليم، فأمَّا ما سوى ذلك فلا يُشرع؛ لأنَّ النبي إنما قام فيه مرة واحدة مُعلمًا، ثم رجع ولم يعد، وقد كان يُصلي كما يصلي أصحابه -رضوان الله عليهم- وصلاة الإمام مرتفعًا عن المأمومين قد يقدح فيه الكبر والتَّعالي عنهم، ولهذا لَمَّا صلى بعض الصحابة -قيل: إنه أبو مسعود، وقيل: حذيفة- في مكان مرتفع، جذبه أحد الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- حتى أنزله، وقال: إنَّ النبي كان ينهى عن ذلك، يعني: ينهى أن يقوم الإنسان في مقام أعلى من مقام المأمومين؛ لأنه ينبغي للإمام أن يُواسي المأمومين بحالهم.
قال: «ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ»، فيه دلالة على أنَّ الحركة في الصلاة إذا كانت لغرض التعليم جائزة.
قال: (فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي»)، المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- إنما أراد بذلك الإشارة إلى أنه يشرع في الخطبة أن تكون على منبر، أو على مكانٍ عالٍ أو مرتفع؛ حتى يُسمع المأمومين، وحتى ينظرون إليه جميعًا، فهذا هو الأصل في خطب الجمعة، ولكن يُستثنى من ذلك صلاة الاستسقاء في بعض الأحيان، فإنَّ النبي قد قام في صلاة الاستسقاء في غير ما موضع على رجليه ، من غير ما منبر في نفس موضع الصلاة؛ لأنَّ الأصل في الاستسقاء غاية ما يكون من التَّضامن والخضوع والتَّذلل، فناسبها أن يقوم على الأرض، ولو قام على المنبر لم يكن عليه إنكار، لأنه قد ثبت عن النبي أنه قام يومًا على المنبر.
إذًا؛ هذا المعنى من المعاني التي ينبغي أن تقرر، وهو أنه يستحب أن تكون الخطبة على المنبر، وأن يخطب قائمًا -كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: «صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»)
}.
الحديث الأول وهو قوله: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنه- فيه دلالة على مشروعية غسل يوم الجمعة، وهذا الغسل عند العلماء -رحمهم الله- من آكد ما يكون من السنن عن رسول الله ، حتى لو قيل للإنسان: اذكر مثالًا على آكد السن؛ لكان من ضمن هذه الأمثلة: الوتر، وغسل الجمعة.
ومن أجل ذلك قال بعض العلماء -رحمهم الله: إنَّ الأصل في غسل الجمعة الوجوب؛ لأنه قد جاء عن النبي كما في حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام البخاري ومسلم أنَّه قال: «غُسْلُ يَومِ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، فقوله: «وَاجِبٌ» ظاهر في الوجوب، ولكن قال بعض العلماء: إنما صرف الأمر للاستحباب لعدم وجود قائل من الصحابة -رضي الله عنهم- بوجوبه، ومما يدل على ذلك أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنكر على عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عدم الغسل، وما أمره بأن يرجع فيغتسل، لكن أنكر عليه عدم عمله بهذه السنة المتأكدة عن رسول الله ، كما كان بعض الصحابة يُنكر على بعضهم ترك الوتر مثلا. فإذًا؛ هذا من آكد السنن الثابتة عن رسول الله .
قال: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»، الأصل في هذا الغسل أن يكون غسلًا ليوم الجمعة، وإذا قيل غسل يوم الجمعة، فالمعنى أنه إنما يقع في اليوم، واليوم إنما يبدأ من طلوع الفجر، بعض الناس يغتسل ليلة الجمعة، وهذا لم يكن هو غسل يوم الجمعة، لكن مما لا شك فيه أن من اغتسل ليلة الجمعة كان أخف ممن لم يغتسل؛ لأنَّ الأصل في الغسل بوجه عام أنه قد جاء على سبب، وهذا أحد ما لاحظه العلماء -رحمهم الله- القائلين بأن الغسل مسنون وليس بواجب، قالوا: إنما صرفناه من الوجوب إلى الاستحباب المؤكد أنَّا رأينا أنَّ هذا الحديث قد جاء لسبب، وهو أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كما في حديث عمرو عن عائشة كانوا يغدون إلى المسجد، وهم مهنة أنفسهم ولم يكن لهم عمال، فكان النبي يريد منهم رائحة طيبة، فقال لهم: لو اغتسلتم، ولفظ "لو" للإرشاد.
قالوا: وأيضًا وجدنا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «حَقٌّ علَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فيه رَأْسَهُ وجَسَدَهُ» ، قالوا: فإذا وقع هذا قبل يوم الجمعة بشيء يسير كان قد أتى بما أوجب الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه من الغسل كل سبعة أيام.
هذا من المعاني التي لاحظها العلماء الذين يقولون إن غسل يوم الجمعة ليس بواجب.
لكن ينبغي أن يقال: إنَّ من أراد أن يعمل بالسنة عن رسول الله وأن يكون محققًا لقوله : «إِذَا جَاءَ أحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ» ، ولقوله : «غُسْلُ يَومِ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»، أن يكون غسله واقعًا بعد طلوع الفجر؛ لأنه غسل يوم، ما قال النبي "غسل الجمعة" حتى نقول: إنَّ الجمعة لفظ عام يتناول اليوم والليلة؛ وإنما أكَّده النبي في حديث أبي سعيد بـ "يوم الجمعة"، فإذًا نقول: هذا هو الغسل المشروع.
وأفضل ما يكون الغسل أن يكون سابقًا للرَّواح عند الخروج للصلاة؛ لأنه قد جاء عن النبي أنه قال: «لا يَغتَسِلُ الرَّجُلُ يَومَ الجُمُعةِ ويتَطَهَّرُ بما استَطاعَ مِن طُهْرٍ، ثُمَّ يَدَّهِنُ مِن دُهْنِه، أو يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيتِه، ثُمَّ يَروحُ» ، فهذا هو الأفضل، وهو أن يكون الغسل سابقًا للرواح، حتى يذهب إلى الجمعة بطهارة هذا الغسل.
وتبقى مسألة جليلة وهي من المسائل التي يكثر السؤال عنها، وهو أن يقال: هذا الغسل لو أنه صادف غسل جنابة، هل يكون مجزئًا؟
نقول: نعم، إن اشتركت النية، ونوى أنه غسل جنابة وغسل يوم الجمعة لحصل له الاثنان -ارتفع الحدث وحصل له غسل يوم الجمعة من حيث السنية.
وقد فسَّر بعض العلماء كما جاء في حديث وكيع أنه قال: «من غَسَّلَ واغتَسلَ يومَ الجمعةِ» أنَّ «غَسَّلَ» ها هنا يُراد به الجماع، فهذا دلالة على مشروعية الغسل يوم الجمعة، وعلى آكدية غسل يوم الجمعة. هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه متى ما اغتسل هذا الغسل المسنون فإنه غسل شرعي، وإذا كان كذلك فإنه يكون مجزئًا عن الوضوء؛ لأنَّ من أكثر ما يقع فيه السؤال أن يقول الرجل: إني استيقظت من نومي ولست على جنابة، ولكن استيقظت من نومي واغتسلت ولم أتوضأ، والعلماء -رحمهم الله- يقولون: إنما يرتفع الحدث الأصغر بغسل الجنابة الذي يرفع الحدث الأكبر، ولكن ما قالوا إنه يَرفَعُه الغسل المستحب.
ونقول: ما دام أنه غسل شرعي، فإنه يرفع حتى غسل الجنابة، وإذا كان كذلك فمن باب أولى أنه يرفع الوضوء.
{هل تشترط النية؟}.
ما يشترط النية، يكفي في ذلك أن ينوي أنه غسل ليوم الجمعة فيُجزئ الوضوء، ويخرج مباشرة إلى الصلاة، كما أنه لو نوى بذلك غسل يوم الجمعة ونسي غسل الجنابة كان مجزئًا في حقه، "ومن نوى غسلًا مسنونا أجزأ عن واجب وكذا عكسه" فهذا المعنى مما يقرر هذه المسألة.
ويقال: من اغتسل يوم الجمعة فقد ارتفع حدثه الأصغر، وحدثه الأكبر، وأصبح طاهرًا للصلاة، ولهذا لَمَّا ذكر النبي هذا الغسل لم يعقبه بالوضوء، قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ» ، ما قال: "ثم توضأ"؛ فدل على أنه يجزئ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ».
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً. فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ»)
}.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: «صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»).
فيه مشروعيَّة تحية المسجد، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنَّ تحية المسجد من الواجبات، وهم الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ.
وقالوا فيمن قال: إنها ليست بواجبة لأن حديث طلحة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أنَّ الأعرابي لَمَّا سأل النبي عن الصلوات الخمس هل علي غيرها؟ قال: «لَ»، قالوا: فلو كانت واجبة لذكرها.
قالوا: لا، هذه الصلوات الخمس إنما هي التي تجب بغير سبب، وإنما هي مُقيدة بالأوقات، لكن هذه إنما تجب على أسباب، فلا يصح أن تقحم في هذه المسألة، وهذا من الأقوال القوية.
قالوا: مما يدل عليه أنَّ الأصل في الاستماع ليوم الجمعة أنه واجب، وقد أمر النبي بالإنصات للإمام، ثم إنه أمر هذا الرجل الذي هو سليك الغطفاني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن يقوم فيصلي، فلو كانت مسنونة على ما قال بعض العلماء لكان من الأولى الاستماع لخطبة النبي ، وقد جاء عن أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث أصل في هذا الباب، وقد سبق أن بينَّا أنَّ النبي قال: «إِذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» ، هذا هو الأصل في هذا الباب -أعني باب تحية المسجد- فتحية المسجد أصلها حديث أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويزيدها تأكيدًا حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فيدل ذلك على مشروعية وآكدية ركعتي تحية المسجد.
ويقرر هذا المعنى أيضًا أن يُقال: إن بعض الناس ربما أتى والمؤذِّن يؤذِّن فأخذ يتابع المؤذن في أذانه. فيقال: لا، الأولى في مثل هذا أن يصلي؛ لأنَّ الاستماع إلى الخطبة أوجب وأولى من الترديد خلف المؤذن، فالترديد خلف المؤذن سنة، ويستطيع الإنسان أن يستدركه أيضًا إذا كان معذورًا، بخلاف تحية المسجد وبخلاف الاستماع إلى الخطيب، فإنَّ هذا كله من باب أولى.
قال: (عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ»).
حديث جابر هذا، وحديث ابن عمر السابق، هما الأصل في أنَّ الجمعة إنما هي خطبتان، وأنه يُفصل بينهما بجلوس، وأنه لا يُشرع للإمام أن يخطب قاعدًا، وأوَّل من خطب قاعدًا كان مُعاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لكنه كان معذورًا؛ لأنه كان قد بدنَ، فكان يشق عليه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن يقوم.
ولَمَّا رأى بعض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- من يخطب جالسًا أنكروا عليه، وقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمً﴾ [الجمعة: 11]؛ يدلُّ على أنَّ الأصل في الخطبة القيام، وهذا من باب تعظيم قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن باب تعظيم الوعظ أن يقوم الإنسان لله -عَزَّ وَجَلَّ.
فإذًا؛ يشرع بوجه عام خطبتان، بمعنى أنَّ كل خطبة تَبدأ بحمد لله -عَزَّ وَجَلَّ- وصلاة على رسوله وتختم.
قال: «يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ»، كان النبي يفصل بينهما بجلوس يسير، وربما كلَّم النبي في هذا الجلوس بعض أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وكان عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا ربما حدث فيه بعض الناس، هذا الجلوس اليسير يجوز للإنسان فيه أن يتكلم.
{كم مقداره يا شيخنا؟}.
الحقيقة ما ثبت مقداره، فيقال إنَّ هذا الأمر متروك إلى عرف الناس، والأصل في أن يكون شيئًا يسيرًا بقدر ما يُسبح الإنسان تسبيحات يسيرة.
{لكن هل يجوز للخطيب أن يطيل هذه المدة، حتى يدع الناس يدعون؟}.
نقول: ما في بأس أن يطيلها الإنسان، لكن لا يطيلها إطالة خارجة عن العُرف؛ لأنه لم يثبت عن النبي أنه كان يطيلها، كما يقال: لا يجوز للإنسان بوجه عام -وهذا مما ذكر بعض العلماء أنه محرم- أن يجعل الخطبة خطبة واحدة، نعم، فإنَّ بعض العلماء -رَحِمَهُ اللهُ- قال الخطبتان كأنما هما ركعتان، فلا يجوز للإنسان أن يجمعهما بخطبة واحدة.
ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ».
هذا الحديث هو الأصل في مشروعية الإنصات للخطيب، وفيه تعظيم الكلام وقت الخطبة، حتى لو كان على وجه الإنكار، فقوله: «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الأصل بوجه عام في الخطبة هو وجوب الإنصات لها، وبناء عليه فإنَّ الغفلة عنها ليست مما يُشرَع، بعض الناس ربما يُنصت لكن ينام، فنقول: هذا مما يُخالف الهدي؛ لأنَّ النبي أمر بالإنصات، والنائم ليس مُنصتًا، وإنما هو غافل وأعظم ما يكون من الغفلة، ولذا ينبغي للإنسان أن يُنصت، وينبغي له أن يرعي الخطيب سمعه، ولهذا فإنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- إنما كانوا يتفقهون في دين الله -عز وجل- من رسول الله .
وينبغي للخطيب في هذه الخطبة أن يُذكر الناس بالله -عز وجل- وباليوم الآخر وبالساعة، ويعلمهم أحكام دينهم؛ ولا ينبغي للخطيب أن يخوض في أمور الناس، وإنما يخوض في أمور دين الله -عز وجل- لأنها خطبة يُقصَد بها ترقيق قلوب الناس وتذكيرهم بالله -عز وجل- وتذكيرهم بالدار الآخرة.
قال : «إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»، "لغوت" يعني تكلَّمت، وسمَّاه لغوًا، وأهل الإيمان يترفعون عن اللغو، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: 55]، وأعظم ما يكون اللغو هو اللغو في الجمعة، وقد جاء في بعض الأحاديث عن النبي أنه قال: «ومَن لَغَا فَلَا جُمعةَ لَه»، وليس معناه أنه يعيدها، ولكن معناه أنه قد حُرِمَ أجرها.
{نكتفي بهذا القدر شيخنا، أحسن الله إليكم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعكم ويزيدكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن الاستماع، نستودعكم الله، ونكون قد اكتفينا من هذا اللقاء، نلتقي بكم بإذن الله في لقاءات قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك