{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم (جادة المتعلم) والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حيَّاكم الله فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند حديث أبي المنهال نكمل يا شيخ الحديث...
قال الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ -الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى- حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا. وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد كنَّا في المجلس الماضي قد تكلمنا على ما يتعلق بصلاة الظهر والعصر من حديث أبي برزة الأسلمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وقول الراوي التابعي الذي هو فيما يظهر -والله أعلم- أنه سيار بن سلامة، (وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ)؛ لأنه هو الناسي، فإن الصحابي لم يكن ينسى بحكم أنه يشاهد الفعل من النبي ﷺ كثيرًا.
فقوله: (وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ)، الظاهر -والله أعلم- أنَّ المغرب كان يصليها النبي ﷺ على ما في حديث جابر (وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ)، فإذًا قد تقرَّر وقت المغرب أيضًا ووقت الفضيلة فيه، وأنَّ بدء المغرب يكون من وجوب الشمس -الذي هو غروبها- إلى غروب الشفق على الصحيح من أقوال أهل العلم.
فإذًا وقت المغرب وقت متَّسع قد الآن تقريبًا بالمواقيت الحالية ما بين الساعة إلى الساعة وعشر دقائق أو الساعة وخمس دقائق، وأمَّا العرف الحالي الذي جرى في التَّوقيت بين المغرب والعشاء بالساعة والنصف، وما يقع فيه بعض الناس من الوهم أنَّ وقت المغرب ممتد إلى أذان العشاء فنقول: هذا خطأ، هذا الاصطلاح اصطلاح عرفي، قد اصطلح عليه الناس في زمن ماضي، في زمن الشيخ محمد إبراهيم -رَحِمَهُ اللهُ-، فإنه هو مَن اقترح أن يكون المدة ساعة ونصف بين أذان المغرب وأذان العشاء، فهو اصطلاح عرفي تعارف عليه الناس مراعاة لأحوالهم، لكن بعض الناس أوهم ودخله الخطأ من ها هنا فظنَّ أنَّ وقت المغرب متسع إلى صلاة العشاء، ولهذا أدركنا أقواما ربما أخَّر أحدهم صلاة المغرب فلم يوقعها إلا قبل صلاة العشاء بخمس دقائق أو عشر دقائق فإذا هو قد أوقعها في وقت صلاة العشاء!
فإذًا هذا يحتم علينا معنيين:
- المعنى الأول: المبادرة الصلوات بوجه عام فإنَّ من المستقرأ حديث جابر السابق وحديث أبي برزة الذي بين أيدينا يتيقَّن أنَّ حال النبي ﷺ المطَّرد في الأوقات أنه كان يعجل الصلاة فيها كلها إلا صلاة العشاء، وباستثناء حالة صلاة الظهر في شدة الحر، وما سواها فالأصل هو التَّعجيل.
- المعنى الثاني: أنه ينبغي للإنسان وإنَّ توسع في صلاة المغرب أن يكون توسعه توسعًا مُقيَّدًا، فلا يجاوز أربعين دقيقة أو خمسين دقيقة كحد أقصى من وقت أذان المغرب، لأنه بعد ذلك قد يخرج الوقت، ويكون قد أوقع الصلاة في غير وقتها، فهذا مما ينبغي الحذر له.
قال: (وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ)، تتابع الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على تقرير هذا المعنى عن رسول الله ﷺ، فهو من المعاني التي نستطيع أن نقول: إنها معانٍ متواترة، من حيث أنه قد جاء من حديث أبي برزة ومن حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومن حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس ومن حديث عائشة ومن حديث أبي موسى ومن حديث أبي سعيد؛ كل هؤلاء يذكرون أنَّ النبي ﷺ كان يؤخر العشاء ويبالغ في تأخيرها إلى نصف الليل، قالت عائشة في مسلم: «حتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحتَّى نَامَ أَهْلُ المَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَقالَ: إنَّه لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ علَى أُمَّتِي»[1]، فإذا هذا هو وقت صلاة العشاء بوجه عام، والأفضل فيها التأخير، لكن هذا ما لم يشق، فإذا كان يشق على الناس فالأولى مراعاة ما يخفف عنهم، ولهذا كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يقدمون إلى صلاة العشاء وينتظرونها فينامون، حتى قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "يا رسول الله نام النساء والصبيان"، ويقول أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "(لقد كان أصحاب النبي ﷺ ينتظرونه حتى ينام أحدهم ثم يخرج عليهم النبي ﷺ فيصلي بهم").
لكن هل هذا هو الحالة المطَّردة؟
نقول: لا، حاله ﷺ المطَّردة هي مراعاة حال أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
قال هنا: (وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ)، لكن ما قال: "وكان يؤخر العشاء"، ما جزم بالتأخير، هو يستحب لكن فعله ﷺ إنما كان تبعًا لأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فإذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر ﷺ.
قال: (وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَ)، ذكرناه المجلس الماضي وذكرنا أن النوم قبلها إنما يخشى لِمَا يترتَّب عليه من ضياع وقتها بوجه عام.
قال: (وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَ)، أيضًا يكره الحديث بعدها لما يترتب عليه من ضياع صلاة الفجر، وقد ثبت أن النبي ﷺ كان يَسمُر أحيانًا، كما بوب الإمام البخاري "باب السَّمرِ في العلم"، ثم ذكر فيه حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما قام النبي ﷺ في أصحابه فقال: «أرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِه، فإنَّ رَأْسَ مِئَةِ سَنَةٍ منها، لا يَبْقَى مِمَّنْ هو علَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ»[2]، هذا بعد العشاء خطبهم النبي ﷺ.
وفي قصة الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما تعشَّى وجلس عند النبي ﷺ يتحدَّث في أمور المسلمين، فإذا كان الحديث في علم أو حديث الزَّوج مع زوجته؛ فإنَّ النبي ﷺ كان إذا رجع إلى بيته تحدَّث مع زوجته، فهذا ليس من الحديث المنهي عنه، سمر الإنسان مع أهله ليس من الحديث المنهي عنه البتة، أو كان في مصالح المسلمين؛ هذه كلها من السَّمر الجائز، وأما ما سواها من الحديث فإنه منهي عنه نهي كراهة.
قال: (وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ)، أي: صلاة الفجر، وتسمى الصبح، والأولى أن تقول: صلاة الفجر؛ لأنها هي المذكورة في القرآن، قال تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً﴾ [الإسراء: 78]
قال: (حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ)، يعني: يُبصره، دل على ذلك على معنى الإسفار، لكن الإشارة في الإسفار إلى الانصراف، ولأنه قال (وَكَانَ يَنْفَتِلُ)، يعني: ينصرف.
معنى ينفتل: مأخوذ من قتل العقدة، وفيه إشارة إلى حلها، فكأنما فرغ من الصَّلاة وحلَّها.
وقوله: (وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ) دلَّ على أنَّ النبي ﷺ كان أحيانَا يصبح بها -يعني: يسفر بها- ليس المعنى أنه يوقعها وقت الإسفار، وإنما يصليها مُغلِّسًا ثم يطوِّل بالقراءة، وعلى هذا يحمل حديث رافع بن خديج كما حمله الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- «أَسْفِروا بالفَجرِ فإنَّه أعظَمُ للأجرِ»[3] ما هو بالمعنى أنك تُؤخر صلاة الفجر إلى أن يطلع الإسفار والضوء، ولكن المعنى أن تصليها مُغلِّسًا وتطيل الصلاة بها؛ لأنَّ هذا هو ما يلائم قوله: «فإنَّه أعظَمُ للأجرِ»؛ لأنك تقرأ قرآن الفجر الذي مدحه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والذي تشهده الملائكة، فمن ثَمَّ كان أعظم لأجرك.
قال: (وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ)، يعني كان يقرأ في صلاة الفجر، وفي بعض الروايات (وكان يقرأ فيها بالستين) يعني في صلاة الفجر.
وقوله: (السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ)، ذكرنا أن الستين هي ستين آية، والقاعدة بوجه عام أنَّ العشر آيات عند السلف تعادل بالرسم الموجود بين أيدينا وجها كاملًا.
فإن قال قائل: من أين أتيتم بذلك؟
قلنا: أتينا بذلك أنهم كانوا يقولون إن النبي ﷺ كان يقرأ بالسَّجدة، والسجدة ثلاثون آية وهي ثلاثة أوجه، ولو أخذنا القرآن بوجهٍ عام وقسَّمناه واستثنينا منه جزء عم بسبب كثرة فواصله؛ لوجدنا أن كل عشر آيات تقع في صفحة، فعدد آيات القرآن 6236، وعدد صفحاته 604، لو استثنينا جزء عم كان حظ وجه من عشر آيات إلى إحدى عشر آية.
إذًا؛ الوجه يعادل عشر آيات، فقوله (بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ) يعني ما بين ستة أوجه إلى عشرة.
هل هي عادته المطردة؟
نقول: نعم.
إن قال قائل من أين؟
قلنا: ألم يكن يقرأ ويديم القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة بالسَّجدة والإنسان؟ والسجدة ثلاثة أوجه، والإنسان وجهين، فهذه قريبة من خمسة أوجه، فدلَّ على أن القاعدة المطردة والأغلبية من فعل النبي ﷺ هي الإطالة في صلاة الفجر بهذه الحدود، خمسة أوجه أو ستة أوجه تُقسَّم على الركعتين.
وقد ثبت أن صلاته ﷺ كانت قصدًا -يعني صلاة الفجر- وكانت صلاة أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قصدًا -يعني صلاة الفجر- فلمَّا كان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مدَّ في صلاة الفجر حتى يُدرك الناس، فالأصل أن النبي ﷺ كان يقرأ في صلاة الفجر -كما ذكرنا- عشرة أوجه كحد أقصى، يعني: خمسة خمسة، فلما كان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يقرأ كما جاء عن الأحنف، قال: "صليت خلف عمر فقرأ في الركعة الأولى بسورة الكهف"، هذه عشرة أوجه وزيادة "وقرأ في الركعة الثانية بسورة يوسف أو يونس"، وهذه ما بين اثنا عشر إلى ستة عشر وجه، فهذا طول عظيم، وكان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يطول الصلاة ليدرك الناس، وفي هذه الإشارة إلى تعظيم صلاة الجماعة، وأن الجماعة المعنية الأولى عند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- هي الجماعة مع الإمام، وأمَّا ما سواهما من الجماعات فليس مقصودًا بلفظ المعنى الأول، تأتي بعد أن فرغ الإمام فتصلي جماعة ثانية ليست هي الجماعة الشَّرعية، فالجماعة الشرعية هي التي كانت مع الإمام الأول، هذه هي الجماعة الشرعية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ». وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى -صَلَاةِ الْعَصْرِ- ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ». وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْعَصْرِ، حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى -صَلَاةِ الْعَصْرِ- مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارً»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأعقبه أيضًا بحديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وإنما قصدَ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في ذلك الإشارة إلى فضيلة صلاة العصر، وإلى عظيم إثم مَن فرَّط فيها، ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الذي تَفُوتُهُ صَلَاةُ العَصْرِ، كَأنَّما وُتِرَ أهْلَهُ ومَالَهُ»[4]، والموتور هو المصاب بالمصيبة، فقوله: «وُتِرَ أهْلَهُ ومَالَهُ» يعني: أصيب بأهله وماله، فدلَّ ذلك على فضيلة صلاة العصر، وعلى جرمِ وإثمِ مَن تخلَّف عن هذه الصلاة الجليلة.
قال ها هنا: «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ»، دعا النبي ﷺ عليهم لأجل ما أوقعوه أو تسببوا فيه من فوات هذه الصلاة لرسول الله ﷺ، فدلَّ ذلك على أمور:
الأمر الأول: أنه ينبغي للإنسان أن يحافظ على الصلوات في أوقاتها، وألا يشغله عنها شيء البتة، حتى أنَّ النبي ﷺ في وقت القتال دعا على هؤلاء.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن يُعلم أن ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها من أعظم الكبائر، ومن أعظم الذنوب بل هو من أعظم الموبقات.
الأمر الثالث: أن يعلم أن هذا الحديث كان قبلَ فرض صلاة الخوف، فإن صلاة الخوف أول ما فرضت في غزوة ذات الرقاع وقد كانت بعد غزوة الخندق، ولأجل ذلك من حين ما شُرعت صلاة الخوف لم يترك النبي ﷺ صلاة من الصلوات تخرج متعمدًا البتة، لا بعذر من عدو ولا مرض ولا غيره، العذر الوحيد الذي يسوِّغ ترك الصلاة حتى تخرج هو عذر النوم الذي لا يملكه الإنسان أو ما يقوم مقام النوم وينزل منزلة النوم من الإغماء ونحوه، وأما ما سواه من أعذار فلا، بل تصلي على حالك، أنت فاقد للماء تتيمم، أنت فاقد للماء وللتيمم تصلي بلا ماء ولا تيمم، أنت يشاغلك العدو تصلي إيماءً، مشروعة لك صلاة الخوف، لكن في هذه الغزوة لم تكن صلاة الخوف قد شُرعت، فشقَّ ذلك على رسول الله ﷺ، مع أنَّها لو وقعت لإنسان منَّا في أقل من ذلك ربما في مشوار وكثير من الناس ربما في مشاوير المدينة ربما فاتته الصلاة ويخرج وقتها، وأعني بفواتها خروج وقتها، يخرج وقتها وهو يزعم أنه معذور، لأنه الآن محبوس في الطريق!
ونقول: ليس هذا بعذر، يصلي الإنسان على كل حال، لو اضطر الإنسان إلى أن يصلي كما يصلي صلاة الخوف يصليها، النبي ﷺ مشاغَل الآن على ما وصفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الحالة الشديدة ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً﴾ [الأحزاب: 10، 11]، وانشغل الناس مع رسول الله ﷺ بمدافعة العدو حتى فاتتهم الصلاة، فشقَّ ذلك على رسول الله ﷺ أعظم المشقة. هذا أمر.
الأمر الآخر: أن يُعلم أيضًا أن مما قصد له المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بذكر هذا الحديث الإشارةُ والدلالةُ على أن الصَّلاة الوسطى المقصودة في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- والمخصوصة بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]، وهذا خصوص بعد عموم، كقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] مع أن جبريل وميكال يدخلان في الملائكة؛ لكن يقولون دائمًا: ذكر الخاص بعد العام يدل على التنويه بشأنه، فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [النساء: 136] فيه إشارة إلى الأمر بالإيمان مطلقًا، والأمر بهذه الأشياء على وجه الخصوص، ومثل هذا قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾، لما خصها الله -عَزَّ وَجَلَّ- دل ذلك على آكاديتها.
ثم تضاربت أقوال العلماء -رحمهم الله- في تعيين هذه الصلاة، فمن أجل ذلك ذكرها المصنف ها هنا ليقطع بهذا القول قول كل خطيب، ويبيِّن أنه إذا قال الله وقال رسوله ﷺ فلا قول معهما، طلع الصباح فأطفأ القنديل، إذا جاءك النص عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعن رسوله ﷺ فلا تعترض عليها البتة؛ لأنَّ علماء المذاهب بوجه عام قد اختلفوا:
- فمن قائل يقول: إن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر.
- ومن قائل يقول: إن الصلاة هي الصلاة الصبح.
فمن قال: إنها صلاة الصبح قالوا: رأينا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد خصها بقوله: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾.
ومن قال: إنها صلاة الظهر قال: رأينا أنها تقع في نصف اليوم.
نقول: هذه كلها اجتهادات وقياسات وآراء، وهذه لا معنى له إذا وجد النص، نقول: هم -رحمهم الله- اجتهدوا لأجل أن النَّص ما بلغهم، وإلا والله لو بلغهم ما تركوه، أراد بذلك المصنف أن يبيِّن بالنَّص القاطع مِن صحيح البخاري ومسلم في حديث علي وابن مسعود وعائشة عند مسلم أنَّ الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ»[5]، والبردان: الصبح والعصر، فإذًا الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وقد جاء أن -عائشة رضي الله- عنها أمرت غلامًا لها يكتب المصحف، فلما جاء عند قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ قالت له: "اكتب: وصلاة العصر"، ثم قالت: "هكذا أنزلت"، فدلَّ أيضًا على آكديتها وعلى أنَّ الصلاة الوسطى، وما يقال إن العطف هنا يدل على المغايرة، بل قد يقال: إن العطف هنا نوع من البدل، فإذًا الصلاة الوسطى هي على الصحيح من أقوال أهل العلم صلاة العصر بحديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: «ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»، فيه دلالة أيضًا على مشروعية قضاء الفوائت، وعلى أنَّ الإنسان لو فاتته الصلاة لعذر فإنه يجب عليه أن يقضيها حين يذكرها، وسيذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعد قليل حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: «حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْعَصْرِ، حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ»، هذا القول من ابن مسعود دلالة على أن تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار أو الاحمرار مما يدخل في الفوات، ولهذا دعا عليهم النبي ﷺ، فإذًا تأخير الصلاة إلى مثل هذا الوقت نقول: إنه ليس من عمل أهل الإسلام، ولهذا ثبتَ عن النبي ﷺ في حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي ﷺ قال: «تِلكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حتَّى إذَا كَانَتْ بيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلً»[6]، فمَن صلَّى العصر قبيل الغروب وكانت هذه من عادته؛ قيل: هذه هي صلوات المنافقين، ودلَّ ذلك أيضًا على أن الرجل قد يوصف بالنفاق أو قد يكون فيه خصلة من خصال النفاق ولو لم يكن منافقًا خالصًا، هذا صلَّى في الوقت بوجه عام ما أخرج الصلاة عن وقتها المحرَّم -يعني عن وقتها التام- ولكنه كان مذموما وقد سماه النبي ﷺ بصلاة المنافق.
ولهذا فإنه لا يكاد أحد يؤخِّر الصلاة عن وقتها الفاضل إلا ويخل بها، لهذا قال: «يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حتَّى إذَا كَانَتْ بيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلً»، في الأعم الأغلب أن الإنسان إذا لم يصلِّ الصلاة مع الجماعة فإنه يفوته فيها من السُّكون والخشوع وتمام العبادة ما لا يخفى، ومن جرَّب ذلك علم، فصلوات الجماعة إنما محلها المساجد، هذا هو الأصل فيها، وإنما يصاحب الإنسان بالتَّوفيق فيها إذا صلَّاها في المساجد، فإن صلَّاها في بيته حصلَ له من فوات الأجور الشيء العظيم، ليس فقط ما بين الأجر والسبعة وعشرين، كما سيذكره المصنف إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- عند صلاة الجماعة؛ لا، إنما أجور كثيرة فوق ذلك، فيحرم الإنسان بهذا العمل بركة الخشوع في الصلاة، وبركة كثرة الذِّكر فيها، وبركة إطالتها شيئًا ما، وربما حُرم بركة الصَّلاة قبلها، وحُرم بركة الصلاة بعدها، وحُرم بركة الذِّكر بعد الصَّلاة، تجد إذا صلَّى في بيته صلى صلاة خفيفة ففاته بذلك شيء عظيم، فهذا قول النبي ﷺ: «يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حتَّى إذَا كَانَتْ بيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلً».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «أَعْتَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعِشَاءِ. فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ عَلَى النَّاسِ - لَأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ»)}.
هذا هو حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أشرنا إليه لَمَّا تكلمنا عن هدي النبي ﷺ في صلاة العشاء، وقد ذكرنا أنَّ هدي النبي ﷺ بوجه عام في صلاة العشاء أنَّه كان يحب أن يُؤخرها، لكن لم تكن هي عادته؛ لأنها لو كانت هي عادته لَمَّا شقَّ ذلك على الصحابة، ولَمَّا قالوا: "يا رسول الله نام النساء صبيان"، ولَمَّا قرعوا بابه ﷺ؛ لأنها إذا كانت هي العادة فما الذي يدعوهم إلى أن يصنعوا ذلك؟! لكن كان النبي ﷺ يصنعها أحيانًا ليبيِّن لهم أن هذه هي السنة، ولكنه إنما يتركه ﷺ مراعاة لهم، وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يترك بعض الاختيار حتى لا تنفر نفوس الناس عنه، قد بوب الإمام البخاري: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقع في أشد منه"، ومن أشد ما يقع فيه الإنسان: أن يصلي في بيته، يقول: ما دام الإمام يؤخر الصلاة إلى الساعة العاشرة أنا ما أستطيع أصبر، فسأصلي في بيتي! فراعاه النبي ﷺ بأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ولو كانت الصلاة في البيوت جائزة لما شقَّ ذلك على الصحابة ولما راعاهم النبي، ولقال: من أراد يصلي في بيته ينام!
فدل ذلك على تقرير صلاة الجماعة، وعلى تقرير مشروعية تأخير صلاة العشاء، وعلى أنه ليس هو الأصل وإنما الأصل بوجه عام في فعل النبي ﷺ أنه كان ﷺ يراعي أصحابه -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ- عليهم.
يقول: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ»، فدلَّ ذلك على أنَّ فيه مشقة على الناس.
قوله: «لَأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ»، وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري -رضي اله عنه- أن النبي ﷺ لما صلى بهم قال: «أبْشِرُوا، إنَّ مِن نِعْمَةِ اللَّهِ علَيْكُم، أنَّه ليسَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هذِه السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ»[7]، يقصد: من الأمم والملل كلهم، فإنه من المعلوم أن بني إسرائيل قد كان عندهم ثلاث صلوات، ولما فُرضت على محمد ﷺ خمس صلوات قال له موسى: "ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فإني قد عالجت بني إسرائيل على أقل من ذلك"، فكانت صلاتهم: صلاة عند طلوع الشمس، وصلاة عند غروبها، وصلاة عند زوالها.
أمَّا الصلاة في غسق الليل وفي ظلمة الليل فلم يكن أحد يصليها، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يحب من عبده أن يرفع إليه العبادة وقت غفلة الناس، وهذا أصل مقرر، ولهذا جاء عن النبي ﷺ أنه لما سُئل أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرِ فَصَلِّ ما شِئْتَ»[8]؛ لأنه وقت هجعة الناس، حتى أصحاب السهر تجد أنه في وقت الليل الآخر نائم، فالناس في غفلة نائمون، وهذا واقف بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ-يتضرع لله -عَزَّ وَجَلَّ- ويصلي لله-عَزَّ وَجَلَّ-، فهو محبوب إلى الله-عَزَّ وَجَلَّ-، وكان من أحب الصلوات التي يُتقرب بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقد سماها النبي ﷺ بصلاة الأوابين هي صلاة الضحى، لأنها في غمرة أعمال الناس، الناس ذاهبون آيبون في أعمالهم، ولهذا تجد أن بعض الناس من أهل الصلاح ربما يغفل عنها في عمله بسبب انشغاله، فلما يكون الإنسان في خضمِّ عمله ثم يقتطع شيئًا من وقته لهذه الصلاة دلَّ على تعلُّق قلبه بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
وكان من أعظم ما يسبح به لله -عَزَّ وَجَلَّ- التسبيح وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لأنه وقت غفلة، وقت طلوع الشمس الناس إما نائمون أو ينطلقون في أعمالهم، ووقت غروبها الناس قد عادوا من أعمالهم، فهم أما يتغدون أو يتعشون، أو يرتاح، فهي وقت غفلة أيضًا، فكانت من الأوقات الفاضلة.
فإذًا النبي ﷺ حينما أشار بالصلاة في هذا الوقت كان فيه دلالة على أنها من الصلوات الفاضلة من حيث أنه وقت غفلة من الناس، وكلما تأخر الليل كل ما كان أكثر غفلة إلى نصف الليل.
هذا هو الغاية في تأخير صلاة العشاء، وأمَّا بعد ذلك فإنه لا ينبغي تأخيرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَحَضَرَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ». وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»)}.
لَمَّا ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ما يدل على مشروعية الصلاة في وقتها بوجه عام، ومن الصلاة في وقتها ملازمة الجماعات؛ أشار المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الحديث وهو حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وما جرى مجراه من حديث ابن عمر ومن حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أيضًا ومن حديث غير ما واحد من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كأنس؛ كلها فيها أنَّ النبي ﷺ رخَّص في ترك الصلاة أو تأخيرها شيئًا يسيرًا الطعام، فقال ﷺ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَحَضَرَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» فأمر النبي ﷺ بالبداءة بالعشاء، وفي حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ولا تعجلوا عن عشائكم»، وكان ابن عمر يوضع له العشاء فيصلي فيأكل والناس يصلون، فدلَّ ذلك على أنَّه ينبغي للإنسان ألا يقوم إلى الصلاة إلا وهو خال البال، وهذا مما يدل على آكدية الخشوع في الصلاة، فإذا تقرر هذا الأصل وهو أنَّ المراعى في الصلاة بوجه عام هو الخشوع فحيثما خشع قلبك فهو أفضل، انحل بذلك إشكالات كثيرة فيما يتعلق بالأفضلية.
من الأفضلية التي يسألها الناس: أصلي في المسجد الذي عن يميني، أو الذي عن يساري؟ أصلي في المسجد القريب أو المسجد الذي أبعد منه؟
يُقال: حيثما يخشع قلبك.
يقول: أصلي في مكة أو في المدينة؟
نقول: الصلاة في مكة أفضل، لكن إذا رأيت أن خشوع قلبك يكون في المدينة هو أفضل، لأن المعنى الأول في الصلاة هو الخشوع، وهذه المسألة ينحل بها من المسائل التي تطرح مما لا مانع لهم، فيُقال في ذلك: كله مرجعيته إلى الخشوع.
لو أنَّ إنسان قال: عندما أصلي أغمض عيني أو نقول إن غمض العين لا ينبغي؟
نقول: لو أنَّ في المسجد بعض الأمور التي تشوش عليك كان إغماض العين أحسن.
المرأة تسأل فتقول: الصلاة في البيت لي أفضل، لكن صلاة التراويح إن صليت في البيت اشغلني أطفالي فما أستطيع أخشع ولا أستطيع أصلي وربما يفوتني وقت صلاة التراويح ويخرج علي؛ وإذا صليت في المسجد خشع قلبي؟
نقول: صلي في المسجد، حيثما كان الخشوع فهو المطلب؛ لأنَّ هذا هو لب الصلاة، ومن أجله فإن النبي ﷺ قد رخَّص في تأخير الصلاة، حتى يفرغ من طعامه، وقال ﷺ: «ولا تعجلوا عن عشائكم»، سواء كان هذا العشاء عشاء يسيرًا أو كثيرًا، لأن بعض السلف قال: لما كان ابن الزبير -رَحِمَهُ اللهُ- يضع العشاء، قال بعض الناس: أخروا الصلاة. فقال بعض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: إنما كان عشاء رسول الله ﷺ التمرة والتمرتان ولم يكن كعشائكم!
فيقال: لا، الأصل في ذلك أنه حتى لو كان عشاء قد يطول بالإنسان، وهذا الأمر ليس مخصوصًا بالعشاء بل حتى يشمل الغداء ويشمل حتى الإفطار، فلو أن الإنسان ما يفطر إلا قبل صلاة الظهر ووضع له فطوره وقد أذَّن الظهر، نقول: الأمر كذلك.
قال العلماء -رحمهم الله: إن هذه هي القاعدة في كل ما يشغل الإنسان عن صلاته، ولهذا قاله النبي ﷺ في مدافعة الأخبثين، قال: «وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»، اللذان هما البول والغائط، لأنها تشوِّش الذِّهن، فلا يأتي الإنسان إلى الصلاة وهو حقن، ولهذا قد جاء في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن الأرقم أنَّ النبي ﷺ قال: «ولا يُصَلِّي وهو حَقِنٌ»[9]، الحقن: هو الذي يدافع البول والغائط، لأنه مظنة التشويش، فكل ما كان مظنة تشويش شُرع له تخفيف الصلاة.
من ذلك الخباز الذي يضع الخبز، أو المرأة تضع الكيك أو الطعام أو نحو ذلك في الفرن وتخشى أن يحترق، وتصلي وقلبها منشغل، نقول: لا، افرغي من ذلك، فإذا فرغتِ صلي ما لم يخرج عن الوقت، هذا الأمر مقيد عند العلماء -رحمهم الله- بأن لا يخرجه عن وقته، تفوت صلاة الجماعة؛ نقول: لا بأس ما لم تكن عادة، إذا كانت عادة فنقول: لا، ما ينبغي للإنسان أن يتخذ ذلك عادة. هذا هو معنى هذا الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ -وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي: عُمَرُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ»
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قال: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ». وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن عفراء، وكعب بن مرة، وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عبسة السلمي، وعائشة -رضوان الله عليهم- والصنابحي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولم يسمع من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
ذكر مصنفها هنا حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في النَّهي عن الصلاة أو في ذكر أوقات النَّهي بوجه عام، ثم عقب ذلك بذكر (وفي الباب عن علي...)، ولم تجرِ عادته بذلك، قال: (وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود...)، وذكر جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وإنما مراده بذلك: أن يقرر أن النهي عن الصلاة في مثل هذه الأوقات كالمتواتر عن رسول الله ﷺ، والنهي ها هنا إنما هو واقع على ما سوى المكتوبات، فأما المكتوبة فإنها لا تجري في هذا النهي عند جماهير أهل العلم -رحمهم الله- بل إنه حُكي إجماعًا، بمعنى أن الإنسان إذا فاتته صلاة الظهر مثلًا فلم يذكرها إلا بعد أن صلَّى العصر، فإنه يجب عليه مِن فوره أن يؤديها، وهذا الحديث وهو قوله ﷺ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ»، فيه دلالة على أن أوقات النهي بوجه عام وقتان:
الوقت الأول: من صلاة العصر والفراغ منها إلى غروب الشمس.
والوقت الآخر: من الفراغ من صلاة الفجر حتى طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح.
هذا هو الوارد في هذين الحديثين، وقد جاء في حديث عمرو بن عبسة وفي حديث أبي أمامة الباهلي، وفي غير ما حديث عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أخرجه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر وقت ثالث، وهو: من مقاربة الشمس للزوال حتى تزول، وهذا الوقت وقت يسير جدًّا، ولهذا ما جاء ذكره في أغلب الأحاديث، لأن الوقت هذا عند جماعة من العلماء لا يكاد يجاوز العشر دقائق، قبل أذان الظهر بعشر يقع هذا الوقت، بل إن بعض العلماء قال: الصحيح أنه إنما يكون قريب من خمس دقائق، فهو وقتٌ يسيرٌ، ولهذا أغلب الأحاديث ما ذكرته، ليس لأجل أنه ليس بوقت نهي، لا، لكن لأجل أنه ليس من الأوقات التي تُقصد للصلاة، بخلاف وقتي النهي العظيمين المشهورين، وهما ما بين صلاة العصر أو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وما بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح.
لم يأت في حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذكر الارتفاع وإنما فيه «تَطْلُعَ الشَّمْسُ»، لكن في حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- زيادة، وهو قوله ﷺ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ»، جعلها هنا قيدان:
القيد الأول: طلوعها.
والقيد الثاني: ارتفاعها.
ما هو القدر في الارتفاع؟
نقول: القدر في الارتفاع قد جاء بيانه في غير ما حديث عن النبي ﷺ منها حديث عمرو بن عبسة وغيره، أن الارتفاع هنا إنما هو قيد رمح، وقيد رمح تقريبا قريب من مترين، يعني بنظر العين، ينظر الإنسان إلى الشمس فينظر أنها ما بينها وبين الأرض قرابة المترين سيكون بهذا انقضاء وقت النهي، وهو تقريبًا بالتوقيف الحالي عشر دقائق، إلا أن بعض الناس يمده إلى خمسة عشر دقيقة احتياطًا، وإلا لو أنَّ الإنسان صلَّى بعد عشر دقائق لقيل إن الشمس قد ارتفعت قيد رمح.
وهذان الوقتان هما من أوقات النهي، نهى النبي ﷺ عن إيقاع الصلاة فيهما، وقد ذكرنا أن إيقاع الصلاة هنا لا يتناول المكتوبة، وإنما يتناول عند العلماء -رحمهم الله- الصَّلوات المطلقة -أي: النوافل المطلقة- فالنوافل المطلقة عند جماهير لا يصح ولا يجوز إيقاعها في هذين الوقتين.
ثم اختلفوا في النوافل المقيدة، ومراد النوافل المقيدة هي ما يسمى عندهم بذوات الأسباب، على سبيل المثال: ركعتي الطواف، فلو أن إنسانًا طافَ بعد صلاة العصر ففرغ من طوافه، فهل يصلي أو يؤخر ذلك إلى غروب الشمس؟ أو طافَ بعد صلاة الفجر، هل يؤخر ركعتي الطواف أو يصليها؟
قد جاء عن النبي ﷺ في حديث جبير بن مطعم، أنه ﷺ قال: «يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، لا تَمْنَعُوا أحدًا طَافَ بهِذا البيتِ وصلَّى أَيَّةَ ساعَةٍ شاءَ من لَيْلٍ أوْ نَهارٍ»[10]، قالوا: نص عام، لكن قال بعضهم: إن هذا الحديث رواه عبد الله بن بابيه عن جبير بن مطعم لا يقاوم الأحاديث الواردة في النهي، وقد جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه طافَ بعد صلاة الفجر ثم أخَّرها حتى صلَّى خارج الحرم، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- راعى هذا المعنى، وهو معنى النهي.
وهذه المسألة من المسائل مشكلة، حتى قال الشوكاني -رَحِمَهُ اللهُ: إنها من أعظم المسائل، هل يقال يمنع الإنسان؟ هل يقال ما هناك ذوات أسباب؟ الصلاة التي نستثنيها هي أن تقضي فريضة، أو تحضر إلى مسجد جماعة، صليت الفجر ثم دخلت مسجد آخر فوجدتهم يصلون فتصلي، لأن النبي ﷺ قد قالها في حديث يزيد بن الأسود وفي حديث بشر بن محجن أو بُسر بن محجن، والمشهور أنه بشر بالشام، فيها أنَّ النبي ﷺ أمرهما بالصلاة، فهنا أمر واضح من النبي ﷺ أن يصلي صلاة الفجر ويعدانها نافلة، وأما ما سوى ذلك كتحية المسجد، دخل الإنسان إلى المسجد بعد صلاة العصر أو دخل إلى المسجد بعد صلاة الفجر هل يصلي أو لا؟
والله أعلم أنَّ الراجح في مثل هذه المسألة، وهذا مما لا يجزم به ولكن يستعمل فيه نصوص بوجه عام ويقوله الإنسان وهو على وجلٍ أن يقال -والله أعلم: بجواز إيقاع ذوات الأسباب في هذه الأوقات إلا في الأوقات الضَّيقة منها، والأوقات الضيقة منها ثلاث، هي التي قال فيها الصحابي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- زيد بن أرقم: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حتَّى تَغْرُبَ»[11]، هذه ثلاثة أوقات مضيقة جدًّا.
وأوقات النهي خمسة بالتفصيل وبالإجمال ثلاثة، بالتفصيل:
- من بعد أداء صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، هذا وقت موسَّع تُوقع فيه ذوات الأسباب.
- ومن طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وقت مضيق ما توقع فيه شيء، إلا أداء المكتوبة؛ لأنَّ ذوات الأسباب نستطيع أن تؤخِّرها عشر دقائق ما يضرك، حتى لو أتيت للمسجد امكث انتظر عشر دقائق، خمس دقائق ما يضر.
- ومن قيام قائم الظهيرة حتى تزول خمس دقائق أو سبع دقائق. هذا هو الوقت الثالث.
- ومن صلاة العصر إلى أن تتضيَّف الشمس للغروب، يعني: تقارب الغروب وهي ما بين العشر دقائق والقريب منها، هذا وقت موسَّع يجوز توقِع فيه ذوات الأسباب وهو الوقت الرابع.
- ومن تضيُّفها حتى تغرب هذا هو الوقت المضيق.
فإن قال قائل: من أين؟
قلنا: مما جاء عن النبي ﷺ أنه شدَّد في هذه الأوقات تشديدًا عظيمًا وذكر أنَّ الشمس تغرب فيها بين قرني شيطان وتطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، فإذًا الأمر في هذه الأوقات أعظم من الأمر في الوقتين الموسَّعين، فهذا مما ينبغي أن ينظر في مثل هذه المسألة.
ويقال: إنَّ هذا إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعله هو القول الذي تجتمع معه الأدلة عن رسول الله ﷺ مع أن الجزم في هذه المسألة يبقى أمرًا صعبًا، لكن هذا هو مذهب الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- أعني جواز الصلوات ذوات الأسباب بوجه عام.
وقد جاء عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "ألا أنهاكم أن تصلوا بعد طلوع الشمس ولا بعد غروبها غير ألا تتحيَّنوا الطلوع ولا الغروب"، يعني: لا تتحروه، فهذا من ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد يدل على ما قررناه وذكرناه قبل قليل.
قوله هنا: «شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي: عُمَرُ»، مما يقرر أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يأخذ العلم عن جماعة من الصحابة منهم علي ومنهم عمر، فيُقدم عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عليهم كلهم، هذا بخلاف من يقول إن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يرجِّح قول علي على قول عمر! نقول: لا، كلا قول هذين الصحابيين محفوظ وجليل، لكن ابن عباس كان أتبع لقول عمر ومقدم لقول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على قول غيره من الصحابة -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَ». قَالَ: فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ. ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ»)}.
هذا حديث جابر رضي حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصة فوات صلاة العصر مع النبي ﷺ، وهي التي ذكرها علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حينما دعا عليهم النبي ﷺ، ففيه أن النبي ﷺ قد شاغله المشركون عن صلاة العصر فقال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ)، دلَّ على أنَّ عمر قد تقرَّر عنده أهمية الصلاة في وقتها، وهو في جهاده للكفار ومراغمته لهم ومحاربته لهم قد صلَّاها، والظاهر -والله أعلم- أنه صلاها؛ لأنَّ النبي ﷺ قد كان وزَّعهم وجزَّأهم، فكان لو الرجل منهم بعيد فخشوا أن لا يصلوا مع النبي ﷺ أو لا يدركوا النبي ﷺ إلا وقد خرج الوقت، وفي هذا ما يقرر أن الصلاة في الوقت أفضل من الصلاة مع رسول الله ﷺ خارج الوقت، ولهذا ما أنكرَ عليه النبي ﷺ، بل كأن النبي ﷺ غبطه، فقال: «وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَ»، وهذا بعد غروب الشمس.
قال: «فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ. ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ»، هذا مما يقرِّر معنًى جليلًا، وهو أن الأصل في الفوائت أن ترتَّب أو يراعى فيها الترتيب، يعني إذا فاتتك صلوات فالأصل في قضائها أن تُقضى مرتَّبة كما وجبت عليك، فاتك الظهر والعصر أو نمت صلاة الظهر والعصر والمغرب، فنقول: الأصل في ذلك ما دام أنه لا يفوتك وقت صلاة المغرب ولا يخرج أن تبدأ وتصلي الظهر ثم تثني بالعصر ثم المغرب، فإن خشيت أن تفوتك صلاة المغرب أو يخرج وقتها تقدِّمها.
فلو قال إنسان: أنا ما عاد بيني وبين خروج وقت المغرب إلا عشر دقائق، فإن صليت الظهر والعصر فاتتني المغرب!
نقول: ابدأ بالمغرب، الترتيب ها هنا يسقط عند جماهير العلماء، بل أنه قد حكي إجماعًا، هذا أمر.
يبقى السؤال وهو سؤال يقع كثيرًا: هل هذا الترتيب على الوجوب أو على السنية؟
أصح الأقوال في ذلك -والله أعلم- أنه على السنية، أنه مسنون؛ لأنه لم يرد أنَّ النبي ﷺ قد فعله وجوبًا، وحديث أبي جمعة عند الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في إسناده نظر، وحتى إسناده صحيح فإنما يدل على أن النبي ﷺ قد رتَّبها بفعله لكن ما يدل على الوجوب.
فإذًا الأصل والسنة في ذلك: أن تصلى الصلوات مرتبة، يبدأ بالظهر ثم يصلي العصر ثم يصلي بعدها المغرب، فلو قدَّم بعضها على بعض لم يكن في ذلك حرج، ومثل هذا يقع كثيرًا للمسافر، فالمسافر يكون أحيانًا في طريق سفره ما صلى الظهر ثم يصل إلى المدينة وقد صلوا العصر فيكبر معهم ويدخل على أنها هي صلاة العصر وفي نيته أنها صلاة العصر، فإذا فرغ ذكر أنه لم يصلِّ الظهر، فنقول: صلِّ الظهر.
طيب هل تعيد العصر حتى تأتي بها مرتبة؟
نقول: أصح الأقوال في ذلك أنه ليس من شرط ذلك إعادة صلاة العصر؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أمر بالترتيب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَا.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»)}.
لَمَّا ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذه الجملة الطيبة من أحاديث النبي ﷺ في مواقيت الصلاة عقَّب ذلك بما يدلُّ على فضلِ الجماعة، فليس شيءٌ أعظم بعد المواقيت من الجماعات، والجماعة حيث ما ذكرت فإنما يراد بها الجماعة الأولى التي هي جماعة المساجد، هذا هو الأصح، وهو مقتضى فعل النبي ﷺ وفعل أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
ومما يدل عليه: أنَّ النبي ﷺ قال: «صَلَاةُ الرَّجُلِ في جَمَاعَةٍ تَزِيدُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ في سُوقِهِ»[12]، ما قال: "من صلاته في بيته وفي سوقه" وحده، وإنما قال: «في بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ في سُوقِهِ» مع أنه قد يصلي في بيته وفي سوقه جماعة، فما سماها جماعة! وإنما الجماعة ما كان في المساجد، هذا هو الأصل.
قال: (بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَ)، هذا هو مذهب الحنابلة -رحمهم الله- وهو المذهب الذي تدلُّ عليه سنة رسول الله ﷺ، أعني أنَّ سنة النبي ﷺ تدلُّ على أنَّ الجماعة واجبة.
ومِن أعظم ما يدلُّ على ذلك أنها مقرَّرة في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- بصلاة الخوف، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد فرضَ في صلاة الخوف صلاة الجماعة، ولو كان شيء تسقط فيه صلاة الجماعة لسقطت في صلاة الخوف.
ومما يقرره أن النبي ﷺ قال: «إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا، وَلقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي برِجَالٍ معهُمْ حُزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ بالنَّارِ»[13]، فدلَّ ذلك على آكديَّة صلاة الجماعة.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال لابن أم مكتوم وهو أعمى: «أتَسمعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟» قالَ: نعَم. قالَ: «فأجِبْ»[14]، وبعض الروايات قال: «لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً»[15]، وهذا من أوضح الأدلة وأقواها على وجوب صلاة الجماعة، وعلى تقررها وعلى قول ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"، هذا من المعاني التي ينبغي أن تُقرر.
ثم جاء حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في بيان فضلها، وأنها تفضُل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة، هذا يدلُّ على معنيين:
- يدل على فضل صلاة الجماعة بما ذكرناه، وأنها بمنزلة عظيمة، وأن صلاة واحدة في الجماعة أفضل من سبع وعشرين صلاة فيما سواه، ولهذا كان ابن عمر إذا فاتته الصلاة ربما صلاها سبعًا وعشرين مرة، وجاء ذلك عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لا يصليها على أنها هي الصلاة وإنما على أنها سنن، لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ فيما رواه ابن عمر أنه قال: «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ»[16].
- وعلى أن صلاة الفذ لوحده مقبولة، لكنه في ذلك آثم. نتوقف هنا إن شاء الله عز وجل.
{أحسن الله إليكم شكر الله لكم، والشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدون الكرام، نراكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------------
[1] صحيح مسلم (638).
[2] صحيح البخاري (116).
[3] أخرجه الترمذي (154)، والنسائي (548)، وأحمد (17318)، صححه الألباني.
[4] صحيح البخاري (552).
[5] صحيح البخاري (574).
[6] صحيح مسلم (622).
[7] صحيح البخاري (567).
[8] أخرجه الحاكم (584)، والبيهقي في ((السنن الصغرى)) (925).
[9] سنن أبي داود (90).
[10] صحيح الترمذي (868).
[11] صحيح مسلم (831).
[12] أخرجه البخاري (2119)، ومسلم (649).
[13] صحيح مسلم (651).
[14] أخرجه النسائي (850) واللفظ له، وإسحق بن راهويه في مسنده (313)، والبيهقي (5143)، صححه الألباني.
[15] سنن أبي داود (552) ابن ماجه (792) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[16] أخرجه أبو داود (579) ، وقال الألباني : حسن صحيح.