{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالخيرات والبركات، مرحبًا بكم في برنامج (جادة المتعلم) والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) المستوى الثاني، يصحبنا فيه الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، طيب الله أيامكم شيخ إبراهيم}.
طيب الله أيامك وأيام الإخوة والأخوات، والمشاهدين والمشاهدات بكل خير، وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح.
{كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ).
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنِّي أَقُولُ: وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَقَالَ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ». قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ». قُلْتُ: أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ». فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد -شَطْرَ الدَّهْرِ- صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمً»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فسبق وأن تكلمنا عن شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وقد شرحنا طرفًا منه، وهو إنكار النبي ﷺ على عبد الله بن عمرو في مبالغته في العبادة على غير هدي النبي ﷺ، وقد كانت مُبالغته أنه كان يصوم الدهر كله، يعني: يصوم ولا يفطر، وكان من مُبالغته أنه كان يقوم الليل كله، وهذا كله خلاف هدي النبي ﷺ؛ لأنَّه ﷺ كان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، وكان يقوم وينام ثم يقوم، تقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: «كانَ يَقُومُ إذَا سَمِعَ الصَّارِخَ» . أو تقول: «فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ ما شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ» بمعنى: أنه ﷺ كان يأخذ حظه من النوم، أي: يعطي نفسه حقها، وإذا أعطيت نفسك حقها انبعثت للعبادة، وهذا بخلاف ما إذا أدأبتها على شيء، فإنَّ الدَّابة إذا أُدئبت على شيء؛ كلَّت وتعبت وملَّت، بخلاف ما إذا كانت تُرَوَّح مرة في العمل، ومرة في العلم، ومرة في الطعام والشراب، ومرة في الهزل، أو لم يقل النبي ﷺ لحنظلة الأسيدي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- «وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» لَمَّا قال: «يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فقال النبي ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ» وهذا ليس مأمورًا به شرعًا، «وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً». هذا أمر.
لَمَّا نهى النبي ﷺ عبد الله بن عمرو بن العاص هذا النهي، وَبَيَّنَ له حق النفس، وحق الأهل، وحق الزور -الذي هو الضيف- بَيَّنَ له النبي ﷺ الصيام، ومن العجب أنَّ النبي ﷺ مع ما يعلمه من جِدِّ عبد الله بن عمرو على العبادة وعلى الطاعة، لم يبتدأ بالأشق، بل ابتدأ ﷺ أول ما ابتدأ بالأسهل والأيسر، فقال له: «وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ»، القاعدة عندك: قُم وَنَم، وَصُمْ وأفطر، لكن كم أصوم؟ وكم أقوم؟ هذه صارت الآن محل تفاوض بين عبد الله بن عمرو وبين النبي ﷺ، وكان أول ما أشار به ﷺ كان هو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويقال: إنه هو الصوم الذي ارتضاه رسول الله ﷺ لنفسه، وارتضاه النبي ﷺ من جهة سؤال معاذة لعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: «أَكانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ مِن كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَقُلتُ لَهَا: مِن أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كانَ يَصُومُ؟ قالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِن أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ» ، هذه هي القاعدة العامة، وهي: صيام النبي ﷺ ثلاثة أيام من كل شهر، وليس من شرطها أن تكون الأيام البيض، التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أو الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر على خلاف بين العلماء، بل يقال في ذلك: يصوم الأيسر، إن صادفت الأيام البيض فالحمد لله، وإلا فيصام في غيرها.
هل تصومها متتابعة؟
نقول: لا، ليس من شرطها أن تكون متتابعة، الأهم أن تصومها، هذه منزلة في الصيام، أمر النبي ﷺ بها عبد الله، وقال له: «فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ»، ثلاثة أيام من كل شهر، مضروبة في عشرة، هذه ثلاثين، فإذا صمت ثلاثة أيام من كل شهر، فكأنما صمت الشهر بتمامه، فزاوده لأنه لم تزل فيه شدة الشباب وثورته.
وهذه نصيحة أوجهها لإخواني وأخواتي، الشباب والشابات: قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، أولي الأمر -في هذه الآية- يراد بها مَن استحكم في العلم، ومَن استحكم في السِّن، ولو لم يكن عامل السن مؤثرًا -كما يظنه بعض الناس- يقول: الأهم العلم والتحصيل.
نقول: التحصيل والعلم أمر جليل وجيد، لكن لا بد أيضًا من مراعاة عامل السن، لو لم يكن عامل السن مؤثرًا لَمَا اختار الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنبيائه الذين هم صفوته من خلقه، والكمَّل من الرجال سن الأربعين، أنت أكمل أو النبي ﷺ؟ ما هناك مقارنة بين قواك العلمية ولا العقلية مع النبي ﷺ! ومع ذلك فإن -عَزَّ وَجَلَّ- لم يبعث نبيه ﷺ إلا في الأربعين، ومِن رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ الخلفاء الراشدين، كلهم إنما حكموا وهم فوق الأربعين، فعامل السن من العوامل المهمة غالبا، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15]، فما دون الثلاثة والثلاثين عرضة لكثير من الطيش، وما بين الثلاثة والثلاثين إلى الأربعين فيه نوع من الاتزان، وما بين الأربعين استحكام في الاتزان، ولهذا قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، ليس هذا على ما يظن بعض الناس أنه قد اقترب أجله فحسب، نقول: لا، لكنه تمام النعمة، فتمام نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك بالسن.
إذًا عامل السن من العوامل المهمة، ولأجل ذلك فإني أوجه إخواني وأخواتي وأقول: ما تنازعتم فيه ورأيتم أن فيه هوى الشباب، فارجعوا فيه إلى هوى الكهول، الكهول الذين هم أصحاب الرأي، ولهذا لَمَّا شاور النبي ﷺ أصحابه في الخروج إلى أحد، بعد أن عَلِم أن قريشًا قد قدمت، قال أصحاب الرأي والكهول: نكون في المدينة يا رسول الله، فإن جاءوا استعنَّا الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم وقاتلناهم، وقال الشباب أصحاب الحماس: بل نخرج فنقاتلهم يا رسول الله حتى لا يظن بنا الضعف، فلما كان الشباب هم الكثرة؛ مالَ النبي ﷺ وهوى إلى قولهم، فخرج النبي ﷺ فوقعَ ما وقعَ في معركة أحد، ومن العجيب أنَّ أوائل من فرَّ هُم الشباب- رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعًا- لكن مهما كان فالكهول هم مَن بقوا مع النبي ﷺ، الصديق والفاروق، وعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإن كان من الشباب لكنه كان شابًا مكتهلًا، وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا كلهم قد جاوزوا الثلاثين.
فإذًا بوجه عام نقول: الأصل في هذا أن لا يتسرَّع الشاب، وليعلم إذا كان ثَمَّ أمر ترى أنه أمر نصرة لدين الله -عز وجل- فلا بأس أن تؤخره، حتى تستحكم وتعلم هذا الأمر على حقيقة ومن ثم ينكشف لك، فلا تقدم على مجاهل وعلي طرق وخيمة، قد توقعك في بلايا عظيمة، يتعذر أحيانًا على الإنسان أن ينقذ منها، وتكون هلاكًا يتلطخ الإنسان فيه بدم حرام، أو بعرض حرام، أو بلايا تحيط به.
إذًا أخِّر طيشكَ، وأخِّر حماستك إلى سنِّ الكهولة، وانظر إلى حال عبد الله بن عمرو واعتبر به، فإنَّ عبد الله أخذ يزاود النبي ﷺ، فقال: (فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ)، وهذا أشبه ما يكون بصيام الاثنين والخميس، صيام الاثنين والخميس مقارب لصيام يوم وإفطار يومين، وقد جاء معنى صيام يوم وإفطار يومين في حديث أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عند الإمام مسلم، وفيه: أنَّ النبي ﷺ قال عنه: «وَدِدْتُ أنِّي طوِّقتُ ذلِكَ» ، يعني: ما أستطيعه، قال: «وأود ذلك».
ويُقال: إنَّ من صام هذا الصيام -صيام يوم وفطر يومين- لم يشرع له صيام الاثنين والخميس؛ لأنَّ الأصل بوجه عام -يا إخوان- أنَّ مَن التزم نوعًا من الصيام يلتزمه، وهذا أمر سأقرره -إن شاء الله- بعد قليل بسنة النبي ﷺ.
قال: (فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ)، الحماس لا زال به، قال: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا. فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ». فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ﷺ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد»، فإذًا ما فوق هذا الصيام فهو تعدٍّ.
وبوجه عام نقول: إنَّ العبد والأمة لله -عَزَّ وَجَلَّ- ينبغي للواحد منهم أن يسلك مسلكًا في صيامه، فإذا سلكَ صيام ثلاثة أيام من كل شهر فحسن، وإذا سلكَ مسلك صيام الاثنين والخميس فمن المعلوم أن صيام الاثنين والخميس درجة أعلى من صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من حيث القوة في العبادة والكثرة فيها؛ لأنك تصوم من الشهر ثمانية أيام أو تسعة غالبًا، فإذا كان كذلك فيقال: إنه لا يشرع في حقه أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر قد تحقق لك وزيادة، ولهذا فإن النبي ﷺ جعل عبد الله بن عمرو على درجات، فأعطاه أولًا: صيام ثلاثة أيام، فرغب عنه وما أراده، ثم قال: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ»، فما أراده، فكأنه يقول: إذا أخذت مسلكًا في الصيام فالزمه ولا تشكل، لأن بعض الناس كما نرى في وسائل التواصل الاجتماعي أنه يأتي ويقول: بسم الله، هذا الأسبوع أسبوع الجد في الصيام، لأنه يوافق يوم الاثنين..، طيب هل أنت من قِسم صيام الاثنين والخميس؟ أم أنت من قسم صيام ثلاثة أيام من كل شهر؟ قال: أنا من قسم صيام الاثنين والخميس، نقول: إذا كنت من قسم الاثنين والخميس فليس لك دخل في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وليس لك علاقة به، هذا هو صيامك فالزمه، وهذه هي السنة في حقك، فتجد أنه يصم الاثنين ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس إذا وافقت الأيام البيض، على سبيل المثال: يوم الجمعة والسبت والأحد، قال: هذه خمسة أيام ممتدة، سأصوم الخميس والجمعة والسبت والأحد والاثنين. نقول: إن هذا ليس مسلكًا شرعيًا، إمَّا أن تلتزم هذا أو تلتزم هذا، وهذا هو أمر النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو بن العاص.
هذا تنبيه مهم؛ فإذا كنت في صيام ثلاثة أيام وأردت أن تتنفل زيادة، فليس هناك بأس، صُم الاثنين والخميس، لكن أنت قد سلكت مسلك صيام الاثنين والخميس وتريد أن تضم معها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، نقول: لا.
طيب، صاحب سلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولما لزم الاثنين والخميس وقال: هذا سيصبح هو صومي.
نقول: إذًا دعْ صيام ثلاثة من كل شهر؛ لأنها قد تحققت لك.
يقول الإنسان: كيف؟ ومن أين أتيتم؟
نقول: من فعل النبي ﷺ وأمره لعبد الله بن عمرو، فإنه كان يعطيه القواعد في الصيام.
ويزيد على ذلك أن يقال: مَن يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ هل يشرع في حقه صيام الاثنين والخميس؟ وهل يشرع له في حقه صيام ثلاثة أيام من كل شهر؟
يلتزم بصيامه، إذًا ظهر لنا أنَّ الأصل بوجه عام والسنة أن مَن لزم منهجًا من الصيام يلتزمه.
نقول: ما هو صيامك؟
قال: أنا صيامي ثلاثة أيام من كل شهر.
نقول: استمر عليه.
إذا قال: صيامي اثنين وخميس. نقول: استمر عليه، ولا يشرع في حقك صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
لو قال: صيامي صيام يوم وفطر يوم، وأريد أنَّ أصوم مع ذلك الاثنين والخميس والأيام البيض لأجل الخير.
نقول: ما أصبح هذا صيام يوم وفطر يوم!
هذا هو المسلك الشرعي الذي سنَّه النبي ﷺ في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»، فمن يصوم يومًا ويفطر يومًا ويصوم الاثنين والخميس، ويصوم الأيام البيض؛ فهذا قد زاد عن الصيام الشرعي.
{لكن يا شيخ؛ هذا لمن كان لهم عادة في الصيام، طيب من لم يكن له عادة وأراد مثلا أن يجمع. فما حكمه؟}.
من لم يكن له عادة فالأمر فيه واسع، يتنفل ما شاء من الصيام، النبي ﷺ قد كان أحيانًا تكون له عادة وأحيانا ما تكون له عادة، بحسب حاله ﷺ في الدعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يقول أنس، وتقول عائشة: «كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ» ، يعني: كان أحيانًا يمد الشهر، ولهذا أحد التفسيرات التي فسرها بعض العلماء -رحمهم الله- وهو من التفسيرات اللطيفة جدًّا، حينما قالوا في صيام شعبان: لماذا النبي كان ﷺ يصوم شعبان كله، وورد «كان يَصومُ شَعبانَ كُلَّه إلَّا قَليلً» ؟
نقول: لأنه كان يصوم مع نسائه.
وهناك معنى آخر جليل وجميل ويلتقي، قالوا: إنه كان يفوت عليه بعض الأشهر فواتًا، ما يصوم فيها ثلاثة أيام من كل شهر، فيعوضها في شعبان، وهذا المعنى معنى جليل؛ لأن بعض الناس قد يلتزم صيام ثلاثة من كل شهر، وهذا عمل جيد، ثم يأتي عليه شهر يكون منشغلًا فيه، وعنده سفر وأعمال؛ فيفوته، فإذا فاتَ وانقطعت عليه هذه العادة ضعُفَ، قال: فات عليَّ هذا الشهر! نقول: الحمد لله عوِّضها، فإذا جاء الشهر القادم صم ستة أيام بدلاً من ثلاثة، فتكون قد عوضتها، والنبي ﷺ لَمَّا أمر بثلاثة أيام من كل شهر إنما أمر بها تسهيلًا، فإذا صمت أنت هذه المدة في شهرٍ واحدٍ من الأشهر فإنها إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- تقع مجزئة عمَّا قبلها من الأشهر.
قال: (إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»)، وقد جاء في السنن وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومن حديث غيره من الصحابة- رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: «لَمَّا خلق اللهُ آدمَ مسح على ظهرِه فسقط من ظهرِه كلُّ نسَمةٍ هو خالقُها من ذرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ» وجاء في بعض الروايات: «وجعل بين عينَيْ كلِّ إنسانٍ منهم وبيصًا من نورٍ ثمَّ عرضهم على آدمَ فقال: أي ربِّ من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرِّيَّتُك فرأَى رجلًا منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينَيْه»، البصيص: هو النور. «فقال أي ربِّ من هذا فقال رجلٌ آخرُ الأممِ من ذرِّيَّتِك يُقالُ له داودُ قال أي ربِّ كم جعلتَ عمرَه قال ستِّين سنةً قال: أي ربِّ زِدْه من عمري أربعين سنةً، فلمَّا انقضَى عمرُ آدمَ، جاء ملَكُ الموتِ فقال آدمُ: أوَلم يبقَ من عمري أربعون سنةً؟ قال: أوَلم تُعطِها ابنَك داودَ. قال: فجحَد وجحَدت ذرِّيَّتُه، ونسِي فنسِيَت ذرِّيَّتُه، وخطِئ فخطِئت ذرِّيَّتُه» ، أحبَّه لما رأى من مزيَّته، فأتم الله -عَزَّ وَجَلَّ- لآدم الألف وأعطى داود مائة.
الشاهد: ما السبب في بصيص داود؟
هو قول النبي ﷺ: «كانَ أَعْبَدَ النَّاسِ» ، يعني: أكثر الناس عبادة لله -عز وجل- وقد علم الخلق أنَّ كلَّ مَن كان عابدًا لله -عز وجل- قذف الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قلبه ووجهه النور، أولم يقل ابن عباس- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إن للحسنة ضياء في القلب، وانشراحًا في الصدر، ونورًا في الوجه"، وقد جاء في بعض الآثار: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"، ولهذا قالوا: "كان العبَّاد أحسن الناس وجوهًا، كأنما قد جليت وجوههم بالمرآة"، ترى الرجل منهم قد يكون أسودَ اللونِ والبشرةِ، لكن في وجهه نور، وترى الرجل بجواره أبيض البشرة، لكن في وجهه قترة، أو لم يقل الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾.
كان داود -عليه السلام- أعبد الناس، فكان أكثر الناس نورًا، وكان أعبد الناس بأربعة أمور:
الأمر الأول: الصيام، وهذا هو التقييم الأول في العبادة، تعلم نفسك، هل أنت عابد أو لا؟ قيم نفسك وليكن أول شيء تقيم به نفسك هو الصيام، وهذا كله بعد أداء ما افترض الله، فإذا أديت ما افترض الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك، ثم أردت أن ترتقي مرتبة، وتقول: هل أنا من العباد؟ نقول: اختبر نفسك الآن في الصيام، كيف حالك في الصيام؟ فإذا كان حالك في الصيام حالًا حسنًا، فقد أخذتَّ بشعبة من العبادة، وقد تأخذ بهذه الشعبة وتعجز عن غيرها، فيكون فيك قدرٌ من العبادة بقدرها، ولهذا كان بعض السلف يحبب إليه الصيام، وتثقل عليه صلاة الليل، يأتي في جانب، وفي جانب آخر ما يستطيعه، والمؤمن يحتكم في ذلك إلى نفسه.
والأصل يا إخوان أنَّ المؤمن لا يخلو من خير، وأبخس الناس قدرًا مَن وضع الله -عَزَّ وَجَلَّ- شرائع العبادة بين يديه، فلم يختص منها بعبادة تشفع له عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة، وخاصة العبادات التي يدعى أصحابها من أبواب الجنة، ومن المعلوم أنَّ للصيام بابًا يقال له: (الريان) يدخل منه الصائمون، إذًا انظر إلى العبادات التي وضع الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها أبواب الجنة وركز عليها، صيام، بر الوالدين، قال ﷺ: «الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ» ، وكذلك الصيام والصلاة والجهاد؛ هذه كلها أبواب، فإذا رأيت نفسك منشرحة للصيام فالحمد لله؛ الزم هذه العبادة، وبعض الناس يُفتح له في عبادات أخرى، يُفتح له في الصلاة، يُفتح له في النفقة والصدقة والخير، وذكر الله -عز وجل.
الأمر الثاني: هو أمر الصلاة، فإنَّ داود -عليه السلام- كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، فإذًا انظر إلى نفسك أيضًا في جانب صلاة الليل، إذا رأيت أنه قد فُتح لك، فاعلم أنه فتح لك بابٌ عظيم من أبواب العبادة ولو ركعة، وكلما زدتَّ فهو أعظم عند الله -عز وجل.
الأمر الثالث: أمر الجهاد في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا الأمر إذا أطلق بوجه عام؛ فإنه يطلق على جهاد السنان، لكنه أيضًا يشمل غيره من أبواب الخير، أمور الدَّعوة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأمور البذل في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- في الدعوة وفي نشر العلم الشرعي؛ هذه كلها من أنواع الجهاد في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقد كانت هي جهاد النبي ﷺ ثلاثة عشر عامًا، أغلب بعثة النبي ﷺ الجهاد، جهاد حجة وبيان، ونشر للعلم الشرعي، ونشر لتوحيد الله عز وجل، هذا هو جهاد النبي ﷺ في أول أمره ﷺ، وجهاده الذي استمر معه حتى توفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ.
الأمر الرابع: هو الأكل الحلال، قال: «وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ» ، الأكل الحلال عبادة من أجل العبادات التي يُتقرب بها إلى الله -عز وجل، وهي عبادة ينبغي للناس أن لا يغفلوا عنها، والحقيقة أنَّ الحسرة تدرك الإنسان حينما يرى الناس يغدون إلى أعمالهم، ويمضي في عمله ثمان ساعات وتسع ساعات، يستنزف فيها وقته وجهده، ويستمر فيها حتى يصل إلى سن الستين من عمره، وتجد أن زهرة عمره وشبابه قد ذهبت في العمل، وهذا أمر ليس مستنكرًا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، فهذا هو الكبد الذي كتبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على الإنسان، لكن المستنكَر حينما تكون هذه الأعمال كلها لم يرد بها وجه الله -عز وجل، وليس الفرق بين مَن يغدو إلى عمله لا يستصحب النية، وبين من يغدو إلى عمله مستصحبًا النية، ليس الفرق بينهما في الظاهر شيء، هذا يتعب وهذا يتعب، وهذا يداوم من الساعة كذا إلى الساعة كذا وهذا مثله، تجدهم في شركة واحدة وفي دوام واحد وفي منصب واحد، ولكن بينهما نيَّات كما بين السماء والأرض، هذا يكدح لدنياه ما يدري ما يريد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا الدار الآخرة، ولا يقصد قصدًا حسنًا، ولا يأثم هذا؛ لأنَّ هذا العمل ليس من الأعمال التي في أصلها يراد بها الله -عَزَّ وَجَلَّ- كالصلاة ونحوها، لكن لا يثاب! فهذا ذهب إلى عمله يريد أن يخدم المسلمين، هو في دائرة حكومية أو في شركة تقوم على خدمات المسلمين أو في شركة عامة؛ قال: الحمد لله هذه الشركة أعمل فيها وأخدم فيها، وكمْ من الناس الذين أقوم على خدمتهم! فهذا عمل جليل، احتسب النية لله -عَزَّ وَجَلَّ- في ذلك، احتسب النية لله -عَزَّ وَجَلَّ- في أن يملأ هذا الفراغ، هو لم يُفتح له في العبادة، وما فُتح عليه في العلم الشرعي، وقال: هذا الفراغ إذا لم أمله في مثل هذا الوقت استغليت في أشياء أخرى، وقد أُصاب باكتئابٍ! فهذا يثاب عليه، أيضًا أحصل الرزق الحلال الذي أنفقه على نفسي، وعلى أولادي الذين هم أولى الناس بالصدقة والنفقة، وهذه كلها أجور، قال النبي ﷺ: «إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً» ، وقال ﷺ: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَ» ؛ فإذًا هذه النية هي عمل العلماء، وهي التي سبقنا بها الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
واسمع إلى إمام العلماء من بعد رسول الله ﷺ معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي قال له أبو موسى الأشعري -وأبو موسى دون معاذ في العلم بمنازل- قال له: كيف تقرأ القرآن؟ قال: "أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا" ، يعني: إني لأقرأه قائمًا وراكعًا وساجدًا وعلى فراشي، فقال معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ولكني أقوم وأنام وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، حتى النوم الذي هو سكون وهجعة، هو مما يحتسب ويراد به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ، إذا نمتَ تحتسب أن تقوم لصلاة الفجر، وأن تقوم لعملك نشيطًا، هذه كلها من الأمور التي تُحتسب.
ومن ذلك الرِّزق الحلال، قال: «وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ»، وكل الأعمال التي تُعمل باليد ويباشر بها عمل اليد تدخل في هذا، وهي ما يسمى بوجه عام الأعمال المهنية، فمن الأعمال التي تدخل في هذا: عمل الطبيب، فهذا عمل يدخل في الأكل من اليد، وكذلك عمل الخياط، والحدادة والنجارة وصاحب المغسلة؛ هذه كلها أعمال تدخل، وكذلك عمل الميكانيكي وغيره الذي يصنع السيارة ويبيعها، كل هذه تدخل في قول النبي ﷺ: «وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ». نكتفي بهذا في شرح حديث عبد الله بن عمرو وننتقل للحديث الذي بعده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد. وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمً»)}.
هذا الحديث هو كالمختصر لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، وفيه بيَّن النبي ﷺ أنَّ أحب الصيام إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- صيام داود -عليه السلام- وأحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، الذي كان أعبد الناس، كما وصفه النبي ﷺ.
فما صلاة داود -عليه السلام؟ قال: «وكانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويقومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ» ، أمَّا الثلث الذي كان يقومه؛ فإنه على ما قيل قريبًا من الأربع ساعات، وكان هذا هو قيام رسول الله ﷺ في الليل، هذا قريب من أربع ساعات، اعتدال النهار والليل، فكان النبي ﷺ يقوم قريبًا من هذا القدر، ثم ينام آخر الليل، الذي هو يسمَّى السحر الأعلى، تقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: «ما أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِندِي إلَّا نَائِمً» ، السحر الأعلى الذي هو السحر الأخير، ينام حتى يستجم بعد العبادة، وحتى لا يصل النهار بهذه العبادة، وحتى يخرج إلى العبادة وهو نشيط، فكان ينام هذا السدس المتبقي.
قال: «ويَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمً»، هذا ما قررناه سابقًا، وإنه صيام داود -عليه السلام- وهو أفضل الصيام، وبه يُستدل على أنَّ ما زاد عن هذا الصيام؛ فإنه منهي عنه، ومن ذلك ما يسمى عند العلماء بصيام الدهر، فصيام الدهر هو أن يصوم فلا يفطر، يعني: يسرد الصيام بنية الصيام المطلق، أمَّا لو سردَ ثلاثين يومًا وأربعين يوما وخمسين يومًا وهو على نيته يفطر لم يكن فيه بأس، لكن على نية أنه أصبحت هذه هي طريقته -كما ذكرنا في السابق- فالمؤمن له طرائق في الصيام، الآن قال: طريقتي هي سرد الصيام. نقول: هذه منه عنها، وقد قال النبي ﷺ فيما صنع ذلك: «لا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» ، كأنه ما استفاد من صيامه؛ لأنه أصبح له طريقة ومنهج، ما عاد أصبح يتخلَّله الفطر الحقيقي، ولا الفطر الشرعي، فكأنما أصبحت هذه عادة له، بدل ما يكون طعامه وشرابه أو غداؤه وعشاؤه، الساعة مثلًا التاسعة صباحًا الثانية ظهرًا؛ أصبح غداءه وعشاءه عند المغرب وقبل طلوع الفجر، فكأنما تحوَّل من كونه عبادة إلى كونه عادة، ولهذا يعلم الناس ومَن جرب أنَّ أشق الصيام على النفس هو صيام يوم وإفطار يوم، لأن فيما يسمى عندهم بمخالفة للروتين، اليوم ستصوم فلن تفطر إلا أذان المغرب، وتقوم قبل صلاة الفجر وتتسحَّر، وغدًا سيكون نظامك مثل نظام الناس، فطور وغداء وعشاء، فيكون فيه نوع من الصعوبة، ولكنه أيضًا فيه نوع من الاستجمام، وإراحة النفس، قد يكون في نوع من الصعوبة من حيث تأقلم الإنسان لكنه لم يكن صعبًا على السلف لأنهم إنما كانوا أصحاب وجبتين، وجبة عند البكور ووجبة قبيل العشاء، ما كان عندهم هذه الوجبات المعروفة عندنا، فلهذا كان هذا الصيام عندهم صيامًا لم يكن صيام عسيرًا.
ولَمَّا اختار عبد الله بن عمرو هذا الصيام واختار هذه الصلاة، وتقدَّمت به السِّن وكبر، وبلغَ مِن العمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما يقارب التسعين سنة؛ فشقَّ عليه ذلك، وكان كما جاء عند الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ-، إذا جاءت الليالي الشديدة الحارة يفطر الأيام المتوالية، يقولون له: يا عبد الله أين صيام يوم وإفطار يوم؟ قال: "أنا سأحصي هذه الأيام"، فكان إذا جاءت أشهر الحر الشديد أفطرها، أفطر شهرًا أو شهرين، وقال: اجمعوها لي وأحصوها لي، قالوا: أحصينا لك ثلاثين يومًا أفطرتها، فإذا جاء وقت البرد قضاها.
هل يكون هذا من صيام يوم من إفطار يوم؟
لا، لكنه قال لَمَّا كبر وضعف سنه: "وددت والله أني قبلت رخصة رسول الله ﷺ التي رخص لي". فقالوا له: طيب اقبلها. قال: "إني لا أحب ترك عمل فارقت عليه رسول الله ﷺ".
فإذًا؛ الأصل في ذلك أن يقال: إن العبد المؤمن يختار لنفسه، فترة الشباب لها عبادات قد تناسبها وفترة الكهول لها عبادات وهكذا، والمؤمن بوجه عام يرى أين تنشرح نفسه للعبادة فيغتنمها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ بِثَلَاثٍ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو حديث جليل، جمع النبي ﷺ فيه بعض العبادات الجليلة لأبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأيضًا أوصى به أبا الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما عند الإمام مسلم وأبا ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما عند أصحاب السنن، فهذه وصية من النبي ﷺ كانت لثلاث من أصحابه.
أوصاهم بثلاث:
الأول: صيام ثلاثة أيام من كل شهر: هذه الوصية تتلخص في عبادتين: عبادة الصلاة وعبادة الصيام، رجعنا إلى المعنى السابق الذي قررناه، وهو أن من أراد أن يرى نفسه في العبادة فلينظر حاله من الصيام من الصلاة، أوصاه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فكان أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا يتركها، وكان أبو هريرة من أصحاب الثلاثة أيام، ما كان يصوم الاثنين والخميس ولم يحفظ عنه أنه صام الاثنين والخميس البتة، فكان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأنه اختار لنفسه هذا المنهج في الصيام.
الثاني: وركعتا الضحى: ركعتي الضحى لم تثبت من فعل النبي ﷺ، ولكنها ثبتت من قوله بوصاياه لأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فإنه أوصى فيها جماعة من أصحابه منهم أبا هريرة، وركعتا الضحى تشرع من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح -هذه عشرة دقائق تقريبًا بعد الإشراق- إلى قبيل أذان الظهر بأربع أو خمس دقائق، ثم يدخل وقت النهي الذي لا تشرع فيه هذه الصلاة، وخيرها ما كان في شدَّة الحر، كما جاء في حديث زيد بن الأرقم: «صَلَاةُ الأوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ» ، الفصال: التي هي صغار الجمال. وترمض: يعني تجلس أو تقعد، وهي ما يقارب الآن عندنا الساعة من التاسعة والنِّصف إلى الساعة العاشرة والنِّصف، فهذه شدة الحر، وهذه إنما سماها النبي ﷺ "صلاة الأوابين" لما ذكرنا سابقًا من كون هذا الوقت وقتُ عملٍ وانشغالٍ، والإنسان فيه منشغلٌ فبينما هو منشغلٌ في هذه الدنيا يؤوب إلى الصلاة، وهي من أعظم المشاهد ومن أعظم المعاني، يكون الإنسان في خضمِّ عمله وقد اقتطع منه هذا الوقت لأداء هاتين الركعتين.
قال: «وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى»، دل ذلك -والله أعلم- على أنَّ الأصل في ركعتي الضحى أنها ركعتان، وعلى هذا تواردت النصوص عن النبي ﷺ كما في حديث أبي ذر- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «وَيُجْزِئُ مِن ذلكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُما مِنَ الضُّحَى» ، فدل على أنهما ركعتان، لكن لو زاد الإنسان فلا بأس، لكن يتحقَّق معنى الضحى بصلاة الركعتين.
{هل تكون غبا أم يأتي بها كل يوم؟}.
الأصل في ذلك -الظاهر والله أعلم- أنه يأتي بها كل يوم، والنبي ﷺ إنما لم يكن يفعلها؛ لأنه ﷺ كان يخشى أن تُفرض على أمته، يعني: يأتسي به الصحابة- رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فتُفرض عليهم، وكان النبي ﷺ يحب ما يخفِّف عنهم.
الثالث: قال: «وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ»، أيضًا أمره النبي ﷺ بالوتر قبل النوم، وهذا يدل على معنى شرعي، وهو أنَّ قيام الليل يتحقق للإنسان حتى قبلَ النوم، كل ما بعد صلاة العشاء مِن صلاة إلى طلوع الفجر فإنَّه يسمى قيامَ ليلٍ، بعض الناس قد لا يتصور من قيام الليل إلا ما كان بعدَ نومٍ، نقول: ما من شكٍّ أنَّ هذا هو أفضل قيام الليل، لكن لا يعني أن يُنزع اسم قيام الليل مما كان قبل ذلك، فهذه تسمى ناشئة الليلة التي هي آخره، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلً﴾ [المزمل: 6]، لكن كل ما كان بين صلاة العشاء إلى أذان الفجر؛ فإنه يُعد من قيام الليل، وقد كان الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ممن يأخذون في هذا بالرخصة، الصديق على فضله كان يأخذ بالحذر، فيوتر يوتر قبل أن ينام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يقول الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " فإن استيقظت من الليل صليت ما كتب الله لي، وأكون قد أحرزت ورتي"، فهذا أيضًا معنى جليل، وهو أن يقال للإنسان بوجه عام: ما هو حالك أنت في قيام الليل؟ لو قال: والله أنا إنسان ثقيل نوم، وأخشى أن يتمادى به النوم إلى أذان الفجر. نقول: إذًا أحرز نفسك وأحرز وترك بأن توتر من أول الليل، فإن قمت فصلِّ مثنى مثنى مثنى حتى يطلع عليك الفجر ما شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ-، الأهم أن لا يفوت عليك وترك.
إذًا؛ كان أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ممن يوتر قبل أن ينام، وكان أيضًا أبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كذلك، وهو من هو في زهده -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فكان يوتر قبل أن ينام، وكان أيضًا أبو الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وكان الصديق الأكبر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ كلهم يوترون قبل أن يناموا، ويتحقق في ذلك قيام الليل.
وهذا معنى ينبغي أن يُنبه له، وهو أن يقال: إن كنت قد ابتُليت بأنَّك لا تقوم الليل، يعني: يثقل عليك أن تقوم وأن تنتزع نفسك من الفراش لتصلي؛ فلا تفوِّت رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتوسيعه عليك، حينما رخَّص لك في الصلاة قبل النوم، صلِّ وتهجَّد وقم، فالنبي ﷺ قد ثبت عنه كما في صحيح الإمام البخاري من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «فَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» ، جزء من قيام الليل، فصلِّ ما شئت، إحدى عشرة ركعة، تسع ركعات، ألسنا نصلي في رمضان صلاة التراويح؟ وهي من قيام الليل، وهي كلها بعد صلاة العشاء وقبل النَّوم، صلِّ وتهجَّد وأدعُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، واعلم بحول الله وقدرته أنك داخل في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 16]، واعلم أنك -إن شاء الله- داخل في عِدادِ من عدَّه النبي ﷺ من قوَّام الليل؛ لأنه ليس من شرط قيام الليل أن يكون بعد نوم.
ثم إنَّ أحوال الناس تختلف، بعض الناس يقول: أنا عندي دوام وعندي عمل، أو عندي دراسة، هل أقدِّم قيام الليل عليها؟
نقول: لا، هذه أمور تحتاجها، لكن أيضًا لا يعني ذلك تترك قيام الليل، فلك أن تقوم الليل قبل أن تنام، تصلي ما كتب الله -عَزَّ وَجَلَّ- لك ويكون من قيام الليل الشرعي ولو بركعة، فقد ثبت عن النبي ﷺ كما فعلها أبو موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا كان بين مَكَّةَ والمدينةِ "فصلَّى العشاءَ ركعتينِ، ثم قام فصلَّى ركعةً أوترَ بها، فقرأ بمائةِ آيةٍ من النساءِ، ثم قال: ما ألوتُ أنْ أضَعَ قدَمِي حيثُ وضَعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدَميه، وأنْ أقرأَ بما قرأَ به" ، وقد ثبت عن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ كلهم أنهم أوتروا بركعة واحدة، وهذا يُعدُّ وترًا شرعيًّا، ولكن كلما زاد الإنسان كان أحسن.
وقد كان الإمام أحمد يقول: "أحب للإنسان أن يوتر بإحدى عشرة، فإن كان عنده طاقةٌ مدَّ فيها، وإن كان دون ذلك خفف فيها"، ترى إحدى عشرة ركعة تستطيع أن تصليها في خمسة عشرة دقيقة، وتكون قد أتيت بالوتر الشرعي الذي هو أكمل الوتر، لو كان عندك جهد ذاك اليوم فصلِّ إحدى عشر ركعة، لكن بدل ما تقرأ في كل واحدة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، اقرأ بسور من طوال المفصل، فزد ما شاء الله وأن تزيد، حتى تُنظَم في عداد عباد الله- تبارك وتعالى-، أنت بهذا -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- تكون ضمن أولياء الله -عَزَّ وَجَلَّ- المدرَجِين في العبادة، وكل ما زاد الإنسان في هذا زاد في العبادة.
ولهذا لم تكن عبادة يُتابع الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نبيه ﷺ الوصية بها كما تابع عليه قيام الليل، قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودً﴾ [الإسراء: 79]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلً﴾ [المزمل 1- 4]، أمرٌ من الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنبيه ﷺ، بل إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يجعل المقام المحمود مرتبطًا بعبادة من العبادات -الذي هو أعلى منزلة ينالها عبد من عباد الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يجعله مرتبطًا بشيء كما جعله مرتبطًا بالصلاة، فكل مَن كان مكثرًا للصلاة كان أعلى مقامًا عند الله عز وجل، نعم المقام المحمود لرسول الله ﷺ فحسب، لكن ثَمَّ مقامات لغيره من أولياء الله دون هذا المقام المحمود، ولكنها فوق غيرها من مقامات عباد الله، هذه المقامات إنما تُنال بالصلاة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَزَادَ مُسْلِمٌ «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»)}.
شرع المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- الآن بعد أن قرَّر مشروعية النَّوافل شرع المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في بيانِ الصيام المنهي عنه، وأوَّل هذا الصيام المنهي عنه: هو صيام يوم الجمعة، فإن النَّهي عنه قد ثبت عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة، منها: حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومنها حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومنها حديث جويرية، وغيرها من الأحاديث عن النبي ﷺ في النهي عن صيام يوم الجمعة.
قال: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَزَادَ مُسْلِمٌ «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»)، إنما نهى النبي ﷺ عن صوم يوم الجمعة لأنه يوم عيد للمسلمين، ومن المتقرر عند العلماء -رحمهم- الله أنه لا يُشرع صيام الأعياد، ولهذا سيذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد قليل -إن شاء الله عز وجل- حديث عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في النهي عن صيام يوم العيدين.
فإذًا؛ الأصل في صيام يوم الجمعة أنه غير مشروع، والنهي ها هنا على الصحيح عند أهل العلم أنه نهي تحريم، فيحرم صومه إلا إن صام يومًا قبله أو صام يومًا بعده، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما يبين حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولعلنا نقرأ حديث أبي هريرة حتى نكمل الشرح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ»)}.
هذا الحديث مكمل لحديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- السابق، وهو أنَّ النبي ﷺ قد نهى عن صوم يوم الجمعة حتى لا يُظن أنَّه مخصَّص بهذه الفضيلة، وهذا يُعلم به أنَّ العبادات ليست بالمقاييس، وإلا لو كان الأمر متروكًا للقياس لَقِيل إنَّنا قد تقرَّر فضل يوم الجمعة على بقية أيام الأسبوع، فإذا كان كذلك فمن فضله أنَّ أصوم فيه، ومن فضله أنَّ أخصَّ ليلة بقيام، فنقول: لا، نهى النبي ﷺ عن صيام يوم الجمعة، وعن أن يُخصَّ بقيام، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أنَّ العبادات ليست بالقياس، وإنما هي تعبديَّة، والأصل في هذا اليوم أنه يوم عيد الأسبوع، فإذا كان كذلك لم يشرع فيه الصيام إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، فإن كان صائمًا يومًا قبله بأن يكون صام يوم الخميس شُرِع له، وقد دخل النبي ﷺ يومًا على جويرية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- وهي صائمة يوم الجمعة، فقال لها النبي ﷺ: «أصُمْتِ أمْسِ؟، قالَتْ: لَا، قالَ: تُرِيدِينَ أنْ تَصُومِي غَدًا؟ قالَتْ: لَا، قالَ: فأفْطِرِي» ، فأمرها النبي ﷺ بالفطر، وهذا الأمر بالفطر دلالة عند العلماء -رحمهم الله والله أعلم- على التحريم، على أنه يحرم إفراد يوم الجمعة بالصيام، لنهي النبي ﷺ عن ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: «شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الْآخَرُ: تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»)}.
هذا الحديث الذي ذكرناه قبل قليل وهو حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في النهي عن صوم يومي العيدين، نهى النبي ﷺ عن صوم هذين اليومين لأنهما يوما أكلٍ وشربٍ، ومما لا شك فيه أنَّ الصيام يخالف هذا المعنى، لأن الصيام إمساكٌ عن الطعام والشراب، فالأصل في يوم العيد أنه يوم يتوسَّع الإنسان فيه بالطَّعام والشَّراب ونحو ذلك، فنهى النبي ﷺ عن هذين اليومين:
اليوم الأول: «يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ»، وهذا عيد الفطر.
واليوم الآخر: «يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ» الذي هو عيد الأضحى، كيف تصوم عيد الأضحى وأنت تذبح الضحايا؟ تذبح الضحايا لمن؟ أنت مأمورٌ أن تأكل منها، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَكُلُوا مِنْهَ﴾ [الحج: 28]، وكيف تصوم يوم الفطر وبالأمس فرغت من رمضان؟ أنت وصلت إذًا صيامًا بصيامٍ، ولم تجعل العبادة متميزة! فإذًا نهى النبي ﷺ عن ذلك، فتبيَّن أن ما كان من جنس الأعياد ينهى عنه، إذًا عيد الفطر وعيد الأضحى ويوم الجمعة، وكذلك أيام التشريق، قال النبي ﷺ: «أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» ، هذه للحاج ولغير الحاج، فينهى كلهم عن الصيام، ولا يرخَّص في صيام أيام التشريق اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة إلا للمتمتع والقارن الذي لم يجد الهدي، فنقول: يسوغ لك صيامها ها هنا، مع أنه مِن الأولى بك أن تصوم قبل يوم التاسع، تصوم اليوم السابع والثامن والتاسع، لو عجزت عن ذلك وفاتتك الأيام؛ فصم هذه التي بعدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: «هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْيَوْمُ الْآخَرُ: تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ»)}.
هذا الحديث إنما أراد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- به بيان النهي عن صوم يومين، وأما بقية المعاني في الصَّماء وغيرها فإنَّها ستأتي في باب اللباس، والنهي عن الصلاتين قد وردت في باب الصلاة.
إذًا المقصد من حديث أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هو بيان النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر، فهو موافق لحديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- السابق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفً»)}.
حديث أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو قول النبي ﷺ فيمن صام يومًا في سبيل الله، هل يراد به صوم النفل؟ أو يراد به الصيام في الجهاد؟ لأن الأصل "في سبيل الله" أنها إذا أطلقت؛ فإنما يراد بها الجهاد.
نقول: هذا مما وقع فيه الخلاف بين العلماء، والظاهر -والله أعلم- أنَّ الأمر في ذلك على السعة، وأنَّ قوله: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، يعني: في وجوه الخير محتسبًا به الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفً»، هذا من فضل الصوم المعروف، وقد جاء فضل الصوم في عدد من الأحاديث عن النبي ﷺ منها الحديث القدسي الذي سبق وقدَّمناه سابقًا. نكتفي بذلك.
{شكر الله لكم شيخنا المبارك نسأل الله- تبارك وتعالى- بأن يفتح لكم وأن يزيدكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب المتابعة واستماعكم المبارك، نلتقي بكم في حلقات أخرى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.