الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

22798 18
الدرس الثالث عشر

عمدة الأحكام 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حيَّاكم الله وبياكم معاشر طلبة العلم، ونرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) للمستوى الثاني، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ المقدسي، يصطحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ. حياكم الله شيخ إبراهيم}.
حياكم الله وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{الله يبارك فيكم، كنا في اللقاءات الماضية قد توقفنا عند باب (ليلة القدر).
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فلما فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر أحكام الصيام عقَّبها بباب ليلة القدر، والأصل في ليلة القدر أنها من الليالي التي يُتقرَّب فيها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصلاة، فليس لها مُتعلَّق بالصيام، وإنما متعلقها قيل بصلاة التطوع وصلاة قيام الليل، ولكن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- إنما أدرجها هنا -والله أعلم- لكونها تقع في شهر رمضان، وإنها سميت ليلة القدر؛ لعِظَم قدرها عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- أو لأنَّ المقادير تقدَّر وتُكتب فيها، وهذه المقادير التي تُقدَّر هي الكتابة التي تسمَّى عند العلماء -رحمهم الله- بالكتابة السنوية؛ لأن الكتابة على أقسام:
أولها: الكتابة الكونية، وهي التي كتبها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح الإمام مسلم، وهذه الكتابة المطبوعة التي لا تُغيَّر ولا تُبدَّل هذه هي الكتابة الكونية.
الثانية: الكتابة العمرية، وهي الكتابة التي قال النبي فيها كما في حديث عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ» ، فهذه كتابة عمرية، تكون والإنسان جنين في بطن أمِّه، وهذه مرجعها للكتابة الكونية وما تخالفها.
الثالثة: الكتابة السنوية -أو حولية- وهي التي قال فيها الله- عَزَّ وَجَلَّ: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 4، 5]، فمقادير الخلائق تكتب في هذه السنة، يكتب رزقك وأجلك وعملك للسنة التالية، وهذه هي التي قال بعض العلماء فيها: إنها التي يجري عليها قول الله- عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39].
كيف ذلك؟
تكون هذه الكتابة الحولية بيد الملائكة، والملك يعلم فيها حالك خلال عام، فيعلم أنك سيقتر عليك في الرزق، ويضيق عليك فيه، وتصاب بمصائب، لكنها قابلة للمحو، فيصل أحيانًا للإنسان رسائل إمَّا برؤى ومنامات وظنون وأوهام أو حتى إيحاءات عن حاله في هذه السنة، فإذا غيَّر مُحيَت؛ لأنَّ معك قرينك في الخير وقرينك في الشر، أمَّا قرينك في الخير فيوحي إليك الخير، النبي يقول كما في حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إنَّ للشَّيطانِ لَمَّةً بابنِ آدمَ وللملَك لَمَّةً، فأمَّا لَمَّةُ الشَّيطانِ فإيعادٌ بالشَّرِّ وتَكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمَّةُ الملَك فإيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ» ، هذه الكتب التي في صحيفته، الفأل الذي تظنه، وما ترون -يا إخوان ويا أخوات- كيف أنَّ العالم يتفاءل في هذا العام أنه عام مشرق، وعام مليء بالانتعاش الاقتصادي، ومليء بالازدهار؛ ثم يُصدمون في نصف العام بأنَّ هذه كلها أصبحت سرابًا، انتكست في الأحوال وتغيَّرت وتبدَّلت، هذه أحيان قد تكون وعودًا وظنونًا لكنها مُحِيَت، قد تكون مكتوبة على الإنسان مبدئيًا لكنها مُحِيَت بأفعاله القبيحة، فمحيت وجرى عليه قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه الأول، وقد يكون العكس، فيظن الإنسان أنه سيقع في الشر والبلاء ثم يبدَّل، وذلك لتقربه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودعائه، ولهذا جاء في الحديث: «ولا يردُّ القدرَ إلَّا الدُّعاءُ» ، القدر الذي هو بيد الملائكة، أما قوله: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾، قد يكون مكتوبًا عليك مصيبة في اللوح الذي بيد الملَك لو لم تفعل هذا الأمر الخير وتتقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه العبادة، فلمَّا تقربت حِيلَ بينك وبين هذه المصيبة بهذه القربة، أوَ ليست الصدقات تدفع البلاء؟! ومن المعلوم -يا أخوان- أن القدر والقضاء سر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في خلقه، سيتعب الإنسان وسترد عليه إشكالات كثيرة لكن الأمر في ذلك للتسليم، يسلم لأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويعلم أن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في محله ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، فعلم الله علم أزلي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وحشاه! لا يبدو لله -عَزَّ وَجَلَّ- أمرا لم يكن قد علمه، فما هناك يتغير، لكن ما قد يتغير إنما هو في صحائف الملائكة، فإذًا هذه الكتابة الحوليَّة هي التي تكون في ليلة القدر.
{يا شيخ عفوا.. الكتابة العمرية والكتابة الحولية هي تابعة للكتابة الكونية؟}.
الكتابة الكونية هي الأصل بلا شك، فهذه الكتابة الحولية -بوجه عام- هي التي تكون في ليلة القدر ولهذا سماها -عَزَّ وَجَلَّ- بليلة القدر، قالوا: لأنها تقدر فيها مقادير العباد في هذا العام بتمامه.
وهي بوجه عام التي أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيها القرآن إلى الدنيا؟ لا، القرآن نزل في شهر ربيع، ألم يقل النبي لما ذكر له يوم الاثنين، قال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» ، ومن المعلوم والمتقرر أن بعثة النبي كانت في شهر ربيع، وفيه خلاف بين العلماء في هذه المسألة، لكن إنزال القرآن إنما نزل من السماء العليا -الذي هو اللوح المحفوظ- إلى السماء الدنيا في شهر رمضان، ثم نزل مفرَّقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، أي: أنزل من السماء من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
وليلة القدر على ما هي معروفة من قدرها عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومكانتها عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأنها تعدل ألف شهر وهذه عبادة ثلاثة وثمانين عامًا؛ لما قصرت إعمار هذه الأمة عن أن تبلغ أعمار من قبلها من الأمم، ومن المعلوم أن الرجل المؤمن في عهد نوح يعمِّر ألف سنة، فكيف سنبلغه نحن بأعمالنا؟ سيكون بيننا وبينه مسافات عظيمة! فبلغنا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قصرت أعمارنا ولكن ضاعف الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنا في مواسم الخيرات، فأعطانا هذه المنن، إذا أدركها الإنسان في سبعين عامًا أو ثمانين عامًا من عمره ولو صدفها في عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا بلغ من المنزلة ما لم يبلغ هذا، فهذا من فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- ونعمته على هذه الأمة.
قال: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ. فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»).
قوله: (أُرُو)، فيه دلال على أنَّ ليلة القدر مما تلتمس فيها الرؤى، وهذا يقرِّر ما ذكرناه سابقًا، وهو أن الملَك يعدك بالخير وأحيانًا قد يعدك بعض المستقبل الذي يراه هو فيما كتبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- له، فيكون فأل خير، ولهذا قال النبي : «الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، فإذًا الرؤيا الصالحة بلا شك أنها من معالم النبوة.
قال: «أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»، يعني: بعد انقضاء ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبعة وعشرين وتسع وعشرين، وما يقابلها أيضًا من الأشفاع، دع ليلة الواحد وعشرين وليلة الثاني وعشرين ثم خذ ما بعدها، ثلاثة وعشرين ثلاثة وما بعدها.
فَقَالَ النَّبِيُّ : «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»، هذا مما جعل بعض العلماء -رحمهم الله- يقول: إن قوله: «فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»، يدل -والله أعلم- على أنَّ ليلة القدر ليلة سبعية، يعني: في السبع وعشرين، ولهذا ذهب بعض الصحابة كأبي بن كعب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى أنَّ ليلة القدر ثابتة في ليلة سبع وعشرين لا تتغير، والحقيقة أنَّ هذا له ما يؤيِّده من نصوص، لكن أيضًا له ما يُعارضه، فإنَّ مما يعارضه حديث أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- وفيه أنَّ النبي أخبرهم بليلة القدر، وأنهم رأوا ليلة القدر ليلة الواحد والعشرين؛ فتغيرت، وكذلك حديث عبد الله بن أنيس، وفيه أنَّه -رضي الله عنه- قال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ لي باديةً أَكونُ فيها، وأَنا أصلِّي فيها بحمدِ اللَّهِ، فمُرني بليلةٍ أنزلُها إلى هذا المسجِدِ، فقالَ: «انزل ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ»، فهذه هي التي ترد على حديث أبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وإلا فقد ثبت في حديث أبي هريرة أنَّ النبي وافق ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين، قال: «طَلَعَ القَمَرُ وَهو مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ» ، وشق الجفنة: هي شق الصحفة التي انكسرت، وهي ليلة السابع والعشرين.
قال: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»، فيه دلالة على أنَّ ليلة القدر ترجى في السبع الأواخر من رمضان، وهذا أعظم ما تُرجى فيه ليلة القدر، لهذا درج بعض الناس الآن في الأزمنة المتأخرة على أنهم يقولون مثلًا: ليلة القدر في ليلة الواحد وعشرين، أو الثالث والعشرين؛ ورأينا أنهم أحيانا يتابعون في أعوام متعددة على إثباتها في ليلة الثالث والعشرين! نقول: هذا بعيد، إن وقعت في الليلة الثالثة والعشرين فربما تقع في عام من عدة أعوام، وإذا قلنا إنها متنقلة، فإما أن تقع في عدَّة أعوام، فوالله أعلم أنها مخالفة لقول النبي : «فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ»، ولا يُقال إنها في ذلك العام، بل يُقال: نص النبي عامٌ لا كل الأعوام، وقد اتفق العلماء -رحمهم الله- القائلون بأن ليلة القدر في العشر الأواخر على أنَّ أرجاها هي ليلة الخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع وعشرين، وأكثرها ليلة السابع والعشرين، الليالي الوترية التي في آخر الشهر.
{هل قوله: «فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَ» يدعو الى التحري؟}.
نعم بلا شك؛ لأنها قد تكون مختلفة.
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»)}.
هذا الحديث يكفي حقيقة في الرد على مَن قال: إنها في ليلة السابع والعشرين؛ لأنَّ النبي أمر بالتحري في أوتار العشر، والأصل بوجه عام أنَّ النبي قد حُدِّث أنَّ ليلة القدر في رمضان كما في حديث أبي سعيد، فجاء في بعض الروايات: «اعْتَكَفَ رَسولُ اللَّهِ عَشْرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ واعْتَكَفْنَا معهُ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا معهُ فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ، فَقَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقالَ: مَن كانَ اعْتَكَفَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلْيَرْجِعْ، فإنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُهَا، وإنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ» ، ثم ضيَّق الله -عَزَّ وَجَلَّ- بحمده ورحمته علينا مجال التَّحري من أن نتحراها في رمضان كله، ولو قيل نتحراها في رمضان كله لفاتت على خلقٍ كثير؛ حتى جعلها في العشر الأواخر، ثم ضُيق ذلك بأن جعلت أيضًا في أوتار العشر الأواخر، وأظنه ليس بعد ذلك سهولة، فما عاد باقي عندك إلا خمس ليالٍ إذا تمَّ الشهر، خمس ليالٍ هذه يسيرة جدًّا، ليلة الواحد وعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين بكل الأحوال سواء تمَّ أو لم يتم، فهذه خمسة ليالٍ هي الليالي التي يتحرى فيها ليلة القدر كما في حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
والحكمة -والله أعلم- في إخفائها: حتى يجتهد الناس في العبادة، ولهذا أخفاها الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن النبي في أول الأمر في رمضان كله، وقد كان ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يقول في ذلك قولًا عجيبًا، لما قيل له: أين ليلة القدر؟ قال: "من يقم الحول يُصبها"، يعني: من يقم السنة كلها يصب ليلة القدر، فقال أُبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا حدثه زر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ- بهذا، قال: "يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنه كان يعلمها، ولكنه خشي أن تتكاسلوا"، فدعاكم إلى قيام الليل في العام كله، وهذا توسعة عظيمة في الليلة، قد لا يدركها من الخلق إلا نفرًا يسيرًا، لكن -الحمد لله- أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- رحمنا بمحمد .
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا، حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ -وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ- قَالَ: «مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ». فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ. فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ)}.
هذا حديث أبي سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- السابق الذي ذكرناه، وفيه أن النبي (كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ)، يعني: قبل أن تباين له ليلة القدر، فاعتكفها، (حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ -وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ- قَالَ: «مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ أُنْسِيتُهَ»، في بعض الروايات: «فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: إنَّ الذي تَطْلُبُ أمَامَكَ»)، يعني: أنت اعتكفت لأجل أن تطلب ليلة القدر؛ فهي أمامك، وهذا مما يدل على أنَّ من معاني الاعتكاف تلمس ليلة القدر؛ ولأجل ذلك ينبغي للمعتكف إذا كانت الليالي الأوتار أن يجدَّ فيها في العبادة؛ لأنه يُقال: غاية الاعتكاف -بوجه عام- هو إدراك هذه الليلة وقيامها لله -تبارك وتعالى.
وفيه أيضًا ما يدل على أنَّ مَن كان يعجز عن أن يعتكف العشر الأواخر بتمامها فلا أقل من أن يعتكف الأوتار، وإن عجز فلا أقل من أن يعتكف ما يُتلمَّس فيه ليلة القدر، ليلة سبعة وعشرون ونحوها، هذا هو أقل وأضعف -كما يقال- أضعف ما يكون من معاني الاعتكاف.
إذًا؛ نقول: إنَّ النبي اعتكف في العشر الأوسط بتمامها، ثم اعتكف أيضًا العشر الأواخر بتمامها.
قال: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ»، تتابعت الأحاديث من النبي على أن ليلة القدر في الوتر، ولم يُحفظ عن النبي بوجه صحيح صريح أن ليلة القدر وافقت غير الأوتار، كل ما جاء من رواية أنها وقعت في ليلة العشرين أو الثانية والعشرين أو غيرها؛ كلها روايات معلَّة، المحفوظ أنها إنما كانت ليلة واحد وعشرين كما في حديث أبي سعيد، أو ليلة الثالث والعشرين، أو ليلة السابع والعشرين وهي الأكثر.
قال: «وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ»، يعني: ليلة الحادي والعشرين.
قال: (وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ)؛ لأن المسجد كان مسقوفًا بعريشِ النخل.
قال: (فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ)، يعني: خر ونزل الماء من. يُقال: وكفت عيناك، يعني: دمعت.
قال: (فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ)، النبي أشار إلى أن ليلة القدر سيكون فيها معلَم، وهذا المعلَم أنه ستكون سماء -يعني مطر- في هذه الليلة، فوقع المطر في هذه الليلة فبصر أبو سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- برسول الله يسجد في ماء وطين.
ولهذا قال العلماء -رحمهم الله: إنَّ ليلة القدر إذا وافقت مطرًا كانت أرجى أن تكون من ليالي القدر، يعني لو أنَّ ليلة الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين كان في إحدى هذه الليالي سماء أو ليلة السابع والعشرين كان فيها سماء، قيل: إنَّ هذا -والله أعلم- مما ترجى فيه ليلة القدر؛ لأنَّ هذا وقع مصداقه لرسول الله .
قال: (فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ)، فيه أنَّ ليلة القدر تتنقَّل كما جاء في هذا الحديث، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء -رحمهم الله- خلافًا واسعًا، فبعض العلماء من المتأخرين يقول: إنَّ ليلة القدر الصحيح أنها ثابتة، وإنها في ليلة السابع والعشرين. لكن حقيقة ينبغي أن يجاب على هذه الأحاديث، وقد قال الإمام أحمد- رَحِمَهُ اللهُ: "أرجاها ليلة سبع وعشرين"، فلما قال: "أرجاها" دل على أنها تتنقَّل؛ لأنه لو كانت ليلة سبعة وعشرين لجزم بها، وإنما قال: "أرجاها" دلَّ -والله أعلم- على أنها تتنقل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب الاعتكاف.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
«كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ».
وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا باب الاعتكاف، وإنما ذكره في الصيام -وكثير من العلماء يدرجه في كتاب الصيام- للخلاف هل يصح الاعتكاف بغير صيام أو لا؟ وهذه مسألة مشهورة عند العلماء -رحمهم الله.
والأصل في الاعتكاف: أنه لزوم المسجد لطاعة الله- تبارك وتعالى-، هذا هو الأصل في الاعتكاف، فبناء عليه لزوم المسجد للحديث والتوسُّع ونحوه من الأمور هو ليس اعتكافًا شرعيًّا كما يصنعه بعض الناس، تجد أنه ربما اعتكف حتى يكون مكانًا للتنزه وأخذ الأحاديث وما إلى ذلك، أو مقابلة زملائه؛ نقول: إن هذا ليس هو الاعتكاف الشرعي، ولكن الاعتكاف الشرعي هو لزوم المساجد لطاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا يمنع ذلك من شيء من الحديث، فقد كان النبي يتحدَّث مع نسائه وهو معتكف، لكن لا يكون هذا هو الغالب.
إذًا؛ الاعتكاف: هو لزوم المسجد لطاعة الله- عَزَّ وَجَلَّ.
الشرط: هو أن يكون مسجدًا، يعني: لو لزم مصلًى من المصليات، فلا يأخذ حقيقة حكم الاعتكاف، وهذه من المسائل التي تحتاج إلى تحرير، والظاهر -والله أعلم: أنَّ المسجد هو ما كان يُعمَر بالصلاة غالبًا، وما كان مفتوحًا لعموم المسلمين، فهذا يُسمى مسجدًا، حتى يخرج عن مصليات البيوت ومصليات الأعمال التي تُغلق إذا انتهى الدوام، لو جاء رجل في مصلى الدوام وقال: أنا أريد أن أعتكف، نقول: هذا لا يعد مسجدًا، ولا يأخذ حكم المساجد؛ لأنه لا يُعمَر بالصلاة غالبًا، وحينما نقول: "لا يعمر بالصلاة غالبًا" فإنه يشمل المساجد التي على الطرق، فالأصل فيها أنها تعمر بالصلاة غالبًا، فقد يأتي فرض أو فرضين ما تعمر؛ ولأنه لو قلنا: إن المسجد هو ما يعمَر بالصلاة في كل الفروض؛ نقول: إنَّ بعض المساجد أحيانا في بعض القرى قد يمر الفرض وما فيها أحد، تجد أنه ما يصلي إلا الإمام، هل يخرج ذلك عن أن يكون مسجدا؟ نقول: لا، الأصل في ذلك أنه يعد مسجدًا، هذا هو الضابط والله -تبارك وتعالى.
إذًا؛ ذكرنا أنَّ الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله، وقولنا: "لزوم المسجد" يشمل -والله أعلم- أي لزوم، سواء كان ساعة أو أكثر، لكن العلماء -رحمهم الله- قالوا: بما أن الاعتكاف عبادة شرعية، والعبادة الأصل فيها يراعى فيها الشرع حتى في توقيتها، وننظر إلى ما جاء عن الشرع في توقيت الاعتكاف، نظرنا فرأينا أن أقل ما ذكره الشارع هو اعتكاف ليلة أو يوم، كما في حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: «إنِّي نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا في المَسْجِدِ الحَرَامِ»، بعض الروايات: «نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً» ، فقال النبي : «أَوْفِ بِنَذْرِك»، والحقيقة أن حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حديث جليل من حيث أنه يبين القدر الأقل في الاعتكاف، فيقال: إن القدر الأقل في الاعتكاف هو ليلة أو يوم. هذا أمر.
أمَّا اعتكاف الساعة أو الساعتين كما جاء عن بعض السلف؛ فنقول: الظاهر -والله أعلم- أنه وإن سُمي اعتكافًا بالمعنى اللغوي، إلا أنه لا يكون اعتكافًا بالمعنى الشرعي؛ لأن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كانوا يمكثون في المسجد ينتظرون النبي الساعة والساعتين والثلاث، ولم يقل لهم النبي : هذا اعتكاف شرعي، وإنما عدَّه النبي رباطًا، يأخذ أحكام الرباط، أمَّا أحكام الاعتكاف فلا، فهذا هو المعنى -والله أعلم- الذي يقرره الشرع.
قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ»).
أمَّا اعتكافه فقد كان على مراحل، قد اعتكف النبي أول الأمر في العشر الأوسط من رمضان، وقد جاء في بعض الروايات أنه اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم إنه لزم اعتكاف العشر الأواخر، فكان هذا حاله حينما توفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يعني: العام العاشر الذي توفي النبي بعده، وكان هو آخر عام أدركه النبي ، كان قد اعتكف العشر الأواخر، وقد جاء في بعض الرواة كما في حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، في صحيح البخاري أن النبي : «فَلَمَّا كانَ العَامُ الذي قُبِضَ فيه اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمً» ، وعارضه جبريل القرآن مرتين، فالظاهر -والله أعلم- أنه لا بأس من الزيادة والاعتكاف، لكن الأصل في الاعتكاف أن يكون في العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو الذي كان عليه النبي حتى توفاه الله.
قالت عائشة: «ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ»، من المعلوم أن النساء يجوز لهن الاعتكاف في المسجد؛ لأن اعتكاف المرأة في بيتها ما يسمى اعتكافًا، لكن المرأة إذا اعتكفت تعتكف في المسجد، وتعتكف في المسجد كما كان نساء النبي ، فكنَّ يُضرَب لهنَّ قُبَّة فيكنَّ فيها حتى يحتجبن عن الرجال، فكذلك أيضًا في المساجد إذا كان هناك مصلى للنساء فيشرع لهن الاعتكاف، وليس هناك ما يمنع من اعتكافهنَّ، وحتى الآن -والحمد لله- المساجد متاحة لهن للاعتكاف في قسم النساء.
إذًا؛ يُشرَع للمرأة أن تعتكف كما يعتكف الرجل، ويُقال: إن هذا من السنن المهجورة عند النساء، والأصل -معاشر الإخوان والأخوات- أنَّ على الرجل أن يسهل للمرأة في هذا الأمر، يعني إذا دخلت العشر الأواخر يُعين امرأته على الاعتكاف، ولا ينبغي للإنسان أن يتوسَّع في المآكل والمشارب، فيقول لها: تعتكفين ومن يطعمنا ومن يصلح لنا إفطارنا! نقول: هذه أمور والحمد لله ميسورة، وقد مشَّاها الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في عهدهم، وما كان عندهم مطاعم ولا عندهم كثرة خدم، فكيف الحال الآن! والآن الأمر أصبح ميسورًا.
وهذا -معاشر الإخوان والأخوات- مما يبارك الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه، يا إخوان هناك عبادات موسمية مَن لزمها رأى البركة في عامه كله، ومن هذه العبادات عبادة الاعتكاف، تعتكف عشرة أيام لا تظن أنها تذهب هدرًا، ولا تعتقد أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- سيذهب إلى عملك الصَّالح وتخليك وإلى تحنُّثك لله -عَزَّ وَجَلَّ- وتركك لملاذ الدنيا وشهواتها فيجعله هدرًا؛ لا، ينعكس هذا على عامك، سترى الرشد والسَّداد والتوفيق في هذا العام بتمامه، هذه معانٍ جليلة، وهذه من العبادات التي تؤثر على عامك بتمامه.
ومنها أيضًا عبادة الحج، عبادة الحج كانت عبادة جليلة، السلف الصالح -رحمهم الله- كانوا يبادرون الحج، لما يراه من أثر الحج على عامه كله، فإذا كان ما يتيسر الإنسان للحج الآن كل عام؛ فإذًا أنت ما مُنعت من الاعتكاف، اعتكف وأعن أهلك على أن يعتكفوا، وقد كان النبي قد اعتكف أزواجه معه وبعده، ولكنهن في مرة من المرات اعتكفن في نوع من الغيرة، أمر النبي بخباء له أن يُضرب فضرب له، فاستأذنت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في أن تضرب خباءً فأذن لها، فطلبت حفصة من عائشة أن تستأذن لها رسول الله في أن تضرب لها خباءً فضرب لها، فلما رأت ذلك زينب -وزينب في القسم الآخر المقابل لعائشة- لأن نساء النبي كنَّ على شقين: حزب عائشة وحفصة وسودة وصفية، والحزب الثاني تقوده أم سلمة والأربع معها، ومن ضمن هذا الحزب زينب، فلما رأت ذلك قالت: أنا أضرب خباءً، فخرج النبي ورأى الأخبية، قال: «ألْبِرَّ تُرَوْنَ بهِنَّ؟» ، يعني: كأنكم خرجتم الآن عن أن يكون الأمر أمرًا شرعيًا إلى كونه منافسَة، فأمر بإزالتها النبي ولم يعتكف هذا العام، حتى أفطر فاعتكف عشرًا من شوال ، عوض الاعتكاف، لكنه ما نهاهن عن الاعتكاف، وإنما نهاهن عن المفاخر، وإلا فالأصل جواز أن تعتكف المرأة، ولهذا قالت عائشة: «ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ».
قال: وَفِي لَفْظٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ».
هذا هو وقت بدء الاعتكاف، وهذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء، إذا أردتَّ أن تعتكف في العشر الأواخر؛ فمتى تبدأ العشر الأواخر؟
من العلماء من قال: تبدأ بغروب شمس ليلة العشرين، فإذا غربت شمس ليلة العشرين تدخل المعتكف، فإذا دخلت المعتكف تكون بذلك أنت قد استوفيت ليلة واحد وعشرين وهي أول ليالي العشر، لهذا فإن الناس يصلون الآن قيام الليل يصلون في ليلة واحد وعشرين، هذه دخول العشر، فإذًا ليلة واحد وعشرين من العلماء قال: إنه يدخل فيها بعد صلاة المغرب، أنت تريد أن تعتكف العشر الأواخر؛ فادخل بعد غروب الشمس من ليلة العشرين.
ومن العلماء من قال: لا؛ بل الظاهر والله أعلم أنه يدخل من بعد صلاة الفجر من يوم الواحد والعشرين.
القول السابق يقول: يدخل قبله بست ساعات في الليل.
وهنا يقول: يدخل بعد صلاة الفجر.
وحديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا يؤيد هذا المعنى، قالت: «فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ».
ومما يؤيد هذا المعنى ويقرره أن يقال: إن الأصل في اعتكاف العشر الأواخر إنما هو التماس ليلة القدر، ومن المعلوم أن ليلة القدر لا تقع في ليلة العشرين، وهذه ليلة الواحد وعشرين.
على العموم؛ هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء -رحمهم الله.
والظاهر -والله أعلم- في هذه المسألة أن يقال: إنَّ أصح الأقوال فيها أنَّ وقت الاعتكاف يدخل من غروب الشمس؛ لأن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: «فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ»، يعني إلى خبائه وإلى خيمته، لكن هذا ما يعني أنَّ النبي ما كان مُقيمًا أو ماكثًا قبل ذلك؛ لأنه إنما كان يذهب إلى خبائه لينام ، وأمَّا قبل ذلك وهو ليلة الواحد وعشرين؛ فإنَّ النبي كان يتقرَّب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويصلِّي، وهي من الليالي الأوتار التي تُرجى فيها ليلة القدر.
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها «كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ. وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا: يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ». وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: «إنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ. فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ»)}.
هذا من أحكام الاعتكاف، لَمَّا قرَّر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- مشروعية الاعتكاف أرادَ بهذا الحديث أن يُبين ما هي الأشياء التي تسوغ للمعتكف، والأشياء التي لا تسوغ للمعتكف، فمن أول الأشياء التي يُمنع منها المعتكف: مباشرة النساء، والمباشرة ها هنا المراد بها الجماع كما قال الله- عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، أو مقدمات الجماع من نحو القُبلة ونحوها، وأما ما سوى ذلك من نحو مصافحة المرأة المحرم، أو ترجيل الرأس، أو أن تدهن لك الجسد أو نحو ذلك؛ فإنه لا بأس به، قد جاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا «كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ. وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا: يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ»، في بعض الروايات: «يُخْرِجُ إلَيَّ رَأْسَهُ» ؛ لأنه من المعلوم أن الحائض ممنوعة من دخول المسجد، فإذا كان كذلك؛ أخرج النبي رأسه إليها فغسلته ورجلته -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فدلَّ ذلك على أن ترجيل الرأس والنَّظافة للمعتكف وحسن المظهر والطِّيب؛ كل هذه من الأمور التي لا يُمنع منها المعتكف، بل هي من الأمور التي يُندب إليها؛ لأن كثيرا من المعتكفين أحيانًا قد يعتكف ثم يؤذي مَن حوله بالرائحة وعدم الاهتمام؛ لأنه يقول: أنا في عبادة. نقول: لا؛ من معالم هذه العبادة حسن الإقبال فيها على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومن حسن الإقبال فيها على الله -عَزَّ وَجَلَّ- حسن المظهر، وأن يحسن الإنسان مظهرة فيها.
إذًا؛ بوجه عام: يجوز للإنسان أن يغتسل، ويجوز للإنسان أن يتطيَّب، ويجوز للإنسان أن يلبس ملابسه؛ ويجوز للإنسان أن يتحدَّث مع أهله، كما جاء في حديث صفية -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- «فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً مِنَ العِشَاءِ» ، هذه كلها من المعاني الجائزة.
والحديث فيه تقرير أن الحائض لا تدخل المسجد؛ لأن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كانت في حجرتها، فدلَّ على أنها لا تدخل المسجد، ولهذا لما أمرها النبي أن تناوله الخمرة، قالت: «حَيْضَتَكِ ليسَتْ في يَدِكِ» ، فدل ذلك على أن الحائض أيضًا ممنوعة من دخول المسجد.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ: «وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ»)، حاجة الإنسان هي قضاء الحاجة، يجوز للإنسان أن يخرج من المعتكف ويدخل بيته لقضاء الحاجة؛ لأنه لا بد منه، وكل ما لابد للإنسان منه فلا بأس أن يخرج له، فلو كان الإنسان ما عنده أحد يوصِّل له الطعام والشَّراب جاز له أن يخرج، ولكن الأصل بوجه عام ألا يتوسَّع الإنسان؛ لأن بعض الناس عنده شروط إذا جاء الاعتكاف، قال: أنا أشترط إذا جاء الاعتكاف أني أخرج آكل وأشرب في المطاعم، وأخرج أوصل أولادي، وأوصل المريض؛ نقول: إذا كنت أنت محتاج إلى هذه فلا تعتكف، الأصل في الاعتكاف أن يكون لزوم المساجد، وإذا كنت محتاجًا إلى هذه الأمور فهذه الأمور مقدَّمة على الاعتكاف، وبناء عليه فإن الاعتكاف إنما هو لزوم المسجد، ما تخرج من المسجد إلا لما لابد لك منه، من نحو قضاء الحاجة، ومن نحو أخذ الطعام، فتأخذ الطعام وتأتي تأكله في المسجد، إلا إن مُنعت من ذلك، وإلا الأصل أن تأخذ وتأكل في المسجد؛ لأن النبي الظاهر أنه كان يأكل في المسجد، فكان يأكل في اعتكافه؛ لأنه لم ينقل عنه أنه كان يأكل في بيته.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "إنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ. فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ").
هذا من شدَّة الإقبال على الاعتكاف، فالأصل في الاعتكاف أنَّك تخرج للحاجة فحسب، حتى المريض موجود في البيت ما تعرِّج عليه وتقف عنده وتسأل عنه؛ لأن هذا خروج عن مقصود الاعتكاف، وإنما تسأل عنه وهو مارٌّ تقول: كيف حاله؟ إن شاء الله يكون بخير، ثم تكمل حاجتك.
هذا كله من معاني الاعتكاف، ولهذا حقيقة فإن ما يقال من الاشتراط في الاعتكاف ليس بوجيه، يهل هناك حدٌّ للاشتراط أو لا؟
إذا لم يكن ثمَّ حد فسيشترط الإنسان أشياء مفتوحة!
وإذا قيل إنه له حد؛ فيُقال: من أين جاء؟! ما هناك دليل عليه! حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إنما كان فيه خروج للحاجة التي هي عادة الإنسان، وأمَّا ما سوى ذلك فلا، فأن يشترط الإنسان أن يخرج إلى دوامه، أو يشرط الإنسان أن يوصل أولاده، أو يشترط الإنسان بعض الشروط التي شرطها كثير من المعتكفين؛ نقول: إن هذه الظاهر -والله أعلم- أنها ليست شروطًا شرعية، وإذا كنت بحاجة إليها فلا تعتكف.
{هل يبطل الاعتكاف؟}.
نعم، الظاهر -والله أعلم- أنه إذا خرج لغير حاجة الإنسان من طعامه وشرابه وقضاء حاجته أن اعتكافه يبطل.
{أحسن الله إليكم.
قال- رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً» وَفِي رِوَايَةٍ: «يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً)}.
هذا حديث عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سبق وتكلم عنه في حدِّ الاعتكاف، وقلنا: إنه هو المرجع الذي يرجع إليه العلماء -رحمهم الله- في ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: ما هو الحد الأدنى في الاعتكاف؟ وذكرنا أنه ها هنا قال: «يَوْمً» أو «لَيْلَةً».
فإذًا؛ أقل الاعتكاف الشرعي الذي جاء به الشرع إنما هو يوم أو ليلة.
المعنى الثاني: أنه يدل على أن الاعتكاف يجوز حتى في غير رمضان؛ لأنه إنما قاله عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في فتح مكة، ومِن المعلوم أن فتح مكة وقع شيء منه في رمضان، وشيء منه في غير رمضان، ولم يرد ها هنا أن النبي قال له: إن كان في رمضان فاعتكف؛ وقد ثبت عن النبي أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان اعتكف عشرًا من شوال؛ فدلَّ على أنَّ الاعتكاف يجوز في رمضان وفي غيره، نعم الأولى به رمضان وهو الأصل، لكن يجوز في غير رمضان.
ونقول: هل هو مشروع في غير رمضان؟
نقول: الظاهر -والله أعلم- أنه لا يشرع إلا لمن لم يعتكف في رمضان، وكان من عادته الاعتكاف في رمضان، فيشرع له قضاؤه، لكن من أراد الجلوس يأخذ أحكام الرباط وتصلي عليه الملائكة، فأما الاعتكاف فالظاهر -والله أعلم- أنه لا يشرع في غير رمضان إلا إذا كان الإنسان قد نذر؛ لأنه لم يُحفظ عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنهم كانوا يعتكفون في غير رمضان، والسنة إنما هي سنة رسول الله وسنة أصحابه -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم.
المعنى الثالث وهو أيضًا معنى جليل: يدل على أنَّ الاعتكاف يصح بغير صوم، وهذه من المسائل التي وقعَ فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- هل الاعتكاف يشترط له الصوم أو لا؟
والظاهر -والله أعلم- أنه لا يشترط له الصيام؛ لأنَّ النبي أمره بالاعتكاف في ليلة؛ لأنه قال مرة: «في ليلة»، والليلة لا يقع فيها صيام، وقال له مرة: «فِي يَوْمٍ»، وقد ما يكون مصادفًا الصيام وما أمره النبي بالصيام.
وأمَّا ما يروى من رواية النبي أنه قال له: «اعتكِفْ وصُمْ» فإنَّ هذه الرواية رواية منكرة لا تصح ولا تثبت، ولهذا ما أخرجها البخاري ولا مسلم- رحمهما الله.
{من الأوجه كذلك: أنَّ النبي حينما أمر بإزالة القباب التي ضُربت لأزواجه، اعتكف في شوال}.
نعم، اعتكف في شوال، وما نقل لنا عن النبي أنه صام، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أنه ليس من شرط الاعتكاف الصيام.
وليس من شرط الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة المفضلة، التي هي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، بل الأمر في ذلك واسع، يعتكف في أي مسجد شاء من المساجد، والأفضل أن يكون جامعًا حتى لا يتجشَّم الخروج للجمعة؛ لأنَّ الخروج إلى الجمعة واجب، لكن ليس من شرطه، العلماء -رحمهم الله- قالوا: الأصل أن يكون في مسجد؛ لأن خروجه إلى الجمعة هذه خروج اضطراري.
{قال- رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي -وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : «عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ». فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّ» أَوْ قَالَ: «شَيْئً».
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً. ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ. فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ. ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ)}.
هذا حديث صفية -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وهو من الأحاديث الجليلة في أبواب الاعتكاف، هو حديث حقيقة يدخل فيه مسائل كثيرة، ولهذا فرقه الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- على أبواب وعلى كتب كثيرة، لكن أصله هو باب الاعتكاف، وفيه أنَّ النبي (كان مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي)، وفيه دلالة على أنَّ المباشرة المنهي عنها في قول الله- عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ إنما هي المباشرة المقترنة بالشهوة، فأمَّا غير ذلك من حديث الرجل مع امرأته أو أخذه منها أو إعطائه إياها فإنه يجوز، وقد ثبت أن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كانت ترجِّل النبي ، فإذًا لمس الرجل لامرأته أو مصافحتها لا يقطع اعتكافه عليه. هذا أمر.
الأمر الثاني: فيه دلالة على أنه لا بأس للمعتكف أن يتحدَّث في أحواله وشأنه، لكن لا يخوض في أمور الدنيا التي هي أمور البيع والشراء؛ لأن هذا ممنوع منه، وأما ما سوى ذلك كأن يسألهم عن أخبارهم وعن أخبار قراباتهم وما الذي جرى عليهم؛ فهذه لا بأس بها.
وفيه أيضًا أنه يشرع للإنسان بوجه عام أن لا ينقطع عن أهله العشرة بتمامها، وفي هذا معان:
الأول: الأصل إذا تيسر أن يقول الإنسان لأهله: تعالوا لي في المسجد في مكان مثلًا أنا أكون معكم فيه فلا بأس حتى يعودهم نوعًا من العبادة، يرونه هم على حال العبادة، فإذا رأته الزوجة ورآه الأولاد على هذه الحال، وعلموا أنه إنما جلس في هذا المسجد لعبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- كان في هذا أثر عظيم عليهم.
الثاني: وهو معنى المواصلة لهم، وهذا يدل -معاشر الإخوان والأخوات- على أنه ينبغي للرجل أن يواصل أهله، النبي وهو الآن في لحظة الاعتكاف لم يقطع أهله من الزيارة، يزورونه ويحدثهم النبي ويلاطفهم، ثم يقوم معها ليقلبها، وكان مسكن صفية -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في آخر مساكن النبي ؛ لأن الأصل أنَّ النبي كان إذا تزوَّج امرأة بنى لها، فكانت كلما كانت المرأة سابقة في الزواج كانت قريبة من المسجد، وكلما تأخرت تأخر بيتها، فكانت صفية -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في آخر حُجَر النبي ؛ لأنها كانت من آخر من تزوجها النبي ، فقام معها ليقلبها.
قال: (وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ)، يعني: دار أسامة التي أخذها فيما بعد، فكانت بعيدة شيئًا يسيرًا، يعني: هي خطوات يسيرة، لكن مع ذلك النبي أراد أن لا تستوحش، وهذا معنى المعاني التي يجوز للإنسان أن يخرج من المسجد خروجًا يسيرًا لها، مع أنه لم يرد حقيقة أن النبي قد خرج، يعني هل خرج أو لا؛ هذه مسألة محتملة لأن حُجَر النبي قد كانت متصلة وقريب بعضها من بعض.
قالت: (فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْرَعَا. فَقَالَ النَّبِيُّ : «عَلَى رِسْلِكُمَا. إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ». فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم»)}.
فيه أن الإنسان ينبغي له أن يجتنب مظان التُّهم، وأنه إذا وضعَ نفسه في موضع التُّهمة فلا يعتب إذا ظن الناس به السوء؛ لأنه هو مَن جرَّ على نفسه هذا، وإذا كان النبي -وهو المعصوم- وفي حال ليست حال ريبة، وإنما معه زوجه وهو خارج من المسجد، ومع ذلك لما مرَّ به هذان الرجلان فأسرعا فقال: «عَلَى رِسْلِكُمَا. إنَّهَا صَفِيَّةُ»، يريد النبي أن يدفع عن نفسه التهمة، فقالا: «سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ»، وفي بعض الروايات: «هل نظن بك إلا خيرًا؟!».
فقال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئً»»، فدلَّ ذلك على أن الأصل أن الإنسان يجتنب موارد التهم، وأنه لو قُدِّر له أن يقع في شيء من هذه الموارد، إما قدرًا أو اضطرارًا -يعني شيئا ما أحس به، أو أمرًا يعلم به لكنه أقدم عليه ضرورة- فالأصل في ذلك أن ينفي الإنسان عن نفسه التهمة، يقول: من خرجت معها هي زوجتي، أو من رأيتموني معها هي زوجتي، ونحو ذلك من نفي التهمة، وهذه قاعدة شرعية؛ لأن الأصل في الإنسان أن يؤخذ بالقرائن، الشرع يقضي بالقرائن، ولهذا العلماء -رحمهم الله- قالوا: من رأيناه خارجًا من خربة سكينا وفيها دم ثم دخلنا فوجدنا رجلًا مذبوحًا اتهمناه، مع أننا لم نقف على أنه قد قتله.
والشرع أعمل مسألة مشهورة عند العلماء تسمَّى مسألة "القسَامة" لأجل اللوث، فإذا كان فيه تهمته فإنها تقوى القسامة.
إذًا؛ معنى الأخذ بالقرائن معنى وجيه، أنت لا تضع نفسك موضع التَّهم، ثم تقول للناس: أحسنوا بي الظن! نقول: هلَّا أحسنتَ أنت الظن بنفسك إذ نأيتَ بها عن هذه الموارد!
إذًا؛ الأصل في هذا أن الإنسان ينأى بنفسه عن موارد التَّهم، وإذا ابتُليَ بشيءٍ منها فالأصل أن يُبادر، ولا يقل: ما لي شأن بالناس! نقول: لا بأس إن لم يكن لك شأن بالناس، ولكن إذا ظنُّوا بك سوءًا فلا تعتب عليه!
وهذا أيضًا فيه معنًى آخر: وهو أن بعض الناس ربما رخَّص في عرضه أن يُلاك! وليست هذه من أفعال ذوي المروءات؛ لأن النبي وهو من هو قد خشي أن يُقذَف في قلبهما شيء، فدلَّ على أنه من الأولى بالإنسان أن يحفظ عرضه، لا يأتي تقول: يا إخوان مَن شاء منكم أن يتكلم في عرضي فليتكلم فقد أحللته وأبحته!
نقول: جزاك الله خيرًا، أنت أحلل وأبح لنفسك، لكن لا ترخص عرضك للناس؛ لأن عرضك لا يتعلق بك أنت، وإنما هناك ذريَّة من بعدك، عندك أولادك وعندك بناتك، فربما بناتك لا يُنكَحنَ، وربما أولادك لا يُزوَّجون، وربما ولدك يخرج للشارع ما يكون عنده ما عندك من الطيبة فيُوصَم بأنه كذا وكذا؛ لأن ك أبحتَ عرضك للناس!
فإذًا؛ ليس من المسلك الشرعي ولا من العقل ولا من المروءة أن يُبح الإنسان عرضه، وإنما يقول: عرضي مصونٌ، وأنا أرفض لعرضي أن يُهان، وقد كان النبي يغضب، فغضب غضبًا شديدًا لما رأى قومًا من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد مر بهم العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فطعنوا في بني هاشم، فقام النبي وقال: «إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِن كِنانَةَ، واصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ» ، فبيَّن النبي أنه مصطفى، ولم يسوِّغ ولا يرخِّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرضه أن يمس، فهذه هي أفعال ذوي المروآت، ولهذا كان يثقل على العرب أن يُلاك عرض الإنسان، وربما يشتري عرضه بوزنه ذهبًا، يأتي الإنسان بعده يقول: لا أنا أبحتُ لك عرضي! نقول: لا؛ ليست هذه من أفعال المروآت.
قال النبي : «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّ» أَوْ قَالَ: «شَيْئً»، وفيه -يا إخوان ويا أخوات- أنَّ أولي الصلاح قد يسرع فهم الظن السوء من الشيطان، لا تظن أنك صالح فأنت بعيد، بل أنت أسرع الناس بظن السوء، الناس ربما يرونك أنت أيها الصالح في موقف ويرون غيرك ممن لا يوسم بالصلاح في نفس الموقف فيظنون بك السوء ولا يظنون به؛ لأن الشيطان تسلَّط على قلوبهم، يريد أن يفسد صورتك.
فإذًا؛ الأصل فيك أن تراعي هذا المعنى، وألا تسلط الشيطان على قلوب إخوانك حتى يظن بك الظن.
قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»، ولهذا شُرع أن تُضيَّق مجاري الدم هذه بالصيام، ولهذا إذا صام الإنسان ضعف عن كثير من الشهوات وانقبضت نفسه، وإنما تنشرح نفس الإنسان لكثير من الشهوات إذا أكثر من الطعام والشراب، ولهذا كان في بعض الأطعمة أحيانًا قوة أُمر بأن تُكسر بنحو الوضوء؛ لأنَّ الشيطان يجري فيها ويسرع فيها.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)، فيه دلالة على أن هذا الاعتكاف كان في العشر الأواخر.
قال: (فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً)، فيه دلالة على مشروعية الحديث شيئًا يسيرًا، فقوله: (ساعة) يعني: ساعة من الزمان، ما يُراد بها ستين دقيقة، ولكن فترة وبرهة من الزمان.
قال: (ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ. فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَ)، يؤنسها ، وفيه دلالة على ما قاله بعض العلماء: إنه يجيز الخروج للحاجة، لو أنك جاء أهلك فخرجت توصلهم وكان البيت قريبًا لم يكن في ذلك بأس.
قال: (حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ. ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ). لعلنا نتوقف ها هنا.
{أحسن الله إليكم شيخنا، لا زال الحديث له شجون؛ لأنه متصل بأحاديث النبي ، نشكركم شيخنا المبارك على شرحكم المبارك، نسأل الله -تبارك وتعالى- بأن يفتح لكم وأن يزيدكم من فضله، والشكر لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة والاستماع، نلتقي بكم بإذن الله- تبارك وتعالى- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك