الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

15417 18
الدرس السادس

عمدة الأحكام 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله وبياكم مشاهدينا الكرام، وطَيَّبَ الله أوقاتكم بالمسرات والخيرات، نرحب بكم في هذا اللقاء في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ المقدسي، يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله شيخنا}.
حياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند حديث جابر، نستأذنكم في البدء.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رحمه الله: (عَنْ جَابِرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ «صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، أَوْ الثَّالِثِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فما زال المصنف -رحمه الله- يسرد لنا الأحاديث الواردة عن النبي في أحكام صلاة الجنازة، وفيما يتعلق بالميت والموتى، وفيه أنَّ النبي صلَّى على النجاشي، وقد ذكرنا أنَّ هذه هي صلاة الغائب، وهذا الحديث عن جابر -رضي الله عنه- هو أصح ما جاء عن النبي في الصلاة على الغائب، مع حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق، والذي وفيه أنَّ النبي «صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ» بعد أن نعاه، وجاءه الخبر من السماء، كما سبق وقررناه في المجلس الماضي، وأنَّ هذا من معجزات النبي ؛ لأنَّ ما بين المدينة والحبشة مسافة عظيمة، يُعلم بُعد هذه المسافة ومشقة السير فيها بتأخر قدوم جعفر -رضي الله عنه- وأصحابه إلى النبي ، على الرغم من أنَّ النبي قد هاجر إلى المدينة، فمكث فيها سبع سنين، وما استطاع جعفر -رضي الله عنه- وأصحابه أَن يجدوا المنفذ أو المكان للوصول إلى النبي بأهليهم سالمين إلَّا في السنة السابعة من هجرته ، فهذا مما يدل على بعد المسافة، وقد قال جماعة من العلماء: بين المدينة وبين الحبشة مسيرة خمسين يوم في الزمان الأول، والحبش هي ما يسمى الآن ببلاد أثيوبيا، وتشمل ما قاربها من بلدان مثل: الصومال وغيرها، هذه كلها يُطلق عليها الحبشة، وقد كان الإسلام فيها قديمًا بإسلام النجاشي واسمه أصحمة بن أبجر.
والنجاشي بوجه عام لقب يُطلق على كل من حكم الحبشة، فكل من حكم الحبشة كان يقال له: "النجاشي"، وكل من حكم العراق، كان يقال له: "كسرى"، وكل من حكم الشام كان يقال له: "قيصر" وكل من حكم مصر كان يقال له: المقوقس.
لكن من هو النجاشي؟
النجاشي هو أصحمة بن أبجر، وحتى لا يشتبه على أحد، لَمَّا تجد في الكتب أن النبي كتب كتابًا إلى قيصر وإلى كسرى وإلى النجاشي، يدعوهم إلى الإسلام، وكان ذلك في عام الصلح في السنة السابعة من هجرته ، فيقول الإنسان كيف يكتب للنجاشي كتابًا يدعوه إلى الإسلام وهو مسلم؟
نقول: لا، إنَّمَا كان هذا الذي كتب له النبي خليفة للنجاشي الأول، وكان هذا نجاشيًا نصرانيًا، وأمَّا النجاشي الأول الذي صلَّى عليه النبي ، فإنَّه كان قد أسلم على يد جعفر بن أبي طالب وأصحابه -رضي الله عنهم- لَمَّا قرأوا عليه سورة مريم، فآمن وقال: "مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ" وأخذ مقدار القذاة، فأشار بها، يعني: أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، "فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ"[1]، يعني: رغمًا عنكم، ومع ذلك فإنَّ النجاشي قد أخفى إسلامه ولم يُعلِمَ أحدًا بإسلامه، وما زال يحكم قومه بالعدل الذي هو شريعة الله -عَزَّ وَجَلَّ، وقد مكَّن لأصحاب النبي وَخَلَّى بينهم وبين عبادتهم، وكان النبي يحبه ويُهاديه، حتى جاء في حديث أم سلمة أنَّ النبي قال لها: «إنِّي قد أَهدَيْتُ إلى النَّجاشيِّ حُلَّةً وأَواقِيَ من مِسْكٍ، ولا أَرَى النَّجاشيَّ إلا قدْ ماتَ، ولا أَرى إلَّا هدَيَّتي مرْدودةً عليَّ، فإنْ رُدَّتْ عليَّ فهي لكَ»[2]، فلمَّا وصلت الأواقيَ والطيب إلى النجاشي الذي بعد النجاشي الأول؛ ردها على النبي ، فكانت من نصيب أم سلمة.
فكان النجاشي يُهادي النبي ، وهو الذي زَوَّجَ النبي بأم حبيبة، فإنَّه من المعلوم أنَّ أم حبيبة قد كانت مع عبيد الله بن جحش، وقد ارتدَّ وتَنَصَّرَ، نعوذ بالله من ذلك، وهذا مما يحقق أنَّ المؤمن يخشى على نفسه الفتنة، وإلَّا رجل قد استنقذه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الجاهلية، وما كانوا فيه من عبادة الأصنام برسول الله ، وقد شهد النبي وعلم أنَّه لا يمكن أَن يكون كاذبًا، يقول عبد الله بن سلام: فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب، وقد كان جماعة من الناس إذا رأوا النبي يعلمون أنه على الحق؛ لأنَّ الوجوه تكشف، وجه الكذاب فيه ما يدل عليه، ووجه المؤمن يرتاح إليه، وتنشرح له النفوس، حتى ولو كان أسود من الليل المظلم، قد كان بلال -رضي الله عنه- أسود اللون، ولكنه كان لا ينظر إليه أحد إلَّا وقع في حبه، وانشرح صدره له من النور الذي يقذفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على عباده. ولهذا لا يعمى عن النبي والمتنبي إلا أغبى الناس، أغبى الناس فقط هو الذي لا يستطيع أن يُفَرِّقَ بين النبي وغيره؛ لأنَّ عامة الناس يستطيع، ولهذا كان من اتبع مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وغيرهم يعلمون أنهم كذابون، وقد قال الرجل منهم: والله إني لأعلم أنَّ محمدًا صادق، وأنَّ مسيلمة كذاب، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، يعني: أخذ الموضوع كقبلية وتعصب، نسأل الله العافية.
إذًا، كان عبيد الله بن جحش على الإسلام، حتى ذهب إلى الحبشة، فوجدهم يثلثون ويعبدون الصليب. فتنصر، وانقلب عن دين لله -عَزَّ وَجَلَّ.
وقد ذكر بعض العلماء أنَّ أم حبيبة -رضي الله عنها- رأت في عبيد الله بن جحش -زوجها- رؤيا، رأت فيه أنَّه يُقَاد إلى النار، فلما استيقظت لم تشعر به إلا وقد تنصَّر، كان يمر بأصحاب النبي -انظر إلى الضلال إذا أشربه القلب-، فيقول: أَبْصَرْنَا وَصَأْصَأْتُمْ، والصأصأة هي النظر البسيط، وأول ما جرو الكلب يولد فإنَّه يولد أعمى، ثم ينتقل إلى مرحلة يسمونها: مرحلة الصأصأة، يصبح ينظر نظرًا خفيفًا مقطعًا ويرمش فيه، فكان يقول: نحن أبصرنا وأنتم صأصأتم.
ونقول: انظر إلى النجاشي، والذي كان نصرانيًا قبلك، وورث النصرانية أبًا عن جد، ومع ذلك فإنَّه لَمَّا جاءه كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما ملك إلَّا أَن يؤمن.
وفي عبيد الله بن جحش يتحقق قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الحجر:2]، والشاهد أنَّ هذا الرجل هلك على النصرانية، وبقيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أرملة، حتى أرسل النبي إلى النجاشي يخطبها منه، فزوجها النجاشي لرسول الله ، وأمهرها عن رسول الله أربعمائة درهم، وجهزها إلى رسول الله ، فكان هذا كله من حسناته -رضي الله عنه وأرضاه- فلم يترك النبي مكافأته لَمَّا توفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولذا جمع النبي صحابته وقال قولا عظيما يهدم كل معاني العنصرية، والله إنَّ هذه القولة يصح أَن توضع نبراسًا لكل رجل يعتقد أنَّ الأمور أو المقاييس إنَّمَا هي للعنصرية، وإنَّمَا هي للأعراق والأجناس، قال: «إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ»[3].
النبي يموت عمه على الكفر في مكة فلا يصلي عليه، ويموت أبناء عمه على الكفر فلا يصلي عليهم، ويعلم بموتهم ولم يصلِّ عليهم، ولم يسمهم يومًا واحدًا بالأخ، ولكنه سَمَّى هذا الرجل الذي مات -النجاشي- سماه: «أخاكم» فقال: «إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ»، فقاموا وقام النبي وخرج بهم إلى المصلى، في دلالة على مشروعية أَن تُصلى صلاة الجنائز في المصلى ولا تشرع في المساجد، ولكن لو أنَّ الإنسان عجز أَن يُصليها في المصلى فليصلها بالمسجد، ومما يدل على ذلك أنَّ النبي كان يُصلي عليها في البقيع، والبقيع يراد به قبل المقبرة، نعم المقبرة في البقيع، ولكن البقيع واسع، كان فيه سوق وكان فيه مصلى، فكان النبي يُصلي في مصلى خاص بالجنائز، ويصلى فيه أحيانًا صلاة العيد، وكان النبي يصلي على الجنائز في هذا المصلى، يجمع أصحابه.
قال: («فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، أَوْ الثَّالِثِ») يريد أَن يُكثِّرَ الصفوف على النجاشي -رحمه الله، وإلا فمن الممكن أن يصلي الجميع في صف واحد، ولكن النبي فرقهم ووزعهم، وهذا كله من الدلائل على مشروعية الصلاة على الجنائز بوجه عام، وعلى جواز الصلاة على الغائب.
لكن ما هو ضابط في صلاة الغائب؟
هذا المعنى ينبغي أَن يراعى، فيقال: الظاهر -والله أعلم- أنَّ الصلاة على الغائب بوجه عام تُشرع إذا كان الغائب في مكان لا يُصلى عليه فيه، أو كان رجلاً عظيمًا ذا خدمة قدمها للإسلام، سواء كان ملك صالح أو عالم فاضل أو داعية إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، نعم يشرع الصلاة عليه، وإن قيل من أين؟
قلنا: إنَّا جمعنا الأحاديث الواردة عن النبي في الصلاة على الغائب، فوجدنا أنَّ النبي قد صلى على جماعة منهم: النجاشي، ومنهم المرأة التي توفيت، فجاء النبي وصلى عليها في المسجد.
ومنهم: أم سعد بن عبادة -رضي الله عنها-؛ فإنها توفيت، فجاء النبي بعد شهر فصلى على قبرها.
ومنهم: شهداء أحد، وإذا قيل: إن الصلاة عليهم في آخر حياة النبي بمعنى الصلاة المعروفة، ولم تكن بمعنى الدعاء، وهؤلاء كلهم يجمعهم معنى جليل، وهو أنهم من أصحاب المكانة في دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حتى هذه المرأة وان كانت تقم المسجد لكنها صاحبة مكانة، من جهة رعايتها لحرمة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولحرمة بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأمَّا النجاشي فمعلوم مكانته، وأمَّا أم سعد بن عبادة، فمعلوم مكانة سعد بن عبادة -رضي الله عنه- من دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأمَّا شهداء أحد فنحن نعلم منزلتهم من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهذه كلها مما يدل على مشروعية صلاة الغائب في مثل هذه الأمور.
أيضًا من الأمور المهمة، أنَّ الأصحَّ في صلاة الجنائز وهو غالب سنة النبي أنها أربع تكبيرات، وقد جاء بيان ما يقال في هذه التكبيرات في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وجاء بيانها في حديث ابن عباس، أمَّا حديث ابن عباس؛ فإنَّه في البخاري، فإنَّه صلى على جنازة فقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة. فدل ذلك على مشروعية قراءة فاتحة الكتاب، هذا واحد.
الأمر الثاني على مشروعية الدعاء للميت، لماذا؟ لأنَّه ما الغرض من صلاة الجنازة إذا لم تكن تدعو له؟ فظهر لنا أنَّ هناك ركنان لا ينبغي أَن يُنازع فيهما، وهما:
الأول: قراءة الفاتحة، والثاني: الدعاء للميت.
وجاء في حديث أبي أمامة بن سهل الصلاة على النبي ، وهذا مناسب من حيث أنَّ الصلاة المكتوبة يشرع للإنسان فيها بعد التشهد أَن يدعو، قال النبي : «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ، فَيَدْعُو»[4]، قالوا: إنَّمَا كان بعد التشهد؛ لأنَّه قرأ الفاتحة، والفاتحة ثناء على الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لقول النبي : «فإذا قالَ: ﴿الحمدُ للهِ ربِّ العالمين﴾ قالَ اللهُ: حمِدني عبدي، وإذا قالَ: ﴿الرحمنُ الرحيمُ﴾ قالَ اللهُ: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ: ﴿مالكِ يومِ الدينِ﴾ قال اللهُ عز وجل: مجّدني عبدي»[5]، وهذا كله ثناء على الله، وهو أعظم الثناء؛ لأنَّك تثني على الله بما أثنى به على نفسه.
ثم التشهد الذي فيه السلام والصلاة على رسول الله ثم الدعاء، فكذلك أيضًا صلاة الجنازة يشرع للإنسان فيها أَن يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي ، ثم يدعو بما شاء، قالوا: وإنَّمَا تكون بين التكبيرات.
التكبيرة الأولى: للفاتحة، والتكبيرة الثانية: للصلاة على النبي ، والتكبيرة الثالثة: للدعاء.
طيب لو أنَّ إنسانًا كَبَّر الإمام فأطال في تكبيرته الأولى، نقول: ما في بأس أَن يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي ، ثم يجعل الثانية والثالثة للدعاء للميت، والأمر في ذلك واسع، وعند العلماء ليس هو كسبيل الدعاء مثلا في الركوع، ويقولون إنَّمَا يسن ذلك لكن لو انه استوعب قراءة الفاتحة والدعاء للنبي في التكبيرة الأولى جازأَن يجعل ما بعد ذلك كله دعاء للميت؛ لأنَّ الغرض الأول من الصلاة على الميت هو الدعاء له.
ولذا قال بعض العلماء: حتى ولو لم يقرأ الفاتحة، وهذا قول فيه وجاهة، لأنه لو كبر وأصبح دعاء للميت ما كان في ذلك حرج، وقد قال جماعة من العلماء: "إنَّ قراءة الفاتحة ليست بواجبة في الصلاة على الميت" ومما ينبغي أن يلاحظ، وهذا من رعاية الشرع بوجه عام لجانب التوحيد، أنَّ هذه صلاة، وإنَّمَا سميت صلاة؛ لأنها مبتدئة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم، فهذا هو المعيار إذًا في الصلاة.
هل يعد سجود السهو أو سجود التلاوة صلاة؟
نقول: لا، لماذا؟ لأنَّه وإن ابتدأ بالتكبير لكنه ليس مختتمًا بالتسليم، والشكر كذلك ليس بصلاة.
لكن صلاة الميت صلاة؛ لأنها مبتدئة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، ومع ذلك فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد نزع منها الركوع والسجود؛ لئلا يُظَنُّ أنَّ هذا الركوع والسجود للميت، وهذا يُقرر أنَّ الأصل في صلاة الميت أَن تكون كلها دعاء للميت، فإذا دعا للميت فقد أتى بمسمى صلاة الجنازة.
ولو أنَّ إنسانًا صلى فقرأ بالفاتحة وصلَّى على النبي ولكنه لم يدع للميت، فنقول: لم تأت بالواجب الشرعي في صلاة الجنازة؛ لأنَّ الأصل إنَّمَا هو الدعاء، وصلاة الجنازة إنَّمَا شُرعت لأجل هذا الغرض.
{شيخنا، لو أنِّي أدركت صلاة الجنازة، وكان الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة، كيف لي أن أدرك التكبيرتين الأولى والثانية؟}
هذه عند طائفة من العلماء يُصنع فيها كما يُصنع بالصلاة المكتوبة، قالوا: هي بالقياس على الصلاة المكتوبة، فإذا كان كذلك فكبر التكبيرة الأولى مع الإمام، والتي هي في حق الإمام الثالثة مثلاً، وتقرأ فيها بالفاتحة، ثم تكبر بعد ذلك الثانية، وبعد ما يفرغ الإمام تأتي بالصلاة على النبي ثم تكمل الصلاة.
وثمَّ قول آخر، وهو قول وجيه، وهو أَن يقال: إذا لم تدرك مع الإمام إلَّا تكبيرة واحدة فقط فأخلص فيها الدعاء للميت، أي: يجعل فيها الدعاء للميت، لماذا؟
لأنَّك بعد قليل سيرفع الميت، وستكون صلاتك على غير أحد، وهذا هو الفرق بينها وبين المكتوبة، فيقال في مثل هذا: يجوز للإنسان إذا كبر ولم يكن ثم إِلا تكبيرة واحدة، فليجعلها دعاء للميت بما شاء، ولو كان دعاء سريعًا.
وأمَّا الدعاء للميت فإنَّه قد نقل عن النبي في حديث أبي إبْرَاهيمَ الأشْهَليَّ عن النبي أنه كان يقول: «اللَّهم اغفر لِحَيِّنَا وَميِّتِنا، وَصَغيرنا وَكَبيرِنَا، وذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وشَاهِدِنا وَغائِبنَا. اللَّهُمَّ منْ أَحْيَيْتَه منَّا فأَحْيِه على الإسْلامِ، وَمَنْ توَفَّيْتَه منَّا فَتَوَفَّهُ عَلى الإيمانِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أَجْرَهُ، وَلا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ»[6]، وكيفما دعا للميت فقد أجزأ، والنبي دعا لأبي سلمة بغير هذا الدعاء، فقال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ»[7]؛ فإذًا يجوز للإنسان أن يدعو بما فتح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه من الدعوات للميت.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ، بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعً»)}
حديث ابن عباس -رضي الله عنه- إنَّمَا جاء في المرأة التي كأنت تقم المسجد فماتت، وفيه أنَّ النبي قاده هو وجماعة من أصحابه -رضي الله عنهم- حتى أتوا على قبر جديد قد دفن، فصفهم النبي وكبَّرَ عليه أربعًا وقال: «أَفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» قالوا: يا رسول الله كانت ظلمة وكان الليل فخشينا أن نشق عليك، فقال : «إنَّ هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم»[8]، فهذه من شفاعة النبي لهذه المرأة، ومن تعظيم النبي لقدرها في هذا الحديث دلالة على جواز الصلاة على القبر، حتى وإن كان قد صُلِّيَ على صاحبه؛ لأنَّ هذه المرأة صُلِّيَ عليها، قالوا: يا رسول الله كانت ظلمة، يعني: صلينا عليها نحن، ولكن ما أذناك.
الأمر الثاني: تجوز الصلاة على الميت من دون الإمام الراتب إذا كان يخشى على الميت، فيجوز أن يُصلى عليه في المقبرة ومن ثمَّ يدفن.
الأمر الثالث: الأصل في الصلاة على الميت أَن يكون كما ذكرنا قبل قليل، أَن تكون في المصليات وفي المقابر، وهذا من الأدلة على جواز الصلاة عليه، فإن قيل: ألم ينه عن الصلاة في المقبرة؟
قلنا: نعم منهي عن الصلاة في المقبرة؛ ولكن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة التي ليس فيها ركوع ولا سجود؛ لأنَّ فيها إشكالية ميل القلب، وما قد يقدحه الشيطان في القلب من عبودية غير الله -عَزَّ وَجَلَّ، وهذا يدل على معنى آخر، وهو أنَّ الانحناء عبادة، ولهذا لم يجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الانحناء إلَّا له، ولذا لم يُرخِّص في الانحناء في صلاة الجنازة سواء بالركوع أو بالسجود، فدلَّ ذلك على أنَّ الانحناء نوع تعظيم، ولذا لا يجوز، وللأسف أخذ بعض الناس من عوائد الغرب، أنَّه إذا جاء يُسلم على أحد انحنى له، نقول: هذه كلها من أعظم ما يكون من الموبقات، ومن الأمور التي تمس العقيدة؛ لأنَّ الانحناء لا يكون إلَّا لله رب العالمين.
وذهب بعض العلماء إلى أنَّ القيام من المجلس لا يُشرع إذا كان يخشى على الإنسان من أَن يدخله نوع من التعظيم لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكيف يكون الأمر في الانحناء؟ ما من شك أنه أعظم وأشد خطرًا.
إذًا، تجوز الصلاة على القبر، وقد قال الحنابلة -رحمهم الله- تجوز الصلاة عليه في القبر إلى شهر، فما كان بعد الشهر؛ فإنَّه لا يجوز، وقالوا: إنَّا رأينا أنَّ النبي إنَّمَا صلى على أم سعد إلى شهر، فهذا القول قول قريب، نقول: إنَّ هذه العبادة عبادة توقيفية، والأمر في ذلك واسع، فإن شاء الله صلى عليه قبل الشهر أو بعد الشهر، والأمر فيه واسع.
من الذي يُصَلَّىَ عليه؟
نقول: يُصَلَّىَ على القريب، يُصَلَّىَ على الرحيم، يُصَلَّىَ على الصديق، يُصَلَّىَ على العالم، يجوز للإنسان إذا لم يدرك الصلاة على فلان من الناس من أهل الصلاح أو من أهل القرابة، إذا رجع من بلده، أو رجع من سفره، أو قدم إلى بلد هذا الرجل، أَن يذهب إلى قبره فيصلي عليه، ولو كان ذلك بعد زمن؛ لأنَّه قد ثبت عن النبي أنه صلَّى على قتلى أحد في آخر حياته، وقد استشهدوا -رضي الله عنهم- في السنة الثالثة، والنبي على يقين أنه يصلي عليهم في السنة الحادية عشر؛ لأنَّه قبل موته بأيام يسيرة، لكنهم اختلفوا، هل صلى عليهم صلاة معروفة أو أنه دعا لهم؟! هذا خلاف بين العلماء -رحمهم الله- في مثل هذه المسألة.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «كُفِّنَ فِي أثواب بِيضٍ يَمَانِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ»)}.
هذا الحديث ذكره المصنف -رحمه الله- وهو من الأحاديث المتعلقة بالكفن، وقد كان الأولى من حيث الترتيب أن يُقدم على الصلاة؛ لأنَّ الكفن قبل الصلاة، لكنه إنَّمَا قدم الصلاة؛ لأنها هي الغرض وهي الأهم، فهي المناسبة لباب الصلاة أو هي العبادة المتمحضة بوجه عام.
قال: «كُفِّنَ فِي أثواب بِيضٍ يَمَانِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» في هذا صفة تكفين الميت، وقد كان الحال في النبي لَمَّا توفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه أتي بجبة لعبد الله بن أبي بكر يكفن فيها، والجبة هي القميص. أو الرداء والإزار، فَصُرِفَ الصحابة -رضي الله عنهم- عنها، فأخذها عبد الله بن أبي بكر، وقال: أكفن فيها، واحتفظ بها لنفسه، ثم قال: شيء رغب عنه أو شيء لم يرضه الله لرسوله لا أرتضيه لنفسي، فاجتمع أمر الصحابة -رضي الله عنهم- على أنَّ يكفَّن النبي بثلاثة أثواب، والثوب عند العرب إنَّما يكون في كل ما يكسو الجسد، الشيء الذي يكسو عامة الجسد يسمى: ثوبة، ولهذا إنَّمَا سمي الثوب ثوبًا؛ لأنَّه يعم الجسد، فهذه اللفائف الواحدة منها تكسو الجسد بتمامه، فإذا كست الجسد بتمامه سميت ثوبًا.
قال: «كُفِّنَ فِي أثواب بِيضٍ يَمَانِيَةٍ» قالوا: هي ثلاث لفافات، واللفافة الواحدة تسع الجسد بتمامه، فَلُفَّ على النبي اللفافة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم ربطوها من الرأس وربطوها من الرجل، ثم عقدوا ما بينها، هذه هي الثلاث.
قال: «كُفِّنَ فِي أثواب بِيضٍ يَمَانِيَةٍ» فيه مشروعية تكفين الميت في البياض، وقد جاء عن النبي في حديث عبد الله بن خثيم عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّ النبي قال: «الْبَسُوا البَيَاضَ، فَإِنها أَطْهرُ وأَطَيبُ، وكَفِّنُوا فِيها مَوْتَاكُمْ»[9]، وبعض الروايات: «البِسوا من ثيابِكُمُ البياضَ فإنَّها مِن خيرِ ثيابِكُم»[10]، ففي هذا بوجه عام مشروعية لبس الأبيض، وتقديمه على ما سواه، وقد كان هذا هو غالب هدي النبي ، ولا يضرُّ أن يكون فيه شيء من صفرة، والصفرة لا تناقض البياض، مثل الثياب الكريمية التي يلبسها الناس، هل هي تخرج الثوب على البياض؟
نقول: لا تخرجه، وقد ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنَّ النبي كان يصبغ بالصفرة، ولم يخرج ذلك عن أَن يكون بياضًا، والعرب يتوسعون وما عندهم تدقيق في الألوان؛ لأنَّ الألوان عند العرب ما كانت إلَّا خمسة، بينما هي عندنا الآن لا تعد ولا تحصى، فما كانوا يتوسعون في هذا الأمر.
فإذًا قوله: (ثلاثة أثواب بيض) يعني: يشرع الكفن بالأثواب البيض، ولكن كأثواب الإحرام، ولكن يجوز للإنسان أن يُكَفن بما شاء من الثياب، سواء كان ثيابًا أو كان قميصًا فهذا ليس بشرط.
قال: «يَمَانِيَةٍ» يعني: من صنع اليمن، حيث كانت أغلب ثياب النبي وأصحابه من اليمن لماذا؟
لأنَّ أهل اليمن كانوا أهل صناعة وأهل حياكة، فكانوا يحيكون هذه الثياب على النبي وأصحابه -رضي الله عنهم-، وجاء في بعض الروايات أنها: «سَحُولِّيَة»، وهي: نسبة إلى مدينة في اليمن، وهي مدينة سحول، أو قالوا: نسبة إلى الساحل، يعني: مدينة ساحلية.
قال: «لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» تقول عائشة -رضي الله عنها: إنَّ أثواب النبي ليس فيها قميص ولا عمامة، يعني أنَّه لم يُقَمَّص، والقميص هو الثوب المعروف المفصل، ما لبسه النبي ، وقد كان هو أحب الثياب إلى النبي في الحياة، كان أحب الثياب الحبرة، والحبرة هو القميص؛ لأنَّه ساتر، فكان أحب الثياب للنبي ، لكنه لم يكن كذلك في الممات.
قال: «وَلَا عِمَامَةٌ» لماذا لم يجعل في كفن النبي عمامة؟
لأنَّ العمامة تدل على السؤدد، وتدل على المكانة، ولهذا يلبسها الإنسان في المجامع، وهذا المكان هو مكان لقاء الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وحتى تجريده من ثيابه دلالة على أنَّ الأمر إنَّمَا هو ستره فحسب، ولهذا قالت عائشة لَمَّا احتضر الصديق -رضي الله عنهما- نظر إلى ثوب كان عليه فقال: إذا مت فكفنوني في ثوبي هذا، فقلت: نطلب لك ثوبًا جديدًا، قال: لا، إنَّ الحي أحوج إلى الجديد من الميت، وإنَّمَا هو للمهلة، أي: الفترة اليسيرة التي سيقضيها الإنسان في قبره ثم تبلى عنه ثيابه، هذي كلها من المعاني الجليلة التي تستحضر إذا كفن الإنسان، لهذا من أعظم ما يقع من الإنسان الموقع العظيم أَن يُباشر غسل الموتى أو يشاهد غسل الموتى، من وجد في نفسه الكبر أو الإقبال على الدنيا أو الإعجاب بها والانغماس فيها، وأراد أَن يُرْجِعَ قلبه، وأن يذكر قلبه ونفسه بحاله ومكانته، فلينظر إلى هذا الميت الذي ذهب عنه ما كان فيه من الجاه والسلطان والملك، قد ولى عنه وأصبح بين الناس يُقَلَّب يمنة ويسرة، لا يستطيع أَن يدفع عنه شيئًا، أسوأ من حال الصبي الصغير، يصاح به فلا يفقه ولا يسمع، ويتكلم عليه فلا يجيب، ويقلب بين يدي الغاسل ولا يستطيع أَن يرد، ولو جردوه ما استطاع أَن يرد عن نفسه شيء، ويجرد من ملابسه التي ربما هي في خزائنه بمئات الألوف، جرد منها وكان كفنه لا يجاوز مئة ريال أو ثمانين ريال أو خمس مئة ريال، ترى هذا مردك مهما تكبرت، استمتع بما أحل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكن لا تتكبر، ولا تتعالى، ولا تجعل الدنيا هي همك، ولا مبلغ علمك، واعلم أنَّ مصيرك وإن أوتيت ما أوتيت من الدنيا، ولبست ما لبست من الملابس، وركبت ما ركبت من المراكب، مصيرك إلى هذه اللفائف الثلاث، لن تزاد عليها، ثلاث لفائف حتى الشماغ لن تشمخ، والثوب لن تثوب، والمشلح لا يوجد مشلح، السراويل لا توجد سراويل، ثلاث أثواب حتى توارى فيها عن أعين الناس، ثم ستبلى عنك، ولا يبقى لك إلا أعمالك، هي التي تواريك، أعمالك هي التي تقدمك أو تؤخرك.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا -أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ- فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي» فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، وَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا بِهِ» تَعْنِي إزَارَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوْ سَبْعً»، وَقَالَ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَ»، وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ)}.
هذا هو حديث أم عطية -رضي الله عنها- الذي ذكرناه قبل درسين، لَمَّا تكلمنا عن أم عطية الأنصارية -رضي الله عنها- نسيبة بنت كعب، وأنَّها قد روت جملة من الأحاديث الجليلة، التي تعد عليها مدار جملة من الأحكام، وها هي تروي هذا الحديث الجليل الذي عليه مدار أحاديث غسل الميت، وفيه: (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ) هذه قد اختلف فيها، هل هي أم كلثوم أو زينب أو رقية؟ على خلاف بين العلماء -رحمهم الله.
فقال: («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ») فيه دلالة على أنَّ من يلي غسل الميت إنَّمَا هم أهله وقرابته، إلَّا إذا لم يكن من الرجال من يباشر ذلك للرجال، الأصل في الرجل أَن يغسله ذوو قرابته من الرجال، والأصل في المرأة أَن يغسلنها ذوو قرابتها من النساء، فإذا لم يكن ذلك، جاز لمن بعدهم أَن يباشر الغسل، وقال العلماء -رحمهم الله: لا يجوز للرجل أَن يغسل المرأة، ولا للمرأة أَن تغسل الرجل، وهذا من المعاني الجليلة التي قررها العلماء -رحمهم الله- ولهذا لَمَّا توفيت ابنة النبي وَكَّلَ بها أم عطية -رضي الله عنها- ومن معها من النساء حتى يغسلنها.
(دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ) ليس معنى هذا أنَّه دخل عليهن حتى يرى ابنته، ولكن دخل عليهن وهن يدخلنها من خلف الستار، فقال: («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ»)، وجاء في بعض الروايات: («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَو سَبعً») وأصح رواية أنه قال: («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ») يعني: الأكثر من ذلك السبع، فالمنتهى إلى السبع.
قالوا: يشرع فيه معان، والمعنى الأول: أَن يكون غسل الميت ثلاث، بحيث يقطع على وتر؛ لأنَّ هذا هو أمر النبي ، والثلاث هو الأقل، كما هو الحال في تثليث الغسل وفي تثليث الوضوء، قالوا: فإن ظهر من الميت بعد ذلك شيء غسل الرابعة ثم أكمل بالخامسة ليكون وترًا، فإن ظهر منه شيء بعد ذلك حتى يصل إلى السبع، والسبع هو المنتهى، فإذا وصل إلى السبع انقطعوا، ولهذا من روى («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَو سَبعً») لم يقل أو أكثر من ذلك، ومن قال أكثر من ذلك أخطأ، فالغاية هو السبع.
قال: («إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ») يعني: إن رأيتن أنها تحتاج إلى ذلك، أي: ما زال يخرج من الميتة شيء ونحو ذلك.
قال: («بِمَاءٍ وَسِدْرٍ») فيه دلالة على مشروعية أَن يغسل الميت بماء وسدر، السدر هو ورق النبق، والنبق هو ما يسمى عندنا بالعبري، هذا ورقه يطحن ويتخذ مثل الصابون، وكان يسمى عندهم بالأشنان، ويقوم مقامه الآن الصابون المعروف، لكن الأولى استخدام السدر ولا يقوم مقامه الصابون المعروف، فبناء عليه نقول: يشرع في غسل الميت أي يغسل بالصابون، وفيه دلالة على أنَّ الاغتسال إذا وقع بالصابون فإنَّه يكون غسلا مجزئا؛ لأنَّ بعض العلماء قال: قد يكون الصابون خالطه شيء فلا يكون الماء طهورًا وإنَّمَا يكون ماءً طاهرًا، نقول: لا، بل بالعكس، هذا الحديث فيه دلالة على أنَّه أصبح ماءً طهورًا، وأنَّ مخالطة الأشنان له لم تغيره، فإذا تغسل بالماء والسدر ثلاثا أو سبعا أو أكثر من ذلك.
قال: («وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ») الكافور هو نبات طيب الرائحة، يطحن ويدر على الميت حتى يتصلب جسده، ويطرد عنه الهوام، وقالوا يجعل في الغسلة الأخيرة، سواء كانت الثالثة أو الخامسة أو السابعة، يكون فيها شيء من كافور.
قال: («فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي») أي: إذا فَرَغْتُنَّ من غسلها فأعلمنني، (فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ. وَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا بِهِ») وحقوه يراد به الإزار، إنَّمَا سمي حقوًا لأنَّ الحقو هو ما يلف على الخصر، مثل: الحزام، لكنه إزار تام.
قال: (فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ، وَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا بِهِ») ما معنى «أَشْعِرْنَهَا بِهِ»؟
الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد، والدثار هو الثوب الذي يكون فوق ذلك، فبالنسبة لملابسنا نحن في السعودية بوجه عام، يكون الشعار هو الملابس الداخلية، الفانلة والسروال الداخلي، هذه -أكرمكم الله- تسمى شعارًا، والدثار هو الثوب، ولهذا قال النبي في الأنصار: «الأنصارُ شِعارٌ والنَّاسُ دِثارٌ»[11]، فهذا هو معنى («أَشْعِرْنَهَا بِهِ»)، أي: اجعلنه ملاصقًا لبشرتها، وأشعرتك تشير إلى هذا المعنى، يعني: أعلمتك بالشيء، وأسرت به إليك، وقربته إليك. فقال: («أَشْعِرْنَهَا بِهِ») إنَّمَا يريد بذلك النبي أَن تنال بركته.
ولهذا أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنَّ النبي يتبرك بآثاره، هذا أمر مجمع عليه من العلماء، يتبرك بآثاره، مثل: شعره، ساقه ، بقية وضوءه ، إزاره ، شعره ، هذه كلها من الأمور التي كان الصحابة يتبركون بها، لكن حتى يعلم أنَّ الأمر وسط، لا يحفظ أنَّ أحدًا من الصحابة تبرك بأحد سوى النبي ، فإذا بعض الناس يقول: أنتم تطعنون في الصالحين حينما لا تقولون بمشروعية التبرك بهم، نقول: وأنت تطعن في النبي حينما تسوي غيره من الصالحين بمقامه.
التبرك إنَّمَا هو بآثار النبي ، هي التي ورد النص فيها، وأمَّا من سواه فلا، هل سمعت أنَّ أحدًا من الصحابة تبرك بالصديق -رضي الله عنه؟ الإجابة: لا.
هل سمعت أنَّ أحدًا من الصحابة تبرك بالفاروق أو بعثمان ذي النورين أو بعلي -رضي الله عنهم جميعًا؟ الإجابة: لا، كلهم لم يتبرك بهم أصحابهم، فدل ذلك على أنَّ التبرك بآثار النبي مشروع، وأنَّ التبرك بآثار غيره ممنوع؛ لأنَّه يفضي إلى تعظيمه، وهذا التعظيم غير مشروع له؛ لأنَّه إنَّمَا هو خاص برسول الله ، والشاهد أنه قال: («أَشْعِرْنَهَا بِهِ») يعني: إزاره حتى تنال بذلك بركة رسول الله .
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ «أَوْ سَبْعً») هذه عرجنا عليها.
قَالَ: («ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَ») فيه دلالة على معنيين، المعنى الأول: مشروعية التيامن حتى في غسل الميت؛ لأننا ذكرنا سابقًا أنَّ الغسل بوجه عام يُشرع فيه التيامن، وكذلك أيضًا غسل الميت يشرع فيه التيامن.
وقوله: («ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَ») يعني: يبدأ الإنسان بوضوء الميت، وأن يتيامن فيه، هذا هو البداءة من مواضع الوضوء، فإذا فرغ من وضوئه عممه، وإذا عممه بالغسلة الأولى رجع إليه في الغسلة الثانية فعممه بها، ثم الغسلة الثالثة.
قال: (وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ) يعني: أنهن ضفرن شعرها ثلاث ضفائر، قالوا: إنَّمَا هذا ليكون أجمع لشعر الميتة، حتى لا يتشعث، قالوا: يشرع أن يكون ثلاثة قرون.
قالت أم عطية -رضي الله عنها- في بعض الروايات: (وألقيناه خلفه) أي: لا تلقيه على وجهها كما يصنع بعض الناس، وإنَّمَا يلقى خلفها، ثم تكفن.
لم يأت في حديث أم عطية -رضي الله عنها- كيف كفنت؟
قال العلماء -رحمهم الله: يُشرع أن تكفن المرأة في إزار -تؤزر- وفي خمار -تخمر- ويكون الخمار سابغًا، مثل: الخمار التي تلبسها بعض النساء، يكون مغطي وجهها وينزل إلى منتصف جسدها، وثوب وملحفة تدرج فيها إدراجًا، فتكون هذه أربعة أثواب.
هذا هو المشروع في المرأة، وإن زيدَ ثوبًا خامسًا فلا بأس؛ لأنَّه زيادة ستر، وهذا فيه دلالة على أنّ المرأة فيها مزيد ستر عن الرجل حتى لا تتكشف، وحتى إذا حل الرداء في القبر أو حل الثوب في القبر ما تتكشف ولا يظهر منها شيء، هذه كلها من حفظ الشريعة بوجه عام للمرأة.
قال رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ -أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيً». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ» والوقص هو كسر العنق)
هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- في قصة الصحابي الذي وقصته ناقته، وقد كان محرمًا مع النبي ، وفي هذا الحديث معان جليلة، من أهمها وأجلها:
أنَّ المرء يبعث على ما مات عليه يوم القيامة، هذا هو أصح حديث في هذا الباب، وهو عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه قول النبي : «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيً»، وكذلك أيضًا من توفي وهو يصلي؛ فإنَّه يبعث يوم القيامة مصليًا، والصائم كذلك، وهذا مما يجعل المرء يكثر من سؤال الله -تبارك وتعالى- أَن يحسن خاتمته، وأن يميته على أحب الوجوه إلى الله -تبارك وتعالى- وعلى خير الأحوال.
هذا الصحابي -رضي الله عنه- قد كان على ناقته فوقصته، أي: ألقته، فانكسر عنقه -رضي الله عنه- وتوفي، فأمر النبي بغسله بماء وسدر، ودَلَّ ذلك على أنَّ غسل الميت فرض كفاية، لا يُتَخَلَّى عنه حتى في مثل هذا الحال، التي هي حال الإحرام. هذا أمر.
الأمر الثاني: أنَّ السدر لا يعد طيبًا، السدر بوجه عام الذي هو الصابون أو الأشنان وغيرها لا تعد طيبا، ولهذا قال النبي : («اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ») وقال في البعض الآخر: «وجنبوه الطيب» فلم ير السدر طيبًا، ولهذا ما ذكر ها هنا الكافور.
وقال ها هنا: («وَلَا تُحَنِّطُوهُ») الحنوط هو وضع الطيب فيه.
قال: («وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ») ما أمر بالزيادة عليهما، مع أنَّه قد ذكر أنَّ الميت يكفن في ثلاثة أثواب، وهنا يكفن في ثوبين، ما هما الثوبان؟ رداؤه وإزاره يجمعان عليه فيكفن بهما.
(«وَلَا تُحَنِّطُوهُ») الحنوط هو نوع من الطيب الذي يوضع للميت، والله المستعان، يعني: من ذهب إلى المغاسل، ورأى الموتى يشم رائحته، ويعلم أنَّ هذا طيب خاص بالموتى، والحنوط يكون فيه شيء من الكافور، وشيء من المسك، وما إلى ذلك مما له رائحة خاصة، يحنط فيها، توضع في فتحاته، فيوضع في منخريه، ويوضع حول عينيه، وهكذا يوضع في سائر جسده.
هنا أمر النبي بأن لا يحنط، لماذا؟
لأنَّه محرم، والمحرم لا يقرب الطيب، فدل ذلك على استمرار حاله حتى حين الوفاة، وكذلك إن شاء الله حال من قبضه الله مُصليا، أو قبضه صائمًا، وقاس عليه وقال باستمرار حاله، وأنَّ حاله كحال هذا على ما هو عليه، في عبادة حتى يلقى الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
(«وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ») من المعلوم أنَّ المحرم لا يُغطي رأسه، جاء في بعض الروايات: «ولا وجهه» وقد ذكرها المصنف، لكن هذه الرواية رواية منكرة غير محفوظة؛ زيادة وجهه، لماذا؟
لأنَّ المشهور جواز تغطية الوجه للمحرم، وقد جاء ذلك عن جماعة من الصحابة، أنهم كانوا يغطون وجوههم وهم محرمون؛ ولو قلنا بصحة هذه الرواية لقلنا: إنه يحرم على المحرم أَن يغطي وجهه؛ لأنَّ النبي لَمَّا نهى هذا الرجل عن تغطية وجهه في الموت دَلَّ على تحريمه حال الحياة من باب أولى، لكن الصحيح أنَّ هذه الزيادة لا تصح، وقد أشار إليها شعبة -رحمه الله- وذكر أنه لم يقلها أبو بشر جعفر بن أبي وحشية؛ لأنَّ هذا الحديث من رواية أبي بشر، جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، وعن ابن عباس -رضي الله عنهم-. قال: («اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ. وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ. فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيً») يعني: يأتي يوم القيامة على حاله التي توفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليها، أي: مُلبيًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أم عَطِيَّةَ الأنصارية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَ»)}
نعم أيضًا هذا من أحاديث أم عطية -رضي الله عنها- التي هي من عُمد الأحاديث، فإنها تتعلق بحكم اتباع النساء للجنائز، وفيه أنَّ أم عطية -رضي الله عنها- قد حكت أنَّ النبي نهاهن عن اتباع الجنائز، فقالت: «وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَ» يعني: لم يُجزم في ذلك، أو لم يشدد في المنع.
{هل دلَّ ذلك على الجواز؟}
قال بعض العلماء: إنَّه قد يدل على الجواز، ونقول: إن قولها: («وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَ») قد يكون فهمًا من الصحابية، ولكن عندنا متمسك من النهي، هذا أمر.
أمر آخر، عندنا العمل، وهو أنَّ الصحابيات -رضي الله عنهن- لم يكن يتبعن الجنائز مع النبي ، وقد جاء في الحديث: «إذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ علَى أعْنَاقِهِمْ»[12]، فذكر أن المحتمل هو الرجال، وأنَّ من يتبع هو الرجال، أمَّا المرأة فإنها لا تتبع. لماذا؟
قالوا: لِمَا جبلت عليه المرأة من الجزع، وأنَّ المرأة في كثيرٍ من الأحيان قد يبدر منها بعض الأمور لم تكن مناسبة من الجزاء ونحو ذلك، بل نقول في المرأة: إنها إذا أرادت أَن تُؤدي حق الميت وحق الله -عَزَّ وَجَلَّ- تصلي على الميت، والصلاة على الميت هذه فيها كفاية، وما سوى ذلك فإنَّه أمر قد أسقطه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عنك، فما حاجتك إليه؟
هذه كلها عناء، ولكنها مفروضة على الرجال، فإذا كفاك الرجال هذا الأمر فما حاجتك إلى أَن تكلفي نفسك هذا وتدخلي في أمر قد يكون في محل خلاف بين العلماء!
لأنَّ العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة، والحنابلة -رحمهم الله- على تحريم اتباع الجنائز للمرأة، ولهذا ذكرها المصنف -رحمه الله- وذكر حديث أم عطية -رضي الله عنها وأرضاها.
قالت: «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَ»، يعني: نهاهن النبي عن اتباع الجنائز، ونهاهن أيضًا عن زيارة القبور، قد جاء في بعض الروايات: «لعَن رسولُ اللهِ زائراتِ القُبورِ، والمتَّخذينِ علَيها المساجدَ و السُّرُجَ»، وزائرات القبور ها هنا إمَّا أَن تحمل على الزيارة الواحدة أو تحمل على من اعتادت الزيارة، فيقال: الأصل وهو الأولى للمرأة ألَّا تزور المقابر، وإذا أردت أَن تتعظ بالموت فعليها أَن تتعظ بالميت وهو بين يديها، وأمَّا ما سوى ذلك فلا معنى له، هذا هو القول الصحيح إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رحمه الله- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً: فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ: فَشَرٌّ: تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ»)}
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو من الأحاديث التي أمر النبي فيها بتعجيل تجهيز الميت ودفنه، وهذا حقيقة مما يدل على حقارة الدنيا، مات الميت ومع ذلك فإنَّه يؤمر بالإسراع في تجهيزه ودفنه والتخلص منه، قالوا لماذا؟
لأنَّه نوع من إكرامه، إكرامه الآن ألَّا يبقى بين الناس مُنتفخًا، فتظهر عليه بعض آثار الموت ونحو ذلك.
فإذًا بوجه عام الميت من إكرامه التعجيل بدفنه حتى إنَّ النبي أَمَرَ بالإسراع بالجنازة من بعد أَن يُصَلَّى عليها، قال: («إنْ تَكُ صَالِحَةً: فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ»)، أي: ما يفتحه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه من الروح والريحان، والمقعد الذي يراه، («وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ: فَشَرٌّ: تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ»)
وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أنَّ الميت إذا مات واحتمله الناس على أعناقهم فإن كان صالحًا قال: «قدموني قدموني»، هو من يأمرهم بالتقديم، «وإن كان غير ذلك قال: يا ويلها أين يذهبون بها؟»
ومن المعلوم أنَّ الإنسان ينبغي له أَن يتخلص من الشر، فيبادر بوضعه عن رأسه، وكذلك أيضًا يُبادر بالخير لصاحبه؛ لأنَّك إذا كنت تحب صاحبك وتعلم أنه مُقدم على خير فبادر به، فإذًا هذا كله من الأمر بالإسراع بالجنازة، فإذا كان كذلك، فإنَّ الأمر في قوله: «أسرعو» يدل أيضًا على الأمر بسرعة التجهيز بها، وبناء عليه فإنَّ تأخير غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه هو خلاف السنة.
فإن قيل: إنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- لم يدفنوا النبي إلَّا بعد وفاته بيوم، قلنا: لانشغالهم بأمر الخلافة، قد كان الأمر أمر فتنة عظيمة، والصلاة على النبي لن تفوت، لكن الخلافة لو لم يتفقوا لوقع الشر، هذا أمر.
الأمر الثاني: ثم من بعد ذلك يرشدهم فيما يتعلق بتكفينه وتجهيزه ويرجعون إليه فيها، كلهم إنَّمَا رجعوا إلى الصديق لَمَّا عينوه، وكان هذا الأمر في غاية ما يكون، ولهذا ما أخره الصحابة -رضي الله عنهم- إلَّا لغرض، وما سوى ذلك؛ فإنهم لم يكونوا يؤخرون الميت البتة، وإنَّمَا كانوا يعجلون فيه.
هذا فيما يتعلق بتجهيزه، وأمَّا فيما يتعلق بالإسراع به بعد الجنازة، فإنَّ هذا الحديث أيضًا نص في هذا المعنى، ولعلنا نكتفي بذلك -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ-.
{نشكركم شيخنا، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لكم، وأن ينفع بكم، وأن يزيدكم عنا خير الجزاء.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] أحمد (1740)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق، وقد صرَّح بالسماع. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 6/27.
[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه وضعفه شعيب الأرناءوط.
[3] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
[4] رواه البخاري (835)، ومسلم (420).
[5] رواه مسلم (395).
[6] رواه أبو داوود (3201) والترمذي (1024) بسند صحيح.
[7] رواه مسلم (920).
[8] رواه مسلم (956).
[9] رواهُ النسائي، والحاكم.
[10] أخرجه أبو داود (3878) واللفظ له، والترمذي (994)، وابن ماجه (3566)، وأحمد (3426)، وصححه الألباني.
[11] أخرجه ابن ماجه (164).
[12] رواه البخاري (1380).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك