{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم)، الذي تقدمه (جمعية هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية، نستكمل وإياكم -بإذن الله- في هذه الحلقة شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظي عبد الغني المقدسي -رحمه الله، يشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، مرحبًا بكم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
قال المصنف-رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَال: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ»)}
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد ذكر المصنف هذا الحديث لغرض بيان الواجب في المعدن أو في الركاز، وقال ها هنا: أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَال: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ»، والعجماء هي الدابة، وإنما وسمت بالعجمة لكونها لا تنطق، و «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» الجبار هو الهدر، يقولون: فلان جرحه جُبَارٌ، يعني: هدر، والهدر هو الذي لا تجب فيه الدية، فإذا كان كذلك فمراد النبي ﷺ -والله أعلم- بقوله: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أنَّ ما أصابته الدابة فإنَّه هدر، بمعنى: لو أنَّ إنسانًا كان يملك إبلاً، فخرجت هذه الإبل وأكلت من زرع غيره، فهذا هدر، وإذا خرجت هذه الإبل فتعرض لها شخص فاعتدت عليه وقتلته، فهذا هدر، ما لم يكن صاحبها مُفرطًا.
ومن التفريط الذي يقع من أصحاب الإبل تركها على الشوارع العامة، فإنَّ الأصل في الشوارع العامة أنَّها للسيارات وليست للإبل، فتركها على الشوارع العامة مما يحتم على صاحبها الدية، لكن فيما لو أنَّ إنسانًا كان ماشيًا في الصحراء، فعرض له بعير فاصطدم به وتوفي، نقول: ما يجب على صاحب البعير الدية، لماذا؟
لأنَّ النبي ﷺ قال: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ»، وفي رواية: «الْعَجْمَاءُ جُرحها جُبَارٌ»، فما أصابت من جُرح أو من قتل أو نحو ذلك، فليس فيه دية، إلَّا إن كان صاحبها معها مُتصرفًا بها، فإن كان صاحبها معها، يعني: راكبًا عليها، فهو يستطيع أن يمنعها، فإن لم يمنعها؛ فتجب عليه الدية، لكن إذا منعها ولم تمتنع فعند العلماء -رحمهم الله- أنَّه لا شيء فيها.
قال: «وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» لو أنَّ انسانا حفر بئرًا أو مسبحًا، فالمسابح موجودة الآن في البيوت، فإذا سقط فيها صبي فمات، فهل يحق لوالد الصبي أن يطلب الدية من صاحب المنزل أو صاحب المسبح أو صاحب البئر؟ نقول: لا، لا يطلب الدية ما لم يكن مُفرطًا، فالمفرط هو من يحفرها في مكان عام للناس، ويزداد الأمر إذا كانت لحظه هو، لكن ما سوى ذلك، يقال: لا؛ لأنَّ الأصل أنَّ جُرحُهَا جبار، ولهذا لو أنَّ إنسانًا ذهب إلى هذه الأندية الرياضية ومعه طفل فغرق فيها، فيقال: ليس فيها دية، وليس له أن يلزم صاحب النادي بالدية، لماذا؟
لأجل أنَّه مفرط، فالطفل وقع لأجل التفريط.
قال: «وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» فلو قال أحدهم: احفر بئرًا، فحفر فوقع فيه ومات، كما كان يحدث في الزمن الأول، حيث كان كثيرًا من الناس يتوفون وهم يحفرون الآبار، ولذا يقال: لا يجب في ذلك شيء؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «وَالْبِئْرُ جُبَارٌ» وهو لم يتسبب فيها.
قال: «وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ» والمراد المعادن التي تُستخرج من باطن الأرض، كالحديد والفوسفات، والنحاس، والفحم، وغيرها من المعادن التي تستخرج من باطن الأرض، ولو نظرنا مثلا إلى مناجم الفحم، فلربما يُغلق المنجم، فيموت فيه مئات من الناس، فهل تُلزم الشركة، نقول: إذا كانت قد اتخذت بجميع إجراءات السلامة وليست مفرطة؛ فلا تُلزم بشيء؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ» يعني: هدر، لا يضمن، لماذا؟
لأنَّ من أقدم على هذا العمل يعلم أنه أقدم على عمل خطر، ولهذا هم أحيانا يعطون ما يسمونه ببدل المخاطر في مثل هذه الأعمال الصعبة.
وكذلك يقاس عليها ما شابهها من الأعمال، مثل: بناء البنايات الشاهقة، فلو سقط عامل من هذه البنايات الشاهقة نقول: جبار، لماذا؟ لأنَّها من نحو قول النبي ﷺ «وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ».
وكذلك بناء الأنفاق إن حصل فيها وفيات، فهذا جُبَارٌ وكلها هدر، لماذا؟ لأنَّها أماكن معرضة للخطر، وما دام أني لم أفرط فلا يلحقني شيء، وأمَّا من فَرَّطَ لحقه ووجب عليه من الدية بقدر تفريطه.
ثم قال النبي ﷺ -وهذا هو الذي أراده المصنف بإدخاله لهذا الحديث في هذا الباب-: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ»، والركاز هو: المدفون من زمن الجاهلية؛ لأنَّ المدفون على نوعين:
النوع الأول: إمَّا أن يكون من دفن أهل الإسلام، وهذا يُعرف بالعلامات التي عليه، فمن استخرج نقودًا فيرى أنها من الدولة الأموية أو الدولة العباسية أو الدولة السعودية، فهذه كلها تدل على أنَّها نقود إسلامية، فهذا يُعامل معاملة اللقطة، على قول جماعة من العلماء رحمهم الله، فيجب أن يعرف، فإن عجز الإنسان عن تعريفه عامله معاملة اللقطة، في أنَّه إمَّا أن يأخذه فيكون محسوبًا عليه، وإمَّا أن يضمنه، وإما أن يسلمه إلى السلطان.
النوع الثاني من أنواع الركاز: هو الدفن الذي يكون من دفن الجاهلية، والجاهلية هي كل ما كان قبل بعثة النبي ﷺ، فكل ما دفن قبل بعثة النبي يسمى ركازًا، وإنَّما سُمي ركازًا من الركز؛ لأنَّه ثبت واستقر في الأرض أزمنة طويلة، فإذا كان كذلك فإنَّ الركاز لمن وجده، حتى ولو قال بعض العلماء -رحمهم الله-: لو أنَّ إنسانًا أمرك أن تحفر في بيته فحفرت فوجدت ركازًا كان لك، وهذه مسألة خلافية بين العلماء، لكن القول القوي أنَّه قد يكون لواجده ما دام أنَّه لم يعاملك على أن تحفره.
فإذا أتى بك وقال لك: احفر ها هنا؛ لأني أتوقع أن ركازًا مدفونًا هنا، فقمت بالحفر فوجدته واحتزته، نقول: لا. لا تحتزه، هو لصاحبه؛ لأنَّك ها هنا أجير لهذا الغرض، وأمَّا إن أتى بك وقال لك: احفر لي بئرًا في المزرعة، فحفرت فوجدت ركازًا، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله- ومن أقوى الأقوال أنَّ هذا الركاز لمن وجده، لماذا؟ لأنَّ هذا الأمر لا يتعلق بالأرض، يعني: هو ليس حقًا لك، فأنت ما اشتريت الأرض بهذا الركاز حتى نقول: إنَّه يتبعك، وإنما هو رزق من الله -عز وجل-، كأنَّما كان هذا الرجل يعمل فصب عليه جَرادٌ من ذهب، تأتي تقول: لا ما دام أنَّه صب عليك الجراد من الذهب في مزرعتي فهو لي، نقول: لا. وهذا قول قوي في الحقيقة من أقوال أهل العلم، قول وجيه وهو أنَّ الركاز لمن وجده.
فإذا كان كذلك، فإذا وجد الركاز أخرج خُمُسَهُ واستأثر بالباقي، الخُمُس يعني: عشرين في المئة.
انظر إلى أنَّ هذا الأمر لم يُعهد في الشريعة، أي: لم يعهد في الشريعة أخذ الخمس إلَّا في الأموال التي لا يعالجها الإنسان، وإنما تأتي مِنَّةً من الله -عز وجل-، مثل: الركاز، ومثل: المغانم.
يقول الانسان: كيف ما أعالج المغانم؟
نقول: إذا كنت تقاتل لأجل المغانم، فقد ضللت ضلالاً مبينا، أنت إنَّمَا تقاتل لأجل الله -عز وجل-، وفي سبيل الله، فما جاء من المغانم فهو من الله -عز وجل- ونعمة، ولهذا لَمَّا أراد الله --عز وجل- أن يُطهر الأمم السابقة، منعهم من الغنائم، فكانوا يجمعون الغنائم فتنزل عليهم نارًا فتحرقها، فلمَّا كانت هذه الأمة رحمها الله -عز وجل- وعلم ضعفها، وعلم أنَّها هي الأمة التي تستمر بالجهاد الأزمنة الطويلة، وأنها إن مُنعت من ذلك وقع فيها الغلول كثيرًا، وإذا كان الغلول يقع أحيانا في المغانم مع أنَّ الله -عز وجل- قد نفلها لهذه الأمة، فكيف لو كانت ممنوعة منها؟ لو كانت ممنوعة عنها لضل كثير من الأمة ضلالاً مبينًا في الغلول من المغانم؛ لأنَّ الإنسان يحتاج إليها فطهرهم الله.
الشاهد أنَّ كل ما ليس فيه جهد ولا عناء ارتفعت فيه نسبة الأخذ، وبناء عليه فالأصل أن يُقال: إنَّه ينبغي للإنسان -وإن لم يكن واجبًا عليه- إذا مَنَّ الله -عز وجل- عليه بالمال الذي لم يحسب له، ولم يتوقعه، وأتى من حيث لا يحتسب، وأتاه صرفًا سهلاً رهوًا، أن يجزل الإنسان الصدقة والعطية لله -عز وجل- منه، فمن ورث ميراثًا كبيرًا من وفاة قريب له، ثم أخرج شيئًا يسيرًا، نقول: جزاك الله خيرًا، ولكن كان الأولى بك أن تقابل هذه النعمة العظيمة التي جاءتك رهوا بحسن البذل وجزالته، كحال الركاز، لَمَّا كان سهلا فقد شرع الله -عز وجل- فيه الخمس، يؤديه إلى الإمام، ويأخذ ما سوى ذلك.
الركاز عند العلماء -رحمهم الله- يشمل حتى بعض المعادن، قالوا: بعض المعادن التي تكون في الأرض قد تكون ركازا، لكن الصحيح -والله أعلم- أنَّها ليست كذلك، وهذا هو قول جماهير العلماء.
الحنفية يقولون: المعدن من الركاز، ولهذا هم يوجبون في المعادن الخمس، ومن العجيب أنَّه لَمَّا بدأت الدول الحنفية -دول شرق أسيا مثلاً- في استخراج المعادن، ثقل عليها المذهب الحنفي في هذه المسألة؛ لأنَّك تخيل أنك تخرج مئات الملايين من الفحم، وأطنان الحديد والنحاس ونحو ذلك، وتؤمر بإخراج عشرين في المئة منها، فعملوا بمذهب الجمهور الذي يقول: لا، هذه إنَّمَا هي أموال ولا تخرج زكاتها إلَّا بعد مرور الحول، هي أموال لأنَّ النبي ﷺ قد فصل بين المعدن وبين الركاز، فجعل للمعدن معنى، وللركاز معنى آخر.
فإذًا الصحيح أنَّ المعدن زكاته كزكاة عروض التجارة، وليست زكاته من زكاة الركاز.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ النبيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلاَّ أَنْ كَانَ فَقِيراً، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالى، وَأَمَّا خَالِدٌ: فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً، فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ: فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟»)}.
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هذا حديث جليل، عظيم القدر، وقد كان من عادة النبي ﷺ أن يبعث المصدقين، ويوصيهم بالناس، ويأمرهم أن يأتوا إلى الناس في مياههم، وغالب أموال الناس في ذلك الزمان إنَّمَا كانت من الإبل والغنم، فكان المصدق يأتي حتى يقف على مياه الناس ثم يأخذ الزكاة منهم، وقد ثبت عن النبي ﷺ في حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أنَّه لَمَّا كان ذاهبًا إلى تبوك مَرَّ بامرأة لها حديقة، قال: «اخرُصوا فخرَصَ رسولُ اللَّهِ ﷺ عشرةَ أوسُقٍ»[1] وأحصاها النبي ﷺ حتى تؤخذ زكاتها.
فإذًا يُشرع للإمام أن يُرسل المصدقين حتى يأخذوا الزكوات من الناس، ولا يكلف الإنسان أن يأتي بالزكاة.
قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَلَى الصَّدَقَةِ» أي أنَّ عمر -رضي الله عنه- كان من ضمن العاملين على الزكاة، ولقد أعطى النبي ﷺ عمر بن الخطاب منها لَمَّا بعثه، فقال له عمر -رضي الله عنه: "أعطها غيري أو أعطها من هو أحوج مني"، فقال النبي ﷺ: «خُذْهُ، وَما جَاءَكَ مِن هذا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» فكان النبي ﷺ يبعث هؤلاء المصدقين يقفون على الناس، فجاء عمر -رضي الله عنه- وقد استجاب له الناس كلهم إلَّا ثلاثة، أمَّا أحدهم فابن جميل والظاهر -والله أعلم- أنَّه كان يُزَنُّ بالنفاق، ولهذا قال النبي ﷺ: «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ» وهذه كلمة عظيمة، «إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيراً فَأَغْنَاهُ اللَّهُ»، فهو من جنس ﴿مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة:75]، وكم من ابن جَمِيلٍ في هذا الزمان؟ كم من ابن جَمِيلٍ يمنع الزكاة؟ فقد آتاه الله -عز وجل- ووسع عليه من الخير، ولكنه مانع للزكاة، قال «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيراً فَأَغْنَاهُ اللَّهُ».
والثاني خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وخالد بن الوليد هو ابن خالة عمر -رضي الله عنه، يعني: كان قريب لعمر -رضي الله عنه، فمنعه قال: «وَأَمَّا خَالِدٌ؛ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً؛ وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»؛ لأنه مجاهد -رضي الله عنه-، بل هو من أئمة الجهاد والمجاهدين، فكان قد وقف كل ما عنده من الأدراع والأعتاد في سبيل الله، قالوا: دل ذلك على زكاة العروض، وهذه من النصوص اليسيرة التي في البخاري وفي مسلم ويستدل بها على زكاة العروض؛ لأنَّه قال: «احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ»، قالوا: فلو لم يحتبسها لوجبت فيها الزكاة؛ لأنَّ الأصل فيها أنَّها قد تكون من عروض التجارة، ويحتاج إلى درع أو سيف منها، ولا يحتاج إلى شيء كثير منها، وقد يكون وضعها لعروض التجارة، قال: «وَأَمَّا خَالِدٌ؛ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً؛ وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ودلَّ ذلك على أنَّ الوقف لا زكاة فيه؛ لأنَّه قد وقفها في سبيل الله، فإذا وقفها فلا زكاة في الوقف، إلَّا في الْمُغَل، فإذا كان يغل فإنَّه يزكي هذا الْمُغَلْ؛ لأنَّ الوقف أحيانًا قد لا يكون على المصارف التي تجب فيها الزكاة، المصارف ثمانية، ولكن قد يقف وقفًا على غير هذه المصارف الثمانية، قد يقف وقفًا مثلا على تغسيل الموتى، فيقال: ما فيه زكاة في الأصل، لكن فيه مثلا محلات تؤجر، يقال: نعم في مثل هذه زكاة، لماذا؟ لأنَّ هذا ليس مصرفًا للزكاة، لكن لو كان الوقف على الأصناف الثمانية، وقف وقفًا للفقراء مثلاً، نقول: ليس فيه زكاة؛ لأن زكاته تعود فيه، قال: «وَأَمَّا خَالِدٌ؛ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً؛ وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قال: «وَأَمَّا العَبَّاسُ؛ فَهِيَ عَلَيَّ ومثله» الثالث المانع كان العباس -رضي الله عنه، والعباس هو عم النبي ﷺ، والعباس -رضي الله عنه- قد كان أنفق نفقة عظيمة يوم بدر، وأعني بذلك أنَّه أنفقها من جهات المشركين، فإنَّ العباس قد أُسِرَ، وَأُسِرَ معه عقيل؛ فأمر النبي ﷺ بالفداء، أمر كل أسرى بدر بالفداء، وقال: «فَلَا يَنْفَلِتَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ»، والفداء كان خمسة آلاف درهم، ففاد العباس نفسه بخمسة آلاف، ثم إنَّ النبي ﷺ فرض عليه فداء ابن أخيه عقيل؛ لأنَّ عقيل ما كان يجد شيئًا، فقال: لا تدعه بين أيدينا، ففاداه فأجحف ذلك بماله، وذهب عليه عشرة آلاف، ولهذا لَمَّا جاء المال إلى النبي ﷺ قال: "يا رَسولَ اللَّهِ: أعْطِنِي، فإنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وفَادَيْتُ عَقِيلًا"، فكان العباس -رضي الله عنه- لَمَّا جاءته الصدقة امتنع.
قال بعض العلماء: الظاهر -والله أعلم- أنَّ العباس إنَّمَا امتنع لأجل أنَّه كان قد أدَّى زكاته، فإنَّه قد سأل النبي ﷺ أن يُعجل له زكاته، فعجل له النبي ﷺ زكاة سنتين.
وقال بعض العلماء: لا، الظاهر -والله أعلم- أنَّ العباس منع كنوع من الجاه؛ لأنَّه كان صاحب جاه، كأنه يقول: أنا سأتفاهم مع النبي ﷺ، فما شأنك أنت يا عمر؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟» يعني: هو قريب أبي، (صنوان وغير صنوان)، فالصنوان هي النخلة التي تتفرع إلى جزعين في حوض واحد، فشبه النبي ﷺ عمَّ الرجل بالصنو، وقال: «فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا».
قال العلماء -رحمهم الله- وهذا يدل على أنَّ العباس ما أخرجها؛ لأنَّ العباس لو كان أخرجها ما قال له النبي ﷺ: «فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا»، ويدل ذلك -وهذا يا إخوان معنى جليل- فبعض الناس يرى من والده شحًا عن إخراج الزكاة، فيكون من أعظم البر أن يُخرجها عنه، فتراه يقول: يا والدي زكاتك علي، أنا أخرجها عنك؛ لأنَّ من أعظم ما يكون من الكبائر منع الزكاة، وبذلك تكون قد قدمت أمرًا عظيمًا لوالدك، حينما تكون أخرجتها من هذا المعنى، وهذا أحد الأمور التي قال فيها بعض العلماء: إنه يجزئ إخراج الزكاة عن الرجل من غير أن يُشعر بذلك، قال النبي ﷺ: «فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا»، وما أشعر العباس وما بلَّغه بذلك، ولكن الظاهر أنَّ هذا المعنى فيه نظر؛ لأنه لابد من النية؛ لأنَّ الزكاة الأصل فيها النية، فلابد أن يشعر.
وأمَّا قوله: «فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا» قال بعض العلماء: إنَّ النبي ﷺ قد ثبت عنه في حديث عمرو بن شعيب أنه قال: «وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ» وفي بعض الروايات: «وَمِثْلُهَا مَعَهَا» يعني: سنأخذ منه الزكاة، وسنأخذ منه شطر ماله عقوبة له، هذا مانع الزكاة، ولذا قالوا: قول النبي ﷺ «فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا» كأنَّما هو تطييب لفعل العباس -رضي الله عنه-، فهو لَمَّا لم يخرجها، قال النبي ﷺ: أنا سأخرجها وسأخرج مثلها معها.
ولكن يقال: إن الظنَّ بالعباس -رضي الله عنه- أنَّه لم يكن يمتنع عن الزكاة، وأنَّ النبي ﷺ تكفل بهذه الزكاة تفضلاً منه، ورعاية منه لمقام عمه العباس -رضي الله عنه وأرضاه-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عن عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه- قال: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّه ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ، وَفِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئاً، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟» كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّه ﷺ؟» قال: كلما قال شيئاً قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: جِئْتَنَا بكَذَا وَكَذَا، أَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وشِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»)}.
هذا أعظم حديث في فضل الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم- وهو يدل على أنَّ أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ هم المهاجرون، ثم يليهم الأنصار، ثم من سواهم من المسلمين، ولهذا لا يَذْكُر الله -عز وجل- المهاجرين إلَّا وَيُثَنِّي بالأنصار، ﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ [التوبة:117]، وهذا الحديث يُبين شيئًا من فضائلهم -رضي الله عنهم- فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا فتح الله عليه يوم حنين، وأصاب من ثقيف وهوازن غنائم عظيمة لم يصبها النبي ﷺ في حياته كلها، حتى أنَّه قيل: إن ما أصابه النبي ﷺ من الإبل كان يجاوز العشرين ألف بعير، يعني: أعداد كبيرة جدًا، فطفق النبي ﷺ على ما اعتاده من سخائه، وكان يقسم في المؤلفة قلوبهم، وكان حديث عهد ﷺ بفتح مكة، وما زال معه كبار قريش الذين أسلموا بحد السيف، منهم: أبو سفيان -رضي الله عنه- وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وجبير بن مطعم وغيرهم من كبار مشيخة العرب، الذين أسلموا في هذه الأزمنة القريبة، مثل: الأقرع بن حابس سيد تميم، وعيينة بن حصن سيد فزارة، والعباس بن مرداس سيد بني سليم، فطفق النبي ﷺ يؤلف قلوبهم؛ ليُعلم أنَّ المال يَسُل السخائم، يعني: إذا كان بينك وبين رجل سخينة، وبينك وبين رجل نوع من الإشكال، ونوع من الضغينة؛ فإنَّه ليس شيء يَسُلُّها كالمال، يقول الرجل: كيف؟
نقول: يقول صفوان: "لقد أعطاني رسولُ اللهِ ﷺ يومَ حُنينٍ وإنَّه لَمِن أبغضِ النَّاسِ إليَّ فما زال يُعطيني حتَّى إنَّه لَأحبُّ الخَلقِ إليَّ"[2]، فما من شك أنَّ هذا معنى جليل، وهو معنى تأليف الناس بالمال، والناس لا يتألفون على شيء كما يتألفون على المال، البذل يلين النفوس، ويجلب المحبة، فإذًا النبي ﷺ طفق يقسم بين الناس، ومن المعلوم أنَّ النبي ﷺ كان على آخر عهد النبوة، وهي البداية الحقيقية لتأسيس دولة الإسلام، ومع ذلك فإنَّ النبي ﷺ ما استأثر بشيء، وما قال: لا أحتاج إلى شيء من الكنز والخزن، وإنما أنفقها النبي ﷺ في هؤلاء، فطفق يُعطي المؤلفة قلوبهم، يقسم فيهم المئة، يعني الدية، كان يعطي الرجل منهم ديته، «فأعطى أبا سفيان مائة، وأعطى حكيم مائة، وأعطى صفوان مائة، وأعطى جبير مائة، وأعطى الأقرع مائة، وأعطى عيينة مئة، وأعطى العباس مئة، وأعطى نفرًا كثيرين»[3]، حتى كانوا يسمون عند العرب بأصحاب المائة، ومن العجيب أنَّ النبي ﷺ أعطى العباس بن مرداس خمسين أول الأمر لماذا؟
لأنَّ قومه أقل من الأقوام الذين قبله، أقل من تميم وفزارة وهوازن. فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب العُبَيد، العُبيد هو فرسه. يقول: هذه الأموال أنا شاركت فيها.
فَقالَ عَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَـلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيـْدِ ... بيْــــنَ عُيَيْنَـــةَ وَالأقْــــــــــــــــرَعِ
فَمـــا كــانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِـــسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في المَجْمَعِ
وَما كُنْتُ دُونَ أمْرِئٍ منهمَا ... وَمَــــن تَخْفِضِ اليــومَ لا يُرْفَعِ
فقال النبي ﷺ كما في بعض الروايات: «اقطعوا عني لسانه»، وهذه من الألفاظ التي لا تفهم على ظاهرها، «اقطعوا عني لسانه» بماذا؟ أي: بالعطاء، حتى إنَّه لَمَّا قدم على النبي ﷺ قال: «أأنت الذي قلت: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟» فقال الصديق -رضي الله عنه: أشهد أنك كما قال الله: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس:69]. فأعطاه النبي ﷺ وأكمل له المائة، فلما كان ذلك، والأنصار هم الذين نصر الله -عز وجل- بهم النبي ﷺ في هذه الواقعة؛ لأنَّ من فرَّ إنَّمَا هُم هؤلاء المؤلفة قلوبهم، هؤلاء هم سبب الفرار؛ لأنهم قالوا كما جاء في بعض الروايات: إذا كانت الشدة ندعى لها، فإذا كان الرخاء كان في غيرنا. لماذا؟ لأنَّه لَمَّا فر الناس عن النبي ﷺ، أمر النبي ﷺ عمه العباس أن يُنادي: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة!
من هم أصحاب الشجرة وسورة البقرة؟
غالبهم من الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم- فرأوا أنَّ غنائمهم تجعل الآن في مشيخة العرب، هؤلاء هم الذين كانوا أول الناس في الفرار، فَحَزَّ ذلك في نفوسهم، وكثرت القالة فيهم، حتى نمى ذلك إلى النبي ﷺ، فجمعهم في مكان واحد، وقال: لا يحضرني أحد من غير الأنصار، قالوا: يا رسول الله عندنا رجل منا هو ابن أخت لنا، فقال: ابن أخت القوم منهم.
فلما جمعهم النبي ﷺ قال: ما حديث بلغني عنكم؟ قالوا: يا رسول الله أما ذو الرأي منا، يعني: الشيوخ والعقلاء فلم يقولوا شيئًا، وأمَّا أحداثنا فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي أقوامًا ويدعنا وإنَّ سيوفنا لتقطر من دمائهم، يعني: قبل أيام وأشهر يسيرة قاتلناهم في مكة.
فقال النبي ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟» وكانوا هم أكثر الناس فرقة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كانَ يَوْمُ بُعَاثَ، يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسولِهِ ﷺ، فَقَدِمَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ وقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ، وقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ وجُرِّحُوا"[4]، أي: شيوخهم وأصحاب الرأي فيهم، وتشتت أمرهم -رضي الله عنهم- «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟» أغناهم الله يوم خيبر، فتح الله -عز وجل- عليهم كنوز اليهود، حتى احتازوا هذه الأموال لهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فكلما قال ﷺ شيئا قالوا: المنة لله ورسوله، ثم قال النبي ﷺ لهم: «مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّه ﷺ؟» قالوا يا رسول الله بما نجيبك؟ كلَّمَا قَالَ شَيْئاً قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قال: «لوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا».
انظر الصحابي -رضي الله عنه- أبهمها، وهذا أيضًا من فضل الأنصار -رضي الله عنهم-. والا فقد نقل لنا أنَّ النبي ﷺ قال لهم: «أما لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريدًا فآويناك، ومخذولاً فنصرناك». ثم قال النبي ﷺ: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فوالذي نفسي بيده لَمَا ترجعون به خير مما يرجعون به».
يقول: النبي ﷺ عندكم، ومقامه عندكم، وهذا من المعاني التي فهمها بعض الأنصار أنَّ النبي ﷺ لن يغادرهم، ولن يتركهم. حتى أنَّه لَمَّا فتح الله -عز وجل- عليه مكة شك بعض الأنصار. فقالوا: لعل رسول الله ﷺ يقيم في مكة. قال: لا، «فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ»[5]، وهذا أعظم معاني الوفاء وحسن العهد، أن يبقى الإنسان وفيًا لصاحبه دهره كله، وحتى لو استغنيت عنه، فلا تنكر فضله ولا تقطعه، قد تحتاج إليه في زمن ثم تستغني عنه، فترى أنَّه أصبح عالة عليك، نقول: لا. هذا ليس من حسن العهد، وليس من شيم أهل الإسلام، وليس من شيم العرب، والنبي ﷺ قد وَفَّى للأنصار -رضي الله عنهم-.
ثم قال النبي ﷺ: «لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ»، يعني: لولا فضل الهجرة لأنَّ الله -عز وجل- قد فضَّل المهاجرين على الأنصار، «وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وشِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا» الشعب هو الطريق في الجبل، «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ» الشعار، النبي ﷺ في حديث أم عطية قال: «أشْعِرْنَها إيَّاه»[6]، ما معنى أشعرنها؟ يعني: اجعلنه مما يلي جسدها، فيصبح شعارًا لها، وما فوقه يسمى دثارًا، وقد شبه النبي ﷺ الأنصار بالشعار الذي هو أقرب الثياب إلى الجسد، ومن سواهم بالدثار الذي هو دون ذلك، «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً»، وفي بعض الروايات: «أثرة شديدة»، ثم قال: «فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»، وهذا في الحقيقة من المعاني العظيمة، وقد جاء عن النبي ﷺ أنَّه قال: «فإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ ويَقِلُّ الأنْصَارُ، حتَّى يَكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلَةِ المِلْحِ في الطَّعَامِ»[7]، وقال: «إِنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً». ما معناها؟ لو نظرنا إلى الفتوح الإسلامية وقادتها، سنرى أنَّ قريشًا استأثرت بعدد كبير من القادة، وهم أهل لذلك، وسنرى أنَّ من سواهم من قبائل العرب قد استأثروا بعدد من القادة، سواء كان ذلك مثلا في قحطان أو في تميم أو في هوازن أو في غيرها من القبائل، إلَّا الأنصار فإنهم من أقل الناس استئثارًا بالإمرة، وقد كان بعض الخلفاء يقسو ويشتد عليهم، كانوا يكرمون قريشًا ويعظمونها بحكم مقامهم من رسول الله ﷺ، وأمَّا فضل الأنصار فكان ينسى كثيرًا، فاستأثر الناس عليهم، وقلَّ الأنصار -رضي الله عنهم- حتى كانت وقعت الحرة، فحصت الأنصار حصة في السنة الثالثة والستين للهجرة على يد يزيد بن معاوية، هذه الوقعة ذهب فيها خلق كثير من الأنصار، فتناقص الأنصار بعدها، انظر إلى ما يقابل الأنصار من القبائل، تجد أنَّ أغلب قبائل العرب مثل: قبيلة بني عامر، وقبيلة بني تميم، وقبيلة قحطان، وقبيلة هوازن، وغطفان، وأسد، وبكر، وتغلب، بكر بن وائل وغيرها، قبائل كثيرة وأعدادهم كبير، بينما المحقق نسبهم إلى الأنصار قلة، فكانوا كما قال النبي ﷺ: «فإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ ويَقِلُّ الأنْصَارُ، حتَّى يَكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلَةِ المِلْحِ في الطَّعَامِ».
قال ﷺ ها هنا: «فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» يقال: كل من أراد أن يسلك مسلك الأنصار -رضي الله عنهم- الذين قال النبي ﷺ فيهم: «حُبُّ الأنصارِ آيةُ الإيمانِ، وبُغضُ الأنصارِ آيةُ المنافقِ»[8]. وكانوا أرق الناس قلوبًا، وأعظم الناس إيثارًا، كل من أراد أن يسلك مسلك الأنصار -رضي الله عنهم- فليصبر على الأثرة التي يلقاها، «إِنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً».
كثير من الناس يقدم على وظيفة، ويرى أنَّ غيره قد قُدِّمَ عليه، فيقال: ترى هذه من الأثرة، فاصبر، قد ترى أنك أنت أحسن وأجود وما إلى ذلك، وأنَّ غيرك قد قُدِّمَ عليك، فهذه من الأثرة، ترى أنَّ الأموال تحاز إلى غيرك، فاصبر لأنَّ هذا كله من الأمور التي ينبغي أن تعالج نفسك عليها.
«فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» وعدهم النبي ﷺ بلقيا الحوض الذي من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، كأنَّما قال: إنَّمَا الدنيا يسيرة، وهي أيام قليلة، ولهذا لم يقاتل الأنصار -رضي الله عنهم- على الخلافة أبدًا، ولم يقاتلوا على الملك، ولم يدخلوا بشيء منه البتة.
نعم، لقد حصل قتال وصراع على الملك، ولكنه كان بين قريش، وأمَّا الأنصار فلا، ولا يعهد أنَّ الأنصار دعوا إلى أنفسهم، ولا أن طلبوا الملك لأنفسهم -رضي الله عنهم- ولهذا قال النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ اغفِرْ للأنصارِ، ولأبناءِ الأنصارِ، ولأبناءِ أبناءِ الأنصارِ»[9]، يا لها من دعوة عظيمة من النبي ﷺ لهؤلاء لِمَا يعلمه من عظيم صبرهم -رضي الله عنهم- ومن رضاهم بالأثرة واحتسابهم، ولا يظن الإنسان أنَّ في هذا نقص في حقهم، هي مظلمة ستجد عاقبتها عند الله -عز وجل-.
قال: «فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» أمَّا سبب إرادة هذا الحديث، فالظاهر -والله أعلم- أنَّ المصنف إنَّمَا أورده في كتاب الزكاة مع أنَّه قد يظهر أنَّه غير مناسب؛ ليبين أن مصرف الفيء في المؤلفة قلوبهم لا زال لم ينقطع؛ لأنَّه قد جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه كان يقول: إنَّمَا كان ذلك لشيء يتألفهم به النبي ﷺ، وأما الآن وقد أَعَزَّ الله الإسلام، فلا حاجة لي في ذلك، فيقال: هذه سياسة من عمر -رضي الله عنه- لِمَا يعرف عنه من الشدة في دين الله -عز وجل-، ولذك لم ير أنَّ هناك حاجة للمؤلفة قلوبهم، لكن لو احتاج إليهم الناس في هذا الزمن، وممن يقع فيهم التأليف من غير المسلمين؛ لأنَّه لا يشترط في المؤلفة قلوبهم أن يكونوا مُسلمين؛ لأنَّ النبي ﷺ قد أعطى أناسًا لم يدخلوا في الإسلام.
والشرط في المؤلفة قلوبهم أن يكون قريبًا من الإسلام، وأن يكون فيه ميل للإسلام، فمثل هذا يعطى، وما هناك بأس أن يعطى من الزكاة، يعلم مثلا أنَّ هذا العامل قريب من الإسلام، وأنَّه متأثر بالدين، فيؤلف قلبه بشيء، ولا يترتب على ذلك حكم، يعني يقول: أعطيته زكاة سنتين أو ثلاثة ولكنه لم يدخل في دين الله، نقول: لا يترتب على هذا حكم، والحمد لله زكاتك قد وقعت في موقعها الشرعي.
{قال -رحمه الله: (عن عبد اللَّه بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ صَدَقَةَ الْفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ: صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ».
وفي لفظ، «أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاةِ»)}.
قال المصنف -رحمه الله: (باب صدقة الفطر) هذه الصدقة هي المسماة عند الناس بالزكاة، وهذه الصدقة قد أجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعيتها، وعلى وجوبها، وإنَّما سميت بالفطر لمناسبتها، فإنها تقع بعد الفطر من رمضان، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إنَّ وقتها الشرعي إنَّمَا يقع بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لأنَّه هو الوقت الذي يتحقق به الفطر، وهذا هو أفضل أوقات إخراجها، إلى خروج الناس إلى صلاة العيد، فإذا صليت العيد انقضى وقتها، وأصبحت صدقة من الصدقات، يعني: ليست هي الزكاة الشرعية، كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- ومن أخرها إلى بعد العيد مُتعمدًا كان آثمًا، وقد رَخَّص الشارع كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- بأن تؤدى قبل العيد بيوم أو يومين، وهذا من باب التسهيل على الناس.
والأصل في صدقة الفطر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- والذي أورده المصنف -رحمه الله-، قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدَقَةَ الْفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى» هذه من الصدقات التي تتعلق بالأبدان ولا تتعلق بالأموال، الصدقات الماضية كلها يتعلق بالأموال، بينما هذه الصدقة تتعلق بالبدن، وإذا تعلقت بالبدن فإنَّما يراد منها أمور.
الأمر الأول: أن يعلم أن لها أثر عظيم في زكاة البدن، كما أنَّ لصدقة المال أثر في زكاة المال؛ فإنَّ هذه أيضًا لها أثر في زكاة البدن، ولهذا لا تسمى زكاة عبثًا، وإنما سميت زكاة لأجل أنَّ البدن يزكو بها، هذا أمر.
الأمر الثاني: وهو أمر ذو معنى جليل، أن يعلم الناس أنَّهم متساوون في ذات الله، فالصدقة عن الملك كالصدقة عن العبد، كلها نفوس في ذات الله، أنت أيُّها الملك تخرج الصاع، والعبد يخرج صاعًا، كلكم في ميزان الله واحد، وهذا معنى جليل.
أمَّا صدقة الأموال فهي على حسب مالك، كثر مالك ستكثر زكاتك، وقل مالك ستقل زكاتك، لكن الأصل في هذه الصدقة أنَّ الناس فيها سواسية، أي: متساوون، ولهذا فرضها النبي ﷺ «عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ والعبد» فأمَّا العبد فإنما تجب عليه في مال سيده، إلا إذا كان عبدًا يتجر، حيث كان في الزمان الأول يعطون بعض العبيد أموالاً ويقولون لهم: تاجروا فيها ثم أعطني نسبة منها، قد تقدر بـ 10% أو أقل أو أكثر، وكانت تسمى ضريبة، فمثل هذا العبد عليه أن يخرج زكاته، وإلا فالأصل أن تُخرج زكاته من سيده.
قال: «عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ»، وفي بعض الروايات: «والصغير والكبير صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ» الأصل فيها أن تكون من الأصناف التي كانت على عهد النبي ﷺ، وقد جاء ذكرها في حديث أبي سعيد أربعة أصناف، وهي: «صاعًا من تمر، أو صاعًا من بر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط»، وفي بعض الروايات «زبيب» وهذه الروايات المحفوظة الأربع.
الصاع كما ذكرنا من قبل: اثنان كيلو فاصلة 40 جرام، (2.40) وهذا هو الصاع الشرعي، فإن أخرجها الإنسان مما اعتاد الناس أكله من التمر، فالظاهر -والله أعلم- أنَّها تقع مُجزئة؛ لأنَّ التمر يؤكل ويتقوت الآن، وكون الناس يقولون: هي ليست عادتهم، نقول: ما دام أنَّهم لا زالوا يأكلونه فيجوز إخراج التمر، بل قد يقال: إنَّ إخراج التمر قد يكون أولى من إخراج الرز الذي لا يُزرع أصلا في هذه الديار، وأنفع للتجار ولغيرهم إخراج التمر؛ لأنَّ الإنسان يستطيع حينما يقال: أخرجوا الزكاة من التمر، تتحرك سوق التمر، وتكون زكاة شرعية، ما المانع منها؟!
إلى ازمنة يسيرة، وإلى هذا الزمن لا زال التمر قوتًا لكثير من الناس، حيث يتقوت به كثير من الناس ولربما يفطرون عليه ويكتفون بذلك، وليس من شرط القوت أن يكون هو الطعام في الغداء أو في العشاء، حتى الإفطار يُعد قوتًا شرعيًا.
فإذًا بوجه عام التمر يجوز إخراجه في زكاة الفطر، وأمَّا ما لا يأكله الناس كالشعير، الشعير الآن إذا كنت تعلم أنَّ المسكين الذي تتصدق عليه به سيأكله، وكنت أيضًا تأكله أنت فيجوز أن تتصدق به؛ لأن هذا نوع من المواساة، لكن إذا كنت أنت لا تأكله، فلا تتصدق به، وبناء عليه فإن العلماء -رحمهم الله- قالوا: يقوم مقام هذا كل ما كان من طعام أهل البلد؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا ذكر هذه الأصناف كانت هي الأصناف الموجودة في المدينة، وما سواها لم يكن موجودًا، ولذا لم يقل النبي ﷺ: التين مثلا، ولم يثبت عنه ﷺ في حديث صحيح أنَّه ذكر الزبيب، ولكن الزبيب جاء ذكره في روايات مختلف فيها، قد أشار إليها الإمام مسلم -رحمه الله - إشارة.
الشاهد: أنَّ قوت البلد هو الذي ينبغي إخراجه، فينظر قوت كل بلد بحسبه، قوت البلد ها هنا الأرز يخرج الأرز، هل يخرج التمر؟ نقول: نعم إذا كان يقتات ويؤكل ويأكله المسكين لا فلا بأس أن يخرج، ولهذا أحيانا قد يكون التنويع في الإخراج بين الأرز والتمر، يعني: يخرج مثلا صاعًا عنه من تمر، وصاعًا عن زوجه من الأرز، قد يكون أحظُّ للمسكين من كثرة هذه الأقوات التي تصل إليه والتي قد لا ينتفع بها، وربما أحيانا يضطر في كثير من الأحيان إلى أن يبيعها، وربما يبحث عن أحد يأكلها.
فإذًا هذه الصدقة التي أمر بها النبي ﷺ.
قَالَ: «فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ» يعني: لَمَّا أمر النبي ﷺ بصاع من شعير فأعسر على بعض الناس صاع الشعير، فأخرجوا مكانه نصف صاع من بر، قالوا: إنَّ نصف الصاع من البر يقوم مقام الصاع من الشعير، ويقال: لا، بل الأولى في ذلك إذا عُدم الشعير مثلا وكان مما يخرج، أن يُخرج صاع من بر، وهذا هو الأصل، وبناء عليه في البلدان التي تقتات على البر، كما هو الحال مثلا في السودان، وفي مصر، يقتاتون على العيش، الذي هو الخبز، هذا أغلب عيشهم، فيقال في مثل هذه: يجوز إخراج البر، إذا كان يخرج البر كم يخرج؟ يخرج صاعًا، لماذا؟
لأن التنصيف لم يثبت عن النبي ﷺ، ولهذا قال: «فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ»، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يخرجه صاعًا إذا أعسر التمر أخذ صاعًا من بُر.
قال: (وإنما عدل النصف صاع بالصاع معاوية -رضي الله عنه- فإنَّه قام خطيبًا فقال: أرى مُدين من هذا يعدل صاعًا من هذا).
قوله هنا: (وَفِي لَفْظٍ «أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ»). أيضًا هذا المعنى الذي قررناه سابقًا، وهو أنَّ الزكاة إنَّمَا تقع قبل خروج الناس إلى الصلاة، هذا هو المعنى الذي احتج به من قال من العلماء إنَّ إخراجها بعد الصلاة لا يُجزئ.
وقالوا: من أخرجها بعد الصلاة؛ فإنَّما هي صدقة من الصدقات، ويقع عليه الإثم، ويجب عليه إخراجها بعد الصلاة، ولكنها ما تقع زكاة فطر، وإنما هي صدقة من جنس الصدقات؛ لأنَّ النبي ﷺ أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ، قَالَ: أَرَى مُدًّا مِنْ هَذِهِ يَعْدِلُ مُدَّيْنِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا: فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»)}.
هذا هو حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- الذي أشرنا إليه قبل قليل. وفيه أنَّ أبا سعيد -رضي الله عنه- ذكر الأطعمة التي كانت تخرج في زمن النبي ﷺ.
قال: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ» هذا يدل على أنَّ النبي ﷺ أقرهم على ذلك، وهذا مما يدل على احتجاج الصحابة -رضي الله عنهم- بالأعمال التي يعملونها في عهد النبي ﷺ، مما لم يقع فيه النكير، ما دام أنَّهم عملوها في زمن النبي ﷺ ولم يقع فيه النكير؛ فإنَّ هذا يدل على أنَّها عمل مشروع؛ لأنَّها لو كانت منكرة لأنكرها النبي ﷺ، ونزل بها الوحي.
قال: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» الظاهر -والله أعلم- أنَّ الطعام ها هنا محمول على البر؛ لأنَّه هو أفضل الطعام وأعلاه، ولهذا ما شبع منه النبي ﷺ، وإنَّما كان أكله ﷺ الشعير، لماذا؟ لأنَّه لم يكن متوفرًا، فأعلى الطعام عندهم هو البر، وهذا نصٌ صريحٌ في أنَّ الطعام ها هنا يُراد به البر، وأنه صاعٌ، وليس نصف الصاع.
قال: «أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» هذه اللفظة التي اختلف العلماء -رحمهم الله -في ثبوتها، والظاهر -والله أعلم- أنَّ الامام البخاري -رحمه الله- قد أخرجها، ومسلم -رحمه الله- قد أخرجها، وهي -والله أعلم- مما يثبت ومما لا ينازع فيه، ولكن يقال: إنَّ هذا كان خاصًا بأهل الطائف، لأنَّ أهل الطائف كان الزبيب موجودًا عندهم بكثرة، وكان يجلب إلى مكة والمدينة، فكانوا يخرجونها أيضًا على عهد النبي ﷺ.
الشاهد: أنَّ تنوع هذه الأطعمة دلالة على أنَّه كما تتنوع في عهد النبي ﷺ؛ فإنَّه ينبغي أن نتنوع في عهدنا، فيقال: قصر الناس على الأرز هو خلاف الهدي؛ لأنَّ النبي ﷺ ذكر أربعة أو خمسة أطعمة، ومن المعلوم أنَّ الزبيب لا يقتاته الناس في كل الأوقات، والأقط كذلك لا يقتاته الناس في كل الأوقات، يعني: لا يمكن أن يكون طعامه -غداؤُه وعشاؤُه أقطًا- فدلَّ ذلك على أنَّه لا ينبغي حصر الناس على طعام واحد، وإذا كان كذلك، فإذا نظرنا مثلا إلى بلدنا السعودية الآن، نقول: ما هي الأطعمة المعروفة؟ بالإمكان للإنسان أن يخرج زكاته من الأرز أو يخرج زكاته من التمر أو يخرج زكاته من المكرونة، هذا طعام موجود عند الناس، أو يخرج زكاته من البر، ليس هناك مانع.
عندنا الآن البر يُعمل في الجنوب، ويعمل حتى في نجد، وبالإمكان أن يخرج زكاته حتى من الجريش، هذه كلها أطعمة موجودة، فإذاً؛ حصر الناس أو قصرهم على البر، فنقول: يظهر والله أعلم أنَّه خلاف هدي النبي ﷺ؛ لأنَّ النبي ﷺ قد وسع، والناس قد يجد بعضهم هذا وقد لا يجد بعضهم ذلك، الأرز قد يكون مشهورًا عندنا وموجودًا لنا بكثرة، ولكن ليس موجودًا عند أهل الجنوب بكثرة.
مثال: قد يكون موجودًا عندك وعند بيت كذا ولكن بعض البيوت يقولون: لا نأكله، فلما أجشمه شراءه، الأصل في ذلك أن يقال: يخرج من الأطعمة المشهورة في البلد أو التي جرى عادة البلد على أنَّهم يأكلون منها.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ) والسمراء هي نوع من الحنطة الجيدة، قال: (أَرَى مُدًّا مِنْ هَذِهِ يَعْدِلُ مُدَّيْنِ) فعدل بالصاع نصف صاع، وهذا هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يقول: لا، إنَّما يكون في زكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من حنطة.
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا: فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) يعني: صاعًا.
نكتفي بذلك.
{أحسن الله إليكم. في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------
[1] رواه البخاري (1481).
[2] أخرجه الترمذي (666).
[3] رواه مسلم (1060).
[4] أخرجه البخاري (3777).
[5] أخرجه مسلم (1780).
[6] رواه البخاري (1254).
[7] رواه البخاري (3628).
[8] أخرجه البخاري (3784)، ومسلم (74).
[9] أخرجه البخاري (4906)، ومسلم (2506).