{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، حيَّاكم الله طلاب العلم، حيَّاكم الله وبيَّاكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، حياكم الله في برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي مع فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حيَّاكم الله شيخ المفضال}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{الله يبارك فيكم. نستأذنكم شيخنا في البداية.
نبدأ بسم الله، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فما زال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- يذكر الأحاديث الواردة في أحكام يوم الجمعة، والحقُّ -بوجه عام- أن يُعلم أنَّ الباب الذي تتابعت وتكاثرت فيه الأحاديث عن رسول الله ﷺ، إنما يدل ذلك على آكدية هذا الباب، وعلى أنَّ الأمة عُنيت بنقله، ولهذا إذا نظرنا إلى يوم الجمعة رأينا أنه أصل قرآني، ثم جاءت السنة بأحاديث كثيرة عن رسول الله ﷺ في الجمعة، سواء في كيفية إقامة صلاة الجمعة أو في فضل ذلك اليوم أو في فضل الرَّواح له، ومن أصحِّ وأعلى وأجلِّ ما ثبت عن رسول الله ﷺ في فضل الجمعة حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ»، الفضل هذا مُقيد بالاغتسال، فإذًا مَن توضأ لم يدخل في هذا الفضل.
قال: قال رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً» وجاء في بعض الروايات: «ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى» .
قال: «فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً»، البدنة هي الناقة، وهي أفضل الهدي الذي يُتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً» وهي دونها في المنزلة.
قال: «وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ»، وهو أحسن الكباش.
قال: «وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً»، والناس يتفاوتون على تفاوت غدوِّهم يوم الجمعة، وإنما منزلتهم من الله -عَزَّ وَجَلَّ- في النَّظر إليه يوم القيامة بمنازلهم من الجمعة، وقد جاء هذا في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وفيه أنَّه بَكَّرَ يوم الجمعة، فوجدَ ثلاثة قد سبقوه، فقال: "رابعُ أربعةٍ، وما رابعُ أربعةٍ ببعيدٍ"، ثم ذكر عن رسول الله ﷺ قوله: «إنَّ الناسَ يَجلِسونَ يومَ القيامةِ منَ اللهِ على قَدْرِ رَواحِهم إلى الجمُعةِ» ؛ لأنَّك إنما تتقرب من الله -جَلَّ وَعَلَا- أنت ما تقرب من الإمام، بل أنت تقرب من رب العزة والجلال، هذا معنى.
المعنى الآخر من المعاني التي ينبغي أن تناقش في مثل هذا الحديث، ولا يقصد بها التهوين البتة، هذا الكلام الذي سأقوله الآن، لا يُظن أنه يقصد به ثني الناس عن الخير، قوله: «ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى»، هل المراد بالساعة الأولى ها هنا الساعة الأولى من طلوع الشمس؟ أو أنَّ المراد به ساعات مُتقاربة بعضها قبل بعض، قبيل الزوال؟
هذا مما وقع الخلاف فيه بين العلماء، وكلٌ أدلى بدلوه في مثل هذه المسألة، والظاهر -والله أعلم- في هذا المعنى ما قرَّره مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، من أنَّ الرواح إنما هي ساعات مُتقاربة قُبيل الجمعة.
يعني نقول مثلًا: إذا كانت الجمعة في الساعة الثانية عشرة، تكون الساعة الأولى تبدأ من الساعة الحادية عشر أو من الساعة العاشرة والنصف.
فإن قال قائل: من أين؟
قلنا: إنَّ مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- نقل عمل أهل المدينة، وأهل المدينة إنما كان العهد بهم قريبًا، فمالك -رَحِمَهُ اللهُ- توفي سنة تسعة وسبعين ومائة، وهم أكثر الناس اتباعًا لآثار الصحابة والتابعين، فذكر أنَّ عمل الناس إنما كان على هذا المعنى، وهو أنهم إنما كانوا يروحون إذا تقارب.
قالوا: مما يدل على ذلك أنَّ عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو الذي سنَّ الأذان الأول، وإنما سنَّ الأذان الأول حتى يرجع الناس من أعمالهم ومن أسواقهم، ومن ثم يغتسلون ويذهبون إلى المسجد، فدلَّ -والله أعلم- على أنَّ هذا المعنى هو المتقرر، ومما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ قال: «وَمَنْ رَاحَ»، والرواح إنما يكون قريب الزوال، ولم يقل: "مَن غدا"، فلو أراد الذهاب من أول النهار لقال: "من غدا" ولكنه إنما قال: «وَمَنْ رَاحَ»، فهذا المعنى مما ينبغي أن يُلتفت إليه، ولا يعني هذا أنَّ الإنسان لا يُثاب على ذهابه إلى الجمعة، نقول: لا، بل إذا بكَّر أو صلى الفجر في مُصلَّاه ووصل الجمعة فهذا خير، لكن نحن نريد أن نُبين للناس أنَّ رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- واسعة، وأنَّ بعض الناس يقول ما دام أني الآن استيقظت في الساعة الحادية عشر ما عاد لي إلا البيضة، نقول: لا، بل بالعكس، إذا استيقظت في الحادية عشر فبكِّر، لعلك تصيب البدنة أو البقرة أو الكبش الأقرن.
فإذًا، هذا المعنى مما ينبغي أن يُقرر، ويقال: إنَّ الإنسان لو وطَّن نفسه أن يذهب يوم الجمعة من الساعة العاشرة والنصف أو العاشرة لقلنا: إنَّه -إن شاء الله- سيحظى بهذه البدنة؛ لأنَّه قد راح؛ ولأنَّ هذا هو ما ذكره مالك -رَحِمَهُ اللهُ- وبيَّن أنَّه عمل أهل المدينة الذين ينقلونه، وهم لا ينقلون الآن حديثًا قد يقع الخطأ فيه، يعني: هل يعقل أن يحافظ أهل الرياض على سنة من هدي النبي ﷺ -على سبيل المثال- وذلك بعد ألف وأربعمائة سنة من موت النبي ﷺ، ويتركها أهل المدينة بعد مائة وتسع وسبعين سنة من وفاة النبي ﷺ أو أقل من ذلك؟! معاذ الله! وليس هذا من إحسان الظن بالسابقين الأولين، ولو كان هذا موجودًا عند أهل المدينة لأخبر به مالك -رَحِمَهُ اللهُ.
فإذًا يُنظر في هذا الحديث إلى تفسير وعمل الصحابة -رضي الله عنهم- فنرى أنَّ عمل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنهم لم يكونوا يبكِّرون من أول من أول النهار، وإنما كانوا إذا قارب الوقت ذهبوا إلى المساجد؛ فنالوا بذلك -إن شاء الله- الفضل الذي أخبر به رسول الله ﷺ.
قال: «فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ»، بمعنى أنه بحضور الإمام تنقطع هذه الفضائل التي هي فضائل الصدقة، وفي هذا ما يدل أيضًا على أنَّ يوم الجمعة مما تشرع فيه الصدقة؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا أخبر بالفضل لم يقل: "كتب الله -عَزَّ وَجَلَّ- له ألف حسنة"، وإنما أخبر بالصدقة، فقال: «فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً»، حتى يتصدق بثمنها أو بلحمها على الفقراء والمساكين.
وفي معنى آخر: وهو أنه يُشرع في هذا اليوم الإطعام؛ لأنه ذكر التقريب، فالمقصود بقوله: «فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً»، أي: تطعهما، فإذًا هذا اليوم ممَّا يشرع فيه الإطعام.
ومما يقرب هذا المعنى: أنَّ يوم الجمعة يوم فرح عيد، وقد شرع النبي ﷺ في يوم العيد الطعام، وكان النبي ﷺ يقول في أيام التشريق: «أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» . وفي رواية زاد فيها: «وذكرٍ لله».
وفيه إظهار شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ترى -يا إخوان ويا أخوات- كونك تتصدق بالمال هذا معنى جليل، لكن كونك تُطعم كما يفعله بعض المحسنين حينما يفرغ مثلًا من صلاة الجمعة، فتجد أنه يفتح بابه للناس ويطعمهم؛ نقول: هذا من أعظم ما يكون من تعظيم شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد ذكر سهل بن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صنيع الأنصارية التي حببتهم في يوم الجمعة، فقال: "إنَّا كُنَّا نَفْرَحُ بيَومِ الجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِن أُصُولِ سِلْقٍ لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ في أرْبِعَائِنَا، فَتَجْعَلُهُ في قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فيه حَبَّاتٍ مِن شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ بيَومِ الجُمُعَةِ مِن أجْلِ ذلكَ، وما كُنَّا نَتَغَدَّى ولَا نَقِيلُ، إلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ" ، فدلَّ ذلك على أنَّ من هدي الصحابة في عهد النبي ﷺ أنهم كانوا يخصُّون يوم الجمعة بطعام، وهذا من تعظيم شعائر الله التي يغفل عنها كثير من الناس.
كثيرٌ من المسلمين والمسلمات في بعض البلدان ربما تكون عندهم أحيانًا ما يسمونها بالطقوس، أنت حينما تجعلها طقوسًا قد أخرجتها عن المعنى العبادي، عندهم يوم الجمعة نوع من التَّزين والطعام، نقول: هذه كلها من الأمور المشروعة، وكلها مما تُثاب عليها، لو أنك قصدتَّ بها تعظيم شعائر الله.
ومن تعظيم شعائر الله تعظيم هذا اليوم الذي هو يوم الجمعة، فينبغي للإنسان أن يُعَظِّمَه بأن يُظهر الفرح فيه وبأن يوسع على عياله فيه، يخرجهم إلى اللهو وما فيه بأس، النبي ﷺ رخَّص للحبشة أن يلهو بحرابهم بالمسجد؛ لأنَّه قال: «إنَّ لِكُلِّ قَومٍ عِيدًا، وهذا عِيدُن» ، فما كان يوم عيد مثل يوم الجمعة يُرخَّص للإنسان في ذلك.
يا أخي لا تجعل يوم الجمعة يمر على أطفالك وعلى أولادك كسائر أيام الأسبوع، فإنَّ هذا مِن تعظيم شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا أيضًا مما يدخل في قلوبهم اليقين والطمأنينة بالإسلام، وأنَّ هذا الدين دين يسر ودين سماحة، فإذا رأوا أنَّ هذا اليوم يوم فيه أكل وفيه شرب وفيه لهو مباح، وفيه شيء يختلف عن بقية الأيام؛ كان في هذا ما يقربهم إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ»، وَفِي لَفْظٍ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ»)}.
حديث سلمة بن الأكوع -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا في هذا الباب عن رسول الله ﷺ كلُّها إنما ذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لغرض بيانِ وقت إقامة الجمعة، وهذا من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، فذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّ الجمعة إنما يكون وقتها بعد الزوال كوقت الظهر، وقاسوا الجمعة على الظهر، وقالوا: لو أقامها قبل الزوال فإنَّه يكون قد أقامها في غير وقتها، كمن صلى الظهر قبل وقتها، وذهب الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- إلى خلاف ذلك، ورأى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال، بل إنه جعل وقتها كوقت صلاة العيد من حين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، قال: لأنَّ الأصل فيها أنها صلاة عيد.
واستدل المصنف على مذهب أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، بحديث سلمة، قال: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ» قال: هذا يدل على أنَّ النبي ﷺ ربما يفرغ أحيانًا من الجمعة وقت الزوال؛ لأنَّ بعد الزوال يكون للحيطان شيء من الظل، فإذا صلاها النبي ﷺ وفرغَ قبل الزَّوال أو حين الزوال؛ خرجوا وما وجدوا شيئًا.
وجاء في بعض الروايات: «كُنَّا نُجَمِّعُ مع رَسولِ اللهِ ﷺ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الفَيْءَ» .
ومما استدل به أيضًا الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ: حديث عبد الله بن زيدان، وفيه أنه صلى مع الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكان يصليها قبل الزوال، وصلاها مع عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قبل ذلك، لكن حديث عبد الله بن زيدان هذا مما وقع فيه خلاف بين العلماء في صحته.
وبناء عليه؛ يقال: ما دام أنَّ الأمر قد وقعَ فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- وهو مما يمكن التَّحوُّط فيه والاحتراز؛ فالاحتراز أن لا توقع الصلاة إلا بعد الزَّوال، هذا هو الاحتراز والاحتياط، خاصة أنَّ هذا مما يوقع اللبس لكثير من النساء في البيوت؛ لأنها تُصلي ظهرًا، ولا تصلي جمعة، وبالإجماع عند العلماء أن صلاة الظهر ما تجوز قبل الزوال، فإذا سمعت الإمام يدخل والخطيب يخطب ربما صلَّت، تحسب أنه قد دخل الوقت، فربما أوقعها ذلك في أن تصلي صلاتها في غير وقتها، ولذا يقال: من باب سد الذرائع، ومن باب الاحتياط للدين، ومن باب التسهيل على المسلمين؛ لأن إيقاعها قبل الزوال قد يكون في مشقة على الناس، فإن كثيرً من الناس لا يكاد يدركها الآن مع كونها تقام بعد الزوال، بسبب أنَّ الناس اعتادوا في هذا اليوم على نوم في كثير من الأحيان.
فإذًا يقال في مثل هذه الصورة: الأحسن والأحوط -والله أعلم- ألَّا تقام صلاة الجمعة، أو ألا يدخل الخطيب إلا إذا زالت الشمس.
{ما الحكم لو دخل الخطيب قبل وقت الزوال لكن الصلاة تكون بعد الزوال؟}.
ما في بأس عندهم، الإشكالية عندهم أنها قد تكون فيها تغرير بالنساء؛ لأنَّ كثيرًا من النساء درجت عادتها أنها حينما تسمع الخطيب يخطب تُصلي، فيكون فيه نوع من التغرير بالنساء، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه ليس فيه مراعاة للتيسير على الناس؛ لأنَّ الأصل جمع الناس بقدر الاستطاعة خاصة في هذا اليوم، ونحن نرى أن الناس -على سبيل المثال- في الأيام التي يكون فيها الزوال متقدمًا كما إذا كان في الساعة الحادية عشرة وثمانية وثلاثين دقيقة في مدينة الرياض؛ تجد أنَّ الحضور للجمعة قليل، ومن يقضيها أكثر، مع أنَّ الفارق عشرين دقيقة، فانظر أثر العشرين دقيقة هذه على الناس في اجتماعهم! فكيف الحال إذا قدمها الإنسان إلى الساعة العاشرة أو الساعة التاسعة وقال: أنا سأعمل بمذهب الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في مثل هذا.
ونقول: إنَّ الأصل في ذلك أن يُعمل بما جرى عليه عُرف البلد بوجه عام، وعُرف البلد الآن أن صلاة الجمعة تُقام في وقت صلاة الظهر، أو أن وقت دخول الخطيب إنما يكون في وقت الزوال، وعلى هذا يكون العمل -إن شاء الله عزَّ وَجلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: ﴿الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ﴾ وَ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾»)}.
هذا الحديث هو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو أصح ما جاء عن النبي ﷺ في مشروعية القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة.
وفيه أنَّ النبي ﷺ كان يقرأ فيها بسورة السجدة في الركعة الأولى وسورة الإنسان في الركعة الثانية، وكان يقرأهما بتمامهما، وليس كما يفعل بعض الناس من أن يُجزِّئ، ويقول: هذه ليست من السنن، أو ليس كما يعتقده بعض الناس من أنَّ صلاة الفجر يوم الجمعة يُشرَع فيها أي سجدة، فتجده أنه ربما قرأ سورة العلق أو نحو ذلك. نقول: السنة عن النبي ﷺ أن تُقرأ فيهما هاتان السورتان.
وقد جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذه اللفظة عند الطبراني «أنَّ النبي ﷺ كانَ يُديمُ ذلكَ» ، يعني: يداوم على ذلك، لكن هذا اللفظ فيه نظر، ولكن نقول: قد ثبتت السُّنَّة عن النبي ﷺ في أنه كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ﴿الم* تنزيل﴾ السجدة و ﴿هل أتى على الإنسان﴾.
فإن قيل: لِـمَ؟
قلنا: لِمَا فيهما من التذكير بالآخرة، والتذكير بأصل النشأة، وأصل الخلقة، ومرد الإنسان، وثواب أهل الإيمان، وعقاب أهل الكفر؛ هذه كلها معاني، ولهذا فإنَّ مَن تأمَّل سورة الإنسان بوجه عام وجد أنها من أعظم ما يرقق قلب الإنسان؛ لأنَّ فيها ذكر منازل المتقين، وفيها ذكر عقاب الكافرين، وفيها ذكر فضائل كتاب الله -عز وجل- وتلاوته، وفيها ذكر أصل الإنسان، وبدء هذه السورة مما يكسر قلب الإنسان ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكور﴾ [الإنسان:1].
فهذه من المعاني التي ينبغي أن تُتلمَّس، وهذا مما يدل على أن هذا المعنى مما ينبغي أن يُنتزَع ليكون في الخطبة، يعني ينظر الإنسان إلى مثل هذه المعاني التي في سورة السجدة وفي سورة الإنسان فيجعلها في خطبته؛ لأنها مما ترقق قلب الإنسان، والنبي ﷺ ما قرأها إلا لهذا الغرض.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الْعِيدَيْنِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ»)}.
العيدان بوجه عام من شعائر الدين الظاهرة، وهما من الأصول التي جاءت بها سنة النبي ﷺ، وهما عيدان لأهل الإسلام: عيد الأضحى وعيد الفطر، وهما من شعائر الدين التي ينبغي أن تُظهَر وأن يُستعلَن فيها بالفرح، ولهذا رخص النبي ﷺ فيها بمزيد لهوٍ لم يكن يرخص فيه في غيرهما، فكان ﷺ يرخِّص في العيدين بوجه عام في اللهو واللعب بالحراب، وربما رخص فيهما بالدف للنساء، كما رخص النبي ﷺ للجاريتين التي كانتا تدففان عند عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتغنيان بغناء بعاث، قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: «وليسَتَا بمُغَنِّيَتَيْنِ» .
والعيد بوجه عام: إنما هو لِمَا يعود ويتكرر، فكل ما كان مما يعود ويتكرر؛ فإنه يسمى "عيدًا"، وقد شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- عيدان في السنة: عيد الفطر وعيد الأضحى، وشرع -سبحانه وبحمده- عيدًا واحدًا في الأسبوع وهو عيد يوم الجمعة؛ لأجل إظهار شعائر الله -تبارك وتعالى.
وفيه أيضًا أنه يلتمس بمثل هذه المجامع العظيمة ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّ العيد على الرغم من كونه مكان فرحٍ ومكان لهوٍ وقد رخص الشارع فيه في التوسع في المآكل والمشارب والملابس؛ إلا أنَّ الشارع لم يُخلِه من شيء من العبادة والتعبد لله -تبارك وتعالى-، فشرع النبي ﷺ فيه صلاة العيد، وأمر النبي ﷺ فيها بإخراج النساء والحُيَّض، قال: «وذَوَاتِ الخُدُورِ» ، وهن الأبكار المخدَّرات، فأمر النبي ﷺ بإخراج كل هؤلاء لشهود صلاة لشهود صلاة العيد.
ولَمَّا ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- (باب العيدين) فإنما يريد بذلك بيان أحكام صلاة العيدين، وذكر فيهما حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ»، في هذا الحديث عن النبي ﷺ معاني جليلة، من أهمها:
الأمر الأول: أنَّ العيد مما يُبدأ فيه بالصلاة قبل الخطبة على خلاف يوم الجمعة.
الأمر الثاني: أنه لم يكن ينادى فيه ولا يُؤذَّن فيه ولا يقام فيه ولا يدعى فيه بالصلاة جامعة ولا نحو ذلك، كما جاء عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الأمر الثالث: أنه لا يصلي قبل العيد شيئًا ولا بعدها شيئًا، وإنما يقصد إلى صلاة العيدين، ووقت صلاة العيد إنما يبدأ من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، وارتفاع قيدها رمح تقريبًا بعد عشر دقائق من شروق الشمس، هذا هو قيد الرمح، بعد ذلك يبدأ وقت صلاة العيد، وينتهي وقت صلاة العيد بانتهاء وقت صلاة الظهر على ما ذكره بعض العلماء.
وقال بعض العلماء: بل ينتهي بالزوال، حتى لو تأخر لو أنهم أخروها مثلا إلى الساعة العاشرة أو الساعة الحادية عشر فهذا الأمر واسع عند العلماء -رحمهم الله.
وصلاة العيد بوجه عام هي من فروض الكفايات، يعني يجب على إمام المسلمين أن يقيمها، ويجب على المسلمين أن يقيمها من يقع به الكفاية، وقد ذهب بعض العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها واجبة، قال ومما يدل على وجوبها: أنَّ النبي ﷺ قال: «يَخْرُجُ العَوَاتِقُ وذَوَاتُ الخُدُورِ، أوِ العَوَاتِقُ ذَوَاتُ الخُدُورِ، والحُيَّضُ، ولْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ، ودَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ، ويَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى» ، قال: فلما أخرج هؤلاء كلهن دل على آكدية هذه الصلاة، لكن الظاهر -والله أعلم- أنها ليست بواجبها، وإنما هي من السنن المؤكدة، ومن السنن أيضًا التي ينبغي للإنسان أن يخرج فيها أهله وقرابته، فالأصل في صلاة المرأة أن صلاتها في بيتها خير لها، لكن إلا صلاة العيد، يُخرج الإنسان أهله وأولاده كلهم حتى يشهدون هذا المجمع العام، الذي هو المجمع العظيم، وقد كان النبي ﷺ يتزيَّن فيه، ألم يقل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا مر بالحلَّة التي يبيعها عطارد، فقال يا رسول الله: "ابْتَعْ هذِه تَجَمَّلْ بها لِلْعِيدِ والوُفُودِ" ، فدلَّ على أنَّ العيد مما يُتجمَّل فيه، ومما ينبغي أن يُلبس فيه اللباس الحسن؛ هذا كله من إظهار شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومما ينبغي أن يوسع فيه بسائر التَّوسعة المباحة شرعًا. هذه كلها من المعاني المتقررة في العيد.
ومن المعاني المتقررة في العيد: أنَّ صلاة العيد بوجه عام لو كبَّر فيها تكبيرة واحدة أجزاء، يعني لو أنه صلاة العيد كما يصلي صلاة الفجر أو كما يصلي صلاة الجمعة لكان مجزئًا، ولكن قد جاء عن النبي ﷺ كما في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «فكَبَّرَ في الرَّكْعةِ الأُولى سَبْعَ تَكْبيراتٍ قَبْلَ القِراءةِ، وفي الآخِرةِ خَمْسَ تَكْبيراتٍ قَبْلَ القِراءةِ» ، وقد كان النبي ﷺ يقرأ فيها مرة بـ "ق" وبـ ﴿اقتربت﴾، ومرة بـ ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ و ﴿هل أتاك حديث الغاشية﴾، فكيف ما فعل أجزأ ذلك وأصاب السنة عن رسول الله ﷺ.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ»)، ولم يزل هذا هو عمل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وعمل الناس جيلًا بعد جيلٍ، أن يقدموا الصلاة ثم يؤخِّروا الخطبة، ويكون للإنسان الحرية في الخطبة، يجوز له أن يسمعها وهذا هو الأولى، ويجوز له أن ينصرف كما جاء عن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حتى كان زمن مروان بن الحكم، وكان عاملًا على المدينة، قيل: إنه لمعاوية بن أبي سفيان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، "فخرج مع أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى الرحبة التي يصلون فيها، فإذا منبرٌ قد بناه كَثِير بن الصَّلْت، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، أي: يُقَدِّمَ الخطبة قبل الصلاة، فجذبه أبو سعيد، ولكنه خطب ثم صلى، فقال: غَيَّرْتُمْ واللَّهِ! فَقالَ: "أبَا سَعِيدٍ قدْ ذَهَبَ ما تَعْلَمُ"، فقلت: "ما أعْلَمُ واللَّهِ خَيْرٌ ممَّا لا أعْلَمُ"، فقال: "إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ" ، هذا اجتهاد، ولكنه اجتهاد في غير محله، وهو اجتهاد مما يخالف النص، والأصل في ذلك أن يوسَّع وتُتبع السنة عن رسول الله ﷺ، تصلي ثم تخطب بعد ذلك، هذا هو الأصل.
فإذًا بوجه عام فيما يتعلق باجتماع الخطبة مع الصلاة نقول: هي على أحوال:
- أمَّا الجمعة فإنه يبدأ فيها بالخطبة ثم يعقبها الصلاة قولًا واحدًا، وأمَّا العيد فإنه يبدأ فيها بالصلاة ثم تتعقبها الخطبة، وأمَّا صلاة الكسوف فإنه مما وقع التَّخيير، فقد جاء عن النبي ﷺ هذا، فيجوز أن يبتدأ بالصلاة قبل الخطبة ويجوز أن يبدأ بالخطبة قبل الصلاة؛ لأنه لو صلى أصلًا بلا خطبة لأجزأ، ولو قام بغير صلاة لأجزأ، وصلاة الكسوف يبدأ فيها بالصلاة ثم يُخطَب فيها إن أراد، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا صلى بهم صلاة الكسوف خطبهم ﷺ.
هذه هي أحوال الصلوات بوجه عام مع الخطب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ». فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي، وَتَغَذَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلَاةَ. فَقَالَ: «شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»)}.
هذا حديث البراء بن عازب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو أصل جليل في بيان أحكام الهدي يوم الأضحى، فإنَّ الأصل بوجه عام أنَّ العيد عيدان، وما يتعلق بهما من الأحكام على قسمين:
- عيد الفطر: يشرع للإنسان أن يأكل قبل أن يغدو إلى المسجد تمرات يفطر عليها، ثم يغدو إلى المسجد فيشهد الصلاة، وليس فيه نحر ولا ذبح، وإنما فيه التوسعة على الإنسان بالأكل والشرب ونحو ذلك وهو مما حرم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه الصيام، عيد الفطر وعيد الأضحى، حتى لو أن الإنسان نذر أن يصوم فيهما لوجب عليه أن يفطرهما، كما جاء في حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
- وأمَّا يوم الأضحى: فإنه يشرع للإنسان ألا يأكل شيئًا حتى يأكل من لحم أضحيته.
وصلاة العيد كما سبق وقررنا أنها تُشرع بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، في هذا الزمان يدخل الإمام فيكبر بالمأمومين، ولا تشرع النسيكة ولا تجزئ النسيكة حتى يفرغ الإمام من صلاته، بل بعض العلماء قال حتى يفرغ أيضًا من خطبته، ولهذا قال: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ»، فذهب العلماء -رحمهم الله- إلى أنَّ من ذبح قبل أن تنتهي صلاة الإمام؛ فإن ذبيحته لا تجزئ، وهي ذبيحة لحم، يعني: شأنها كشأن ما يذبحه من الذبائح في بقية أيام العام.
هل يجب عليه أن يخلفها؟
نقول: نعم، إذا كان يجد سعة يجب عليه أن يخلفها، يعني: يذبح بدلها، كما قاله أبو بردة بن نيار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ»، فدلَّ على أنَّ هذا المعنى متقرر عند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنَّ الخطبة كانت بعد الصلاة.
قال: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَ»، يعني: قدَّم نسكًا، بمعنى أنه أعدَّ الذبيحة وأعدَّ الأضحية حتى ينسكها. قال: «فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ».
قال: «فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ»، يعني: لا هدي له ولا أضحية له.
قال: (فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ)، وذكر خلَّة من جيرانه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، و"خلَّة" يعني: جوع، قال: إني وجدت بعض جيراني جائع، وأردت أن أواسيهم في هذا اليوم فعجلت وذبحت قبل الصلاة، فالنبي ما عذره، قال شاتك شاة لحم.
قال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقً)، العناق: هي الأنثى من الماعز.
قال: «هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»)، دلَّ على اعتبار الأسنان في الذبائح، فالضأن لا يضحى منها إلا بما بلغ ستة أشهر فصعدا، والأفضل أيضًا أن تكون مسنَّة لا جذعة، مسنة يعني ما كمل سنة، هذا هو الأصل في الضأن، والماعز لا يُضحى إلا بما كان مسنًّا، يعني جاوز السنة، والبقر لا يضحى إلا بما جاوز السنتين، والإبل لا يُضحى إلا بما جاوز الخمس سنين، هذا هو الأصل بوجه عام في أسنان الأضاحي، فهي معتبرة، وكأنما هي متقرر عند الصحابة، لهذا قال الصحابي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِي عَنِّي؟)، كأنما يعلم أنها ليست مجزئة على الأصل، فاستفسر من النبي ﷺ فرخَّص له وقال: «نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»، فدل على أن التضحية بمثل هذا لا يُجزئ، وعلى أن التضحية أيضًا قبل الفراغ من الصلاة أيضًا لا تجزئ.
فإن كان الإنسان في مكان بعيد لا تُقام فيه صلاة الجمعة كما لو كان في هجرة من الهجر، وقال: أنا ما عندي الآن مسجد تُقام فيه الصلاة فأقتدي فيه بالإمام.
نقول: يحسب قدره، بمعنى أن يرى أنَّ صلاة الناس في الجمعة تبلغ عشر دقائق أو اثنا عشر دقيقة، وأن الناس درجت عادتهم على أنهم لا يكبرون للصلاة إلا بعد مرور خمسة عشر دقيقة على شروق الشمس، فإذًا بعد مضي سبعة وعشرين دقيقة أو ثمانية وعشرين دقيقة يجوز له النُّسك، أو ينظر إذا كان يستطيع من خلال التلفاز أو غير ذلك ينظر إلى صلاة إمامٍ، ينظر إلى صلاة المسجد الأكبر في المدينة القريبة منه مثلًا، في الرياض ينظر مثلا إلى الجامع الكبير؛ فهذا هو الجامع الأساسي، في مكة ينظر إلى الحرم المكي، في المدينة ينظر إلى الحرم المدني... وهكذا، إن وصل إلى الخبر ينسك بعد ذلك، إذا ما وصل إلى خبر يُقدِّر، وعليه أن يحتاط أيضًا بالوقت، فيزيد في الوقت حتى ما يقع في الحرج بنهي النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»)}.
حديث جندب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا يأتي على ما يأتي عليه حديث البراء ابن عازب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه قال: (صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ النَّحْرِ. ثُمَّ خَطَبَ)، فقدَّم الصلاة قبل الخطبة ثم ذبح -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقال: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ»، وما قال: "قبل أن نفرغ من الخطبة"، ومما يدل على ذلك أن النبي ﷺ قد شرع لهم الانصراف وقت الخطبة، ومن المعلوم أن الإنسان حينما ينصرف الخطبة سيكون أول همه أن ينحر، فربما نحر والإمام يخطب، فدلَّ ذلك على أنه يجوز، وأن النبي ﷺ ما قال لهم "لا انتظروا" ولو كان النبي ﷺ يريد أن يعلقها بالخطبة لما أذن لهم بالانصراف، لو كان يريد أن يُعلِّق الذبيحة بالأضحية لقال "انتظر، حتى نفرغ من الخطبة ثم تذهب"، فدلَّ ذلك على أن الأمر إنما هو معلَّق بالصلاة.
قال: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَ»، قالوا: هذا مما يدل على وجوب الأضحية، ولهذا ذهب بعض العلماء -رحمهم الله وهو قول وجيه- إلى أن الأضحية للقادر عليها واجبة، حتى إن بعض العلماء قال: يشرع لغير الموسر ممن يرجِّي الخير، يعني على سبيل المثال: موظف كان في آخر الشهر، ويعلم أنه سيأتيه راتبه بعد يومين أو ثلاثة أيام أربعة أيام فيشرع له أن يستدين، لأن هذا من أعظم ما يعين على شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد تتابع الناس ووجدوا أن من ذبح أضحيته في عامه وسَّع الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه وبارك له في رزقه، لأنها من تعظيم شعائر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن تقاعس عن ذلك وبخل ضيَّق الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه ولهذا ما كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يستهينون بها، فكانوا يحبون استعظامها واستسمانها، وربما اشتروها قبل عيد الأضحى بفترة حتى يسمنونها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كما جاء في حديث أبي أيوب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: «وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: «شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْعِيدِ. فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ. فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ»)}.
هذا حديث جليل القدر فيه جملة من السنن التي تشرع في يوم العيد بوجه عام، فمن ذلك: أن النبي ﷺ بدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، وهذا هو الشاهد الذي أراد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حينما أورد هذا الحديث، أنه لا يشرع الأذان ولا الإقامة لصلاة العيدين كما قررناه سابقًا، ولا يشرع النداء لهما بالصلاة جامعة ولا نحو ذلك.
قال: «ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ»، هذا هو السياق العام من خطب النبي ﷺ، حيث كان النبي ﷺ في خطبه إنما يأمر بتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويحث على طاعته ويعظ الناس، بكلمات يسيرات.
وقد كان من هدي النبي ﷺ بوجه عام في خطبه: أنها كانت خطب يسيرة، لم يكن ﷺ يطيل حتى قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: «إنَّما كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحْصَاهُ» ، بل إن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد كانوا ربما نقلوا خطبة النبي ﷺ بتمامها، فإذا بحثنا عنها وجدناها شيئًا يسيرًا إذا قُرِنَ وقيس بماء يصنعه كثير من الخطباء.
ومما يدل على ذلك: أنَّ أعظم الخطب التي هي خطبة النبي ﷺ في حجة الوداع، قد كانت خطبةً يسيرةً خطبها النبي ﷺ في أصحابه، فكانت خطبة يسيرة مع أنها من أجل الخطب وأعظمها، وتعد من أطول الخطب، ومع ذلك فإنها إذا قُرنت الآن بما يخطبه الناس أو بما يفعله كثير من الخطباء كانت يسيرة، وهذا يدل على أنَّ خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، ما كان قليلًا دالًّا على المعنى، وما كان يتناول ما يعمله الناس، يعني أن ينقل الإنسان وينقل الخطيب إلى الناس الفقه العملي، الذي إذا خرجوا من هذه الخطبة تعبَّدوا لله -عَزَّ وَجَلَّ- به من فورهم، وأن يكون الكلام كلامًا يسيرًا، بحسب الإنسان أن يخطب بكلمات يسيرات حتى ينفع الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها، وحتى يفقهها الناس ولا يصيبهم الملل ولا الكآبة ولا السآمة خاصة الآن مع كثرة أشغال الناس، ومع تقاعس كثير من الناس عن الطاعة، فربما كان في إطالة الخطيب أحيانًا للجمعة وللخطبة نوع من الأمور التي تنفِّرهم عن خطبة يوم الجمعة.
فيقال: الأصل بوجه عام في الخطبة أن تكون خطبة يسيرة، وأن يقتصر الإنسان على بعض المعالم وبعض المعاني التي يستطيع الإنسان يفقهها، يؤصِّل أصلًا من أصول الدين وجه عام، ويستدل عليه بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبسنة نبيه ﷺ وبشيء من كلام الصحابة رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم، حتى إذا خرج الناس فسألتَ الخارج منهم ما الذي تكلم عنه الخطيب؟ قال: تكلم عن كذا وكذا ما. استشهد به؟ قال: استشهد بقول الله كذا وبقول رسول الله ﷺ كذا، فأما إذا طالت الخطبة فإن كثير من الناس ما يستطيعون، ولو أن هذه الخطبة التي يخطبها كثير من الخطباء خُطبت على حفَّاظ العرب لَما استطاعوا أن يحفظوها، ولما خرجوا منها بطائل! فكيف بهذا الزمان الذي قد يعني ضعفت فيه همم الناس بوجه عام!
قال: «ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ»، هذا أيضًا من المعاني الجليلة وهو أنه ينبغي في مثل هذه الأيام الجليلة أن لا يُغفل فيها عن النساء، وقد كان النبي ﷺ لا يغفل عن النساء، وقد كان قد خصَّص لهن يومًا يعظهن ويذكرهن كما جاء في الصحيح.
ومن اهتمامه ﷺ بالنساء وبعظتهن وتذكيرهن أنه ﷺ كان ربما خصَّص لهن خطبة، حتى قال بعض العلماء: هذه هي الخطبة الثانية، الخطبة الأولى كانت للرجال، قال: «ثُمَّ مَضَى»، فهذه هي الخطبة الثانية، خطبها النبي ﷺ للنساء. قالوا: بوجه عام في العيدين أن تكون الخطبة الأولى للرجال وأن تكون الخطبة الثانية للنساء إذا كنَّ حضورًا فيوجَّه الكلام لهن، يذكرهن بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وباليوم الآخر وببعض الإشكالات أو الملاحظات التي تقع على النساء مما قد تكون لا قدَّر الله مما يقربهن من عقاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويأمرهن بالنفقة، وفيه دلالة على أن النساء كنَّ في ذلك الزمان يملكن المال، كان لديهنَّ أموالًا وإلا ما أمرهنَّ النبي ﷺ بالنَّفقة، وفي دلالة على أن المرأة لها الحرية في مالها، تتصرف فيه كيفما شاءت من غير أذن زوجها؛ لأن النبي ﷺ أمرهن بالنفقة وقبل منهن نفقتهن، ما قال: "ارجعن إلى أزواجكن وشاورهم".
قال: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ. فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ»، هذا وعيد بوجه عام للنساء ووعيد بوجه عام لعموم الأمة، الأصل أن الرجل أو المرأة كلما ابتعدت عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- كان عرضة لنار جهنم، وكلما أغرق في المادة وفي الجمع قسا قلبه، وإنما يرق قلبه ويلين بالصدقة، وليس شيء يباعد عن النار وعن حطب جهنم وعن الشيِّ في نار جهنم كالصدقة، أو لم يقل النبي ﷺ لَمَّا أشاح مرةً بوجهه يمينًا ومرة أشاح بوجهه يسارًا، ثم قال النبي ﷺ: «اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» ، فدلَّ ذلك على أنَّ نفع الناس المتعدي بالمال من أعظم ما يحول بين الإنسان وبين نار جهنم، وأنه إن عجز عن نفعهم بالمال فينبغي له أن ينفعهم باللسان.
النبي ﷺ قال: «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ» ، فهذه شعبة ومنزلة دنيا الذي هي منزلة المسلم، يسلم المسلم كفافًا لا له ولا عليه، ثم منزلة أخرى فوق ذلك وهي منزلة «ثلاثٌ من جمعهُنَّ فقد جمع الإيمانَ: الإنصافُ من نفسِكَ، وبذلُ السَّلام للعالَمِ، والإنفاقُ من الإقتارِ» هذه النفقة الصالحة التي هي من أعظم ما يباعد عن نار جهنم.
ومما يدل على ذلك أنَّ النبي ﷺ في الكسوف أمر بالصدقة وأمر بالعتاقة؛ كلها مما يباعد عن النار، فمن أراد أن يُباعَد عن النار وأن يزحزح عن نار جهنم فعليه بكثرة صدقة، فإن لم يجد فعليه بالكلمة الطيبة التي هي صدقة منه يتصدق بها على الناس، "السلام عليكم"، يأمر بالخير وينهى عن المنكر، يعطي كلمة، يتلو آية من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، أو حديثًا عن رسول الله ﷺ، كثير من الناس لا يفقه من الموعظة إلا أن يقوم الخطيب فيلقي كلمة مدبَّجة!
نقول: لا، إنما كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ربما يعظون بالآيات، أو بآية واحدة، وربما وعظوا بحديث واحد عن رسول الله ﷺ، بل هذا أفضل أحيانًا من تدبيج الكلام، ربما يلقي خطبة يظنها عصماء وليس فيها شيء الله ولا من سنة رسول الله ﷺ!
هذا المعنى متى ما تقرر أصبح الناس كلهم دعاة إلى الخير، يصبح الإنسان متى ما علم قول النبي -ﷺ: «بلغوا عني ولو اية»، وقال النبي ﷺ: «إنَّ مَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به -عزَّ وجلَّ- مِنَ الهُدَى والْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أصابَ أرْضًا، فَكانَتْ مِنْها طائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلأَ والْعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَ مِنْها أجادِبُ أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْها وسَقَوْا ورَعَوْا، وأَصابَ طائِفَةً مِنْها أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً، ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللهِ، ونَفَعَهُ بما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ» ، فإذًا كل مَن فقه شيئًا من العلم فعليه أن يبثه كله ويبلغه ولو كان آية، بلغ الآية وعلمها يا أخي، حفظتَ عن النبي ﷺ حديثًا وعلمتَ أنه صحيح فانشره في المجالس، فإن هذا من تبليغ رسالات الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{فضيلة الشيخ من أعظم الأسباب أيضًا للتذكير، أيضًا بعض الأمور كالحالات الواتس وغيرها، رسالة تذكير، هذه كلها من أعظم الأسباب}.
بلا شك هذه كلها من وسائل الدعوة التي تجعل الإنسان داعيًا إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بكل حال، ليس من شرط الدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن تقوم في مجمع فتلقي كلمة بل من الدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ترسل هذه الرسائل إذا تحقَّقت من صحتها وتحقَّقت من سلامتها، وهذا أمر ظاهر، أما كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالحمد لله؛ أرسل ما شئت منه، وأما سنة النبي ﷺ فانظر إذا كان في الصحيحين فأرسل ما شئت منهما، وإذا كان في غيرهما فانظر كلام أهل العلم فيه فأرسله، هذه كلها من الدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ:
قال: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ»، يعني: من أوساطهن، أي: ليست من أشرافهن ولا من سفلتهن.
قال: «سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ»، أي: في خدها سفع، كيف استبان جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ قد تكون امرأة كبيرة في السن أو ما إلى ذلك، يعني: ليست هذه من الأمور التي يتعلق بها أصحاب الشبهات.
قال: «لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ»، إنما أرادت أن تستفسر من رسول الله ﷺ عن السبب حتى تتقيه، و-رَضِيَ اللهُ عَنْها- فإنَّ النبي ﷺ لو انصرف وما بيَّن لأصبحت النساء على وجلٍ.
قال: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»، بوجه عام كل من أكثر الشِّكاة من الرجال أو نساء وكفر المعروف فإنه يدخل في هذا وعيد، لكن لما كان هذا صفة في النساء أخبر به النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقوله: «تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ»، يعني تتشكين كثيرا، ولهذا جاء في حديث أم زرع: «جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئً» ، فرأينا أنَّ أغلبهن يتشكين، كل واحدة منهم تشكى من زوجها لم يكن إلا أربعًا أو ثلاثًا هن الذين مدحن أزواجهن، وأما البقية إنما يتشكين، فالشكاة أن تكثر المرأة التشكي سواء إلى زوجها أو إلى غيره، والأصل في ذلك أن المؤمن صابر ومحتسب، «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» ، وأنَّ حال المؤمن كحال يعقوب ﷺ حينما قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف:86]، يشكو بثه وحزنه، ويعلم أنه ليس أحد يقدر على نفعه وعلى دفع الضر عنه إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويعلم أن الشكوى إلى غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- نوع من المهانة، ونوع من الافتقار، ونوع من إبداء الخضوع لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكأنما أنت تشكو الخالق إلى المخلوق، وهذا غاية ما يكون من الجفاء، وغاية ما يكون من الجهل، تشكو ما بك من البلاء الذي أنزله الله -عَزَّ وَجَلَّ- بك إلى المخلوق! تشكو ربك -عَزَّ وَجَلَّ- إلى المخلوق! بدل ما تتوب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتؤب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتشكو بثك وحزنك إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، تطلب من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرفع ما بك من الضر بسبب ذنوبك، وتتقرَّب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- والدعاء والاستغفار ونحو ذلك.
قال: «وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»، يُراد به كفران عشرة زوجي، وقد جاء تفسيره في قوله: «لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» ، هذا هو كفران العشير الذي أخبر به النبي ﷺ، وهذا مما ينبغي أن يحذر منه الرجل والمرأة، أما الرجل فيحذر من كفران العشير حتى مع والده ووالدته، يتغاضب مع والده فيقول: ما رأيت منك خيرًا! أعوذ بالله! هذا من أعظم ما يكون من كفر العشير، وليس المراد بكفران العشير كفران حق الزوج فحسب؛ بل كفران حق وكل ذي حق، تكون مع شيخك الذي علَّمك على مدار عشرين سنة، أو عشر سنوات، ثم تختلف أنت وإياه، فتقول: ما رأيت إلا الشر؟! نعوذ بالله، هذا من كفران العشير! تكون مع صاحبك شريكك سواء كان صاحب لك في أمر دنياك أو في أمر دينك، ما رأيتَ منه إلا الخير، ثم يقع في زلَّة واحدة، أو في زلتين أو ثلاث ما يسلم منها أحد، هذا بلا شك أنه من كفران العشير، ترى ليس كفران العشير يتعلق ببعض الناس، بعض الرجال يقول: امرأتي كفارة عشير، وهو من أعظم الناس كفرانًا للعشير! قطع أصحابه وقطع إخوانه وقطع أقاربه وقطع شركاءه! هذا كله من كفران العشير، ثم يأتي يلقي بهذا اللوم على المرأة. نقول: أنت نسيت نفسك أيضًا، وكذلك أيضًا المرأة لكن لأجل أن الخلاف الذي يقع بين الرجل والمرأة أكثر، بحكم أن العلاقة كلما كانت أكثر كلما أصبحت عرضة لكثرة الخلافات، فكانت المرأة أحيانًا ربما تختلف مع الرجل فتقول: والله ما رأيت قط! وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «لَعَلَّ إِحْدَاكُنَّ تَطُولُ أَيْمَتُهَا مِنْ أَبَوَيْهَ»: يعني تجلس في البيت عند أبويها ويبلغ عمرها اثنين وعشرين أو ثلاثة وعشرين أو أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين. قال: «ثُمَّ يَرْزُقُهَا اللَّهُ زَوْجًا، وَيَرْزُقُهَا مِنْهُ وَلَدًا، فَتَغْضَبُ الْغَضْبَةَ فَتَكْفُرُ فَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» ، فما من شك أنَّ هذا من كفران العشير بوجه عام، وقد كان من هدي النبي ﷺ رعاية العهد، وقد بوَّب الإمام البخاري (بَاب حُسْنُ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ) وذكر فيه أنَّ النبي ﷺ كان يذبح الشاة فيهدي في خلائل خديجة، انظر كيف الصلة العظيمة التي كان النبي ﷺ يَصِلُها في خلائل خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْهن- هذا مما يدل على أنَّ النبي ﷺ كان يرعى العهد حق الرعاية.
قال: «فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ»، انظر إلى مُبادرة نساء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
قال: «يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ»، يتصدقن بهذا الذهب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن.
{نشكركم شيخنا شكرًا وافرًا، ونسأل الله تبارك وتعالى بأن يجزيكم عنا خير الجزاء، وعن معاشر طلبة العلم جميعًا، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، أشكركم على حسن المتابعة، ونسأل الله تبارك وتعالى بأن يجمعنا بكم في لقاءات عديدة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.