الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22798 18
الدرس الخامس عشر

عمدة الأحكام 2

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، مرحبًا بكم، حياكم الله معاشر طلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) المستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي مع فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ}.
حياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند منتصف حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما}.
نعم نستكمل -إن شاء الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إلَاّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ».
وَلِلْبُخَارِيِّ:
«وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ. وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فنستكمل ما وقفنا عنده في الدرس الماضي.
قال المصنف- رحمه الله: («وَلا الْخِفَافَ») وقد ذكرنا أن الخفاف هو كل ما كان من جلد يغطي الكعبين، ويشمل هذا أيضا ما كان من الوبر أو الشعر أو غير هذا، هذه كلها تسمى خفافًا؛ لأنه قد ذكرنا أنَّ من القاعدة عند العلماء -رحمهم الله- أن الجوربين بمنزلة الخفين، والجورب هي مكان من قماش أو نحو ذلك.
قال: («إلَاّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ») فإنه إذا قطعهما أسفل من الكعبين عاد في حكمه أو في حقه نعلين؛ فدلَّ ذلك على جواز لبس ما كان دون الكعبين من الأحذية ونحو ذلك.  
ثم ذكرنا أنَّ هذا الحكم، وهو حكم القطع، على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول للإمام أحمد -رحمه الله- حكم منسوخ، نُسخ بحديث ابن عباس الذي سيأتي -إن شاء الله عز وجل- بعد قليل.
قال: («وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ»)، والزعفران بوجه عام هو الصبغ المعروف، ونهى النبي ﷺ عن لبس الثوب المزعفر، والثوب المزعفر هو المصبوغ بالزعفران. لماذا؟ لأنه من لباس الزينة.
و (الوَرْسٌ»): هو نبات ينبت في اليمن، وهو صبغ قريب الشبه من الزعفران، وأيضًا ينهى عن الصباغ به، وإذا صبغ الإنسان به أصبح اللون أصفر، أو قريب من ذلك، وقد كانوا يحبون الصفرة، ألم تر أن ابن عمر رؤي يصبغ بالصفرة، ويلبس الثياب الصفراء، وقال: "إني رأيت النبي ﷺ يلبس الصفرة، ويصبغ بالصفرة، فأنا أحب أن ألبسها وأصبغ بها".
إذًا لبس الثوب الأبيض الذي يميل إلى الصفار، نقول: لا بأس فيه، بل هو قد يكون في بعض الأمور من سنة النبي ﷺ.
قال: («وَلا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ») فإذا ما كان من الثياب طابعه الزينة، ومصبوغ بمثل هذه الصباغة الجيدة؛ فإنه ينهى عن لبسه.
يبقى السؤال: إذا نهي عن الثياب المصبوغة بالزعفران، فهل يجوز شرب ما كان الزعفران موضوعًا فيه، كشرب القهوة المزعفرة مثلاً ونحو ذلك؟
نقول: الظاهر -والله أعلم- أنه لا بأس به، لماذا؟ لأن هذا لا يتعلق به زينة، وهذا الحديث إنما ورد في النهي عن الزينة، وشرب الزعفران لا يتعلق به زينة، وهو نوع من الطيبات التي أحلها الله -عز وجل-، فليست من الصباغة في هذا الحال، وإنما نهي عن الزعفران الذي يستخدم للصباغ، وأمَّا الزعفران الذي يستخدم للأكل فالصحيح أنه لا يدخل في هذا المعنى.
{إذا تقرر عندنا أن النهي عن الزعفران والورس إنما هو للزينة للمحرم، فهل يدخل في ذلك حكم استخدام المنظفات مثل: الشامبو إذا أراد الحاج أن يستحم أو يغتسل إلى آخره؟}.
الآن فيما يتعلق بالزعفران والورس، نحن نتكلم فيه عن لباس الحاج، يعني: هذا القسم إنما هو في الأحكام المتعلقة باللباس، وأمَّا ما يتعلق بالمنظفات ونحو ذلك؛ فإنها أمر آخر، تتعلق بمحظور آخر من محظورات الإحرام، وهو محظور مس الطيب، ومحظور مس الطيب من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله-، ما هو الضابط الذي ينهى عنه.
 سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله عز وجل- فيما بعد.
قال: (وَلِلْبُخَارِيِّ: «وَلا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ. وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ») نهى النبي ﷺ المرأة عن أن تنتقب، والنقاب معروف، وهو الحجاب الذي يظهر عينيها، وقالوا: إنما نهي عنه للمحرمة؛ لأنه يحدد عينيها. فكأنَّما فُصِّلَ عليها، قالوا: والنهي ها هنا -والله أعلم- إنما يتناول انتقاب المرأة في غير محضر من الرجال؛ لأنَّ الأصل في المرأة -بوجه عام- أن تكشف وجهها عند غير الرجال، ويقولون دائما: إحرام المرأة في وجهها، ويريدون بهذا المعنى أنَّ المرأة إذا أحرمت يجب عليها أن تكشف وجهها، أن لا تغطي وجهها في مكان يسعها فيه عدم تغطية الوجه، وأمَّا بحضور الرجال فلا، ويدل عليه قصة أمهات المؤمنين، وهذا نصٌ صريحٌ في هذه المسألة، تقول عائشة: -رضي الله عنها: ((كنا مع النبي ﷺ نكشف وجوهنا فإذا حادانا الركب سدلت إحدانا جلبابها أو خمارها على وجهه))، فدل ذلك على أنَّ المرأة تكشف وجهها في غير حضور الرجال، وهذا من المعاني التي تغفل عنها النساء، لأنَّ المرأة أحيانًا قد تحرم، وتركب في سيارة مظللة، فيجب عليها أن تكشف وجهها، كما أنَّ الرجل عليه أن يكشف شعره.
فإذا كانت المرأة في خيام نسائية في يوم التروية، أو يوم عرفة؛ فنقول: يجب عليك أن تكشفي ما تتغطين به إلا بمحضر من الرجال. هذه مسألة.
إذًا، لبس النقاب لا يجوز للمرأة بوجه عام حتى تحل من إحرامها.
هل يدخل في معنى النقاب الكمامة؟ يعني أنَّ كثيرًا من النساء الآن اعتادت على لبس النقاب، وتقول: إذا ذهب عني النقاب وأحرمت وأصبحت مغطية وجهي عند الرجال لا أستطيع أن أرى طريقي، فهل يجوز لي مثلا أن أضع كمامة؟ يعني: ألبس الكمامة ثم أضع فوقها خمارًا.
الظاهر -والله أعلم- أنه يقال في هذا: لا مانع منه؛ لأنَّ هذه ليست نقابًا، ومن قال: إنها نقاب يلزم أن يقول للمرأة: يجوز لك أن تتحجبي الحجاب المعروف، هذا الذي هو لفة الرأس، وتلبس الكمامة، وتكون قد أتيت بالأمر الشرعي.
ومن المعلوم أنَّ من يرى بوجوب الحجاب، وهو القول الصحيح من أقوال أهل العلم، يقول في مثل هذه المسألة: إن هذا ليس حجابًا شرعيًا، فإذًا هذا معناه أنَّ هذا ليس نقابا، ولذلك كان حلاً للمرأة أن تستعين به على حجها في تنقلاتها.
قال: («وَلا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ») القفاز ها هنا هو الدس الذي تلبسه المرأة، ويسمى قفازًا، أو يسمى: "جوانتي" الآن باللغة الأجنبية وما إلى ذلك، وهو معروف عند النساء، وهو أيضًا منهي عن لبسه في الإحرام مطلقا، أي: منهيًا عنه مطلقًا، عند الرجال وعند النساء نقول من هي مطلقا حتى عند الرجال؛ فدلَّ ذلك على أنَّ يد المرأة ليست بعورة، لأنها لو كانت عورة لَمَا أمر الشارع بكشفها عند الرجال، وهذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم، ولهذا لا تلزم المرأة بتغطية كفها، ولو أنَّ المرأة قالت: أنا لا أقدر أن أغطي الكفين لا في حج ولا في عمرة ولا في غيرهما، نقول: ما في بأس، لماذا؟ لأنَّ الشارع لَمَّا نهاها عن لبس القفازين في الحج والعمرة؛ دلَّ على أنها ليست بواجبة، وعلى أنَّ اليدين ليست بعورة، ولكن هو من كمال الستر، وكمال الستر يعد من الأمور التي تتنافس فيه النساء في الفضائل، كما يتنافس الرجال أيضا في الفضائل التي خصهم الله -عز وجل- بها.
{قال -رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ»)}.
هذه خطبة النبي ﷺ في عرفات، التي دعت الإمام أحمد -رحمه الله- إلى أن يقول بهذا القول الذي تفرد به عن بقية المذاهب الثلاثة، هذا قول من مُفردات مذهب أحمد -رحمه الله، وهو القول الذي أنكره الإمام الخطابي على أحمد، وإنما الأحق بالإنكار أن ينكر على الإمام الخطابي، فإنَّ الإمام أحمد قد علم علمًا لم يعلمه الخطابي، فالإمام أحمد -رحمه الله- نظر إلى حديث رواه شعبة بن الحجاج، وهو الإمام الجليل رفيع القدر، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس -رضي الله عنها-، قال فيه شعبة عن ابن عباس: "سمعت النبي ﷺ يخطب بعرفات"، ولفظة عرفات هذه مما جاء به شعبة، وشعبة إمام رفيع القدر، وهو من أحسن الناس ضبطًا للألفاظ، لكنه إنما كان يخطئ في الرجال، ولكنه في الألفاظ كان من أحسن الناس حفظًا لها ومراعاة لها، فأعمل الإمام أحمد -رحمه الله- قول شعبة، ورأى أنَّ هذه من النبي ﷺ ناسخة لقوله السابق، والذي فإنه قال فيه وهو في المدينة: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين». ثم قال ها هنا في عرفة: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ» ولم يذكر القطع.
قال الإمام أحمد: "وها هنا لا يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة"، لماذا؟ لأنَّ جمعًا من الناس الذين حضروا النبي ﷺ في مكة لم يحضروه في المدينة، حيث كان معه في المدينة عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفًا على ما قيل، ولكن الذين حجوا معه ﷺ يجاوزون العشرين ومائة ألف، فهنا جمع كثير لم يحضر مع النبي ﷺ في المدينة، فهذا القول من الإمام أحمد في الحقيقة هو قول وجيه، وقول تسعه النصوص، وقول يدل على أنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- كان واسع العلم بنصوص النبي ﷺ.
قال: («وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَاراً فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ») هذا الحكم سبق في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وما شرحناه، وها هنا: من لم يتيسر له لبس الإزار، يجوز له أن يلبس السراويل. هل يشقها؟
نقول: لا، وهذا أحد ما ساعد الإمام أحمد -رحمه الله- في قوله.
قال ها هنا: ما أمر بشق السراويل، فدل على أنها كما هي، وأنَّه لَمَّا عُدِمَ الإزار، سقط عنه الاتزار، وأصبح لبس السراويل في حقه جائزًا.
قالوا: كل من كان له عذر يقوم مقامه، ولم يذكروا الفدية، وهذا هو أحد المعاني الجليلة، فالنبي ﷺ الآن قد رَخَّصَ في لبس السراويل، والسراويل متفق بين العلماء أنها لا تجوز في الإحرام، وأنَّ من لبسها لغير حاجة؛ فإنه لابس للمخيط، وهم يقولون: يجب عليه فدية صح؟ نعم صحيح، ولكن ليس عليه فدية هنا. قالوا: هو محتاج! نقول: طيب في قصة كعب بن عجرة، كان محتاجًا، وقد أوجب النبي ﷺ عليه الفدية، ولا تنسوا أن الفدية ليست كلها يتعلق بالمال؛ لأنهم قد يقولون: إن هذا محتاج ولا يجد ثمن الإزار، فكيف تطلب منه أن يفدي؟ نقول: فيه أمر آخر، وهو الصيام، صيام ثلاثة أيام في الحج، وهذه سائغة وسهلة وميسورة، وليست صعبة.
فإذًا الظاهر -والله أعلم- أنَّ هذا مما يؤيد القول السابق، وهو أن من وقع في محظور من محظورات الإحرام؛ فإنه يقال له ها هنا: إذا كان النص قد جاء بوجوب الفدية فيه كحلق الشعر، أو الصيد، فنعم، أو ما وقع إجماع الصحابة عليه، مثل: الجماع، فإنه قد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على أنَّ من جامع امرأته بعد الوقوف بعرفة؛ فإنه يجب عليه دم، ففي مثل هذا نقول: يجب عليك دم، وأمَّا ما سوى ذلك فإنه يقال له: قد أذنبت وعليك الاستغفار والتوبة إلى الله -عز وجل-.
{قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ». قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا «لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ»)}.
التلبية بوجه عام هي الإجابة والإذعان والقبول، ولهذا إذا ناداك أحد ممن تحبه، تقول له: لبيك، ولبيك تعني: تلبية لك، وهذا إكرام له، ولهذا لَمَّا قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل: «يَا مُعَاذَ بِن جَبَل!» ماذا قال له معاذ؟ قال: لبيك وسعديك يا رسول الله.
فإذًا هذه التلبية هي الإجابة، قال: («أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ»)، وفي هذا دلالة على أنه يشرع للإنسان أن يلبي في الحج أو أن يلبي في العمرة.
والتلبية على نوعين: هناك تلبية التي هي الدخول في النسك، وهناك تلبية التي هي أو إشعار وإعلام بالحج والعمرة، فأمَّا التلبية التي هي الدخول في النسك؛ فإنها هي التي جاءت عن النبي ﷺ أنه كان يقول فيها: "لبيك حجة" أو "لبيك عمرة"، وهذه إشعار بالدخول في النسك، وهي إشعار لفظي، وليست كما يظنه بعض الناس أنها تلفظ بالنية، نقول: لا ليس تلفظًا بالنية، وإنما هي تلبية لفظية، وبناء عليه فلو أنه عقد النية، وعقد التلبية في قلبه، وما نطق بها لسانه كانت صحيحة، لو أنه حينما جاء إلى الميقات نوى الحج أو العمرة، نقول: صحيح، فإذا قال: لكني نسيت أن أقول: لبيك حجة أو لبيك عمرة، نقول: فعلك صحيح، ولا يستلزم أن تقولها؛ لأنَّه يسن أن تقول ذلك، ولكن لا يستلزم منه هذه التلبية.
ثم أمر آخر من وراء التلبية، وهو التكبير والتهليل والنداء لله -عز وجل-، والشعور بالدخول في المناسك، وهو قول النبي ﷺ لَمَّا قال: («لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ»)، وهذا هو أفضل ذكر يَتقرب به الحاج إلى الله -عز وجل-، وهذه التلبية هي التلبية التي قال فيها جابر -رضي الله عنه: «فَأَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ»[1]، أي: رسول الله ﷺ. لماذا قال بالتوحيد؟ لأنَّ المشركين -كما جاء عن ابن عباس- كانوا يطوف ويقولون: "لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ" فيقول النبي ﷺ: «قدْ قدْ» يعني: يكفي يكفي، وهذا أعظم ما يكون من التوحيد، لكنهم يزيدون معه: "إلَّا شَرِيكًا هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وَما مَلَكَ"[2]، اللات والعزى، وهذه ترى هي التلبية التي يلبي بها مشركو هذا الزمان، أعني أنَّ كثيرًا من مشركي هذا الزمان إذا أشركوا مع الله -عز وجل- غيره من الصالحين قال: "يا أخي الصالح لا يملك ضرًا ولا نفعًا إلا -بإذن الله"، فنقول له: ما سويت شيئًا، لأنَّ هذا هو قول مشركي العرب، لَمَّا قالوا: "إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك" فالصالح لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يملك لك أنت؟ هو بحاجة إلى الوسيلة التي يتوسل بها إلى الله -عز وجل-، فإذًا هذه من المعاني الجليلة التي ينبغي أن تستحضر أنَّ هذا إهلال بأعلى معاني التوحيد، وكسر لمعاني الشرك والجاهلية.
وينبغي لكل مسلم إذا دخل في هذه التلبية أن يفقه معناها يا إخوان؟ كيف تقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، ثم تدعو غير الله، أو تخاف من غير الله، أو تطلب الرزق من غير الله، أو ترجو غير الله؟
هذا كله مناف لهذه التلبية العظيمة، التي تلبيها لله -عز وجل-.
قال: «فَأَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ» والناس مع النبي ﷺ يلبون بما شاءوا، يعني: من التلبية لبيك وسعديك، وهي تلبية ابن عمر، والخير بيديك، والغرباء إليك والعمل، هذه تلبية كان يلبيها ابن عمر، لبيك حقًا حقًا تعبدًا ورقةً، هذه كان يلبيها بعض الصحابة، وكلها تلبية جائزة.
لكن ماذا قال جابر -رضي الله عنه- قال: «وَلَزِمَ رَسُولُ الله ﷺ تَلْبِيَته، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ» فإذًا يقال: الأصل والأحسن هو لزوم التلبية.
ثم إنَّ هذه التلبية ينبغي أن يشرع بها الحاج أو المعتمر، من حين ما يعقد النسك مباشرة، يشرع فيها، ويبدأ بها، ويجهر بها، ويستكثر منها، حتى كان الصحابة -رضي الله عنهم- لا يقدمون إلى مكة إلا وقد صَحَلَت (بُحَّت) أصواتهم، لِمَا الإنسان يتكلم كثيرا يصبح صوته فيه بحة؛ من كثرة ما كانوا يلبون -رضي الله عنهم- وكانوا أيضا يجهرون بهذه، جاء في حديث السائب الخلاد: «أتاني جبريلُ فأمرني أنْ آمُرَ أصحابي فيرفعوا أصواتَهم بالتلبيةِ»[3]. الله أكبر، يجهر بالتلبية؛ لأنها إحياء لشعائر توحيد لله -عز وجل.
ويلبي المعتمر حتى يبدأ ويشرع في الشوط الأول، فإذا بدأ انقطع؛ لأنه قد أجاب منادي الله -عز وجل-، وهنا تنقطع التلبية ويبدأ في ذكر الله -عز وجل- والدعاء بما شاء في طوافه، ونحو ذلك، حتى يفرغ من عمرته؛ فتنقطع التلبية في حقه.
وأمَّا الحاج؛ فإنه يستمر به التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا بدأ يرمي جمرة العقبة انقطعت في حقه التلبية، وأصبح الآن مشتغلاً بتكبير الله -عز وجل، "الله أكبر، الله أكبر، يكبر ثم بعد ذلك يشتغل بالتكبيرات، وتنقطع في حقه التلبية. لماذا؟ لأنه حينما رمى الجمرة حل، وانتهت بذلك أعظم أعمال الحج، فإذًا هذا هو منتهى التلبية للحاج والمعتمر.
{قال- رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَاّ وَمَعَهَا حُرْمَةٌ».
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَاّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقد ذكره المصنف -رحمه الله- وعقده لَمَّا بين وجوب الحج، وأراد المصنف -رحمه الله- أن يُبين أحد المعاني المتعلقة بالمرأة، فإنَّ الحج يجب بقول الله -عز وجل: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:97]، والسبيل عند العلماء -رحمهم الله- هما أمران اثنان: الزاد والراحلة الصالحان لمثله، فكل من ملك زادًا، يعني: طعامًا ونفقةً، يستطيع أن يأكل منه، أو ينفق على نفسه فيه، أو ملك راحلة، والراحلة هي الوسيلة التي تنقله إلى بيت الله -عز وجل-، سواء كانت طيارة أو سيارة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه الحج، قال العلماء: زادًا وراحلة صالحين لمثله، وهذا معنى آخر زادوه، كيف "صالحين لمثله؟ قالوا: لو أنَّ رجلاً ليس من المعتاد عنده أن يركب السيارات القديمة، التي تمشى يسيرا وتقف يسيرا، قالوا: ما يجب عليه الحج، وإنما تجب عليك السيارة التي تليق بمثلك.
وأمَّا الزاد، كما لو أنَّ إنسانًا قال: أنا أستطيع الحج ولكن إذا حججت سأحج بمشقة شديدة جدا في الطعام والشراب، ليست فيما اعتدته، قالوا: ما يجب عليك الحج وإنما يجب عليك الحج إذا ملكت الزائد والراحلة الصالحين لمثلك.
والظاهر -والله أعلم- أنه كيفما كان أمر يوصلك إلى بيت الله -عز وجل- فإنه يجب عليك المبادرة؛ لأنَّ الأصل في الحج أنه ليس مكانًا للترفيه، وقد حجَّ النبي ﷺ على رحل رث، وحج عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، وقد رأى قومًا من أهل اليمن، عليهم رواحل ناضية، يعني: قد أمضاها السفر، وخطوبهم من ليف. فقال: "مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى أشبَهِ رفقةٍ كانوا بأصحابِ النَّبيِّ ﷺ، فلينظُر إلى هؤلاءِ"[4]، فدلَّ على أنه بوجه عام كيفما أمكنك الوصول إلى بيت الله، فعليك الذهاب والحج اذهب؛ وحج، وليس شرط أن تسكن في خيام، والأمر في ذلك واسع.
هذا فيما يتعلق بقول الله -عز وجل: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾، لكن يبقى في المرأة شرط آخر ليس في الرجل، وهو وجود المحرم، ولهذا ذكره المصنف، فقال: («لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَاّ وَمَعَهَا حُرْمَةٌ») ولم يقل: إلا في حج أو عمرة، وإنما قال: ((«إلَاّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»)) مُطلقًا في كل سفر، فإذا كانت ستسافر يقال: هذا سفر أو لا؟ قالوا سفرًا، قلنا: السفر يضبط بالعرف، وأعراف الناس في هذا الأمر حاكمة، ولا يضبط باليوم والليلة؛ يعني: الأيام والليالي الآن تختلف، فما كان يقطع في اليوم والليلة، يقطع الآن في دقائق معدودة، إذًا الأمر إنما هو منوط بعرف الناس، فما سمَّاه الناس سفرًا فهو سفر.
فإذا قالت المرأة: أنا سأسافر الحج، الآن في حقي يعتبر سفرًا، يقال هل معك محرم أو لا؟ قالت: ما هو المحرم؟ أبينوا لي من هو المحرم؟ قلنا: المحرم هو زوجك؟ أو من تحرمين عليه بنسب أو سبب مباح، زوجك أو من تحرمين عليه بنسب مثل: الإخوة، الأعمام، الأخوال، كل هؤلاء أنت تحرمين عليه.
أو بسبب مباح، مثل: زوج ابنتك، هذا سبب مصاهرة، وهو سبب مباح؛ فإذا هذا أيضًا محرم لك، هل يشترط أن يكون على التأبيد؟
هذه مسألة خلافية، قال بعض العلماء: من تحرم عليه على التأبيد، ويأتي من هذه المسائل التي يفرق فيها بين التأبيد وغيره، مثلاً الغلام، لو أنَّ امرأة في الزمان الأول، كان عندها غلام -عبد مملوك لها- فهل تسافر معه أو لا؟
من قال: على التأبيد، قال: لا تسافر معه؛ لماذا؟ قال: لأن العبد ممكن يُعتق ويتزوجك من غد. فما تحرمين عليه على التأبيد.
ومن قال: لا، إنه ليس من شرطه على التأبيد، وإنما هو زوجها، ومن تحرم عليه بنسب أو سبب مُباح، ولو لم يكن على التأبيد، قال: يجوز لها أن تحج معه.
إذًا الأصل بوجه عام أن يقال: المرأة لا يُشرع في حقها الحج في هذه الحال، وقد أسقط الله -عز وجل- عنها الحج، فلماذا تتجشم له؟
تقول المرأة: أنا سأحج مع رفقة من النساء صالحة، فنقول: الأولى ألا تصنع ذلك؛ لقول النبي ﷺ: ««لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ» وقد أرجع النبي ﷺ الرجل الذي اكتتب في غزوة كذا وكذا، لَمَّا قال: يا رَسولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذا وكَذا، وخَرَجَتِ امْرَأَتي حاجَّةً، قالَ: «اذْهَبْ فَحُجَّ مع امْرَأَتِكَ»[5]، فأقفله من الجهاد؛ ليحج مع امرأته، فإذًا يقال في المرأة التي ليس معها محرم: قد عذرك الله، يا أخي أَمْرٌ أعذرك الله -عز وجل- لماذا تذهب إليه؟ وإذا ذهبت فأنت بين أمرين، إمَّا أن يقال: إنك آثم على قول من يقول: إنه لا يشرع، وإمَّا أن يقال: إنك قد خالفت الورع، على قول من يقول: يجوز، حتى من قال يجوز -كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- قال: "إنها مخالفة للأولى، والورع ترك ذلك"، لماذا؟ لوجود النصِّ عن النبي ﷺ، ولهذا يقال: قد عذرك -عز وجل- والحمد لله أنَّ الله -عز وجل- قد عذرك.
بعض أهل العلم رخص في ذلك، والحقيقة أن هذا الترخيص له وجه حتى لا يظن أنَّ الأمر محسوم، وحتى لا تتهم بعض النساء التي تذهب بأنها قد صنعت أمرًا مُنكرًا، ونقول: هذه المسألة قد جاء ما يقويها من جهة أنَّ عمر -رضي الله عنه- قد أحج نساء النبي ﷺ كلهن إلا زينب في آخر حجة حجها، وجعل معهن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، ومن المعلوم أنَّ هؤلاء ليسوا بمحارم لهن، ومن زعم أنه ليس أحدًا من نساء النبي ﷺ إلا ومعها محرم منها، فيقال: لا، ومن زعم أنهن أمهات المؤمنين فتكون حرمتهن حرمة مُغلظة، نقول: نعم هن أمهات المؤمنين، لكن بالإجماع عند العلماء أنهما ليسا بمحارم لهن؛ لأنهما لو كانا محارم لهما فلماذا تكشف له؟ فهذه من المسائل التي جعلت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنَّ هذا الأمر -والله أعلم- قد يوسع فيه إذا كان ثم رفقة مأمونة ونحو ذلك، لأنَّ عمر قد أحج هؤلاء النسوة، وهن أمهات المؤمنين بمحضٍ من الصحابة وما أنكروا، وقد كان جماعة من أمهات المؤمنين، ليس لهن محارم، منهن: صفية بنت حيي -رضي الله عنها- مثلا، ما كان لها محرم.
فإذًا الظاهر -والله أعلم- في هذا أنه على ما ذكرناه -إن شاء الله عز وجل-.
{قال- رحمه الله: (بابُ الفِدْيَةِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْفِدْيَةِ؟ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً. وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي. فَقَالَ:
«مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: «صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أَنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ»)}.
قال المصنف- رحمه الله: (بابُ الفِدْيَةِ)، والفدية عند العلماء هي من الفداء، والفداء إنما هو تقديم شيء مُقابل نجاتك، ولهذا دائمًا تقول: نفدي فلانا، إنسان -لا قدر الله- وقع في قتل، فيقولون: نبحث عن الفدية، أو فداء له، نفديه من الأمر الذي سيقع به، فكأنَّ الإنسان قد أوقع بنفسه لَمَّا ارتكب محظورًا من محظورات الحج، أو ترك واجبًا من واجبات الحج، فقد فعل أمرًا أنقصه وأوقعه في غلة الإثم، فوجب أن يفديه، أو أن يفادي عنه، فإذا هي ما فرض جبرًا للنقص الحاصل في الحج أو العمرة أو النسك بوجه عام. طيب من أين معناها؟
نقول: الفدية أصل قرآني ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة:196]، قال كعب بن عجرة -رضي الله عنه: (نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً. وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً)، وهذا يدل على أن السبب الخاص لا يخصص، وإنما يعمم؛ والعبرة إنما هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما قال العلماء.
قال: (حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي. فقال: «مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى»). قد كان العرب في الزمان الأول يطيلون شعورهم، وهذا أمر قد اعتادوا عليه، وإذا أطال الإنسان شعره كان عرضه في كثيرٍ من الأحيان لبعض الأمراض؛ لأن بعض الأمراض التي تجتمع أحيانا من الأوساخ خاصة ما كانوا عليهم من البيئة الصحراوية -بيئة الغبار- ونحو ذلك، فكانت تتشعث شعورهم، ولم يكن عندهم ما كان عندنا الآن من المنظفات، وكثرة المياه ونحو ذلك، فكان الإنسان يُصاب دائمًا بالشعث، ولا تخلوا شعورهم من القمل، ولم يكن القمل عندهم عيبًا، كما هو عند أهل الزمان هذا، الذي هو زمان الترف، الزمن الأول ما كان هناك عيب، وقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تُفَلِّي رأس النبي ﷺ[6]، يعني: تستخرج منه القمل، فليس عيبا؛ لأنَّ الرجل إذا كثر شعره كان عُرضة لذلك، خاصة إذا كان مخالطًا للغبار، هم كانوا ينامون في بيوتهم، ودورهم ما تخلو من الغبار.
فإذًا، حُمل إلى النبي ﷺ وقد كان كث الشعر -رضي الله عنه-، فرأى القمل يتساقط منه من كثرته، فقال: «مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى»، ثم أمره النبي ﷺ أن يحلق شعره، فلمَّا حلق شعره شفي، يعني: الإشكالية أو المرض كان عنده بسبب كثرة الشعر، التي أوجبته كثرة القمل.
قال: («أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: «صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ»).
أمره النبي ﷺ أن يحلق شعره، وهذا الأمر من النبي ﷺ كان لحاجته، يعني: كان للضرورة؛ لأنه كان مريضًا، فدل ذلك على أنَّ من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام ولو كان لضرورة؛ فإنه يجب عليه الفداء، وهذا قاله جماعة من العلماء، وبعض العلماء قال: لا أصل في ذلك، إنه قاصر على ما جاء فيه النص، والنص جاء ها هنا في حلق الرأس، فإذًا تجب الفدية في حلق الرأس.
طيب ما هي الفدية؟
الفدية إمَّا إطعام شاة، يذبحها ويتصدق بلحمها على المساكين، أو صوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، هذه ثلاثة أصع، وقد ذكرنا أنَّ الصاع يبلغ "اثنين كيلو وأربعين جرامًا تقريبا" أي: فإذًا يكون لكل مسكين كيلو وخمسين جرام، أو كيلو ومائة جرام بالأحوط، من الأرز أو نحو ذلك.
وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي ﷺ أمره بها أمرًا على التخيير؛ لأنه ها هنا قال: («أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لا. فَقَالَ: «صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ»).
فقال بعض العلماء: هذا يدل على الترتيب، نقول: لا، ولكن قد جاء في حديث كعب بن عجرة أنَّ النبي ﷺ في بعض الروايات أمره بها على السواء، والآية إنما جاءت على التسوية، ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ والنسك الذي هو الدم، الذي هو الذبيحة.
فإذًا، يقال بوجه عام: إنَّ هذا يدل على تحريم حلق الشعر لمن عقد النسك؛ وأنه إن حلقه لعذر؛ وجبت عليه الفدية، وإن حلقه لغير عذر فكذلك هي أوجب، لكن المعذور قد سقط عنه الإثم، بخلاف من حلقه لغير عذر.
{قال- رحمه الله: (بابُ حرمة مكةَ.
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ:
«إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ. فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً، وَلا فَارَّاً بِدَمٍ وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ)}.
بوب المصنف الله (بابُ حرمة مكةَ). ومن المعلوم أن مكة شرفها الله -عز وجل- لها حرمة ليست لغيرها من البقاع. فهي محرمة تحريما أزليا مؤكدا؛ حتى أن حرمة مدينة النبي ﷺ إنما كانت بعد تشرفها برسول الله ﷺ، فأمَّا مكة فإن حرمتها كانت حرمة أذلية، ولهذا اعتادت عليها قريش، فكان الرجل منهم إذا لقي قاتل أبيه في الحرم لم يهجه تعظيمًا لحرمة مكة، وأعلام الحرم معلومة، يعلمها أهل مكة، هذه كلها هي أعلام الحرم أو هو الحرم الذي نهى النبي ﷺ عن العبث فيه، ومنع النبي ﷺ فيه من أمور لم تمنع في غيره، فمنها أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ»، فشأنها ليس كشأن غيرها؛ يعني: ما حرمه الإمام أو ولي الأمر أو غيره قد يأتي زمان وتنفك حرمته؛ لأنَّ حرمته حرمة مؤقتة، وقد كان الأئمة في الأزمنة الأولى يحمون أشياء، يسمونها حمى، ترعى فيها الإبل مثلا أو يكون فيها السلطان أو يكون فيها حاجة ثم تنتهي وتنقضي هذا حمى، حرمة مؤقتة، لكن حرمة الله -عز وجل- حرمة أبدية.
قال: «فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَم»
سفك الدم محرم بكل الأحوال، لكنه في هذا البلد من باب أولى وأعظم، ولهذا بعض العلماء فهم من ذلك أنه لا يقاد فيها من القاتل، كيف يَقتل القاتل ثم يعوذ بالحرم؟
قالوا: يضيق عليه حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج من الحرم أُقيد فيه، والظاهر -والله أعلم- أنه يجوز أن يُقاد فيه، يعني: يقبض عليه، ولكن يستحسن إذا أتى تنفيذ الحد أن يُخرج خارج الحرم، هذا هو الأحسن والأولى في ذلك.
قال: «فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَم» ومما يدل على عظم حرمتها أنَّ الله -عز وجل- قد رخص فيها لرسوله ﷺ في قتال مشركي قريش الذين هم أعتى الناس شركًا، وقد كانوا في حرب مع النبي ﷺ على مدار عشرين سنة، ومع ذلك ما رُخِّصَ له ﷺ إلا في ساعة واحدة، لا والأمر يزيد على ذلك، أنَّ النبي ﷺ لم يرخص فيها إلا لقتال من قتل، والنبي لم يقاتل مشركي مطلقًا، بل قاتل منهم من قاتل، وأما من لم يقاتل وألقى سيفه فكان آمنًا، وإنما حصل القتال بين خالد بن الوليد وبين جماعة من أوباش قريش، قاتلهم فقتل منهم -رضي الله عنهم- فهذه هي الساعة التي أحلها الله -عز وجل- لرسوله ﷺ، قال: «فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً». العضد هو القطع، فأشجار مكة محرمة كلها، كل ما كان داخل الحرم لا يجوز قطعه، وقد جاء في بعض الروايات أن النبي ﷺ قال: «ولا يعضد شوكه» قالوا: إذا كان لا يعضد الشوك الذي يكون مؤذيًا، فمن باب أولى ألا يعضد الشجر غير المؤذي، وما دون ذلك، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، كما قال الله -عز وجل: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء:23]، فإذًا ما فوق آلاف من باب أولى، فإذا كان الشوك الذي أحيانا ما يجوز عضده وقطعه، فمن باب أولى غيره، لكن هذا يستثنى منه أمران.
الأمر الأول: أن يترك الدواب ترعى، ما في بأس، هذا ما يسمى عضدًا، فمن تركها تأكل من هذا الحشيش أو تأكل من هذا الشجر أو غيره، ما في بأس، لكن لا تحشه أنت، والشجر الذي استزرعه إنسان في مكة، يزرع نعناعًا مثلا، أو يزرع ريحانًا، أو يزرع تمرًا أو يزرع برتقالاً أو غيره، هل يجوز قطعه؟
نقول: نعم يجوز قطعه؛ لأنَّ هذا شجر قد استزرعته أنت بنفسك، لكن ما سوى ذلك؛ فإنه لا يجوز.
قال: («فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ») كان النبي ﷺ خشي من ذلك، ومن المعلوم أنَّ النبي ﷺ قليلاً ما يتكلم عن المسائل التي ستقع، ولكن لَمَّا كان النبي ﷺ يخشى أن يعبث بحرمة الحرم؛ نبه وقال: («فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ») يعني: لَمَّا أذن الله -عز وجل- للنبي ﷺ ما رخص له أيضًا ترخيصًا مُطلقًا؛ وإنما قيدها بساعة من النهار، فأي شيء أبلغ الحرمة من هذا البيت!
قال: («وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»). قد قال الله -عز وجل- فيها: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج:25]، يعني: مجرد الهم قد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "والله لو أنَّ أحدًا هَمَّ بهذا البيت سوءًا وهو بصنعاء لأذاقه الله -عز وجل- من العذاب الأليم"، حرمة عظيمة، ولهذا لا يفتح باب التأويلات في هذا البلد أبدًا، ليس فيه عبث، جعله الله -عز وجل- آمنًا، ولا يجوز أن تعبث فيه أبدًا، ولهذا قد عظم إنكار السلف الصالح -رضوان الله عز وجل عليهم- على الحجاج لَمَّا دخلوا إلى مكة بالسلاح، كيف تدخل إلى مكة شرفها الله بالسلاح! ولَمَّا أصيب ابن عمر -رضي الله عنه- قد أصابه بعض حرس الحجاج، فقال: لو أنَّا علمنا من أصابك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أنت أصبتني، قال كيف؟ قال أدخلت السلاح في بلد لم يكن يدخل فيه السلاح، يعني: إلى بلد الله -تبارك وتعالى- الذي هو حرام الله -عز وجل-.
فإذًا هذه هي حرمة هذا البلد العظيم.
قال: («فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ») فقيل لأبي شريح: ما قال لك يعني عمرو بن سعيد) وعمرو بن سعيد هذا كان يقال له الأشدق، وقد كان رجل صاحب فسق، ولم يكن من الصحابة ولا من التابعين بإحسان، وقد ابتلي فقتل، قتله عبد الملك بن مروان؛ لأنه كان ممن نازعه على الخلافة، وقد كان هو المستعمل من جهة عبد الملك بن مروان في بعض الأمور على أيام عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه-، فدخل مكة بنوع من العسكر ونوع من السلاح ونحو ذلك؛ فأنكر عليه أبو شريح -رضي الله عنه- فقال: (فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح) يزعم هذا الرجل أنه أعلم أنَّ هذا الصحابي الجليل، وقد خالف الحق، وأخطأ في هذا الشأن، فما كان هو والله يعلم من أبي شريح- رضي الله عنه-، قال: (إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِي)، ويقصد أنَّ عبد الله بن الزبير كان عاصًيا من الإمام، (وَلا فَارَّاً بِدَمٍ وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ) نعم هذا المعنى صحيح، لكنه استعمل استعمالا غير صحيح، فمن كان عاصيًا خارجًا على ولاة الأمر أو على ولي الأمر، وذهب إلى الحرم، فالحرم لا يعيده؛ من يؤتى به، ومن ارتكب دمًا، أو قتل وسفك دمًا ثم يؤتى به، من عمل جريمة غير القتل، كالسرقة أو الإفساد في الأرض، ثم عاذ بالحرم؛ نقول: الحرم لا يُعيدك، (إنَّ الْحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً، وَلا فَارَّاً بِدَمٍ وَلا فَارَّاً بِخَرْبَةٍ)، وخربة ها هنا هي البلية والتهمة ونحو ذلك.
{قال- رحمه الله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُو» وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ. فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَاّ مَنْ عَرَّفَهَا. وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ». فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلَاّ الإِذْخِرَ. فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ: «إلَاّ الإِذْخِرَ»)}.
هذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وهو كالقريب من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- إلا أنَّ فيه معانٍ ليست في حديث أبي شريح -رضي الله عنه- وفيه أنَّ النبي ﷺ قال يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: («لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»)، ولا هجرة، أي: من مكة، فأمَّا الهجرة؛ فإنها باقية ما بقي الإسلام والشرك، والهجرة بوجه عام هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وفي كل زمن تكون في هجرة، فإذا أسلم إنسان في بلد شرك، وما استطاع أن يقيم فيه شعائر الله، فنقول له: هل تجد بلدًا إسلاميًا تهاجر إليه؟
فإذا قال: نعم، فنقول: يجب عليك الهجرة، ولكن ها هنا قوله: («لا هِجْرَةَ») يعني: من مكة إلى المدينة، («وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ») بمعنى أنه قد بقي الآن لكم معشر الصحابة أو يا أهل مكة الجهاد في سبيل الله، والنية الصالحة.
(«وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُو») يعني: إذا دعيت من الجهاد والنفير فاخرجوا، قال: (وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ») وهذا نص قطعي في حرمة مكة، كانت حرمة أزلية، وحرمة مقترنة بخلق السماوات والأرض، فهي حرمة متوارثة من كل الأنبياء من لدن آدم -عليه السلام- حتى محمد ﷺ، وحتى زماننا هذا.
قال: («فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ») يعني: هو محرم من يوم خلق الأرض إلى قيام الساعة، لم يستثن إلا ساعة واحدة في هذه الأزمنة كلها، وهذا يدل على ماذا؟
يدل على عظم قدر النبي ﷺ، حيث استثنى الله -عز وجل- له هذه الساعة، لعظم قدره ﷺ.
قال: («وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ») هذا هو الذي ذكرناه في السابق، قال في السابق: («لا يُعْضَدُ شَجَرُه»)، وهنا قال: («لا يُعْضَدُ شَوكُه»)، فإذا لم يعضد الشوك أو لم يقص الشوك؛ دلَّ على أنَّ ما سواه من باب أولى.
قالوا: إلا ما كان يتطلب ذلك، وعلى سبيل المثال: هم يريدون أن يعبدوا شارعًا من الشوارع، وفيه شجر فيقطع، إنسان يريد أن يذهب إلى مسجده، وهناك شجرة فيها شوك يؤذيه، فهذه في مصلحة الناس، فيجوز له أن يقطعها.
قال: («وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ») تنفير الصيد هو طرده وإبعاده من مكانه، وقد ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه جاء يومًا فأرادوا أن ينصبوا له خيمته، فإذا حمامة قد عششت، فنهاهم عثمان -رضي الله عنه- عن أن ينفروها، وأمر أن يتنحى، هذا كله من رعاية حرمة هذا البيت، لأنَّ هذا نوع من التنفير، ولهذا من أنواع التنفير ما يصنعه كثير من الجهال، إذا جاء إلى مكة يطلق صبيانه الصغار على الحمام من الحرم، وينفرونه ويلعبون معه، هذا نوع من التنفير لهذا الحمام، ولا يجوز، هذا حمام آمن، حتى ولو كان من باب العبث، الطفل لا يأثم، لكن أنت تأثم لأنك أنت من يستطيع منعه ولم تمنعه، فهذا إذًا من التنفير، وإذا كان الصيد ممنوعًا، فمن باب أولى لا يجوز اصطياده داخل الحرم.
قال: («وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَاّ مَنْ عَرَّفَهَ») هذه خاصية لمكة، الأصل في اللقطة أنه يجوز التقاطها، وأنَّ ملتقطها يُعرفها سنة، فإن لم تعترف فهي له، إلا مكة؛ فإنها لا تملك أبدًا، لقطة مكة لا تلتقط أبدًا، إلا من عرفها أبد الدهر، وهذه بلية!
ما حاجتك إلى أن تلتقط شيئًا وتعرفه أبد الدهر، فإذًا إمَّا أن تدعه أو تسلمه للجهات المختصة، وبناء عليه نقول: العبث الذي يحصل في الحرم، يجد إنسانًا شيئًا في مكة أو في الحرم ويأخذه ويزعم أنه سيعرفه، نقول: لا، أنت ستبقى تعرفها أبد الدهر، أو تسلمها للجهات، إلى مكاتب الأمانات في الحرم وغيرها، حتى يتولوا هم تعريفه، ويعملوا فيه بما يرونه.
قال: («وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ») والخلاء هو الحشيش، الحشيش يسمى خلاء، والحشيش هو طعام الدواب، يحشه لأجل ماذا؟ لأجل أن تأكله الدواب.
نقول: لا يجوز. قال ما الذي أصنع؟ الدواب تموت نقول: دعها ترعى، أمَّا أن تحشه فلا.
قال: (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَاّ الإِذْخِرَ. فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ: «إِلَّا الْإِدْخَرْ») والإذخر: نبت طيب الرائحة، كان الحداد يستخدمه حتى يحمي عليه النار، ويستخدمه القين، يستخدمونه في البيوت، ويضعونه بين خلل البيوت إذا كان من لبن، يضعون عليها الإذخر حتى تمنع أحيانًا من المطر، وحتى تعطي رائحة جيدة، ويستخدمونه في القبور، إذا قبروا قبر الميت وضعوه بين الزوايا؛ فرخص النبي ﷺ للعباس فقال: «إِلَّا الْإِدْخَرْ» هذه رخصة من النبي ﷺ في ذلك.
{قال -رحمه الله: (بابُ ما يجوزُ قتلُهُ.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ».
وَلِمُسْلِمٍ: «يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ»، الحِدَأَةُ: بكسر الحاء وفتح الدالِ)}.
قال: (بابُ ما يجوزُ قتلُهُ) يعني: في الحل والحرام؛ هذه من الدواب، الفواسق من الدواب التي لا حرمة لها؛ لأنَّ الأصل في الصيد أنه لا يجوز التعرض له في مكة، لكن ثَمَّ فواسق يجوز قتلها في كل حال، هذه الفواسق هي الفواسق الخمس، وما يقاس عليها.
الفاسق الأول الذي هو الغراب، وجعله النبي ﷺ فاسقًا؛ لأنه يخرب الثمار، فلا يكفيه الأكل منها حتى يفسدها؛ فإذًا الغراب يدخل في هذا.
الأمر الثاني: الحدأة، والحدأة هذه طير معروف، وهو صغير وليس كبيرًا، ولكنه يلتقط الجيف، وما إلى ذلك، وربما التقط بعض المجوهرات، كما في صحيح البخاري، تحسب أن المجوهرات لحمة فتلتقطها منك، فإذًا رخص النبي ﷺ أيضًا في قتلها.
والعقرب رخص النبي ﷺ لسميته وخطره، ويقاس عليه الدابة، ونحو ذلك من الأفعال.
والفأرة؛ لأنها فاسقة وتفسد البيوت ونحو ذلك.
والكلب العقور أيضا هو مما رخص النبي ﷺ فيه، وقالوا: كل ما كان مُفترسا من الدواب أو من البهائم، مثال: لو أنَّ ثعلبًا مثلا جاء إلى الحرم، وخشي على الناس منه، أو أسد، وإذا كان يجوز قتل الكلب، فالأسد من باب أولى، مع أن جماعة من العلماء قالوا: هذه كلها يطلق عليها مسمى الكلاب، ولعلنا نكتفي بهذا ونقف هنا.
{شكر الله لكم شيخنا المبارك، فتح الله لكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة.
أستودعكم الله، ونكمل ما تبقى في اللقاءات القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] رواه مسلم (1218).
[2] رواه مسلم (1185).
[3] أخرجه أبو داود (1814)، والترمذي (829)، وابن ماجه (2922).
[4] رواه أبو داود.
[5] رواه مسلم (1341).
[6] أخرجه البخاري (2788، 2789)، ومسلم (1912).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك