الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

15427 18
الدرس الرابع عشر

عمدة الأحكام 2

بسم الله الرحمن الرحيم.
{الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة العلم) المستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، مع فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، طيب الله أيامكم شيخ إبراهيم}.
طيب الله أيامكم بالخيرات، حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.
{بارك الله فيكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (كتابُ الحجِّ)}.
نبدأ بسم الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رحمه الله: (بابُ المواقيتِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ «وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ: فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد شرع المصنف -رحمه الله- في الكتاب الأخير من الكتب المتعلقة بأركان الإسلام، أو بكتاب العبادات، وهو (كتابُ الحجِّ)، وهو خاتمتها؛ لأنه كان خاتمة ما شُرِعَ منها أيضا؛ لأنَّ الحج إنما شرع على الصحيح من أقوال أهل العلم في أواخر السنة التاسعة من هجرة النبي ، لَمَّا أنزل الله -عز وجل- قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران:97]، ومن المتقرر عند العلماء -رحمهم الله- أنَّ هذه الآية في سورة آل عمران إنما نزلت في عام الوفود، وعام الوفود كان في السنة التاسعة من هجرة النبي ، وهو أحد أسباب أن النبي لم يحج في ذلك العام، فإنه قد اجتمعت أسباب عدة، جعلت النبي لم يحج ذلك العام، وهو العام التاسع، ومن بينها أنَّ هذا العام عام الوفود، ومن بينها أنه لم تزل بقايا الشرك في مكة، ومن ذلك أنهم كانوا يطوفون عُراة، ومن ذلك أنه كان يُؤذن للمشركين حينها بالحج، ومنها أيضًا أنَّ الحج لم يقع في الشهر الشرعي، كما قال النبي لَمَّا حج في السنة العاشرة، فلما دار الزمان واستدار كهيئته حَجَّ النبي في الزمان الذي أراده الله -عز وجل.
فإذًا الظاهر -والله أعلم- أنَّ الحج إنما فرض في السنة التاسعة من هجرة النبي .
ولهذا كان على الصحيح من أقوال أهل العلم أنَّ الحج على الفور، أي أنَّ الحج عبادة واجبة على الفور، كل من ملك الزاد والراحلة، والآن في هذا العصر صدر له التصريح، وإذا كان من خارج المملكة صدرت له التأشيرة، فقد وجب عليه الحج الآن، ووجبت عليه المبادرة، ومما يدل عليه ويقرره ما ذكرناه قبل قليل، وهو أنَّ النبي إنما أنزل الله -عز وجل- عليه هذه الآية، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران:97] في آواخر السنة التاسعة، فحج النبي من فوره في السنة العاشرة، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنَّ الحج قد فُرِضَ قبل ذلك بقول الله -عز وجل-: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]؛ لأن إتمام الحج لا يعني وجوبه، ولهذا ما استطاع كثير من الناس أن يستدل بهذه الآية على وجوب العمرة، فوقع الخلاف بين العلماء -رحمهم الله-، ولو كانت هذه الآية صريحة بهذا المعنى لَمَا اختلفوا في وجوبها، لكن تنازعت المذاهب في وجوب العمرة، فدلت على أنَّ هذه الآية ليست صريحة في هذا المعنى، بخلاف قول الله -عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران:97]، ولهذا لم يقع خلاف بين العلماء في أنَّ الحج واجب على كل مكلف مستطيع، والاستطاعة تكون بحسبها. هذا أمر.
الأمر الآخر أن الحج في اللغة هو القصد، ومنه قول بعضهم:

وأشهدُ مِنْ عَوْفٍ حُلولًا كثيرةً ... يحجُّون سِبَّ الزِّبرقانِ المزعفرا

يحجون يعني: يقصدون، فإذا قلت: حججت إلى شيء، فهذا معناه أنك قصدت إليه، فالحج هو القصد إلى بيت الله الحرام، لعملٍ مخصوصٍ في وقت مخصوصٍ، هذا هو الحج.
ومن رحمة الله -عز وجل- ولطفه بالأمة أن جعل الحج إنما يجب مرة واحدة في العمر، وقد قال النبي في حجة الوداع: «أَيُّهَا النَّاسُ قدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثَلَاثً»، وهذا من الأسئلة المنهي عنها، التي قال الله -عز وجل- فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة:101]، وقال عنها النبي : «ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ» .
قد يقول الإنسان: لقد مضى وانقضى عهد النبي ، فما حاجتنا إلى هذا المعنى؟ يقال: لا، بل هذا المعنى لا زال مطردًا، وهو أن لا يسأل الإنسان إلا سؤالا يتعلق به عمل، أي: لا تسأل أسئلة لا يتعلق بها عمل، لماذا؟ لأنَّ هذا نوع ابتلاء، أنت تستكثر من حجج الله -عز وجل- عليك حينما تسأل سؤالاً لا تريد أن تتعبد لله -عز وجل- به، ولهذا لَمَّا سأل رجل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن بعض مسائل العلم، قالت: أعملت بما علمت؟ قال: لا، فقالت: فلمَ تستكثر من حجج الله -عز وجل- عليك؟
ولَمَّا سأل رجلٌ أُبيًا -رضي الله عنه- عن مسألة، فقال: أجمنا، يعني: أرحنا، فإذا وقعت اجتهدنا لك، وقد قال معاذ -رضي الله عنه- في هذا قولاً بليغًا، قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا قَالَ وفق، أو سُدِّدَ" وهذا فيه أن من المعاني الجليلة في التوفيق والتسديد، ألا يجيب الإنسان عن مسألة، إلا من المسائل الواقعة، وهذا المعنى مما ينبغي أن يقرر، وهو أنَّ هذا الرجل سأل النبي ، فقال له : «لو قلتُ: نعَم، لوجبَتْ ولَمَا استطعتُم»، وهذا الأمر يتحقق، الآن الأمة المحمدية الإسلامية تقارب مليارين، ولو فتح الحج لهم وقيل للإنسان: يمنع عنك أن تحج إلا مرة واحدة في عمرك، لَما استطاعت هذه الأمة أن تحج بتمامها، فكيف لو فتح المجال وقيل: ترى الأمر أمر وجوب. سيحصل بلاء عظيم، وتعجز الدول عن أن تسيطر على هؤلاء الأمم من مئات الملايين التي ستقدم؛ لحج بيت الله -عز وجل-.
فإذًا، هذا من رحمة الله -عز وجل- بهذه الأمة، ومن أجل ذلك تأخرت فريضة الحج إلى أن كانت الركن الخامس؛ لأنَّ أركان الدين إنما هي بحسب أولويتها. فلمَا كانت الصلاة تتكرر كل يوم صارت مقدمة، والزكاة قد تتكرر في العام أكثر من مرة، كيف؟
يكون عندك زروع وثمار، فتزكي، ويكون عندك ماشية فتزكي، ويكون عندك نقدان فتزكي، ويكون عندك عسل على قول بعض العلماء فتزكي، ويكون عندك حلي على قول بعض العلماء أيضا، فتزكي، وهكذا.
ثم جاء بعدها رمضان، إنما يجب مرة واحدة في العام، ثم جاء بعدها الحج الذي يجب مرة واحدة في العمر.
قال المصنف -رحمه الله: (بابُ المواقيتِ) الميقات هو الوقت، والأصل في دين الله -عز وجل- أنه دين قائم على تعظيم الوقت، ولهذا أقسم الله -عز وجل- بالعصر، والعصر هو الزمن؛ لأنَّ الزمن هو الذي يُتعبد لله -عز وجل- فيه، وقد وَقَّتَ الله -عز وجل- الأزمنة توقيتًا بليغًا، حتى يَعلم العبد المؤمن أنه ربما بفوات دقيقة واحدة، يضيع عليه وقت صلاة، ويضيع عليه صيام يوم، وربما ضاع عليه الحج بتمامه، فلو تأخر الإنسان وما وقف في عرفة حتى طلع الفجر من يوم العاشر فاته الحج، ولو أدرك لحظة واحدة أدرك الوقوف في عرفة، فإذًا الوقت بوجه عام يعظم بالشرع، ولهذا لَمَّا وصف الله -عز وجل- الصلاة وصفها بصفتين، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتً﴾ [النساء:103]، فوصفها بالفرضية والثبوت وأنها لا تنسخ، ووصفها بالتوقيت، فكان الوقت في العبادة مِن أَجَلِّ الأمور، قد يتساهل الشرع أو يتسمح في كثير من الأمور، إلا أنه لا يتسمع في الوقت، ولهذا يقول العلماء -رحمهم الله- في الحج: لو ترك الإنسان رمي الجمار؛ فإنه يجب عليه فدية، ولو صنع كذا فيجب عليه فدية، ولكن إذا ضيع ما يتعلق بالوقت فات، فلو فاتك الحج أو عرفة، ودخل عليك اليوم العاشر، فقد فات الحج، ولم يعد لنا من الأمر شيء، ولا يستطيع أحد أن يفعل لك شيئا.
فإذًا حينما يقول المصنف -رحمه الله: (بابُ المواقيتِ) فإنه يذكرها -أي: المواقيت- لبيان أنَّ الشرع قائم على التوقيت، وهذا كله يقودنا إلى أنَّ الشرع قد عَظَّم أمر الزمان أيما تعظيم، وإذا كان كذلك؛ فإنه ينبغي للمؤمن أن يعمر زمانه كله بالخير والطاعة، وليس من شرط الخير والطاعة أن تكون في تسبيح وتهليل، بل أن تكون بعمل صالح أو بنية صالحة تستصحبها في كل عملك، فإذا عجزت عن كثرة التسبيح وكثرة التهليل وكثرة العبادة، فلا أقلَّ من أن تعجز عن النية الصالحة، في جلوسك مع أهلك استحضر النية الصالحة، في ذهابك وإيابك استحضر النية الصالحة؛ لتكون مأجورًا عليها -إن شاء الله عز وجل- وحتى إذا سئلت يوم القيامة عن عمرك فيما أفنيته، فتقول إذا كنت من أهل الخير أو ممن يظن بهم الخير: رب قد أفنيته في المباح، بل حتى المباح لا ينبغي لوقتك أن يضيع فيه؛ لأنَّ المباح تستطيع أن تحيله بالنية الصالحة إلى مندوب، ما هو المباح؟
لعب الكرة مثلا، الرياضة، هذه كلها مباحات، لو استحضر الإنسان فيها الاستعانة على طاعة الله -عز وجل- وأنها من العمل الذي يَستجم به شيئًا يسيرًا حتى يستعين به على الطاعة، كانت كلها في ميزان حسناته، كانت كلها أعمال يؤجر عليها، كما قال معاذ -رضي الله عنه: "فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي" وأي شيء من المباح كالنوم، فالنوم يأخذ الإنسان فيه سبع ساعات أحيانًا أو ثمانية، ومع ذلك قد يكون كله أجورًا تكتب للإنسان.
فإذًا قال: (بابُ المواقيتِ) وهي الأوقات، المواقيت عند العلماء على نوعين في الحج: مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية، ومتى ما أُطلق لفظ الميقات عند المتأخرين فإنَّما يُراد به غالبًا الميقات المكاني، وأمَّا الميقات الزماني؛ فإنهم لا يكادون يتعرضون له، والسبب في ذلك أنَّ الأمة قد استقر أمرها على أنَّ الحج إنما يكون في شهر ذي القعدة، وفي شهر ذي الحجة، يعني: الإحرام له، وهذا بالإجماع عند العلماء أنها من ضمن المواقيت الزمانية. والمواقيت الزمانية هي التي قال الله -عز وجل- فيها في كتابه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة:197]، فما هي هذه الأشهر المعلومات؟ وما هو الغرض من قول الله -عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ ؟
الأشهر المعلومات عند جماهير العلماء، هي: شوال، وذي القعدة، وعشر ذي الحجة، ويقصد بها أنَّ الإنسان إذا أراد أن يوقع الحج؛ فإنه يوقعه فيها، قد يقول الإنسان: كيف أحرم بالحج في شوال! نقول: نعم تحرم بالحج في شوال، ثم تحل من عمرتك، ثم تمكث في مكة إلى أن يأتي الحج، وأكثر من ذلك أنَّ بعض الناس يحرم بالحج في شوال، كما كانوا يصنعونه بالزمن الأول، يحرم بالحج في شوال أو في ذي القعدة، ثم يمكث على إحرامه إلى الحج.
مَن فَعَلَ ذلك؟
رسول الله فعله، فإنَّ النبي قد أحرم في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ومكث على إحرامه حتى حَلَّ من إحرامه يوم العاشر.
طيب ما الذي ينتج عنه؟ ينتج عنه أنَّ من أوقع الإحرام في غير هذه الأشهر لم ينعقد حجه، فلو جاء رجل وقال: أنا أتيت من خارج المملكة، وأريد أن أجمع حج وعمرة، ولهذا سأحرم الآن بعمرة متمتعًا بها إلى الحج. طيب متى أوقعتها؟
قال: أوقعتها في رمضان، نقول: لا تصح لأنَّ هذا في غير أشهر الحج.
طيب ما الذي يصح هنا؟
تنقلب عمرة، يقال له: اعتمر، فإذا حللت أجزأ عنك، وأمَّا حجك فإذا دخلت أشهر الحج، وأردت أن تحج فاخرج إلى الميقات وأحرم منه.
هذا هو المقصد بقول الله -عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ ، ومعلومات أي: فيما يتعلق بالمواقيت الزمانية، والتي هي معلقة بالزمن.
ومن وراء ذلك أمر آخر، وهو المواقيت المكانية، وهي التي سأل الصحابة النبي عنها، وكأنهم لم يسألوه عن المواقيت الزمنية؛ لأنه لم يصح عن النبي حديث في تحديد المواقيت الزمانية، لماذا لم يسألوا عنها؟ لأنها -والله أعلم- مما ورثوه من دين إبراهيم -عليه السلام- فكانوا يعرفون الميقات الزماني مباشرة، أي: يعلمون أن الميقات الزماني ما يمكن أن توقعه في شهر رجب، أو في شهر رمضان، وإنما توقعه في شهر شوال وما بعده.
ولكنهم سألوه عن المواقيت المكانية، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنه-، وكذلك في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وفيه أنَّ رجلا سأل النبي ، قال: «من أين تأمرنا نُهَلُّ؟» الإهلال هو الإحرام، والإحرام ليس هو لبس الإحرام، ولا هو النطق بالإحرام، ولكنه عقد النية بالدخول في النسك، هذا هو الإحرام، فإذا لبست ملابس إحرامك، فلست محرمًا حتى تنويه، يعني: قد تلبس الإحرام في الطائرة، أو تلبسه في بيتك ثم تركب الطيارة من الرياض إلى جدة على سبيل المثال، ولا تسمى محرمًا حتى تنويه، وتعقد قلبك عليه.
إذًا لبس الإزار والرداء -وحده بدون النية- لا يعني أنك صرت محرمًا، لا يعني الدخول في النسك، وبناء عليه فلو أنَّ إنسانًا لبس إزاره ورداءه، وما أحرم ولا شيء، ثم نام في الطائرة، فإذا وصل مكة، فقد فاته. نقول: نعم الآن ها هنا فاتك الوقت المكاني، وتدخل في مسألة الخلاف بين العلماء، وهي:
هل يجب عليك فيها فدية أو لا؟ أو يقال: إن الأفضل في مثل هذه الحالة حتى تخرج من الخلاف أن ترجع إلى ميقاتك فتحرم منه، فإذًا لبسك للإحرام لا يعني: الإحرام.
قال: «وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ» نقول: إنَّ حديث ابن عباس وابن عمر هما الأصل في أبواب المواقيت المكانية، وخاصة حديث ابن عباس، لماذا؟ لتمامه ولأنه قد ذكر فيه ميقات أهل اليمن، وأمَّا ابن عمر -رضي الله عنها- فإنه لم يذكر ميقات أهل اليمن، ولهذا يذكرون أنَّ النبي وقَّتَ لأهل اليمن "يلملم"، وقد ذكر النبي ها هنا أربع مواقيت:
الميقات الأول: وَقَّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، وهو المسمى الآن بـ "أبيار علي"، وهو من ضمن المدينة، وبينه الآن وبين مسجد النبي قرابة عشرة كيلو متر، وفي السابق لم يكن ضمن المدينة، لكنه الآن أصبح ضمن المدينة المنورة، وذلك بعد التوسع الكبير الذي حصل للمدينة -شرفها الله-، وهو أبعد المواقيت عن مكة، بينه وبين مكة قرابة أربعمائة وثلاثين كيلو متر، هذا هو ميقات ذي الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة ومن كان على سمت أهل المدينة، يعني: أهل تبوك ونحوهم ومن خلفهم، لا بأس أن يكون إحرامهم من ميقات ذي الحليفة. هذا في فيما يتعلق بميقات أهل المدينة.
الميقات الثاني: «وَلأَهْلِ الشَّامِ: الْجُحْفَةَ» وهذا الميقات إنما سمي بالجحفة؛ لأنه مكان كانت تجحفه السيول، أي: تزيله، وبسبب إشكالية كثرة السيول فيه. وبسبب أمر آخر من وراء ذلك، وهو ما أخبرنا به النبي ، لَمَّا قال: «رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حتَّى نَزَلَتْ بمَهْيَعَةَ، فَتَأَوَّلْتُهَا أنَّ وبَاءَ المَدِينَةِ نُقِلَ إلى مَهْيَعَةَ. وهي الجُحْفَةُ» ، وقد دعا النبي ، فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وفي مُدِّنَا، وصَحِّحْهَا لَنَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ» ، فانتقلت هذه الحمى إلى الجحفة؛ فأصبحت الجحفة وبيئة، من دخلها يُحَمّ خاصة بالزمان الأول، إذا دخل الإنسان إليها أُصيب بالحمى مباشرة، ومع كون السيول أيضا تجحفها، فاتخذ الناس بدلا عنها رابغ، وهي مجاورة لها، الجحفة الآن مهجورة، ولا أحد يحرم من الجحفة، وإنما يحرم الآن أهل الشام من رابغ، ورابع بينها وبين مكة مائة وعشرة كيلو متر، أو قريبا من ذلك.
ثم قال: «وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ» ويسمى أيضًا في بعض الروايات: قرن الثعالب، وهو الآن مسمى بالسيل الكبير، وهو ميقات أهل نجد، والظاهر -والله أعلم- أنَّ هذا الميقات هو أكبر المواقيت، لماذا؟ الظاهر -والله أعلم- أنَّ هذا الميقات لا يشمل أهل نجد فحسب، بل يشمل: أهل نجد، وكل من كان عن شرق نجد، يعني: أهل الصين والهند هؤلاء كلهم يحرمون من هذا الميقات، هذا أمر، وأمر آخر وهو أنَّ النبي لم يذكر في هذا الحديث، ولا في حديث ابن عمر ميقات العراق، والذي يسمى عند الناس الآن "ذات عرق"، وقد جاء ذكره في حديث رواه الإمام مسلم، من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رجح الإمام مسلم في التمييز أنَّ هذا الحديث إنما هو موقوف على عمر -رضي الله عنه-، وأنَّ من وَقَّتَ هذا الميقات إنما هو عمر وليس رسول الله ، وهذا هو الصحيح الذي يقطع به كبار العلماء.
ومن أجل ذلك فإنَّ الإمام البخاري قال: (بابٌ ذَاتَ عِرْقٍ لأهلِ العِرَاقِ) ثم أورد فيه الأثر، أنَّ أهل العراق جاءوا إلى عمر -رضي الله عنه- فقالوا: "يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّ رسولَ الله حَدَّ لأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنا وَهْوَ جَوْرٌ عنْ طَرِيقِنَا" و "جَوْرٌ عنْ طَرِيقِنَا" معناه أنهم كانوا يحرمون منه سابقًا، يعني على هدي الصديق -رضي الله عنه-، وكانوا يفهمون أنَّ النبي لَمَّا وَقَّتَ "قرن" لأهل نجد؛ أنه شامل لأهل العراق. لماذا؟ لأنَّ العلماء يقولون: إنَّ نجدًا لكل من كان عن يمين المدينة، ألم يقل النبي : «اللَّهُمَّ بارِكْ لنَا في شامِنَا، وفي يَمَنِنَا. ثم قالوا: وفي نَجْدِنَا؟ قال: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ والفِتَنُ، وبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» ، وقال بعض العلماء: إن "نجد" ها هنا يُراد بها العراق جيدا! فنقول: إذا كان "نجد" هنا يُراد به العراق، ماذا عن نجد في حديث المواقيت، ماذا يراد بها؟
الظاهر أنَّ "نجد" يُراد به كل ما كان عن يمين المدينة، فكل ما كان عن يمين المدينة يدخل في مسمى "نجد"؛ لأنَّ "نجد" إنما هو ما ارتفع ؛ فإذًا "نجد" المعروفة الآن والعراق، كلها داخلة في مسمى "نجد"، وهذا يُرد به على ما قاله بعض العلماء، وقد خالف بعض الصحابة -رضي الله عنهم- مثل: ابن عمر لَمَّا سئل أين ميقات العراق؟ فقال: إنه لم يكن ثَمَّ عراق! فيقال كذلك: إنه أيضًا لم يكن ثَمَّ شام، وَقَدْ وَقَّتَ النبي الشام، إذا أردنا الرجوع إلى هذا.
لكن الصحيح -والله أعلم- أنَّ ميقات "نجد" كان ميقاتًا لأهلِ "نجد" ولأهل "العراق"، فكانوا كلهم يُحرمون منه، ولهذا وَقَّتَه النبي لهؤلاء جميعًا، ولكن شُقَّ عليهم في عهد عمر -رضي الله عنه- ورأوا أنهم ينحرفون يسيرًا عنه، والحقيقة أنَّ المسافة بين "السيل الكبير" وبين ميقات "ذات عرق" مسافة ليست ببعيدة، قرابة مائة كيلو متر، لكنها في الزمان الأول كانت شاقة، يعني: تُعد عندهم مسيرة مرحلتين، فَوَقَّتَ عمر -رضي الله عنه- لهم قرن.
ومن المعلوم عند العلماء -رحمهم الله- أنه يجوز للإنسان أن يحرم دون ميقاته، يعني: لو أنَّ رجلاً من أهل "المدينة" أحرم من بيته، هل يجوز؟ نعم، يجوز بالإجماع وليس هناك خلاف بين العلماء، ولو أنَّ رجلاً من أهل "نجد" ذهب مع جهة طريق الهدى، إذا ذهب الإنسان من أهل نجد مع طريق الهدى في الطائف، فيجد الميقات الآخر، وهو ميقات "وادي محرم"، وهو جزء من ميقات "السيل الكبير"؛ لأنه هو طرفه الآخر، فلو أنَّ الإنسان أحرم قبل هذا الميقات شيئًا يسيرًا، هل يكون إحرامه صحيحا؟
نقول: نعم صحيح ولا يضر، ما دام أنك قد أحرمت، لكنه على الصحيح خلاف السنة، والمفروض أن تحرم من الميقات الذي تمر عليه، لكن تحرم قبله ما في خلاف بين العلماء لا يوجد خلاف بين العلماء، وهذا الإحرام يعد إحرامًا صحيحًا منعقدًا.
فإذًا عمر -رضي الله عنه- لعله علم ذلك، وقال: إن هؤلاء نوقت لهم ميقاتًا قبل ذلك يحرمون منه، حتى يكون تسهيلا لهم.
{ماذا لو مرَّ بميقاتين، أيهما أفضل أن يحرم منه؟ هل الأول أو الآخر؟}.
هذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله- أي: أنَّه لو كان يمر على ميقاتين، أحدهما أبعد من الآخر، أيهما يكون ميقاته؟ والظاهر -والله أعلم- أنَّ الأمر في ذلك على السعة، فيكون كلاهما ميقات له، إن أراد الأول فليحرم منه، وإن أراد الثاني فليحرم منه، أي يحرم من أيهما شاء، ولكن الذي يظهر، والذي متقرر عند العلماء -رحمهم الله- وهو قول جماهير الصحابة -رضي الله عنهم- أنه لا يشرع الإحرام قبل الميقات، خاصة إذا لم يكن ثمَّ حاجة، فإذا كان ثَمَّ حاجة مثل: من يسافر بالطائرة، ومن المعلوم أنَّ الطائرة تمر مرورًا سريعًا، فهي ذات سرعة كبيرة جدًا، وسرعتها ليست كسرعة السيارة المعروفة، ولذا قد تخترق الميقات في دقيقة أو دقيقتين، فلو نبه مثلا المنبه وقال: سنمر بالميقات بعد عشر دقائق أو بعد خمس عشرة دقيقة، يقال: في مثل هذا من باب الاحتياط: يُشرع للإنسان أن يحرم قبله؛ لأنه لا يستطيع أن يتيقن الآن أنه أحرم من الميقات، والإحرام بعد الميقات هذه مسألة خلافية بين العلماء، وجماهير العلماء يرون أنَّ فيها فدية، يرون أنَّ هذا عمل مخالف للشرع بوجه عام.
إذًا، القول الصحيح أنه لا يجوز مجاوزة الميقات لمن أراد الحج والعمرة، إلا وقد أحرم منه، ومن فاته الميقات فعليه أن يعود إليه، وإذا رجع قالوا: يسقط عنه الدم.
قال: (وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ)، إذًا أهل نجد -والله أعلم- ها هنا يشمل: "نجد" ويشمل: "العراق". هذا هو الصحيح.
وقرن المنازل من أقرب المواقيت إلى مكة، تقريبًا هو والسيل الكبير الآن بينه وبين مكة قرابة تسعين كيلو، أو خمسة وتسعين كيلو، وليس أقرب منه إلا ميقات أهل اليمن الذي هو "يلملم"، والآن يسمى بالسعدية.
قال: «وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ»، يلملم هذا هو ميقات السعدية، وهو ميقات أهل اليمن، ومتى ما أطلق لفظ اليمن فإنه كل ما كان جنوب الطائف، فجنوب الطائف كله يسمى لغة "يمن"، فكل من كان في جنوب الطائف فما دونها؛ فإن "السعدية" تكون ميقاتًا لهم، وعلى هذا فأهل جنوب المملكة إنما تكون "السعدية" الآن هي ميقاتهم.
أهل عمان على سبيل المثال ونحوهم، ميقاتهم إن شاءوا في "السعدية" وإن شاءوا في "قرن المنازل"، يعني: كلاهما ميقاتًا لهم، وذلك على حسب طريق سير الواحد منهم، فلو أتى مثلا من طريق اليمن، أصبح ميقاته ميقات "السعدية"، ولو أتى من طريق "نجد" أصبح ميقاته ميقات أهل "نجد".
قال: «وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ» ذكرنا أنه السعدية، وأنه أقرب المواقيت، حوالي ثمانين أو خمسة وثمانين كيلو تقريبا، وهو أقرب المواقيت إلى مكة شرفها الله، وهو يأتي مكة من الجهة الجنوبية.
قوله: «هُنَّ لَهُم» أي أنَّ أهل هذه المواقيت يحرمون منها، «وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» فلو أنَّ نجديًا كان في المدينة، وأراد أن يُحرم نقول: ميقاتك ميقات أهل المدينة، ولو أنَّ يمانيًا كان في الشام نقول: ميقاتك ميقات أهل الشام.
قال: «هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ»
وهذا قول جليل، وكل قول للنبي جليل، قال: «مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ» وهذا يدل بوجه عام على أنَّ الميقات لا تجوز مجاوزته لمريد النسك إلا بإحرام، وأمَّا من لا يريد نُسكًا؛ فإنه لا يُلزم بالإحرام، وقد ثبت عن النبي في حديث مالك عن الزهري، عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبي دخل مكة عام الفتح وعليه المغفر، والمغفر تغطية رأس؛ فَدَلَّ على أنَّه لم يكن مُحرمًا، مع أنَّ النبي كان موعودًا من الله بفتحها، ولذا لا يأتي واحد ويقول: إنَّ النبي لم يحرم؛ لأنه ما كان يدري هل سيحصل له الفتح أو لا؟ نقول: بل كان يعلم يقينًا أنه سيحصل له الفتح .
فإذا الصحيح -والله أعلم- أنه يجوز مجاوزة الميقات لمن لا يريد النسك، ولكن لو عقد النية من حين ما خرج من بيته، فقال: أنا خارج للحج أو العمرة، نقول: لا يجوز لك تجاوز الميقات إلا بإحرام حج أو عمرة.
{ماذا لو تجاوز الميقات وفي حينها عقد النية؟ يعني: حينما كان مارًا بالميقات لم يعقد النية}.
هذه المسألة وقع فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- وكلهم يقول: إن هذه النية، نية صحيحة، وأنَّ حجه أو عمرته صحيحة، لكن هل يجب عليه دم؟ أي: فدية؟ هل عليه أن يعود؟ قالوا: إذا عاد ورجع سقطت عنه الفدية، وهذا على قول الجماهير من العلماء، متى ما عاد وأحرم سقطت عنه الفدية، ولكن لو لم يعد، يعني هو قال: الآن وصلت إلى مكة، والرجوع إلى الطائف طريق طويل، ولا أستطيعه.
فيقال: هذه مسألة خلافية بين العلماء على قولين: منهم من يقول بوجوب الفدية، وهذا قد نقل عن ابن عباس، وهو قول الأئمة الأربعة، ومنهم من يقول: عليه التوبة إلى الله -عز وجل-، وأنه قد أذنب وارتكب معصية، وهذا القول أكثر في الورع. لماذا؟
لأن الجمهور لَمَّا قالوا بالفدية كان الأمر عندهم ليس أمرًا محرمًا، بل هو خلاف الأولى، والفدية تجبر النقص، وقد تجد كثيرا من الناس يتجرأ على المجاوزة، ومما يدل عليه أنَّ كثيرًا من مناسك الحج، إنما تجرأ عليها الناس بدعوى الفدية، فتراه يلبس الثوب ويجبر النقص بالفدية، أو تراه لا يرمي الجمرات ويقول: أفدي، أو لا يبيت في منى ويقول: أفدي، أو لا يبيت في مزدلفة، ويقول: أفدي، وكل هذه أمور يصنعها ويقول: أفدي، والحمد لله الفدية بسيطة، خاصة إذا قلنا أن الفدية ليست بكل الأحوال شاة؛ لأنَّ النبي في حديث كعب بن عجرة ما أوجب الفدية شاة، قال: "أطعم شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين" ولا تجبرها بدم؟
إذًا الفدية موزعة، صيام ثلاثة أيام سهل، وإطعام ستة مساكين أسهل، فتراه يقول: بالنسبة لي أجمع كل هذه الأمور والحمد لله، ولكن لو قال الإنسان: لا ليس فيها فدية؛ لأن الشرع ما جاء بها، ولم يذكر الفدية في هذه، وإنما ذكرها في حلق الشعر، ففي حلق الشعر وكعب بن عجرة كان محتاجًا، أمره بالحلق وأوجب عليه الفدية، والأعرابي تَطَيَّبَ جاهلاً ولم يأمره النبي بالفدية، فيقال: لا في مثل هذه، وهذا قول جماعة من العلماء -رحمهم الله- قالوا: أنت ها هنا آثم، وحجك فيه نقص، وعليك التوبة الى الله -عز وجل-، فكان هذا أبلغ في الزجر والردع، وأصبح كثير من الناس يقول: لا، لن أترك طواف الوداع، ولن أترك رمي الجمرات، ولن أترك المبيت في منى، ولن البس المخيط لماذا؟ لأنه يتحاشى الإثم، والإثم يتحاشاه كثير من الناس خاصة في مثل هذه العبادة الجليلة، وأمَّا موضوع النقص الذي يجبر بالفدية؛ فإنهم لا يتحاشونه.
فاذًا هذه المسألة ينظر لها بعين الاعتبار.
قال: «وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ: فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» الميقات الخامس: مكة، وهو ميقات أهل مكة، ومن كان دون المواقيت، يعني: أهل الطائف على سبيل المثال، الذين من وراء التفتيش الموجود الآن، تفتيش الكر، هذا يحرم من مكانه ولا يحتاج أن يذهب إلى "ذات عرق".
إذا بدأنا الآن طريق الكرة في طريق على مكة، كل هؤلاء سكان اليمين واليسار؛ هؤلاء يُحرمون من أماكنهم وحتى أهل مكة.
قال: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ» يعني: أهل مكة إنما ينشئ من مكة، لكنهم يقولون: إنَّ المكي في العمرة يجب عليه إذا أراد أن يحرم أن يخرج إلى أدنى الحل، بخلاف الحج.
الشرائع الآن من الحل أو من الحرم؟
{على حسب بعضها وبعضها}
إذا كان من أهل الشرائع التي في الحرم يخرج إلى الحل، وقد قال بعض أهل العلم: إنَّ هذا النصُّ نصٌّ عامٌ، وأن دعوى أنه يجب أن يجتمع في المحرم حل وحرم في إحرامه، دعوة ما لها دليل، ولماذا لم يقولوا بهذا في الحج؟ قالوا: يا مكي أحرم من مكانك، انت في وسط الحرم أحرم، ولا تحتاج أن تخرج، لماذا؟ قالو: لأنك إذا جاء عرفة خرجت، فاجتمع في حقك حل وحرم، إذًا أحل من مكانك، لكن ها هنا قالوا: العمرة ليس فيها خروج، وإذا ما خرجت الحين تذهب مباشرة وتعتمر وما في شيء من المناسك فيها تخرج به إلى الحل.
يقال هذا الاصل من أين؟ نحتاج إلى دليل واضح على تثبيت هذا الأصل، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن قال: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» يعني: أن أيها المكي من بيتك بكل الأحوال، ولا يجب عليك الخروج من إلى الحل، وإنما قال بهذا القول بعض العلماء، لأجل أنَّ النبي في قصة عائشة لَمَّا أمرها أن تذهب إلى التنعيم، فقد يقال -والله أعلم: إن عائشة -رضي الله عنها- لم تكن من أهل مكة، فاذًا هذا معنى قد يلحظ فيها، والنبي لَمَّا قال: «حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» ولكن يجب عليهم الخروج إلى أدنى الحل، فهذا المعنى ينبغي حقيقة أن يلاحظ. هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه يقال في أهل مكة بوجه عام: إنه يُشرع لهم العمرة، ولكن الأولى في حقهم الاستكثار من الطواف دون العمرة، وهذا ما عليه جماهير العلماء -رحمهم الله- حتى قال طاووس، وكان مكيًا: "ما بين أن تذهب فتعتمر فتحرم ثم تعتمر، أكون قد فرغت أنا من سبعين شوط، وهذا أحب إلي"، يعني: كأنه يقول: فرغت من عشرة أسابيع، وهذا أفضل؛ لأنَّ هذا من أجل العبادات التي يتعبد بها لله -عز وجل-.
ومما يلاحظ حقيقة أنَّ جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- الذين كانوا من أهل مكة، وكانوا يستكثرون من الطواف، ولا يعرف عنهم كثرة الاعتمار، فأنس نعم لم يكن مكيًا وإنما كان بصريًا؛ لأنه كان إذا اعتمر فَحَمَّمَ رأسه، يعني: اسود، وبدأ يظهر الشعر أحرم بعمرة، وهذا -كما قالوا- هو أدنى ما جاء عن الصحابة فيما بين العمرة إلى العمرة، وتحميم الرأس تأخذ شهرًا أحيانًا، فإذًا هذا يظهر -والله أعلم- من الاستكثار من العمرة لأهل مكة ليس هو الأولى، بل يقال في حق أهل مكة: إنَّ الأولى الاستكثار من الطواف.
{أليس هذا يخالف حديث النبي تابعوا بين الحج والعمرة؟}
نقول: ما هو ضابط المتابعة؟ حينما نقول نحن: أما الحج فإنَّ ضابط المتابعة عند جماهير العلماء، كل عام، وأمَّا ضابط المتابعة في العمرة فإن جماهير العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا فيها، ولكن أغلبهم قال: الأصل أنَّ العمرة في العام الواحد تكون من المتابعة؛ لأن ما أكثر من ذلك هو عنت، قد لا يتثنى ولا يتأتى، فإذا قلت: أرى أن ضابط المتابعة بين العمرة أن تكون كل شهر، نقول: ما يتأتى هذا لأحد من الخلق، ما يتأتى إلا الواحد بعد الواحد.
خاصة أن هذا الحديث قد وقع على من؟ على الزمان الأول، فأهل المدينة يستحيل في حق الواحد منهم، -نقول: يستحيل فعلا أن يحرم كل شهر، أن يذهب من المدينة إلى مكة كل شهر للعمرة ثم يرجع؛ لأنَّ المسيرة مسيرة عشرة أيام في الذهاب، وعشرة أيام في الرجوع.
فإذا المتابعة بين العمرة -والله أعلم- هي على ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- والمنقول عنهم أنَّ الواحد منهم كان يعتمر في العام مرة واحدة، وهذا هو معنى المتابعة بين العمرة، وهذا يأتي على أهل مكة، فأهل مكة كان الواحد يعتمر مرة واحدة في العام تكفيه، وكان يكثر من الطواف.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ». قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»)}.
هذا هو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- السابق الذي ذكرناه مع حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وقد آخره المصنف -رحمه الله- لأن ابن عمر -رضي الله عنه- لم يذكر من نقل له عن النبي
قوله: (وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ، ولم أسمعه من رسول الله »)}.
فإذًا هذا الحديث هو كالموافق لحديث ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه-، وينبغي أن يقال: إنَّ العمرة بوجه عام ليس لها ميقات زماني؛ لأنَّها تشرع في كل العام، وليس هناك بعض الأشهر التي ينهى فيها عن العمرة، وقد كان المشركون من قريش يرون أنَّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وهذا يدل على أن أشهر الحج متقررة عندهم، وهي: شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة، فكانوا يرون أنها من أفجر الفجور في الأرض، فلمَّا أمر النبي أصحابه بأن يُحلوا بالعمرة، وأن يتركوا القِران في الحج، ويجعلونه تمتعًا؛ ثقل ذلك عليهم. لماذا؟
لأن حجهم الآن سيستحيل إلى عمرة متمتعين بها إلى الحج، وقد أصبحت الآن منفصلة، فكان شاقًا عليهم، فأراد النبي أن يكسر فيهم هذه العادة التي كانت عادة جاهلية ما أنزل الله -عز وجل- بها من سلطان، ولهذا أغلب عُمَرُ النبي لم تكن كلها فيه شهر ذي القعدة، الذي هو من أشهر الحج، والتي يرون أنها من أعظم الفجور في الأرض، فاعتمر النبي العمرة الأولى التي هي عمرة الحديبية في السنة السادسة، وكانت في شهر ذي القعدة، ثم عمرة السنة السابعة التي تسمى عمرة القضاء؛ لأنها كانت قضاء، وكانت أيضا في شهر ذي القعدة، ثم في السنة الثامنة لَمَّا فتح الله -عز وجل- على نبيه مكة ثم خرج منها من الطائف أقبل محرمًا بعمرة، تسمى عند العلماء بعمرة الجعرانة، فكانت أيضًا في شهر ذي القعدة، يقولون: الظاهر -والله أعلم- أنه قد أوقعها ابتداء في آخر شهر شوال، ثم دخل بها في ذي القعدة، والعمرة الرابعة هي التي كانت مع حجته، ومن المعلوم المتقرر بالإجماع عند العلماء أن حجة النبي إنما كان عقدها في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، فكلها توافقت في شهر ذي القعدة، وذلك تقريرًا من النبي لكسر هذه العادة الجاهلية.
هل لرمضان مزية على غيره من الأشهر؟
نقول: نعم، لأنَّ قول النبي : «عُمرةٌ في رمضانَ تعدِلُ حَجَّةً» ، يعد دليلاً واضحًا وصريحًا على أنَّ النبي مَيَّزَ هذا الشهر، ولم يقل النبي لِأُمِّ سِنَانٍ الأنْصَارِيَّةِ -رضي الله عنها- أنَّ هذا خاص بك، وإنما جعله النبي عامًا، وقد ثبت في مصنف ابن أبي شيبة أنَّ عمر -رضي الله عنه- أقبل مُحرمًا بعمرة في رمضان، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا المعنى كما أنه ثابت في سنة النبي ، كذلك أيضا متقرر من فعل وعمل الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
{قال -رحمه الله: (باب ما يلبس المُحْرِمُ من الثيابِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لايَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إلَاّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ».
وَلِلْبُخَارِيِّ: «وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ، وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ»)
}.
قول المصنف -رحمه الله: (باب ما يلبس المُحْرِمُ من الثيابِ) هذا التبويب إنما أتى على السؤال الذي سأله الرجل للنبي ، فإنَّ الرجل قد سأل ما يلبس المحرم من الثياب، ولم يجبه النبي بما ظنه هو، يعني: لم يقل له النبي البس إزارًا أو البس رداءً، وإنما أجابه بالأمور التي تُمنع عن المحرم، وما سوى ذلك فإنه مرخص.
قال النبي : «لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ» أي أنَّ السؤال كان ما الذي يلبسون؟ فكانت الإجابة: لا يلبس القمص.
الأمر الآخر: المحرمات بوجه عام في اللباس للحاج على ثلاثة أقسام:
قسم يحرم على الرجال خاصة، وقسم يحرم على النساء خاصة، وقسم يشترك فيه الرجال والنساء جميعا، وهذا هو الأغلب، أي: أنَّ الأغلب أنهم يشتركون في اللباس فيهم حتى يرد دليل عليه التخصيص، أي: يخصص هذا من هذا.
قال ابن عمر -رضي الله عنه: قال رجل لرسول الله : ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله : «لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ» والقميص هو الثوب، سواء كان الثوب مقصوص الكمين أو سابغ الكمين، هذا كله يسمى قميصًا، وقد كان القميص هو أحب الثياب إلى النبي ، ولَمَّا سئلت أم سلمة وعائشة -رضي الله عنهما- قالتا: "كان أحب الثياب إلى النبي الحبرة"، والحبرة هي القميص المعروف لماذا؟ قالوا: لأنه أبلغ في الستر.
قال : «لايَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ»، والعمامة هي التي تلف على الرأس، وإذا كان النبي قد نهى عن لبس القميص؛ فإنه يشمل أيضًا كل لباس خيط على قدر العضو، يقوم مقام القميص الثاني له، ويسمى قميصا؛ لأنه مخيط على قدر العضو، والسراويل والمشالح وهذه كلها تدخل في هذا المعنى، وهو قول النبي : «لايَلْبَسُ الْقَمِيصَ».
{شيخ، الإحرام الذي يأتي بالمطاط؟}.
سنذكره بعد قليل. جميل.
قال: «وَلا الْعَمَائِمَ» العمائم هي التي توضع على الرأس، ويقوم مقامها كل ما يوضع على الرأس، سواء من الأشمغة أو الطاقية، أو البرانس التي تلبس في الثياب المغربية، ونحو ذلك، وتجريد الرأس يعد من أعظم المعاني في الحج؛ لأنه يعني تمام العبودية لله -عز وجل-، ولذا فالرأس الأصل فيها أن يكون مجردًا لا يُغطى بشيء، ولهذا حتى الميت لَمَّا وقصته الدابة، قال النبي : «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» ؛ لأنَّ الأصل في المحرم أن لا يخمر الرأس، فإذًا هو مضح لله -عز وجل، ولهذا جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "أضْحَ لمن أحرمتَ له" ، وأضح يعني: أن تخرج في الضحى والحر لمن أحرمت له، وقد كان السلف -رحمهم الله- يزيدون على ذلك، وقد كان من السلف من كان ينهى حتى عن الاستتار بالمحامل، التي هي مثل الهوادج وغيرها، يركبون فيها، ولهذا هذا هو مذهب الإمام مالك -رحمه الله-، وإلى فترة قريبة كان المالكية يأتون في سيارات ليس فيها مظلات، حتى يكونوا قد أضحوا لمن أحرموا له، وهي موجودة حتى الآن، وهذه تعمل بها بعض المذاهب التي ليست سنية الآن.
لكن الصحيح في مثل هذا -والله أعلم- أنه لا بأس بتَظْلِيل الرأس، ومما يدل عليه ويقرره أنَّ النبي قد رمى جمرة العقبة، وكان بلال يظلله بردائه ، فثبت أنَّ التظليل ليس منهيًا عنه، ولا يدخل في تغطية الرأس، وكذلك أخذ الشماسة والمظلة، ونحو ذلك، وركوب السيارة والاستظلال بالخيمة، هذه كلها لا بأس بها.
{كذلك النبي ضربت له خيمة}.
نعم النبي بلا شك أنه بات الفترة كلها في خيمة، لكن المالكية ما ينازعون في هذا المشهد، ولكن ينازعون فيما يتعلق بالتنقل، فيقولون: إنما تنقل النبي مضحيًا، ولم يكن تحت هودج، وقد كان يمكنه أن لا يتنقل إلا بهودج، فنقول: هذا هو الأفضل -خاصة في التنقل- أي: أن يتنقل الإنسان بلا مظلة أو نحو ذلك، ولكن لو أنه فعل ذلك لم يكن في ذلك عليه حرج.
قال: «وَلا السَّرَاوِيلاتِ» السراويلات هي التي تلبس في الجزء السفلي، وتكون مفصلة على قدر الأعضاء، وهي معروفة، وقد كانت مُقررة أيضًا عند العرب، ولكنها لم تكن غالب لباسهم، وإنما كان غالب لباسهم: الإزار، والإزار وهو ما يلف ويسمى الآن: فوطة، أو يسمى في اليمن الوزرة، والوزرة هي لباس العرب، وهي مأخوذة من الإزار، والوزرة لفظ عربي، والوزرة تلبس الآن في اليمن، وتلبس حتى عند الإماراتيين وغيرهم، وكذلك أهل إندونيسيا يلبسونها، وقد أخذوها من أهل اليمن لَمَّا وَفِدَ عليهم تجار اليمن، وهم الذين علموهم ونقلوا إليهم الإسلام، فأخذوها من عاداتهم.
فإذًا الإزار هو لبس العرب، والنبي نهى عن لبس السراويل، والسراويل أصلا لم يكن يلبس عند العرب كثيرًا، ولهذا لا تستطيع أن تنقل نصًا صريحًا عن النبي في لبس السراويل، وأمَّا ما جاء عنه أنه اشترى من رجل سروالاً وقال: "زن وأوف"، فهذا الحديث فيه خلاف، فقد ذكره الإمام أبو داود -رحمه الله- لكن السراويلات -بوجه عام- من اللباس الذي لم يكن مُشتهرًا عند العرب.
وأمَّا لماذا قول النبي : «وَلا السَّرَاوِيلاتِ»؟ فلأنَّ السراويلات لباس مفصل على قدر الجسد.
تبقى ما يسمى بـ "النقبة أو التنورة" التي ذكرتها وسألت عنها قبل قليل، وهي: إزار ولكنه متصل من كل أطرافه، وفيه مطاط، هل يدخل هذا في النهي أو لا؟
الذي أراه -والله أعلم- أنه يدخل في النهي. لماذا؟ لأنه مفصل من كل الجهات، ومحيك من كل الجهات.
{هل الحزام مفصل فهل يمنع منه؟}
لا، لأنَّ الحزام منفصل عنه، ومع أنَّ الحزام قد وقع فيه خلاف أيضا عند بين العلماء -رحمهم الله- وهذا مما يحقق ويقرر هذا المعنى الذي ذكرناه قبل قليل، وهو أنَّ هذه المسألة حقيقة من المسائل التي ينبغي للإنسان أن يتورع عنها؛ لأنَّ الحزام قد نهى عنه بعض السلف، وقال: إن الأصل في ذلك أن تربطه لأجل الحاجة.
فإذًا النقبة -والله أعلم- الأولى أن تترك؛ لأنها نوع من اللباس، وهي مخيطة على قدر الجسد.
قال: «وَلا الْبَرَانِسَ» البرانس هي الثياب التي تكون أشبه بالثياب المغربية، وهي الثوب المتصل به ما يغطي الرأس.
قال: «وَلا الْخِفَافَ» والخفاف هي المخيطة من الجلود، التي تغطي الكعبين.
قال: «إلَاّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»، وفيه نهى النبي عن الخفاف، وقد بيناها قبل قليل، وهي ما كان من جلد، ويكون مغطيا الكعبين، فإن كان دون الكعبين فقد خرج -والله أعلم- عن مسمى الخف، ولهذا لَمَّا أمر النبي بلبس النعلين -الأصل في الحج أن يكون لبس النعال-.
طيب ما هي النعال؟ النعال: هي الأحذية المعروفة، سواء كان لها ما يسمى بالصندل أو كانت مفتوحة بلا صندل، هذه كلها تسمى: نعالاً بوجه عام، ويدخل في مسمى النعال الخفاف المقطوعة أو التي دون الكعبين، لماذا؟
لأنها مما لا يجوز المسح عليه، فإذا لم يكن يجوز المسح عليها؛ فإنها قد انتقلت من مسمى الخف إلى مسمى النعل، ولهذا قال النبي : «إلَاّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»، وقد كان الإمام أحمد يقول: لا يقطعهما.
هل قول أحمد هذا خلاف للنبي؟
لا، حاش للإمام أحمد أن يخالف النبي ، وقد قال الخطابي -رحمه الله: إني أتعجب من مخالفة الإمام أحمد -رحمه الله- لهذا الحديث، مع أنه لا يكاد يخالف سنة عن النبي ، وليس من سنة إلا وقد بلغت أحمد -رحمه الله-، ولكن يقال: إنَّ من وراء ذلك أمرًا لم يعلمه الخطابي، وهو أنَّ الإمام أحمد نظر إلى حديث أبي الشعثاء عن ابن عباس الذي فيه أن النبي قال في عرفة: «مَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» ، ولم يذكر القطع، وقال: حديث ابن عباس جاء متأخرًا على حديث ابن عمر؛ لأنَّ حديث ابن عمر قد قاله في المدينة؛ لأنه سُئلَ في المسجد، بينما حديث ابن عباس كان متأخرًا، وقال: حديث ابن عباس قد قاله في مجمع عام ولم يذكر القطع؛ فدل على أنَّ القطع أصبح رخصة، وإذا كان هذا فإنَّ هذا يزيد من اليقين الحمد لله والثقة بأن لبس الآن الأحذية الرياضية ليس داخلا في النهي، وما يقال: لا هو داخل في النهي إلا لمن لم يجد النعلين، نقول: لا، لبس الأحذية الرياضية أصلاً ليست من ضمن الخفين ابتداء، وأمَّا من لم يجد النعل؛ فإنه يجوز له لبس الخف حتى لو لم يقطع.
لعلنا نتوقف هنا، ونكمل -إن شاء الله عز وجل- في الدروس القادمة.
{أحسن الله إليك شيخنا، وفتح الله لكم، وزادكم من فضله.
أشكركم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، أستودعكم الله ونكمل ما تبقى في المجلس القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك