{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، حياكم الله وبياكم مشاهدينا الكرام، في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي رحمه الله، مع فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله شيخنا المفضال}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
{آمين وإياكم، نستأذنكم شيخنا في البداية}.
على بركة الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «إنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ، حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إذَا سَمِعْتُهُ» وَفِي لَفْظٍ: «مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فَلمَّا فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر أركان الصلاة، وشروطها، وواجباتها، وسننها، وذكر أيضًا شيئًا مما يتعلق بنوافل الصلاة، عقَّب -رَحِمَهُ اللهُ- بعد ذلك بـ (بَاب الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ)، ومن المعلوم بوجه عام أنَّ الذكر إنما يُراد به ذكر الله -تبارك وتعالى، وقوله: (عَقِيبَ الصَّلَاةِ) يريد به المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ هذا الذكر مُتعقب للصلاة، أي: فور انتهائها، فلا يشتغل المصلي بعد الانتهاء من الصلاة بشيء عدا الذكر الذي يذكر به ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ ذكر في ذلك حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- والذي يُعَدُّ أصل مسألة الذكر، وهو حديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم، وفيه أمران:
الأمر الأول: بيان مشروعية الذكر.
والأمر الثاني: مشروعية رفع الصوت بالذكر.
وحديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو من أعظم ما يُستدل به على رفع الصوت بالذكر عقيب الصلاة.
قوله: «إنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ، حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»، في هذا دلالة على مشروعية رفع الصوت بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- عقيب الصلاة المكتوبة بوجه عام، سواء كانت هذه الصلاة مما صلاها الإنسان مع جماعة أو مما صلاها مُنفردًا، فيشرع للإنسان بوجه عام أن يرفع الصوت بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا أمر.
الأمر الثاني: أنَّ الذكر مما يُسَنُّ ويُستحب، وقد جاء بيانه وشرحه في حديث المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ-، وحديث المغيرة بن شعبة هو أصل بيان الذكر المشروع بعد الصلاة، لكن حديث ابن عباس إنما صدَّر به المصنف؛ لأجل ما ذُكر فيه من رفع الصوت بالذكر بوجه عام، والذي هو من حلية الصلاة التي ينبغي للمؤمن أن لا يغفل عنها.
وقد جاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها كانت تقول: "إنما الذكر بعد الصلاة كالصقار للمرآة"، أي: كالجلاء للمرآة.
وورد عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- كما جاء عند البيهقي -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "الدعوات الكبير" أنه كان يقول: "لِكُلِّ شَيْءٍ صِقَالَةٌ، وَصِقَالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّه"، يعني: شفاؤها وجلاؤها الذي يجلوها وينيرها، فكلما أظلم قلبك فإنك لن تجلوه بشيء أعظم من أن تُصقله بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إذَا سَمِعْتُهُ)، يعني: إذا سمعت رفع الناس بالصوت، ففي هذا دلالة على مشروعية الجهر بهذا الذكر، وأنَّ الجهر بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة يتناول جميع الأذكار المشروعة في الصلاة، حتى ما كان منها من قبيل التسبيح، مثل: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر"، يشرع فيها أيضًا رفع الصوت بها؛ لأنها من قبيل الذكر، وأمَّا ما يصنعه بعض الناس حينما يخصص الذكر فيجعله على قسمين، القسم الذي يرفع به صوته وهو أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ونحو ذلك، ثم إذا جاء إلى التسبيح والحمدلة والتكبير خفض بها صوته؛ فنقول: لا، بل الظاهر والله أعلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يرفع صوته بجميع الأذكار مُطلقًا؛ لأنها كلها مما يتناوله لفظ الذكر، وكلها مما شرعت عقيب الصلاة، فهي كلها مما يدخل في حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقوله: (كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ، إذَا سَمِعْتُهُ) فيه دلالة على أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا يجهرون به حتى يرتجّ به المسجد، ويسمعه من كان خارج المسجد؛ لأنَّ ابن عباس كان صبيًّا، فكان يسمعه وهو خارج المسجد، فيعلم ويميز أنَّ الناس قد فرغوا من صلاتهم.
{هل هذا -يا شيخنا- فيه دلالة على أنَّ هذه السنة من السنن المهجورة الآن؟}.
بلا شك؛ لأنَّ هذه من السنن التي هجرها بعض الناس، ونحتاج إلى إحيائها، وما دام أنَّ هذا موطن جماعة فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يحب رفع الصوت بالذكر فيه، شأنه كشأن الحج، فإنَّ الحج مما يشرع فيه رفع الصوت بالتلبية، حتى كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يرفعون أصواتهم بالذكر حتى تبحَّ حلوقهم، حتى يصل الواحد منهم إلى مكة وهو لا يستطيع أن يتكلم من شدَّة جهره بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا أمر.
الأمر الآخر: وهو معنى جليل أيضًا أن يقال: إنَّ هذا مما يدل على أنَّ الذكر بعد الصلاة هو من خصائص الصلاة، فيقال بوجه عام: لا يُشرع بعد الصلاة أن يدعو الإنسان بشيء، وما يفعله بعض الناس من رفع اليدين بالدعاء نقول: إنه خلاف السنة، وخلاف العقل أيضًا؛ لأنك تدعو الله -تبارك وتعالى- وأنت متوجه إليه، وقد كشف الحجاب بينك وبينه في الصلاة، وقد قال النبي ﷺ كالمرشد إلى تقرير هذا المعنى الذي قررناه آنفًا: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ، فَيَدْعُو» ، وهذا من أعظم مواطن الإجابة، كما سبق وتكلمنا عنه في المجالس السابقة، فإننا لَمَّا ذكرنا حديث: «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرً» ، وذكرنا حديث التشهد، بيَّنَّا أنَّ من أعظم مواطن إجابة الدعاء أن يدعو الإنسان بعد الفراغ من التشهد؛ لأنه يكون قد أتى بحق الله -تبارك وتعالى- الواجب عليه، أو لم يقل النبي ﷺ للرجل الذي سمعه يدعو: «عَجِلَ هذ»، ثُمَّ دعاهُ فقال لهُ أوْ لغيرِهِ: «إذا صلَّى أحدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ، ثُمَّ لَيُصَلِّ على النبيِّ ﷺ ثُمَّ لَيَدْعُ بَعْدُ بِما شاءَ» ، فإذًا إذا كبر فحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالفاتحة فإنه قد أتى بالحمد الواجب، بل هو أعظم الحمد على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا حمد النبي ﷺ ربه في خطبة الاستسقاء بالفاتحة، بعض الناس يقول: أنا لا أعرف كيف أحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ! ويسمع مثلا الأئمة في صلاة التراويح يحمدون الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيغبطهم على ما فتح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم من الدعاء والحمد!
نقول: أعظم حمد بين يديك وأنت لا تشعر هو الفاتحة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فإذا دعا بها الإنسان فقد حمد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأعظم الحمد الذي يُحمد به رب العزة والجلال، ولهذا النبي ﷺ في خطبة الاستسقاء حمد الله بالفاتحة «﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يفعلُ ما يريدُ» ، ثم دعا النبي ﷺ وصدق ربه بما شاء.
ثم يتعقب ذلك أيضًا التشهد الذي هو أداء لحق رسول الله ﷺ، السلام على رسول الله ﷺ، وكل هذا أيضًا يدل بوجه عام على مشروعية الدعاء قبل السلام، وعلى أنَّ هذا هو من مواطن الإجابة التي ينبغي للإنسان أن يتوجَّه فيها بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى.
وأمَّا أن يتعقَّب ذلك التسليم فنقول: لا، إذا سلم الإنسان فقد انقضى ما بينه وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الحجاب، وهو الآن في مرحلة الاستغفار لِمَا يلحق هذه الصلاة من نقص، ولِمَا يلحقها من خلل، فإنه ليس من أحد يأتي بصلاته كاملة، قد جاء عن النبي ﷺ كما أخرجه أصحاب السنن من حديث عمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ العبدَ لينصرفُ من صلاتِه ولم يُكْتَبْ له منها إلا نصفَها، إلا ثُلُثَها، حتى قال: إلا عُشْرَه» ، فكيف يجبر هذا النقص؟ يجبر هذا النقش بالاستغفار الذي يستغفر به بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
وفيه أيضًا معنى آخر وهو معنى جليل: وهو أن يعلم الإنسان مهما قدَّم في حقِّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّ هذا الأمر الذي قدَّمه لله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يزال منقوصًا، ما تستكثر شيئًا على الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإن لله -عَزَّ وَجَلَّ- النعمة البالغة والمنَّة العُظمى، فمهما قدمت أنت من الأعمال والخير فإنه بوجه عام يبقى منقوصًا، ويبقى الإنسان يحتقر عمله في ذات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذه كلها من المعاني التي ينبغي أن تُستحضر.
فإذًا، إذا فرغ الإنسان من صلاته؛ فإنَّ عليه أن يلجأ إلى ذكر الله تبارك وتعالى، وقد جاء في حديث معاذ -وهو من الأحاديث التي تسمى عند العلماء: "المسلسل بالمحبة"- أنَّ النبي ﷺ قال له: «يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك»، ثم قالَ: «أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ» ، وقد اختلف العلماء في المقصود بدُبُر الصلاة، هل يقصد به آخر الصلاة وقبل التسليم أو يراد به ما بعد السلام؟ وقد ذهب بعض العلماء إلى ترجيح أنَّ المراد بدبر الصلاة أن يكون الدعاء قبل التسليم من الصلاة؛ لأنَّه موطن دعاء، وأمَّا ما بعد التسليم فإنما هو موطن ذكر لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقالوا: لقد تتبعنا الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في الذكر بعد السلام فلم نرى فيها دعاء، وإنما رأينا فيها ذكرًا لله -عَزَّ وَجَلَّ.
{لو سأل سائل وقال: لو أني دعوت الله تبارك وتعالى بعد صلاتي ولا أفعل ذلك كثيرًا}.
ما فيه بأس، حينما نقرر مثل هذه المسألة؛ فإنه لا يدل البتة على التحريم، بل يجوز للإنسان أن يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما شاء وفي أي وقت، لكن نحن نتكلم عن الفاضل والمفضول، نقول مثلا: تلاوة القرآن بوجه عام أفضل في كل الأحوال إلا في بعض الحالات التي يُستثنى فيها ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، من الحالات: بعد السلام، لو أنَّ إنسانًا حينما فرغ من السلام قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وغير ذلك، ما ينكر عليه ما دام أنه لم يتخذها عادة، لكن يقال: أنت قد تركت الأولى في مثل هذا الموضع، فإذًا من الأولى في مثل هذا الموضع أن يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من الأحاديث المرفوعة عن رسول الله ﷺ.
قال: («وَفِي لَفْظٍ مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ») هذا إقرارٌ من النبي ﷺ للصحابة -رضوان الله عليهم- فقد أقر النبي ﷺ الصحابة على رفع الصوت بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْ كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ فقال: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ يَنْهَى عَنْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ»)}.
لَمَّا فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو الحديث الأصل في مشروعية رفع الصوت بالذكر عقيب الصلاة؛ ثنى ذلك بحديث عن المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهذا الحديث أيضًا هو أصل في بيان الذكر المشروع بعد الصلاة، وهو أصحُّ ما جاء في هذا الباب، مع حديث عائشة وثوبان الذي تفرد بإخراجهما الإمام مسلم، وفيه «كانَ النبيُّ ﷺ إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ ما يقولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ» أو «تَبَارَكْتَ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ» ، فيها روايتان.
ثم يأتي في ذلك حديث المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أنه أملى على ورَّاد، وورَّاد قد كان كاتبًا للمغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فأملى عليه إلى معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد كان معاوية حينها خليفة على المسلمين، وفيه أن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يحرص على نشر الخير، فإنَّ معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أخذ هذا الكتاب من المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أمر به الناس، فكتب معاوية إلى المغيرة يسأله ما الذي كان يقوله النبي ﷺ بعد الصلاة؟!
ولعلَّ معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وصل إليه علم أنَّ المغيرة بن شعبة كان يعلم قول النبي ﷺ في هذا الموضع، فأراد أن يتثبت منه، وقد كان معاوية على منهج عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في التثبت من الأحاديث، والتثبت من الأحاديث من الأمور التي ينبغي ألا يتهاون فيها، وممن أصَّل هذا المعنى الجليل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّ عمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد كان ينقل إليه كبار الصحابة الأحاديث، فإذا كان الحديث مما يأتي على مسألة مشهورة لا تكاد تخفى طلب عليه شهود، إذا قال قائل لم؟ لأن عمر يقول: كيف يخفى عليه؟ كما حصل على جلالة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه دلالة على أنَّ الرجل مهما بلغَ من القدر؛ فإنه قد يخفى عليه شيء من العلم، ليس أحد من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- والخلفاء الراشدين الأربعة كلهم إلا وقد خفيت عليه مسائل من العلم، ربما لا تخفى على كثير من طلبة العلم، لَمَّا انتشر العلم وذاع.
وهذا أيضًا يقود إلى أمر آخر: وهو أنَّ الإنسان إذا سُئل عمَّا لا يعلم فليقل: لا أعلم، فإنَّ من أعظم العلم أن يقول الإنسان لِمَا لا يعلم: لا أعلم، وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنبيه ﷺ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86].
الشاهد: أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان إذا جاءه رجل بحديث عن رسول الله ﷺ طلب معه أحيانًا شاهدًا، كما جاء أبو موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في حديث الاستئذان، فقال: ائتني بمن يشهد معك، فذهب إلى مجلس الأنصار، فقالوا: والله ما يذهب معك إلا أصغرنا، فأخرجوا له أبو سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وكما صنع الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصة ميراث الجدة، لَمَّا شهد به المغيرة بن شعبة فاحتاج الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى من يعزز المغيرة بن شعبة حتى أتاه محمد بن مسلمة، وليس هذا مما يزعمه بعض علماء المعتزلة أنه من الدلالة على عدم قبول أخبار الآحاد. نقول: لا، هذه كلها حتى لو كان اثنان وثلاثة هي من أخبار الآحاد عندكم، فإن الآحاد إنما يقابله المتواتر، وهذه كلها ما بلغت حد التواتر، ولكنه نوع من التثبت من هؤلاء الصحابة رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ عليهم.
{في هذا دلالة يا شيخنا على أنه ينبغي على الإنسان مهما كان أن يحتاط، ومن ذلك أحاديث النبي ﷺ}.
بلا شك أنه ينبغي أن تكون أحاديث النبي ﷺ في المنزلة العليا من الاحتياط؛ لأنَّ القرآن بحمد الله محفوظ، ما يقول الإنسان أحتاط فيه، وإنما يحتاط في تفسيره الذي هو تأويل القرآن، لكن أحاديث النبي ﷺ للإنسان بحاجة لها، وهذا مما يدل على أنَّ كثيرًا من الناس الذين يحبون نشر الخير ويحرصون عليه تجد أن ربما كثير منهم قد يتسرَّع في نشر بعض الأحاديث من غير أن يتحقق منها، ونقول: إن هذا هو خلاف هدي النبي ﷺ وخلاف هدي الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم- وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» ، هذا أمر ينبغي للإنسان أن يحتاطه، لا ينطوي للإنسان خبر عن النبي ﷺ، ويزعم أنه إنما نقله وقد أخلى ذمته! نقول: أنت تنقل لعوام، هؤلاء ينظرون إذا سمعوا "قال رسول الله ﷺ" قبلوه، فينبغي للإنسان أن يحتاط.
ولهذا كان معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ممن يحتاط، خاصة أنَّ معاوية قد خرج في زمان فتنة، وهي الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، ويومها قد بدأ الكذب يفشوا فيها على رسول الله ﷺ، فكان معاوية يقول: "إياكم والأحاديث إلا أحاديث كانت في زمن عمر بن الخطاب، فإنَّ عمر -رضي الله عنه- كان يخيف الناس في ذات الله -عَزَّ وَجَلَّ"، فهذا حديث المغيرة مما يقرر أن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يحتاط، فوصله الخبر أنَّ المغيرة عنده شيء عن رسول الله ﷺ فأراد أن يحتاط منه، وأن يستخبر المغيرة حتى يتلقاه كتابة، وفي هذا دلالة على أنَّ الكتابة قد كانت تنزَّل منزلة السماع، فإذا جاءوا يبحثون في مباحث علوم الحديث في الكتابة والسماع، وأنَّ الكتابة دون السماع؛ نقول: هذا المعنى من المعاني التي دخلت إلى بعض علماء مصالح الحديث من اللوثات الكلامية، وإلا فالأصل أنَّ النبي ﷺ كان يبعث بكتابه إلى الملوك فيقرأ عليهم فيقوم مقام السماع، ما يحتاج الملك أو القوم -لَمَّا بعث معاذ مثلًا- أن يبعث معه بكتاب، فما يحتاج أن يقول الرجل: لا، أحتاج إلى أن أسمعه مشافهة من رسول الله ﷺ أو أقرأه على رسول الله ﷺ.
إذًا كتب المغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جوابا إلى معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (إنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ)، لفظ (دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ) مما وقع الإجماع بين العلماء على أن المراد بالدبر ها هنا إنما هو بعد الفراغ من السلام.
في قوله (مَكْتُوبَة) هذا التقييد من الصحابي تقييد يراد لمعنى، وهو أن يقال: إن هذه الأذكار إنما تُشرع عقيب الصلاة المكتوبة، وليست عقيب الصلوات مُطلقًا.
فإن قال قائل: لم؟
قلنا: لأن عائشة قد لنا تفاصيل وتر النبي ﷺ، فما نقلت لنا أن النبي ﷺ كان يدعو بمثل هذا الدعاء، والصحابي حينما يقيد فهو يقيد تقييد رجل عارف؛ لأنَّ الصحابة هم العلماء، فلما يقول: (دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ) فإنما يريد بذلك أنَّ هذا الأمر خاص بالصلوات المكتوبة.
{ويخرج عن هذا بقية الصلوات مثل السنن؟}.
كل السنن سواء السنن الرواتب أو الوتر أو صلاة الضحى كلها يقال: إنها ليست مقيدة بهذا الذكر.
طيب هل معنى هذا أن الإنسان لا يقولها؟
لا بأس أن يقولها الإنسان لكن لا يلتزم ذلك كما يلتزمه في الصلوات المكتوبة.
قال: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ»، هذه الدعوة الأولى وهي دعوة التوحيد لله -عَزَّ وَجَلَّ-، قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفَةَ وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ» ، فهو من أفضل الذكر عند الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»، يعني: لا ينفع ذا الحظ منك حظه، فمن كان صاحب سلطان وصاحب جاه وصاحب منزلة فإن منزلته لا تنفعه عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، إذا لم يكن له من الله -عَزَّ وَجَلَّ- نصير ومعين.
قال: (ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ)، فيه أن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد كان يأمر الناس بإحياء سنن رسول الله ﷺ، وهذا من هدي الخلفاء الراشدين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومن هدي ملوك الإسلام بوجه عام، أنَّ الواحد منهم إذا ثبت عنده الخبر عن رسول الله ﷺ أشاعوه بين الناس.
قال: (وفي لفظ: «يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ»)، هذه زيادة ذكرها المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمعاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كأنما هي نصيحة إضافية، وهذا من هدي العلماء -رحمهم الله- أنَّ الإنسان إذا استنصح أو سئل عن شيء فإنه يجوز أن يجيب بالجواب ويزيد عليه، كما جاء عن النبي ﷺ أنه لَمَّا سئل عن الوضوء بماء البحر، قال: «هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتتُه» ، أفادنا فائدة بالسؤال وأعطانا أمرًا آخر، ولا يقال: إن هذا من التَّزيُّد في العلم أو من الإكثار على الناس؛ بل يقال: إنَّ هذا مما يلتمس ويبتغى به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ونفع الناس.
زاده المغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ»، يعني: كان ينهى ﷺ عن كثرة الخوض في الكلام الذي لا يُغني عن صاحبه شيئًا، ليس الكلام المحرم، بل الكلام المباح الذي لا يُراد به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا يراد به الدار الآخرة.
هل هناك كلام مباح يُراد به الدار الآخرة؟
نقول: نعم، كلامك مع صديقك وكلامك مع زوجك وكلامك مع أولادك قد يُراد به الدار الآخرة، حتى لو كان كلامًا مُباحًا إذا كان لغرض إيناسهم وإرشادهم وملاطفتهم؛ كل هذه من المعاني الجليلة في النية، وهي أحد المعاني التي قررناها سابقًا لَمَّا شرحنا حديث «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ» وذكرنا أنَّ النية إنما هي عمل العلماء، فالعالم حينما يجلس مع زوجه وأولاده أو يجلس مع أصدقائه ويخوض معهم في الحديث المباح هو مأجور إذا احتسب نيته عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكذلك من تشبه بأهل العلم، بمعنى أن يجعل مجالسه كلها مجالس محتسبة يحتسبها لله كما قال إمام العلماء بعد رسول الله ﷺ معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "أمَّا أنَا فأنَامُ وأَقُومُ، فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي" ، هذا فقه معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخذ فقهه من رسول الله ﷺ.
فإذا كان لا بد للإنسان أن يخوض في شيء من الكلام المباح الذي من نحو: قيل وقال، فلينوِ به النية الحسنة، ولا يخلُ هذا الكلام من شيء من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لا يخلُ المجلس من شيء من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولو أن يرفع الإنسان لسانه بذكر الله -عز وجل- فيقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد"، بحيث يرشد الناس الذين معه إلى ذكر الله -عز وجل.
فهذه من المعاني التي ينبغي للإنسان أن يغفل عنها، حتى لا يكون هذا المجلس مجلس ترة، وحتى لا يكو داخلًا ضمن نهي النبي -جَلَّ وَعَلَا- عن القيل والقال.
{شيخنا: بعض الناس يجلسون بالساعات الطوال في خوض الناس في أحاديثهم، فلو ذكر الإنسان الله مرة واحدة، كأن يصلي على رسول الله ﷺ في المجلس هذا؛ فهل هذا يكفر الله به هذا المجلس؟ أم يشترط أن يكون الذكر في جزء كبير من المجلس؟}.
قد جاء في السنن من غير ما وجه عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنَّ النبي ﷺ قال: «ما جَلسَ قومٌ مجلِسًا لم يذكُروا اللهَ فيهِ ولم يُصلُّوا على نبيِّهم إلَّا كان عليهم تِرةٌ» ، وهذا الحديث قد جاء من وجوه كثيرة يعتضد بها، فدل ذلك على أنَّ المجلس قد يسمو ويزكو بذكره لله -جَلَّ وَعَلَا-، لو يذكر الإنسان ربه -عز وجل- مرة واحدة فقال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له"، أو يصلي ويسلم على رسوله ﷺ رفع بذلك التِّرة عن نفسه وعن أهل هذا المجلس.
وهذه بشارة عظيمة، وأمر يفرط فيه كثير من الناس، كثير من الناس يجلسون مجالس طويلة ما يذكرون الله-عز وجل- فيها شيئًا، ولا يحتسبونها عن الله -عز وجل- فتكون عليهم ترة يوم القيامة.
فقد ثبت عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة أنه قال: «ما من أحدٍ يموتُ إلَّا ندِمَ، إنْ كان مُحسِنًا ندِمَ أنْ لا يكونَ ازْدادَ، وإنْ كان مُسيئًا ندِمَ أنْ لا يكونَ نَزَعَ» ، فهذا المجلس من وقتك وعمرك، ساعة أو ساعتين أو أقل أو أكثر أنت أمضيتها، ولا يحول بينك وبين أن يكون هذا المجلس في ميزان حسناتك إلا نيَّتك التي لا تكلفك شيئًا.
قوله: «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ»، وما أكثر القيل والقال في هذا الزمان والله المستعان!
ولهذا من أعظم ما يعصم الإنسان نفسه عن مثل هذه المجالس: أن يوطِّن الإنسان نفسه على أن لا يجلس في مجلس إلا مجلسًا ينتفع به، إمَّا ينتفع به أو ينفع الناس به، وإذا كان الأمر على خلاف ذلك فليحرص على أن يُقصِّر هذا المجلس ما استطاع.
يقول: لابد أن أصل بعض قرابتي، ومن الصعب أن أذكرهم بالله -عز وجل- فيها، وعندهم رسميات أو ما إلى ذلك!
وإن كان هذا الأمر كله مطَّرحًا، لكن نقول: لو حصل ذلك فعلى الأقل إن كان لابد من ذلك فليكن المجلس مجلسًا عابرًا لا يطيل الإنسان فيه، حتى لا يكون ترة عليه يوم القيامة، مع أنه إذا احتسب أن هذا من صلة الرحم وصلة القرابة كان مأجورًا عليه.
{إن كان الإنسان حاملًا للخير، فهو يأتي إلى مثل هذه المجالس ويحث على الخير فيها، ويذكرهم بالله -تبارك وتعالى- ويصلي على النبي ﷺ في هذا المجلس وهكذا فيكون نافعًا للخير}.
وبلا شك أنَّ كثيرًا من الناس ربما كان ممن إذا رؤيَ ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا حقيقة لاحظناه في بعض العلماء وبعض طلبة العلم، وبعض أهل الخير ما تكاد تراه في مجلس إلا ذكرت الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكثرة ما يجري الذكر على لسانه، فهذا من المعاني التي ينبغي أن تُلتمس وأن يقصد إليها.
قال: (وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)، إضاعة المال حتى لو كان في المباحات التي ليست مما تعود على الإنسان بالنفع في دنياه وفي أخراه، فالأصل في الإنسان بوجه عام، والأصل في المسلم أن يستعمل هذا المال فيما أحل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي وجوه الخير التي يرى أنها مما ينتفع هو بها أو ينتفع بها عموم المسلمين، فأما استخدامها أو إضاعة المال في بعض الأمور المباحة التي قد تتلف وقد تذهب كثيرًا، فإنه ينبغي للإنسان أن يتورَّع عنها، لا يقال إنها محرمة إلا إذا وصلت إلى حد السرف.
قال: (وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ)، كثرة السؤال هذا محمول على معنيين:
المعنى الأول: أن يكون المراد بكثرة السؤال ها هنا كثرة سؤال الناس أموالهم، وقد جاء عن النبي ﷺ النهي عن سؤال الناس أموالهم تكثُّرا، هذا قد ثبت في صحيح الإمام البخاري ومسلم.
المعنى الثاني: أو يراد بكثرة السؤال ها هنا كثرة السؤال عما لم يقع من المسائل، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101].
هذا اللفظ يتناول المعنيين جميعًا.
والظاهر -والله أعلم- أنَّ لفظة "السؤال" عامة، تشمل سؤال الناس أموالهم، وتشمل سؤال أهل العلم المسائل المستغلقة التي لم تقع، وقد كان الصحابة والسلف الصالح -رضوان الله عليهم- يستنكرون ذلك، وإذا سئلوا عن مسألة حرجوا على صاحبها، فقالوا: أحرجك الله أحرجك الله، هل وقعت؟ فإن قال: نعم؛ أجابوا فيها، وإن قال: لم تقع؛ قال: أجمَّنا -يعني أرحنا- حتى تقع، فإذا وقعت اجتهدنا لك؛ فإنه أحرى للتوفيق، لأننا ذكرنا أنَّ علم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- علم عملي، ليس عِلمًا نظريًّا، وليس علمًا قائمًا على تشقيق المسائل وتكثيرها، وإنما هو علم يُقصد به العمل، يأخذ الحديث ويأخذ الآية ثم يطبقها واقعًا، فما الحاجة إذا كان العلم لهذا الغرض أن تسأل عن مسائل ما وقعت!
إذا قوله (وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ)، محمول على المعنين.
قال: (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ)، وهذا من أعظم الكبائر، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ [الإسراء: 23]، وقد بيَّن النبي ﷺ أنَّ من أكبر الكبائر بعدَ الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ- عقوق الوالدين.
قال: (وَوَأْدِ الْبَنَاتِ)، هذا هو الذي كان يقع في الجاهلية وهو قتل البنت خشية أن تطعم معه، وهذا يشمل وأد البنت ووأد الذكر، لكنهم ما كانوا يؤدون الذكور، ما كان من عادتهم وأد الذكور، وإنما كان من عادتهم وأد البنات، إمَّا أن يئدونهن خشية العار أو خشية الإملاق.
{في هذا يا شيخنا ضعف التوكل}.
بلا شك أنَّ هذا يدل على ما كان عليه أهل الجاهل من عدم تعلقهم بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، واقتناعهم بالأسباب المادية، ولهذا مَنْ أقبل على الأسباب المادية كان فيه مُشابهة بأهل الجاهلية، الأصل في العبد المؤمن أن يكون مُتوكلًا على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن يعلم أنَّ رزق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يجرُّه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.
قال: (وَمَنْعٍ وَهَاتِ)، هو أن تمنع ما وجب عليك بذله، سواء كان من العلم الشرعي أو من المال أو من الجاه، كل ما أتاك الله -عَزَّ وَجَلَّ- فأتاك من يسألك من الناس فإنك إن منعته كنت داخلًا في قول النبي ﷺ.
قول: (وَهَاتِ) هو الإلحاح في طلب ما لك، تجد بعض الناس شديدًا في طلب ما هو له، وبخيلا في إعطاء ما هو عليه، وهذا من شرار خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا قال النبي ﷺ: «أُتِيَ اللَّهُ بعَبْدٍ مِن عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقالَ له: مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنْيَا؟ قالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قالَ: يا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكانَ مِن خُلُقِي الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ علَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ، فَقالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عن عَبْدِي» ، فهذا من المعاني التي ينبغي أن يُلتفت إليها.
وقد جاء في حديث ابن المنكدر الذي أخرجه الإمام البخاري عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ قال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى» ، فالسماحة ينبغي أن تكون من أخلاق المؤمن، ولا يَظن المؤمن أنَّ هذا مما يغلب عليه، يكون المؤمن كيس فطن لكنه يتسهَّل، ليس هناك حاجة إلى أن تستقصي كل حقك، بل قد كان من هدي النبي ﷺ أنه كان إذا طلب حقه طلبه في عفاف، وربما تنازل عن شيء منه، وإذا أعطى حقًا وَجَبَ عليه ﷺ أعطاه وزيادة، كما استسلف النبي ﷺ من الأعرابي بكرًا، وقضاه رباعيًا خيارًا، وقال: «إنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ، فهذا من المعاني التي ينبغي أن يعتنى بها، وهو من المعاني التي لا يفقهها أصحاب المادة، صاحب المادة ما يفقه هذه المعاني الروحية، التي جاء بها الإسلام.
{هذا من أعظم الفضائل إذا احتسب الإنسان أنه يقيل مسلمًا وهذا يقيله الله تبارك وتعالى يوم القيامة}.
هذه كلها من المعاني التي من حقَّقها لم يكن واقعًا فيما قاله النبي ﷺ: «وَمَنْعٍ وَهَاتِ» فكان رجلا سمحًا، وكان من هديه السماحة، وهذا هو خلق رسول الله ﷺ.
والمؤمن متى ما كان سمحًا سمَّح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه أموره، وهذه سنة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أولم يقل الحطيئه:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ ... لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ
فهل تظن أنك ستسمِّح على الناس ولا يُسمِّح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك؟! إذا قد ظننت بربك السوء! وحاشاه سبحانه وبحمده! سمِّح على الناس في أخذك وفي قضائك واقتضائك، وسيسمِّح الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك أمرك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ. وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ. وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»)}.
هذا هو حديث التسبيحات عقيب الصلاة، وهو أصح ما جاء عن النبي ﷺ في هذا المعنى، فإنه قد جاء هذا المعنى عن جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم، مثل: حديث أبي هريرة، وحديث كعب بن عجرة الذي أخرجه الإمام مسلم، ولكن حديث أبي هريرة هو الأصل في هذا الباب، وفيه أنَّ فقراء المسلمين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ).
الدثار بوجه عام: هو المال الذي يتدثَّر به الإنسان.
قوله: (أَهْلُ الدُّثُورِ)، إشارة إلى أهل المال وأهل الثراء من الصحابة -رضوان الله عليهم- كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بين عبيد الله، وسعد بن الربيع، وغيرهم، فإنهم كانوا من موسري أصحاب النبي ﷺ.
قوله: (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ. وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ)، وفي بعض الروايات قالوا: (ولهم فضول أموال يتصدقون منها لا نتصدق)، فدلَّ ذلك على أنَّ هدي مُوسري الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا يستعملون ما أتاهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- من هذا المال في الخير.
وفيه دلالة على أنَّ من أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- المال فاستعمله في مراضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- كان أفضل ممن سواه، ولهذا لَمَّا جاء العلماء -رحمهم الله- في التسوية بين الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل؟ فكان الترجيح أنَّ أفضلهما هو أتقاهما وأكثرهما عملًا بما أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا كان الفقير الصابر حينما ابتلاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالفقر تفرَّغ معه للعلم ونشر العلم؛ فهذا فضل عظيم قد أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ربما يسبق به الغني الشاكر، وإذا كان الغني الشاكر لما أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- المال فرغ هذا المال لبذله في وجوه الخير، واستعماله في مراضي الله -عَزَّ وَجَلَّ- كان أفضل من فقير صابر ليس صاحب بذل لِمَا أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودل بوجه عام على أنَّ الخير المتعدي من أعظم ما يقصد إليه.
قوله: (قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ)، الصلاة والصيام عمل قاصر ولازم على الإنسان، لكن (يتصدقون ويعتقون) هذا عمل مُتعدٍّ وهو من أفضل الأعمال التي يحبها الله، ومن أفضل ما يسابق به إلى الدرجات، ولهذا قالوا: (ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ)، ولم ينكر النبي ﷺ، وإنما استفهم فقال: «وَمَا ذَاكَ؟»، فدلَّ على أنَّ من أراد من أهل الدثور الدرجات العلا والنعيم المقيم، فعليه أن يبذل مما أتاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يتصدق ويعتق، الصدقة معروفة ووجوهها كثيرة.
والعتق هنا: أن يُعين على فكاك السجين المبتلى، وهو يملك مالاً فيسدد عنه، فهذا يدخل في باب العتق إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنه نوع من تحريره.
قالوا: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ. وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّة»)، أرشدهم النبي ﷺ إلى ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فدلَّ ذلك -معاشر الإخوة والأخوات- على أنَّ من قصُر عن شيء من الأعمال؛ فعليه أن يستكملها بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
من كان يقول: الله المستعان أنا قليل الصلاة، لا أكاد أصلي إلا الصلوات المكتوبة وشيء يسير من النوافل!
نقول له: استكمل ذلك بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإنه نعم المعين على بلوغ الدرجات العلى والنعيم المقيم، النبي ﷺ قال: «تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ»، وهم أهل الدثور وأهل البذل تدركونهم بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «سَبَقَ المُفَرِّدُونَ، قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» ، فإذًا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- مما يبلغ به العبد الدرجات العلى المقيم عند الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{شيخنا -سبحان الله- نجد أن ذكر لله تبارك وتعالى من أسهل الأمور التي سهلها الله -تبارك وتعالى- علينا وفي المقابل فهو من أكثر الأمور التي فُرِّطَ فيها}.
بلا شك؛ وقد ثبت عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "ما وجد العبد في صحيفته أحب إليه استغفار كثير"، وفي بعض الروايات "من ذكر كثير"، لماذا؟
لأنه عمل ميسور، وعمل لا يتطلب منك التَّفرُّغ، الصلاة تحتاج إلى أن تتفرغ، والصيام ربما يضعف الإنسان شيئًا يسيرًا وفيه جهد، لكن ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كل حال، في عملك، في سيارتك، مع أصحابك؛ كلها تستطيع أن تلهج فيها بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا أوصى النبي ﷺ من أوصاه من الصحابة: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ»، فيه دلالة على أن اللسان وإن جف بالذكر الجفاف الحسي إلا أنه يترطب الترطيب المعنوي، وإذا كان اللسان يترطب بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإن الجوارح أيضًا تندَى وتترطَّب بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- والقلوب والمجالس تترطب بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ.
فإذًا هذا المعنى لَمَّا أرشد النبي ﷺ الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قال: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ. وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، أرشدهم النبي ﷺ إلى ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقوله: «ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، هذه الظاهر -والله أعلم- من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو الذي فسره به راوي الحديث، أبو صالح السمان -رضي الله عنه- أنه فسَّره بأنه يكتفي بـ "سبحان الله والحمد لله والله أكبر" حتى يبلغ منهن كلهن ثلاثًا وثلاثين، فيكون قد قال من كل جملة بتمامها -أعني: سبحان الله والحمد لله والله أكبر- إحدى عشر مرة.
{لو أكثر الإنسان وزاد على ذلك؟}.
لو أنه أكثر فنقول: إنما يُكثر بناء على حديث آخر، وهذا الذي سنذكره إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعد قليل، نقول: إن من صيغ تسبيح الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الصيغة التي ذكرها أبو صالح السمان، وهي أن يسبح الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثلاثا وثلاثين من جميعهم، هذه صيغة ثابتة في الصحيحين، وهي من أصح الصيغ الواردة عن النبي ﷺ، وهناك صيغة أخرى قد أخرجها الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-، من حديث كعب بن عجرة، قوله: «مُعَقِّباتٌ لا يَخِيبُ قائِلُهُنَّ، أوْ فاعِلُهُنَّ، ثَلاثٌ وثَلاثُونَ تَسْبِيحَةً، وثَلاثٌ وثَلاثُونَ تَحْمِيدَةً، وأَرْبَعٌ وثَلاثُونَ تَكْبِيرَةً، في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ» ، وصيغة أخرى أخرجها أيضًا الإمام مسلم بمثلها، ولكن يجعل التكبير أربعا وثلاثين، فهذه ثلاث صيغ.
نقول للإنسان: إن كنت تريد أن تستكثر من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فاذهب إلى الصيغتين الثانية والثالثة، وإن كنت مستعجلًا فلا بأس أن تقتصر على الصيغة التي ذكرها أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في حديث أبي صالح السمان، والأمر في ذلك واسع، وحيثما أتى فإنه يكون قد أتى بما ذكره رسول الله ﷺ وشرعه لأصحابه رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم.
قال أبو صالح: (قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»).
في هذا دلالة على أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا يتسابقون إلى الخيرات، ولا يقتصر الرجل منهم على جانب من الجوانب مكتفٍيًا به، بل ربما جمع معه غيره من أعمال الخير، فلمَّا سمع أهل الدثور بهذا الحديث قالوا: نقول كما تقولون، فإن قلنا كما تقولون ساويناكم وفضَلناكم بما آتانا الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الأموال، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أنَّ الحديث الذي قد رواه الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في مسنده عن عائشة قالت: سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قد رأيتُ عبدَ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ يدخلُ الجنَّةَ حبوً» ، حديث باطل لا يصح، ولا يثبت عن رسول الله ﷺ، وهم يذكرون فيه أنَّ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- سمعت بقافلة قد جاءت من الشام، فقالت لمن هذه؟ فقالوا: لعبد الرحمن بن عوف، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فقالت: رحم الله عبد الرحمن، سمعت النبي ﷺ يقول: «قد رأيتُ عبدَ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ يدخلُ الجنَّةَ حبوً»، فقال عبد الرحمن: لئن استطعت لأدخلنها مشيًا، فتصدق بها في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، نقول: هذا حديث باطل، ما يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ، وعبد الرحمن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أهل البشارة بالجنة ومن أعلى الصحابة قدرًا، حتى أن جماعة من العلماء يجعلونه الخامس بعد الخلفاء الراشدين في أفضلية الصحابة -رضي الله عنهم.
ويقولون مما يدل على ذلك: أنه كان المرجِّح بين عثمان وعَليٍّ -رضي الله عنهما- في الخلافة، وقد اختاروه وارتضوه، وقد كان من كبار مستشاري عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإذًا حاشا عبد الرحمن بن عوف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن يقال فيه ذلك، ثم كيف يقول النبي ﷺ: «قد رأيتُ عبدَ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ يدخلُ الجنَّةَ حبوً»، ويتصدق عبد الرحمن بهذه القافلة، ويقول: لئن استطعت لأدخلنها مشيًا! حاشا عبد الرحمن بن عوف أن يرد على رسول الله ﷺ.
فإذًا هذا الحديث يدل على أن عبد الرحمن بن عوف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان من مشاهير أهل الدثور من أصحاب رسول الله ﷺ، ولم يكن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ممن يقصِّر في بذل الخير، وقد أوجبَ عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الجنة في غزوة تبوك، فقال النبي ﷺ: «أوجب عثمان»، وقال ﷺ: «ما ضَرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ» ، فدلَّ ذلك على أن المال الصالح للرجل الصالح، والمال الصالح من أعظم ما يُتقرب به الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وكثيرًا ما يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- الجهاد بالنفس فيَقرنه إلى المال، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن جَهَّزَ غَازِيًا في سَبيلِ اللَّهِ فقَدْ غَزَ» ، فدل ذلك على أن بذل المال في وجوه الخير مما يساوي الخروج في الخير. هذا كله من المعاني التي فقهها الصحابة -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم.
قال: (سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ: وَهِمْتَ، إنَّمَا قَالَ لَكَ: تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)، وكأن هذا الذي هو من أهل سمي إنما ذهب إلى حديث كعب بن عجرة أو حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الآخر، فسمع أمرًا من رسول الله ﷺ فأراد أن يرد به على سمي، وهذا مما يدل على تثبُّت التابعين، وعلى أنهم كانوا إذا أخذوا العلم نقلوه إلى أهاليهم، يسمع العلم من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فلا يقتصر على نفسه، وإنما ينقله إلى غيره، وهذا يدل على أنَّ العلم الذي كان ينقل من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- علم يسير، لأن العلم الكثير حينما تذهب إلى محاضرة فيلقَى عليك ثلاثين مسألة يصعب على الإنسان نقلها، لكن حينما تأتي فتتلقى العلم شيئًا فشيئًا، وتتربى بكبار العلم وصغاره، فإنَّ هذا مما يسهِّل على الإنسان العمل بالعلم، ومما يعينه على حفظ العلم، ومما يعينه على نشر العلم، هذه كلها معانٍ جليلة كان يفقهها الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، ولهذا نسأل لماذا تميز الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؟
نقول: تميزوا لأنَّهم ذهبوا وقصدوا إلى أصول العلم ففقهوها وعلموها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
قال: (فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي صَالِحٍ، فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)، وفيه دلالة على معنى وهو أنه ينبغي جمعها مرة واحدة، بعض الناس يفردها فيقول: "سبحان الله سبحان الله سبحان الله"، نقول: لا، بل قل: "سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر"، الأصل فيها أنها تجمع، والأصل فيها أنها كالجملة الواحدة، هي الكلام إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يضرك بأيهن بدأت، فهي سلسلة ما تفصل بينها بأن تسبح مرة ثم ترجع فتحمد ثم ترجع، وإنما تجمع بينها. نتوقف ها هنا.
{شكر الله لكم شيخ المفضال، رضي الله عنكم، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، الشكر موصول لكم أيُّها الكرام، وجزاكم الله عنا خير الجزاء على حسن مشاهدتكم، ونستودعكم الله، ونلتقي بكم في لقاءات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.