{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم)، الذي تقدمه (جمعية هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية، نستكمل وإياكم -بإذن الله- في هذه الحلقة شرح كتاب (عمدة الأحكام) للحافظي عبد الغني المقدسي -رحمه الله، يشرحه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، مرحبًا بكم}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{شيخنا نستأذنكم في البدء في (كِتَابِ الصِّيَامِ).
قال المؤلف-رحمه الله: (كِتَابُ الصِّيَامِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فلَمَّا فرغ المصنف -رحمه الله- من (كتاب الزكاة) وما فيها من الأحكام؛ شرع بذكر (كِتَاب الصِّيَامِ) على الترتيب الذي رتبه النبي ﷺ للذين كانوا يسألونه عن شرائع الإسلام، وعلى الترتيب الوارد في حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وهذا هو الترتيب الذي جرى به صنيع أغلب العلماء -رحمهم الله- وإن كان بعضهم يُقدم أحيانًا (كتاب الحج) على (كِتَاب الصِّيَامِ) كصنيع الامام البخاري -رحمه الله-، لكن الأغلب على تقديم الصيام؛ لأنَّ هذا هو الثابت في سنة النبي ﷺ في أغلب الأحاديث.
والصيام بوجه عام إنَّمَا هو الإمساك في اللغة، ومنه قول الله -عز وجل: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمً﴾ [مريم:26] يعني: إمساكًا، والصيام ها هنا إنَّمَا كان صيامًا أو إمساكًا عن الكلام، ولم يكن إمساكًا عن الطعام والشراب، وهم يقولون:
خَـيـلٌ صِـيـامٌ وَخَـيـلٌ غَـيـرُ صـائِمَـةٍ ... تَحتَ العَجاجِ وَأُخرى تَعلُكُ اللُجُما
خيل صيام، ما معناها؟ أي: لا تصهل من شدة وكرب الحرب، وخيل غير صائمة، أي: تصهل.
إذًا، أصل الصيام هو الإمساك، ثم نقل في الشرع إلى الإمساك عن المفطرات، سواء عن الطعام أو الشراب أو النكاح، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. هذا هو الإمساك الشرعي الذي جاءت به شريعة الإسلام، وليعلم أنَّ الصيام كما كان مفروضًا على هذه الأمة، فإنَّه كان مفروضًا على من قبلها من الأمم، قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]، ولكن الهيئات تختلف كاختلاف الصلوات، فإنَّه ليس من أمة إلا وقد فرض عليها خمس صلوات بهذه الصفة، إلَّا هذه الأمة، وأمَّا جنس الصلاة؛ فإنَّه مفروض على كل الأمم، وكذلك جنس الصيام مفروض على الأمم السابقة، ولكنه يختلف.
فبعض الأمم يفرض عليهم الصيام عن نوع ما من الطعام، كما جاء فيما ذكروا عن النصرانية، أنَّهم كانوا يصومون عن اللحوم ومشتقات اللحوم والألبان ونحو ذلك، هذا هو صيامهم، ولكن الظاهر -والله أعلم- أنَّ صيام موسى -عليه السلام- كان صيامًا عن الطعام والشراب، بينما الصيام في هذه الأمة فهو الصيام المعروف الذي ذكرناه وقررناه قبل قليل.
والمصنف -رحمه الله- لم يذكر هنا حقيقة ما يدل على فرضية الصيام، وكأنَّما اكتفى -رحمه الله- بأم الأدلة؛ لأنَّه قد ذكر في الزكاة ما يدل على الفرضية، بينما ذكر هنا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» ولابد أن يُعلم التالي:
أولاً: الصيام في هذه الأمة لم يفرض مرة واحدة عليها، وإنَّما فُرِضَ بالتدرج، فقد كان الصيام الأول الواجب إنَّمَا هو صيام يوم عاشوراء، حتى اعتاد الناس على الصيام، فلما اعتادوا عليه نزل الصيام في السنة الثانية من هجرة النبي ﷺ، وأصبح فرضًا لازمًا عليهم، ونسخت فرضية صيام عاشوراء إلى السُّنية، وكان الصيام أول الأمر من شاء أن يصوم، ومن شاء يتصدق بإطعام مسكين، ثم إنَّه نسخ وَأُمِرَ الناس جميعًا بالصيام إلَّا غير المستطيع، أو من كان يخشى على نفسه الضرر، كالحامل والنفساء ونحوها، هذا هو التقرير الاول.
ثانيًا: الصيام الواجب إنَّمَا هو صيام رمضان فحسب، ولا يجب صوم شيء سواه، إلَّا ما أوجبه العبد على نفسه من غير أن يوجبه الله -عز وجل- عليه، وهذا يكون بالنذر، أي ينذر العبد أو أن يفعل فِعلا يستوجب عليه فيه الصيام، يعني: من جنس الكفارات، مثل:
كفارة القتل، يقتل مُسلمًا خطأ، فإذا قتل خطأ وجبت عليه الكفارة، ما هي؟ عتق رقبة، فإن عجز عن ذلك صام ستين يومًا. أو مثل: كفارة الظهارة أو غيرها، وإلا فالأصل أنَّه لا يجب من الصيام إلَّا هذا الصيام.
وبناء عليه نقول: ما سواه من الصيام، كصيام عاشوراء أو يوم عرفة أو عشر ذي الحجة أو يومي الاثنين والخميس أو الأيام البيض، أو الست من شوال، هذه كلها إنَّمَا هي نوافل وسنن وليست بواجبة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا آتاه رجل قال: «صُمْ شَهْرَ الصَّبرِ»[1]، شهر الصبر هو شهر رمضان، وسماه بالصبر؛ لأنَّه هو الأصل في الصيام. هذا الأمر الثاني
ثالثًا: يجب أن يُعلم أنَّ الصيام من أعظم وأجلِّ العبادات التي يتعبد بها لله -عز وجل-، وقد جاء عن النبي ﷺ أنَّه قال: يقول الله -عز وجل: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي بِهِ»[2] قد قال الله -عز وجل- عن أهل الصبر: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10]، ولذا فقد قال الأوزاعي -رحمه الله: "لا يوزن لهم وزن وإنما يُصب عليهم صبا".
ومن المعلوم أنَّ الصوم جنس من أعظم أجناس الصبر؛ لأنَّه صبر عن أمور محبوبة ابتغاء مرضات الله -عز وجل-، وهذا من أعظم ما يكون من الصبر، ومن أعظم منازل الصبر، وبناء عليه فالصوم من العبادات الجليلة لله -عز وجل-، وإذا قلنا بجلالة عبادة ما؛ فإنَّ أجلَّ ما فيها هو الفرض، ثم ما كان دونه في الفرضية؛ ولذا كان أَجَلُّ الصيام هو صوم رمضان، ثم ما كان من الصوم الذي أوجبه الإنسان على نفسه، كصوم النذر ونحو ذلك، أو صوم الكفارات، ثم ما سوى ذلك من صيام التطوع، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- فيه، لكن أظهره -والله أعلم- صوم يوم عاشوراء؛ لأن الأحاديث قد تتابعت عن النبي ﷺ فيه، ويأتي أيضًا معه صوم يوم عرفة، فهذا هو أعظم الصيام وأجله بعد صيام الفرض.
رابعًا: لَمَّا كان الصيام منوطًا بشهر رمضان، كنا بحاجة إلى أن نعرف متى يدخل شهر رمضان؟ ومن المعلوم أنَّ هذه الأمة أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وهذا المعنى -يا إخوان ويا أخوات- متى ما استصحبه الإنسان؛ انكشف له الكثير من الأسرار الشرعية، وعلم أنَّ كثيرًا من التعقيدات والتفريعات هي مما يتنزه عنه الشرع، لماذا؟ لأنَّ الله -عز وجل- اختص العرب؛ فأنزل عليهم القرآن، وجعل هذه اللغة لغتهم.
لماذا لم ينزله على اليونان أو على الصين أو على الفرس أو الرومان، مع أنَّهم كانوا أصحاب علوم وحضارة؟ السبب في ذلك هو إغراقهم في المادة، ولو كان الشرع نزل عليهم بعد إغراقهم في المادة لعسفوه بآرائهم، ولهذا لَمَّا نزل على هذه الأمة كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب، والصلوات إنَّمَا تعرف بالنظر، والمواقيت، والشمس وزوالها، والحج إنَّمَا يعرف بحساب الأيام دخولها بالهلال، ورمضان إنَّمَا يعرف بالرؤية، فإذا كان كذلك، فالأصل أنَّ هذه الأمة فيها البساطة، والأصل فيها التيسير والسماحة، ولهذا ما زال العلم سهلاً ميسورًا، وما زال العلم عمليًا قريبًا، حتى دخلت فيه علوم اليونان، فبدأت تدخل الفلسفة والمنطق في علم أصول الفقه، ثم تسربت إلى علم مصطلح الحديث، ثم كان الأدهى من ذلك والأمر أن تسربت إلى علوم القرآن، وتسربت إلى العقائد، ففسد كثير من العلم، وتعثر العلم الشرعي، حتى أصبح كثير من طلبة العلم لا يعرف طريق الوصول إلى العلم؟ وما يعلم أنَّ أسهل الطرق في الوصول إلى العلم طلبه على منهج السلف الأول، وقراءة كتب السلف الأول توصل العلم بأقرب طريق، ومن ذلك قراءة السُّنة، لأنَّ السنة توضح أن دين الله -عز وجل- دين سهل ميسر، ولهذا كان ينبغي لطالب العلم أن يُقَدِّم المسائل المسموعة على ما سواها من المسائل، ما المراد بالمسائل المسموعة؟ هي المسائل التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي المسائل التي أنت مأمور بالتعبد بها في المقام الأول، والتي لا تعذر بجهلها، وما سواها من المسائل إنَّمَا هو في المنزلة الثانية.
إذا كان كذلك؛ فإنَّ من المعالم الحسنة في هذا الدين أنَّه كان دينًا ميسورًا ودينًا جاريًا على وفق فطرة الناس وعلى وفق عاداتهم، وإذا كان كذلك فقد أمر الله -عز وجل- بصيام رمضان عند رؤية الهلال رؤية بصرية، وإذا أخطأت فلا يترتب عليك شيء، فإذا لم تره اليوم، فالحمد لله، قد تراه في الغد، قال النبي ﷺ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»[3]، فإذا أتيت لرؤيته في ليلة الثلاثين وما رأيته، فالحمد لله أكمله ثلاثين، وإذا حال دونه غيم أو قتر، فالحمد لله أكمل العدة ثلاثين، وإذا أكملت العدة ثلاثين فقد تيقنت أنَّ الذي بعده من رمضان، حصل خطأ والشرع يتنازل عنه ما دام أنك قد عملت بالشرع، ولا يتنازل عنه إذا عملت بخلاف الشرع، وأمَّا إذا عملت بالحساب وأهملت الرؤية الشرعية أخطأت؛ فتعاقب وتقضي. لماذا؟ لأنَّك ما أتيت بالأمر الشرعي، ولكن إذا رأيت الرؤية الشرعية وأخطأت فالحمد لله ليس هناك إشكال وليس هناك بأس، «الصَّوْمُ يوْمَ تَصومونَ، والفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرونَ»[4]، وجاء في بعض الروايات «والأضحى يومُ تُضَحُّونَ» الذي هو يوم العاشر من شهر ذي الحجة.
إذا فالأصل أنَّ رمضان منوط بالرؤية الشرعية، يتراءى الناس هلال رمضان، ويشرع أيضًا لهم أن يتراءوا هلال شعبان، جاء عن النبي ﷺ أنَّه قال: «أَحْصُوا هِلالَ شَعْبانَ لِرَمَضَانَ»[5]، فالأصل بوجه عام عند العرب أنهم ما كانوا يحصون الأشهر، بمعنى: أنَّه أحيانا ما يعرف كم اليوم من الشهر، يقول نحن في وسطه. وكان العرب أحيانًا يميزون اليوم بالهلال.
وإذا علمنا ذلك، فلنعلم التسهيل مثلا في أبواب الأيام البيض، يأتي رجل فيقول: الأيام البيض هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، نقول: والسادس عشر، طيب كيف كان العربي يستطيع أن يميز الثالث عشر من السادس عشر؟ ما كان القمر هو على ما هو عليه مكتمل.
إذا الأصل في تيسير الشريعة أن يقال: إنَّ الأيام البيض تشمل في الشريعة هذه الأيام كلها، وهذا معنى يسير أو مثال يسير يستخلص منه ما وراءه، ويُطبق على ما سواه من الأمثلة.
فإذا كان الأمر كذلك فيقال: ما دام أنَّ الإنسان قد عمل بالأمر الشرعي فهو معذور، وهو قد جاء بما أمره الله -عز وجل- به، وإن وقع فيه خطأ؛ فإنَّه معذور فيه أيضًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو أنَّ الناس أخطأوا فوقفوا في اليوم العاشر يظنون أنَّه اليوم التاسع لكان وقوفهم وقوفًا مجزئًا لماذا؟ لقول النبي ﷺ: «الصَّوْمُ يوْمَ تَصومونَ، والفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرونَ والأضحى يومُ تُضَحُّونَ» فجعل ذلك بالرؤية العامة.
إذا كان كذلك، فما الحاجة إلى أن تتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين؟ أو لم يقل الله -عز وجل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة:187]، أو ليست الزيادة في العبادة كالنقص منها، يعني: لو أنَّ رجلًا صلى صلاة الظهر، فقال دون أن يشك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا: من الأحوط أن أزيد في صلاتي، فيقال له: لا يجوز، والزيادة فيها كالنقص منها، وكذلك الشأن أيضًا في رمضان، ما الحاجة إلى أن تتقدم بصوم يوم أو يومين، إذا كان الأمر منوطًا بالرؤية!
هذا هو عين التعدي على حدود الله -عز وجل-، ونقول: إنَّمَا فسدت عقائد الأمم السابقة بالتعدي على حدودها، والأصل في العبادة أنَّها توقيفية، ولهذا يمنع الشارع من الزيادة فيها، كما يمنع النقص منها، وكذلك حينما يأمرك الشارع بالتسبيح لله مائة تسبيحة، فعليك أن تُسبح مائة تسبيحة ولا تزيد، ثم اقطع نيتك، وإذا أردت أن تزيد فزد زيادة ثانية، لكن ليست هذه الزيادة في الأجر الثابت في النص.
يأمرك الشارع أن تُصلي صلوات فصلِّ، ولكن لا تزيد على ما أمر الله -عز وجل- به، وصلاة الضحى ركعتان أو أربع أو ست أو ثمان، نعم ولكن لا تزيد، إلَّا إذا أردت أن تصلي نفلاً مُطلقًا، وهكذا سنة الفجر ركعتان لا تزيد عليها، وكذلك السنن الرواتب لا تزيد فيها.
إذاً الأصل في العبادة أن لا يُزاد فيها كما أنَّه لا يُنقص فيها؛ لأنَّ الزيادة تذهب رسم العبادة، يقول قائل كيف؟
نقول: لقد فرض الله -عز وجل- على بني إسرائيل الصيام أيامًا معدودة، وعلى ما قيل: إنها ثلاثين يومًا، فما زال فريق من كهنتهم يزيدون فيها باجتهادهم حتى خرجت عن المعيار الشرعي، ولهذا حرَّم الله -عزوجل- النسيء وذَمَّه، وقال في كتابه: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُو﴾ [التوبة:37]، ما هو النسيء؟
النسيء هو العبث في الأوقات، فيأتي من يقول: الآن شهر صفر، وبالنسبة لي سأقدمه لأجعله مكان شهر المحرم، فهذا عبث في الأوقات وتغييرها، ولهذا قال النبي ﷺ قولا بليغا في السنة العاشرة في حجة الوداع: «إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ»[6]، ما معنى هذا الكلام؟ هذا رد على عبث المشركين بالأشهر، حيث كانوا يعبثون بالأشهر، فيقع شهر ذي الحجة أحيانا في وقت شهر شعبان، وفي وقت شهر شوال، كيف؟ عندهم ثلاث شهور محرمة، عندهم شهر ذي القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وكانوا يعظمونها، وكان يشق عليهم أنَّهم لا يُغيرون ولا يغزون، فكان إذا جاء شهر الله المحرم قالوا: نؤجل شهر محرم وننسئه ونقدم عليه شهر صفر، فيقدموا شهر صفر وسموا المحرم صفرًا، ثم يبدأون في الإعارة واللهو في هذا الشهر الذي ليس محرما، وإذا ما انتهى شهر صفر، هل يعودون لشهر المحرم؟ لا، بل يقولون: ندعه السنة القادمة.
الآن صار شهر محرم عندهم هو شهر صفر، والذي بعده هو ربيع الأول، فيفسد الزمان، ولهذا كان هذا أحد الأسباب الذي قالها بعض أهل العلم لَمَّا قالوا: ما هو السبب في أنَّ النبي ﷺ ما حج في السنة التاسعة؟ قالوا عدة أسباب، منها: وجود المشركين وطوافهم بالبيت عراة، والنبي ﷺ ما كان يحب أن يرى المشرك يطوف، وقالوا منها: إنَّ الزمان لم يكن قد استدار، وأنَّ هذه الحجة لم تقع في شهر ذي الحجة، ولهذا أبان النبي ﷺ، فقال: «إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ»، فهذا الشهر وهذا اليوم هو الميقات الشرعي، وقد بينه الله -عز وجل- واختاره لرسوله ﷺ.
هذا كله وقع من ماذا؟
وقع من العبث في الدين، هذا هو الذي يُغلق باب البدعة، فيقول بعض الناس: أخي لماذا تمنع من كثرة ذكر الله وكثرة الصلاة؟ نقول: ما دام أنَّها لم تأت على وجه شرعي تمنع، لماذا؟ لأنَّها ستذهب الوجه الشرعي مع تطاول الزمن، وما عاد أحد من الناس يعرف ما هو الوجه الشرعي في هذه العبادة، فجاء رمضان وأصبح الناس يصومون يومًا قبله ويومًا بعده، فصرنا لا ندري كم عدد أيام الشهر؟
الشهر إمَّا ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا، ولكن هؤلاء أصبح الشهر عندهم اثنين وثلاثين يومًا، فلم يصبح هو الشهر الشرعي الذي أراده الله -عز وجل-، ولهذا شَدَّد النبي ﷺ، فقال: «لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»، أي: رجل من عادته الصيام، يصوم الاثنين والخميس، ووافق يوم الخميس أن يكون يوم الثلاثين من شهر شعبان أو يوم التاسع والعشرين، فنقول هنا ما في بأس. لماذا؟ لأنَّك لم تتعمد بهذا الصيام تقدم رمضان، وبالتالي فأنت لم تغلوا في دين الله -عز وجل- ولا تتنطع فيه ولا تبالغ، اجعل العبادة الشرعية هي العبادة التي أمر الله -عز وجل- بها.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»)}.
هذا الحديث أصلٌ في رؤية هلال رمضان، وقد عَلَّقَ النبي ﷺ صيام رمضان بالرؤية، وَعَلَّقَ الفطر منه أيضًا بالرؤية، فقال ﷺ: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُو»، وجاء في حديث حُذيفة «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة»[7].
وأمَّا رؤية هلال رمضان، فإنَّ جماعة من العلماء قالوا: إنَّه يكفي فيها شاهد واحد، وهذا هو قول الامام أحمد -رحمه الله-، وهو القول الذي تدل عليه النصوص، وإنما ذلك لغرض الاحتياط في العبادة، فلو شهد شاهد برؤية هلال رمضان، وكان هذا الشاهد شاهد عدل صام الناس، وأمَّا الفطر، فإنَّه لابد فيه من شاهدين، وكذلك بقية الشهور لابد فيها أيضًا من شاهدين.
قال: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، يعني: إذا حالت بينكم وبينه غمامة، إمَّا غبار أو سحاب أو نحو ذلك، «فَاقْدُرُوا لَهُ»، وهذه الجملة اختلف العلماء فيها، والظاهر -والله أعلم- أن «فَاقْدُرُوا لَهُ»، وقد فسرها الحديث الآخر، حينما قال النبي ﷺ: «فإن غمَّ عليكُم فأتمُّوا شعبانَ ثلاثينَ»[8]، فإذًا معنى «فَاقْدُرُوا لَهُ» أي: تكملوا شعبان ثلاثين يومًا، وهذا هو القول الصحيح.
وبناء عليه لا يُشرع صيام يوم الشك، ويوم الشك هو يوم الثلاثين إذا حال دونه غيم أو غيره، هذا ما ندري هل نصومه أم نفطره؟
نقول: الصحيح في هذا أنَّه لا يصام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»)}.
بيَّن المصنف -رحمه الله- أنَّ أول ما يبدأ الإنسان به الصيام هو السحور، فأمر النبي ﷺ بالسحور، وأرشد إليه، وجعله من البركة، فقال ﷺ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»، والسحور إنَّمَا سمي سحورًا؛ لأنَّه يقع في وقت السحر، ووقت السحر هو آخر الليل، ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إنَّ السحور لا يقع شرعيًا إلَّا إذا كان في آخر الليل، وأمَّا قبل ذلك؛ فإنَّه لا يسمى سحورا، بل يُسمى طعامًا، ولكن ما يكون شرعيًا إلَّا إذا كان في آخر الليل.
الأمر الآخر: يُشرع أن يؤخره قدر ما يستطيع؛ لأنَّ النبي ﷺ قد كان يتسحر ثم يقوم إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم بينهما؟ قال قدر ما يقرأ خمسين آية، يعني: ما بين خمس دقائق إلى عشر دقائق، وهذا يدل على مشروعية تأخير السحور.
الأمر الثالث: أنَّه ينبغي للإنسان أن يتسحر ولو بشيء يسير، سواء كان لصيام فرض أو لصيام نفل؛ لأنَّ هذا نوع من تمييز حلول الشرع، كيف؟ إذا وصل الإنسان ليله بنهاره وأصبح صائمًا ولم يتسحر، مع تطاول الزمان قد يظن الإنسان أنَّ الصيام يبدأ من نصف الليل، وربما كان صيام كثير من الناس يبدأ من نصف الليل، تجد أنَّه ينام وهو ينوي إذا استيقظ أن يستيقظ صائمًا، فيكون كأنَّما صامَ من نصف الليل، فأمر النبي ﷺ بالسحور ليكون فاصلاً، ولهذا جاء عن النبي ﷺ أنَّه قال: «فَصْلُ ما بيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ»[9]، وقد جاء عن النبي ﷺ في حديث رواه أبو داود من حديث محمد بن موسى عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: «نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ»[10]، وفيه دلالة على أنَّ السحور يُشرع ولو كان بشيء يسير، يستيقظ الإنسان قبل الأذان ولو بدقيقة أو دقيقتين ويشرب شيئًا يسيرًا من ماء أو يأكل تمرًا، فيحصل به السحور الشرعي، الذي جعله النبي ﷺ بركة له في سائر يومه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَنَسٌ: قُلْت لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً»)}.
هذا هو الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، وذكرنا أنَّه أحد الآداب المستحبة في السحور، وهو يقال: إنَّ السحور ها هنا إنَّمَا يكون في السحر، وأمَّا ما يفعله بعض الناس من تقديمه؛ فإنَّه ليس سحورًا شرعيًا، وإذا اعتقده سحورا فإنَّ بعض العلماء قد جعله من البدعة، فمن ظَنَّ أنَّه إذا أكله في الساعة الثانية عشرة أو الساعة الواحدة أن من باب السحور، نقول: هذا قد يكون بالبدعة؛ لأنه ليس سحورًا شرعيًا، ويترتب عليه أمور كثيرة، فأصبح عندهم شيء يسمونه إلزامًا، يعني: إمساكًا، قبل الإمساك الشرعي، ناتج عن ماذا؟ ناتج عن هذه المعتقدات، حتى يعلم الإنسان أنَّ التغيير مع تطاول الزمان فيه، قد يظن الإنسان أنَّ هذا الأمر يترتب عليه شيء، لكن مع تطاول الزمن تنتج عنه البدع؛ لأنَّ البدعة تجر بدعة.
فإذًا يقال: السحور الشرعية إنَّما هو سحور النبي ﷺ الذي كان يُؤخره ﷺ إلى قريب من صلاة الفجر.
قال أنس: «تسحَّرْنا معَ رسولِ اللَّهِ ﷺ ثمَّ قمنا إلى الصَّلاةِ قلتُ كم بينَهما قالَ قدرُ قراءةِ خمسينَ آيةً»
ذكرنا سابقًا أنَّ كل عشر آيات تُوازي وجهًا من كتاب الله -عز وجل-؛ لأنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقدرونها بسورة السجدة، ويذكرونها ثلاثين آية، وسورة السجدة ثلاثة أوجه، وعلى هذا فـخمسين آية تعادل خمسة أوجه، وإن قرأها قراءة حدر؛ فرغ منها في خمس دقائق، وإن قرأها قراءة ترسل؛ فرغ منها في عشر دقائق، فبكل الأحوال يكون الفراغ من السحور والدخول إلى الصلاة في هذا الوقت، أي: ما بين الخمس إلى عشر دقائق، هذا هو الوقت الشرعي الذي ثبت عن النبي ﷺ.
{شيخنا، الدخول في الصلاة، يُراد به إقامتها أم الأذان؟}
الظاهر -والله أعلم- أنَّه يُراد به الأذان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ»)}
هذه من المسائل التي كان فيها خلاف قديم ثم انقضى واندثر، وهي حُكم من أدركه الفجر وهو جنب من أهله، أو جنب من احتلام، يعني: أَذَّنَ الفجر وهو على جنابة، إمَّا من جماع أو من احتلام، فهل يصح صومه أو لا؟
هذه مما وقع فيها الاختلاف بين السلف في الزمان الأول، فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يرى أنَّه إن أصبح جُنبًا؛ فإنَّه يجب عليه الفطر ويقضي هذا اليوم، ثم إنَّه أُخبر أمر مَرْوَان[11]، فأمر بعض الناس أن يذهبوا فيستخبروا من أزواج النبي ﷺ؛ لأنَّ هذا من الأمور التي يختصون بها، فأخبرته عائشة وأم سلمة أنَّ النبي ﷺ كان يطلع عليه الفجر وهو جنب من جماع غير احتلام، ثم يصبح صائمًا؛ فدلَّ ذلك على أنَّ صوم الإنسان في مثل هذه الحال صوم صحيح، وأنه لا يجب عليه الفطر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ. فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ»)}.
هذا حديث جليل، وهو من عمد أحاديث الأحكام، ومن عمد أحاديث الصيام، لَمَّا كان الصيام في الأصل إنَّمَا يتناول الامساك عن الطعام والشراب والنكاح، فإنَّه قد يقع من الإنسان النسيان، فيطعم أو يشرب، فرفع الله -عز وجل- عنه ذلك، وبين النبي ﷺ في هذا الحديث أنَّ «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ»، يعني: هي هبة ومنة من الله -عز وجل- مَنَّ وتفضل بها عليه، فليقبل ضيافة الله -عز وجل-.
لكن متى ما علم بذلك فليمسك، ولكن هل يجب عليه قضاؤه؟
لا؛ لأنَّه لو وجب عليه قضاؤه لكان في ذلك مشقة عليه، ولِمَا كان في ذلك منة، والصحيح أنَّه ما يجب قضاؤه.
الأمر الأخر، هل يقاس على الصيام غيره من النكاح؟ يعني: لو أنَّ إنسانا عاشر أهله، هل يقاس على الصيام؟
الصحيح من أقوال أهل العلم أنَّه يقاس على الصيام؛ لأنَّ بعض العلماء قال: إنَّه لا يقاس على الصيام من جهة أنَّه لا يتصور نسيانه. كيف؟ قال: إذا نسي هو فلا تنسى زوجته، لكن قد يتصور ذلك بأنَّه حديث العهد بالزواج، مثلا قد يتصور الإنسان ذلك وفي أول أيام الصيام مثلا قد يحصل ذلك، فإذا حصل، فالصحيح أنَّه يتم صومه، ويكون إنَّمَا أطعمه الله -عز وجل- وسقاه، وهذا من الجهل والنسيان المرفوع الذي رفعه الله -عز وجل- عن هذه الأمة.
{أحسن الله إليكم. شيخنا هل يذكر الناس}.
الأصح -والله أعلم- أنَّه يذكر الناس. لماذا؟ لأنَّه يقال: إنَّه في حقك أنت أيها المشاهد مُنكر، ويجب عليك أن تُنكر. بعض الناس قال: دعه يطعمه الله ويسقيه، نقول: هو في حقه طعام وشراب من الله -عز وجل-، لكن فيما أراه أنا الآن، الظاهر لي أنَّه منكر، وأنا ما أعلم أنَّه لا شيء عليه، فينبغي لي أن اذكره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: «مَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَأَنَا صَائِمٌ -وَفِي رِوَايَةٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ -وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ- قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» قَالَ: أَنَا. قَالَ: «خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقَ بِهِ». فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو حديث جليل وعظيم القدر، وأجمُّ الفوائد.
هذا الحديث من المعلوم ومن المتقرر أنَّ الصيام يجب الامساك فيه عن الطعام والشراب والنكاح، وقد كان هذا الأمر عسيرًا على الصحابة -رضي الله عنهم- في أول الأمر، حتى كان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يقول: لَمَّا دخل رمضان وكنت امرأ أصيب من النساء مالا يصيب غيري، فخشيت أن يمتد ذلك، يعني: يجامع ثم يمتد حتى يطلع عليه الفجر. قال: فظاهرت من امرأتي، يعني: خشي الضرر فعالجه بالقتل. قال: فظاهرت من امرأتي.
وانظر كيف أنَّ تشدد الإنسان في بعض الأمور يأتي أحيانًا بنتائج عكسية مخالفة لأمر الله -عز وجل- يأتي بأمر لا يُحمد عقباه.
قال: فظاهرت من امرأتي، قال: فبينما هي تخدمني، اذ تكشفت لي ساقيها فوقعت عليها، كان يجوز له الوقوع عليها ومعاشرتها في الليل، ولكنه الآن ارتكب المحظور، بماذا؟ بالمظاهرة. فكان فيه القصة المعروفة، لكن هذا الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ حصل له ما حصل لهذا الرجل، فإنَّه وقع وجامع امرأته في نهار رمضان فجاء فزعًا إلى النبي ﷺ، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: «مَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَأَنَا صَائِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ) ليعلم أنَّه لَمَّا أمر الله -عز وجل- وَحَتَم الصيام في رمضان، كما جاء في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-، كان الأمر شاقًا على الصحابة -رضي الله عنهم- لماذا؟
لأنَّه كان في القاعدة عندهم أنَّ من نام قبل أن يفطر، يعني: دخل الليل عليه ونام قبل أن يفطر؛ فإنه يمسك عن الطعام والشراب والجماع إلى أن يفطر من الغد.
قال: فجاء أبو صرمة -وقد كان يعمل في بستانه يكدح فيه في النهار وهو صائم- إلى امرأته وقد أذَّنَ المغرب، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا. أذهب فأبتغي لك، فلمَّا فذهبت ورجعت إليه وجدته قد نام، فقالت: خيبة لك. فلما أصبح من الغد أُغشي عليه، فأنزل الله -عز وجل- الرخصة في أنَّه من حين ما تفطر لك الحق في أن تعمل ما تشاء، فتأكل وتشرب وتعاشر وتنكح إلى آخر ذلك.
الشاهد، أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قد كان بعضهم يختان نفسه، يعني: ربما جامع في الليل، وبالطبع كان الجماع في الليل أهون من الجماع في النهار قبل أن يُرَخَّصَ.
أمَّا هذا فإنَّه قد واقع في نهار رمضان، فجاء فجعل النبي ﷺ كما في بعض الأحاديث جاء ثائر الرأس، يقول: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ)، وفي بعضها أنَّه قال: يا رسول الله احترقت.
قال له النبي ﷺ: («مَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، وَأَنَا صَائِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ) وهذه هي الشاهد؛ لأنَّ الحرمة على الصحيح عند العلماء إنَّمَا تقع في شهر رمضان، وهذا أمر ينبغي أن يُحرر، فنقول: إنَّمَا جاء هذا الرجل للنبي ﷺ؛ لأنَّه واقع أهله في رمضان، وبناء عليه من واقع أهله في قضاء رمضان لم تجب عليه الكفارة، ومن واقع أهله في صيام فرض غير رمضان، لم تجب عليه الكفارة المغلظة، ومن واقع في صوم نفل فكذلك من باب أولى.
الشاهد أنَّه قال: (أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟») عامله النبي ﷺ بأغلظ الكفارات؛ لأنَّ هذا انتهاك عظيم لحرمة شهر، والأصل أنَّ المحظورات بوجه عام، سواء كانت محظورات صيام أو محظورات إحرام، يتدرج فيها، فالفطر بالطعام والشراب ليس كالفطر بنكاح، غاية المحظورات دائمًا هو النكاح، نرى أنَّه في الحج هو رأس المحظورات، حتى إن العلماء -رحمهم الله- قالوا: من عاشر امرأته وواقعها قبل وقفة عرفات فسد حجه. ومن عاشرها بعد الوقفة فقد وجب عليه هدي، والهدي إمَّا بعيرًا أو شاة على قول بعض العلماء -رحمهم الله.
والنبي ﷺ عامله هنا كمعامله قاتل النفس، ليعلم أنَّ إثم المعصية كإثم القتل، كفارة القتل تراها مشابهة أو مقاربة لكفارة الجماع في نهار رمضان، ليدل ذلك على عِظم وخطر هذا الأمر، وعظم وخطر المعصية.
فقال النبي ﷺ: («هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قَالَ: لَا) وفي بعض الروايات قال: يا رسول الله والله لا أملك إلَّا رقبتي، أي: ما عندي رقبة.
قَالَ: («فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لَا). وبعض الروايات أنَّه قال: وهل أوقعني فيما أوقعني فيه إلَّا الصيام، وهذا المعنى ينبغي أن يُقرر، فيقال: إنَّ كثيرًا من الناس الذين يقعون في مثل هذا المحظور ربما تساهل في الترتيب الشرعي، ولذا نقول: لا يجوز الانتقال من صيام شهرين متتابعين إلى إطعام ستين مسكينًا إلا إذا كنت تعلم أنَّك لا تستطيعه.
قد تقول: أنا لا أقدر ولا أستطيع صيام ستين يومًا، فيقال له: هل تقدر على صيام رمضان، يقول: نعم أقدر، فيقال له: إذا كنت قادرًا على صيام رمضان فإنك ستقدر على صيام الستين يومًا، ما في فرق.
قد يقول: لا، لا أقدر؛ لأنَّ رمضان أُكابده مكابدة، وأدافعه مدافعة، ولولا الأجازة التي تكون في رمضان، والتسهيل الذي يكون على الموظفين في رمضان لَمَا استطعت صيامه.
يقال في مثل هذه: انتقل إلى المرتبة الثالثة، إذن شرطها صيام شهرين متتابعين.
ماذا تفعل المرأة لو وقعت في مثل هذا، وقيل لها: صيام شهرين متتابعين، تعلمون أنَّ الحيض يقطع صيامها، والرجل إذا صام شهرين متتابعين وتخلل ذلك عيد الأضحى، فيؤمر بالفطر، وهذا الفطر الشرعي لا يقطع التتابع، ولكن تقضي هذا الذي أفطرت فيه، وكذلك أيضًا المرأة.
أمَّا إذا قطع التتابع مُتعمدًا فعليه الإعادة، فمن صيام شهرين متتابعين حتى جاء إلى اليوم الثامن والخمسين فأفطر بدون عذر، اشتهى الطعام فأفطر، نقول له: عليك الإعادة وتبدأ من جديد، لماذا؟ لأنَّ الحكم الشرعي لم يتحقق، ولم يصم شهرين متتابعين، بل صام شهرين متفرقين، فإذًا لابد من التتابع.
قَالَ: («فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لَا) وفي بعض الروايات قال: لا أملك إلا قوت يومي.
قَالَ: (فَمَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ)
المكتل هو الزِنبيلٌ، واختلف العلماء -رحمهم الله- في "كم يسع"، فقال بعضهم: يسع ثلاثين صاعًا، وقال بعضهم: يسع خمسة عشر صاعًا، وهو الظاهر، قال الإمام أحمد: إنَّه كان يسع خمسة عشر صاعًا، فعلى هذا يكون إطعام كل مسكين مُدًّا من طعام، والمد ها هنا "بر" وإذا لم يكن "البر" كان مُدين من نحو ذلك، هذا هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في الكفارات، حيث ورد عنه في الكفارات أنَّ "البُرَّ" يقوم مقام الضعف من غيره، بخلاف زكاة الفطر، قال: لأنَّ فيه نص عن النبي ﷺ لا أستطيع أن أخالفه.
قَالَ: («أَيْنَ السَّائِلُ؟» قَالَ: أَنَا. قَالَ: «خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقَ بِهِ» فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) هذا فيه دلالة على أنه يجوز إخراج الصدقة بالنيابة، يعني لو أنك تعلم رجلاً وجبت عليه كفارة أو صدقة واجبة عليه، ولا يستطيع أن يخرجها فيجوز أن تُنيب عنه، فتقول: أنا سأخرجها عنك، لكن الأهم أن تُشعره بذلك حتى يعلم وحتى تقع نيته نية مجزئة؛ لأنَّ هذه عبادة، والعبادة لابد فيها من نية، ولا تقع النية عن الغير.
قَالَ: («خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقَ بِهِ». فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ») أمر النبي ﷺ بإطعام أهله -والله أعلم- أنَّه من باب الصدقة عليهم، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أنَّ الصدقة على الأهل أعظم من الصدقة على غيرهم، وأعني بذلك الصدقة والنفقة الواجبة، كما قال النبي ﷺ لَمَّا سأله الرجل فقال: «يا رسولَ اللَّهِ، عندي دينارٌ. قالَ ﷺ: أنفِقهُ علَى نفسِكَ. قالَ: عِندي آخرُ، قالَ: أنفقهُ على أهلِكَ قالَ: عِندي آخرُ، قالَ: أنفِقهُ على ولدِكَ. قالَ: عِندي آخرُ. قالَ: تصدَّق بِهِ على خادمِكَ، قالَ: عندي آخرُ، قال: فأنتَ أبصَرُ»[12]، فإذًا النفقة على الأهل من أعظم ما يكون، ولهذا أمر النبي ﷺ بإنفاقها على هؤلاء، والصحيح أنَّ هذه قد وقعت كفارة مجزئة؛ لأنَّها لو لم تُجزئ لما أمره النبي ﷺ بإنفاقها، وبعض العلماء قال: إن النبي ﷺ أمر بإنفاقها للأهل ولكن بإخراج الكفارة إذا قدر، وتكون ثابتة في عنقه، فنقول: لا، بال الظاهر -والله أعلم- أنك لو كنت فقيرًا، وجاءك رجلاً يريد أن يتصدق عليك أو يريد أن يُخرج عنك كفارة كانت عليك، فيقول له: أنا عليَّ كفارة، وأنت جزاك الله خيرًا تريد أن تُخرجها عني، ولكن أنا لا أجد قوت يومي، فيجوز في مثل ذلك أن تُخرج على أولاد، وتقع مُجزئة لفعل النبي ﷺ، وهذا حقيقة مما يدل على سماحة الشريعة، وعلى أنَّ الأصل أن لا يُعامل أهل المعاصي بالغلظة إذا جاء تائبًا أو مستفسرًا، ولا يصح أن يُشَدَّ عليه، فهذا الرجل ارتكب مُنكرًا ولم نحج أنَّ النبي ﷺ شدَّد عليه لَمَّا جاءه تائبًا، وجاءه مستفسرًا، فإذا جاءك الرجل يستفسر منك فلا تذهله عن الجواب والحكم الشرعي بالإنكار عليه والتغليظ عليه، ما دام أنَّه قد جاء مُنيبًا وتائبًا يُريد حكم الله -عز وجل- فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (بابُ الصومِ في السَّفرِ وغيرهِ.
عَنْ عَائِشَة َ-رضي الله عنها: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ- فَقَالَ: «إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»)}.
ذكر المصنف -رحمه الله- هاهنا (باب الصوم في السفر)، فلمَّا فرغ من أحكام الصوم الواجب؛ ذكر بعض الرُّخص التي يسقط بها الصوم الوجب.
الأصل -بوجه عام- أنَّ الصوم واجب على كل ما أدركه رمضان مُقيمًا قادرًا وبالغًا، ولكن الصوم في السفر هو من الحالات رخص الشارع في الفطر فيها، فقال هاهنا: (بابُ الصومِ في السَّفرِ وغيرهِ) أي: للدلالة هل يُشرع أو لا يُشرع؟ وأيهما أفضل أن يصوم في السفر أو يفطر؟ والمراد بالصوم ها هنا الصوم الواجب.
ذكر فيه حديث (عَائِشَة َ-رضي الله عنها: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ- فَقَالَ: «إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ») وقد صدر المصنف بهذا الحديث مع أنَّه قد جاء في صحيح مسلم أنَّه قال: «هي رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فمن أخذ بها فحسن، ومن تركها فلا بأس»[13]، وأراد المصنف -رحمه الله- أن يُبين أنَّ صيام الفرض في السفر متروك للإنسان، إن شاء صامه وإن شاء أفطره، وإذا كان كذلك فإنهم قالوا: إذا كان الصيام يشق عليه ولو مشقة يسيرة، فيقال الفطر في حقه أولى، فإذا كان من معه من الناس، كحال رب أسرة معه أولاده أو معلمًا معه طلابه ويشق عليهم الصيام، فيقال: إن الأفضل أن يواسيهم بنفسه ويفطر معهم حتى ولو لم يشق عليه من أجل أن يفطروا، لماذا؟
لأنَّ النبي ﷺ قد فعل ذلك، كما أفطر ﷺ معهم في فتح مكة، مع أنه كان في رمضان، وإن كان لا يشق عليه فالأمر في ذلك واسع.
لكن يبقى الترجيح، أيهما أفضل؟
قال رجل: الأمر عندي مستوٍ، لا هذا ولا هذا، فنقول الظاهر -والله أعلم: إنَّ حديث حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ واضح، قَالَ: «هي رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ» والأولى الأخذ برخصة الله -تبارك وتعالى- التي رخص الله -عز وجل- بها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»)}.
هذا فيه دلالة على ما قرره في الحديث السابق، وهو أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا مع النبي ﷺ مختلفون، منهم من يصوم، ومنهم من يُفطر، ولم يكن النبي ﷺ يُنكر على أحدٍ منهم، ولكن كان النبي ﷺ إذا احتاج أن يأمرهم بالفطر أمرهم به، كما قال في حديث أبي سعيد: «إنَّكُمْ قدْ دَنَوْتُمْ مِن عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ. فَكَانَتْ رُخْصَةً؛ فَمِنَّا مَن صَامَ، وَمِنَّا مَن أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقالَ: إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فأفْطِرُوا. وَكَانَتْ عَزْمَةً، فأفْطَرْنَ»[14]، وإلا فالأمر في ذلك واسع، وربما يقول بعض الناس: يشق عليَّ أن أفطر الآن، ثم أصوم بعد رمضان، أريد أن أصوم مع الناس، فيقال: الأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي لأحد أن يعيب عليك، وقد ثبت في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-، قال: «قَدْ رأَيْتُنا في بعضِ أسْفارِنا، وإنَّ أحدَنا ليَضَعُ يدَهُ على رأسِهِ من شِدَّةِ الحَرِّ، وما في القومِ صائمٌ إلَّا رسولُ اللهِ ﷺ وعبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ»[15]؛ فدل ذلك -والله أعلم- على أنّ الأمر في ذلك واسع، إن شاء الله صام وإن شاء أفطر.
لكن تبقى مسألة، وهي مسألة ما إذا سافر وهو صائم، فمن أنشأ سفرًا وهو صائم، كحال من خرج من مدينة الرياض بعد صلاة الفجر، الآن وجب عليه الصيام، ولكنه سافر، فهل يجوز له أن يفطر؟
نقول: الصحيح أنه يجوز الفطر، بينما قال بعض العلماء: لا، من خرج وهو صائم فينبغي عليه أن يكمل صيامه، ولكن -كما قلنا- الصحيح أنه يجوز الفطر، وقد ثبت أن النبي ﷺ صام يومًا ثم أفطر، وأمر أصحابه -رضي الله عنهم- بالفطر.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»)}.
نعم هذا هو الحديث السابق الذي أوردناه ضمن حديث أنس -رضي الله عنه-، وفيه أنَّ أبا الدرداء -رضي الله عنه- ذكر أنهم خرجوا مع النبي ﷺ في شهر رمضان في حرٍّ شديد، وهذا على ما قاله بعض العلماء أنه كان في فتح مكة، قال: «حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»، هذا مما قد استدل به بعض العلماء الذين يقولون: إنَّ الصوم أولى من الفطر في رمضان للمسافر، ولكن يقال في مثل هذا: إنَّ عندنا نص قولي ونص فعلي، فأمَّا النصُّ القولي فهو قول النبي ﷺ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ: «هي رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ». وأمَّا النص الفعلي ففعله ﷺ، ومن المعلوم أنَّ النبي ﷺ قد كانت له خصائص في الصوم ليست لغيره، وكان له إعانة من الله -عز وجل- ليست لغيره، أولم يَنْهَى النبي ﷺ عن الوصال مع كونه كان يواصل! وقال: «إنِّي أبيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقين»[16]، وفي بعض لي الروايات: «إِنَّ لِي مُطْعِمًا يُطْعِمُنِي وَسَاقِيًا يَسْقِينِي»[17]. فدلَّ ذلك على أنَّ حال النبي ﷺ ليس كحال غيره، وقد كان عنده ﷺ القوة على أمر الله -عز وجل- في الصيام ما لم يكن عند غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-، فلا يصح أن يعارض النص القولي بالنص الفعلي، ويقال: الأمر في ذلك واسع، والأمر في ذلك متقارب، ولا ينبغي يُثَرَّبَ على المخالف، فهذه المسألة من المسائل التي لا يُنكر فيها على من خالفك، خرجت أنت وصاحبك في سفر، فأفطرت أنت وصام هو، فلا تنكر عليه، بل لا يُشفع النَّكير، قد قال أنس -رضي الله عنه: «فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصائم».
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَاماً وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ. قَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ». وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ»)}.
هذا الحديث هو أحد الأحاديث التي تمسك بها من قال بعدم مشروعية الصيام في السفر، حتى غلا الظاهرية فقالوا بحرمته، وجاوز ابن حزم كل حد فقال: "إنه إن صام رمضان وهو مسافر لم يقع صومه صحيحًا"، قالوا له: فإن سافر وكان في رمضان. كحال من قال: أريد أن أصوم لكن ليس عن رمضان، وإنما قضاء، قد يقع صومه صحيحًا. قالوا: من أين؟ قال: من قول النبي ﷺ: «ليسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ»[18]، وما يقابل البر هو: الإثم. فيقال: هذا الحديث جاء على سبب، والأصل في الحديث الذي ورد على سبب أنَّه لا يجوز تنحيته عن سببه.
إذًا ننظر ما هو السبب؟ السبب أنَّ هذا الرجل كان صائمًا ومُتعبًا حتى كان يظلل عليه، فلمَّا سأل النبي ﷺ عنه أخبروه بحالته، فقال: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يعني: على من كانت هذه هي حالته، وإلا فالأحاديث التي قبله تدل على أنَّ النبي ﷺ قد رخص.
فإذًا يقال: من كان يشق عليه الصوم في السفر، فما من شك أنَّه ليس من البر في حقه الصيام، وأنَّ جماعة العلماء -رحمهم الله- على أنَّه يُؤمر بالفطر، الفطر في حقه أولى، وإنما يقال باستواء الحالين على من لم يكن يضره الصوم في السفر، كمن كان سفره مترفًا أو كان سفر ساعة واحدة بالطيارة مثلا، وما إلى ذلك، فالصوم ما شق عليه، نقول: الأمر في مثل هذا واسع، إن شاء صام وإن شاء أفطر.
وقوله: (وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ») أيضًا هذا أحد من ما نزع به من قال: إنَّ الفطر مُقدم على الصيام. قال: ها هنا رخصة، وكما أنَّ الله -عز وجل- يحب أن تؤتى عزائمه؛ فإنَّه يحب أيضًا -سبحانه وبحمده- أن يُؤخذ برخصه التي رخص بها، فهذه أحد ما نزع به من قلى بأنه يشرع الفطر للصائم في رمضان إذا كان مسافرًا.
نكتفي بذلك.
{أحسن الله إليكم ونفع بكم، في ختام هذه الحلقة نشكركم أيُّها المتابعون والمشاهدون الكرام على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
------------------------------------
[1] رواه الإمام النسائي.
[2] رواه البخاري (5927).
[3] رواه البخاري (1906)، ومسلم (1080).
[4] أخرجه الترمذي (697) واللفظ له، وابن ماجه (1660).
[5] أخرجه الترمذي (687)، والدارقطني (2/162) واللفظ له، وصححه الألباني.
[6] أخرجه البخاري (4406) ومسلم (1679).
[7] رواه النسائي.
[8] أخرجه النسائي (2128).
[9] رواه مسلم (1069).
[10] أخرجه أبو داود (2345)، والبزار (8550)، وابن حبان (3475).
[11] رواه مسلم (1109).
[12] أخرجه الشافعي في ((الأم)) (6/225)، والحميدي (1176)، والبيهقي (16109) باختلاف يسير.
[13] رواه مسلم (1121).
[14] رواه مسلم: (1120).
[15] أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122).
[16] أخرجه البخاري (1966)، ومسلم (1103).
[17] صحيح أبي داود (2361).
[18] أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).