الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

64640 18
الدرس الثاني عشر

عمدة الأحكام 1

{الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله وسلم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم برنامج (جادَّة المتعلِّم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ. فحيَّاكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم.
كنا قد وقفنا في الحلقة عند حديث أبي جحيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في باب الأذان.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أُدْمٍ، قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوءٍ، فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فحديث أبي جحيفة وهب عبد الله السُّوائي وكان يقال له: "وهب الخير" -رضي الله عنه وأرضاه- سبق أن تكلَّمنا على بعض معانيه، ومن معانيه المتبقية التي سنتكلم عنها إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه المسألة:
قول أبي جحيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (تَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ)، فيه مشروعيَّة الالتفات في الحيعلتين، أي: عند قول: "حي على الصَّلاة حي على الفلاح"، فيلتفت في (حي على الصَّلاة) يمينًا ويلتفت في (حي على الفلاح) شمالًا، ولو أنه فرَّقها فالتفتَ يمينًا وشمالًا في الحيعلة الأولى، يعني في قوله: (حي على الصَّلاة) ثم يمينًا وشمالًا في (حي على الفلاح)، لَمَا كان عليه في ذلك بأس، لكن الأصح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله- ما قدَّمناه من الصورة الأولى.
وفيه أنَّ بلالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يستدِرْ، بمعنى أنه لم يحرِّك قدميه، وهذا هو السنة فيه، فالسنة في الأذان بوجه عام ألا يستدير المؤذن، بل يؤذِّن تجاه القبلة؛ لأنه متى ما استدارَ انحرفَ عن القبلة، نعم قد جاء هذا الحرف «ولم يستدر» في حديث رواه أصحاب السنن، لكن هذا الحرف لا يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ ولا عن بلالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقد جاء فيما رواه عبد الرزاق -رَحِمَهُ اللهُ- عن الثوري عن الحكم عن عون بن أبي جحيفة عن أبي جحيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- «وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ»[1]، لكن هذه الزيادة أيضًا لم تثبت ولم تصح، ولكنها قد جاءت عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وقد جاءت أيضًا موقوفة على بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فجعل الإصبع في الأذنين نقول إنه من السنن المروية عن الصحابة -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم- وليس من لوازم الأذان، بل كيفما أذن أجزاء.
قالوا: وإنما يُسَنُّ له أن يجعل أصبعيه في أذنيه ليكون أندى لصوته، ولهذا نجد نرى بعض القراء إذا أراد أن يقرأ وضع أصبعيه في أذنيه أو سدَّها حتى يحجب عنه السَّمع الذي قد يشوِّش نطقه أو على صوته، فبوجهٍ عام وضع الأصبعين في الأذنين من السنن التي قد جاءت عن الصحابة -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم- والأظهر -والله أعلم- أنهم إنما أخذوها عن النبي ﷺ.
قال: «ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ»، العنزة هي العصا الصغيرة التي عليها زُجٌّ قد كانت تُصحب النبي ﷺ حتى يصلي إليها، يعني يغرسها ﷺ ثم يجعلها سترة له، وفي هذا دلالة على آكدية السُّترة، فإنَّ من آكد سنن الصَّلاة السترة، بل إنَّ جماعة من العلماء -رحمهم الله- قد ذهبوا إلى وجوب السترة في الصَّلاة -أعني بوجوب الستر في الصَّلاة وضع السترة- وليس الاستتار، ووضع السترة في الصَّلاة على الصَّحيح من أقوال أهل العلم أنه واجب؛ لأنه قد جاء في نصوص كثيرة أنَّ النبي ﷺ أمر بها، وهذا الأمر من النبي ﷺ محمول على الوجوب، ومما يدل عليه أنه لم يذكر عن النبي ﷺ أنَّه صلَّى صلاة واحدة إلى غير سترة، وسيأتي الكلام عليه أن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما بعد.
قال: «فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ» إنما صلى ﷺ الظهر ركعتين والعصر ركعتين؛ لأنه كان مُسافرًا، وحقُّ المسافر قصرُ الصَّلاة، بل إنَّ جماعة من أهل العلم -كما سيأتي إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ في أبواب تقصير الصَّلاة- قالوا: إنَّ صلاة المسافر إنما هي: مثنى مثنى، يعني: الأصل في المسافر أنه يقصر الصَّلاة كما أنَّ الأصل في المقيم أنه يتم الصَّلاة، فإذًا هذه من السنن المتواترة عن رسول الله ﷺ.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»)}.
حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد جاء عن ابن عمر وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- بهذا المعنى أيضًا، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ».
في هذا الحديث عدة معان، منها: أنَّ هذا الحديث أصل في مشروعية الأذان الأوَّل لصلاة الفجر، والأصل بوجه عام أنَّ الأذان لا يصحُّ ولا ينعقدُ قبل وقت الصَّلاة، هذا إجماع من العلماء، فمَن أذَّن قبل وقت صلاة الظهر، يُقال: أذانك لم يقع في محله كصلاتك؛ لأنَّ الأذان إنما هو إعلام بدخول وقت الصَّلاة، فأنت أعلمتَ بدخول وقت الصَّلاة في غير وقتها، كما لو أنَّ الإنسان صلَّى وقدَّم صلاة الظهر قبل وقتها، فبالإجماع عند العلماء أنَّ هذه الصَّلاة صلاة غير مجزئة ولا يُعذر بها، ويقال له: أعدها، فكذلك أيضًا التأذين قبل الوقت، في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، هذه بالإجماع عند العلماء أنه لا يجوز الأذان فيها قبل وقتها.
أمَّا صلاة الفجر فإنها مُستثناة من ذلك، وقد جاءنا أنَّ الَّنبي ﷺ قد كان له مؤذِّنان، بلال وابن أم مكتوم، فأمَّا بلال فإنه كان يؤذِّن قبل الفجر، وأمَّا ابن أم مكتوم فإنه كان يؤذن إذا طلع الفجر، فدل ذلك على أنه يجوز في صلاة الفجر أن يؤذَّن لها أذانان: الأذان الأول والأذان الثاني.
هل يُكتفَى بالأذان الأول عن الأذان الثاني؟
الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه لا يكتفى به، وبناء عليه فإنَّ قول من قال من أهل العلم إنَّ صلاة الفجر يصح التأذين لها قبل وقتها قول غير مستقيم، نقول: يصح التأذين لها قبل وقتها إذا كان ثَم من يؤذن لها في وقتها، وليس مِن شرط التأذين في الوقت أن يكون هو نفس المؤذن، ولا أن يكون في نفس الجامع، فلو أنَّه الآن في المساجد التي في الحارة أو في الحي أذَّن مؤذِّن قبل صلاة الفجر كأذان أوَّل، ثم أذن مَن حواليه من المؤذنين لأذان الفجر في وقته وهو الأذان الثاني، قلنا: صلاة مَن صلى في المسجد الذي أُذِّن فيه الفجر مجزئة، وأذان هذا الرجل مجزئ؛ لأنَّ المسلمين يقوم بعضهم مقام بعض، ولهذا العلماء -رحمهم الله- قالوا في الإغارة وفي الغزو وما إلى ذلك: إن سمع أذانًا أمسك، ولو كان مؤذنًا واحدًا، مؤذن واحد تحصل به الكفاية.
فإذًا بوجه عام نقول: صلاة الفجر يجوز الأذان لها قبل وقتها ولكن متى؟
بعض العلماء -رحمهم الله- كالحنابلة وغيرهم قالوا: يجوز من بعد منتصف الليل، من حين ما ينتصف الليل يجوز أن يُؤذن للفجر.
ونقول: الظاهر أنَّ هذا لم يقع من النبي ﷺ بل الظَّاهر -والله أعلم- هو التسامح بشيء يسير بين الأذان والأذان الثاني، بحيث يكون الأذان الأول سابق للأذان الثاني بشيء يسير، كأن يكون في أوائل الثلث الأخير من الليل، وأمَّا قبل ذلك فإنه لم يعهد البتَّة عن أحد من أصحاب النبي ﷺ أنَّه أذَّن لصلاة الفجر بعد منتصف الليل، وقد بيَّن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- مقدار ما بين الأذانين كما في حديث ابن عمر: «ولَمْ يَكُنْ بيْنَهُما إلَّا أنْ يَنْزِلَ هذا ويَرْقَى هَذَ»[2]، فدل على أنَّ الفرق بينهما قليل.
ولأجل ذلك النبي ﷺ قال: «لَا يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ أذَانُ بلَالٍ مِن سَحُورِهِ، فإنَّه يُؤَذِّنُ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، ولِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ»[3].
قوله: «لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ» يعني: يستريح من كان يقوم الليل ويصلي.
وقوله: «ولِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ» فيقوم ويتسحَّر، فمن المعلوم أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد كانوا يوقعون السحور في آخر جزء من الليل قبل طلوع الفجر، فدلَّ على أنَّ ما بين الأذانين يسير.
ولهذا يقال: مَن أراد أن يُطبِّق هذه السنة فليطبقها كما رُويت عن النبي ﷺ، وتطبيقها كما روي عن النبي ﷺ ألَّا يكون بين الأذانين إلا شيء يسير.
أيضًا من المعاني التي ينبغي أن تقرر في هذا الحديث، أن يقال: إنَّ هذا الحديث -والله أعلم- محمول على أنه كان من النبي ﷺ في وقت رمضان، فإنه قال: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»، علقه النبي ﷺ بالأكل والشرب، فدلَّ ذلك على أنه لم يكن من هدي ﷺ المطَّرد الأذان الأوَّل والأذان الآخر، وإنما كانت في رمضان حتى يوقِظ النائم وحتى يرجع القائم، يعني: ينتبه إلى شأنه من السحور ونحو ذلك.
قوله: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» فيه دلالة أيضًا على أنه يجوز اتخاذ أكثر من مؤذن في المسجد الواحد، لأن الأذان ليس كشأنِ الصَّلاة، فالصَّلاة الأصل فيها أن يكون إمامًا راتبًا واحدًا، مع أنه لو نُوِّع بينهم ما كان في ذلك بأس، لكن الأذان أمره أوسع من ذلك.
ويقال في ذلك أيضًا: إنه يدل -والله أعلم- على أنه يجوز أن يكون من يؤذن واحد ومن يقوم ومن يقيم الصَّلاة واحد، لأن بلالا كان يؤذن أولًا ثم يؤذن ابن مكتوم ثانيًا، ثم إن الذي يقيم غالبًا هو بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولهذا جاء عنه أنه كان يقول للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَسْبِقْنِي ‏"‏بِآمِينَ"»[4]، كيف لا تسبقني بآمين؟ قالوا: لأنه كان إذا كان وقت الإقامة فإنما كان يقيم عند باب المسجد حتى يسمعه الناس، ولهذا قال ابن عمر -رضي الله عنه: "فإذا أقيمت الصَّلاة خرجنا إلى المسجد"؛ لأنهم كانوا قريبي البيوت إلى مسجد رسول الله ﷺ.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ»)}.
هذا الحديث وهو حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو أصح وأعلى ما ثبت عن النبي ﷺ في فضيلة أو في الأمر بأن يقول كما قال المؤذن، وقد قال فيه النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ»؛ فدلَّ ذلك على أنه يتابَع المؤذن في كل ما يقول من غير تقييد، وهذا الحديث حديث في الصحيحين، وذكرنا أنه هو أصح ما جاء عن النبي ﷺ، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» وما قيده بشيء، وهذا أحد صيغ متابعة المؤذن على الصَّحيح من أقوال أهل العلم، أن يُتابع المؤذن في كل شيء حتى في "حي على الصَّلاة" يقول: "حي على الصَّلاة"، وحتى في "حي على الفلاح" يقول: "حي على الفلاح"، هذه صيغة.
الصيغة الثانية: ما رواه أيضًا الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- من حديث معاوية وما رواه مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- من حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: «إذا قالَ المُؤَذِّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ... ثُمَّ قالَ: حَيَّ علَى الصَّلاةِ، قالَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، ثُمَّ قالَ: حَيَّ علَى الفَلاحِ، قالَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ»[5].
هل يقال بتقييد المطلق وتخصيص العام؟
نقول: لا، الأصح -والله أعلم- أنهما طريقتان لمتابعة المؤذن، تتابعه فإن قال: (حي على الصَّلاة) قلت: (حي على الصَّلاة)، وتتابعه مرة فإن قال فيها: (حي على الصلاة وحي على الفلاح) قلت: (لا حول ولا قوة إلا بالله).
وبه يعلم من باب الآكدية: أنَّ ما لم يرد فيه تغييرٌ في النَّص عن رسول الله ﷺ فإنه يجب أن يكون كما قال المؤذن، مثل التثويب الذي هو (الصَّلاة خير من النوم)، ما الذي يقول فيه؟
بعض العلماء قال: يقول فيه: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ لأنه نزَّله منزلة الحيعلتين.
نقول: لا، إنما قلنا: الحيعلتين؛ لأنه قد جاء فيهما نصٌّ عن رسول الله ﷺ، ولو لم يرد لقلنا: إنه لا يقال فيهما الحوقلة البتَّة.
وبناء عليه؛ فلمَّا لم ترد في (الصَّلاة خير من النوم) شيء؛ فإنَّ المتابع يقول كما يقول المؤذن: (الصَّلاة خير من النوم)، هذا كما ذكرتُ هو أصح ما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقد جاء في فضل متابعة المؤذن أحاديث كثيرة، من أشهرها حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه أصحاب السنن: «إنَّ المؤَذِّنينَ يَفضُلونَنا بأذانِهم، فقال رَسولُ اللهِ: قُلْ كمَا يَقُولُونَ، فإذا انتهَيتَ فسَلْ تُعْطَه»[6]، وفيه حديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا الذي أخرجه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ: «إذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولوا مِثْلَ ما يقولُ» ما استثنى شيء، قال: «ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّه مَن صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عليه بها عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ، لا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِن عِبادِ اللهِ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فمَن سَأَلَ لي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفاعَةُ»[7]، فإذًا هذه كلها من فضائل أن يقول الإنسان كما يقول المؤذن، وهذا عام في كل الأحوال، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: "إن هذا الموضع من الأذكار المستثناة حتى في الخلاء"؛ لأن الإنسان في الخلاء من المعلوم أنه يتنزه أن يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن قالوا: ما يفوت وقته يُشرع له أن يقوله، مثل متابعة المؤذن.
فإن قال قائل: المتابعة لا تفوته.
قلنا: لا، المتابعة تفوت، فإنَّ قوله: «فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ»، يعني عندما يقول ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الآخر وهو حديث معاوية وحديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: «إذَا قَالَ المُؤَذِّنُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، فقالَ أحَدُكُمْ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ»، فدلَّ على أنَّ هذا هو معنى المتابعة.
وبناء عليه: فإذا فرغ المؤذن من أذانه وانقطع لم تكن متابعته شيئًا، ما يصح أن يُقال إن هذه متابعة، وإنما يقال إن هذا استدراك، والاستدراكُ لا يكون متابعةً، ولا تكون قد قلتَ مثل ما قال المؤذن، يعني الأصل أن تقول عندما يقول.
بناء عليه: فقول النبي ﷺ: «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ هذا الموضع من المواضع التي تفوت فيها المتابعة"، فإذا كان الإنسان في خلائه فأذن المؤذن شرع له أن يقوله بينه وبين نفسه، بحيث يسمع نفسه ولا يجهر بها، وهذا المعنى معنى صحيح، وهو يؤكد أنَّ مُتابعة المؤذن من أولى ما ينبغي للإنسان، ومن أعظم ما يكون من تأديب الإنسان نفسه وتعظيم حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأفضل ما يُؤدب به الإنسان نفسه ويُؤدب به أولاده ومن حوله هو تعظيم ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتعظيم النِّداء الصَّلاة، وتعظيم مقام -عَزَّ وَجَلَّ- وتعظيم حرمات الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذه كلها معانٍ جليلة، فإذا صدع المؤذن أخذ يردد.
هل يجب السكوت؟
نقول: لا، ما ورد عن النبي ﷺ أنه قال: "فاصمتوا"، أو "فاسكتوا"، أو "فليقطع أحدكم حديثه"، إنما أمر بالمتابعة، فإذا كانت المتابعة تتأتى مع كون الإنسان يتكلَّم ويخوض في حديثه فنقول: لا بأس بذلك.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ» وَلِمُسْلِمٍ: «غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» وَلِلْبُخَارِيِّ «إلَّا الْفَرَائِضَ»)
}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ).
استقبال القبلة أصلٌ قرآني، قد جاء به القرآن في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]، فهو أصل قرآني قد جاء به كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وإذا كان كذلك؛ فالمعنى أن استقبال القبلة من أقوى شروط الصلاة، لأنه قد جاء في كتاب الله -عز وجل.
وقد جاءت به سنة النبي ﷺ، وأعلى ما في الباب في هذه المسألة هو حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر الذي رواه المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بعدَ هذا الحديث، وقد كان من الأولى بالمصنف في الترتيب أن يُقدِّم حديث عبد الله بن عمر الذي سيأتي بعد قليل، لكن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- قدَّم حديث ابن عمر وهو «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ»، فقوله: «يُسَبِّحُ» يعني يصلي نافلة، فالتسبيح عندهم في الأعم الأغلب يُطلق على الصلاة إذا كانت نافلة، ما يُقال: "سبَّحتُ" لصلاة الفريضة، وإنما يُقال "سبَّحتُ" لصلاة النافلة.
وحينما يُطلَق على صلاة الفريضة "التسبيح" دل ذلك على أن التسبيح أصل ركين في الصَّلاة، لأنه حينما تسمى الصَّلاة بجزئها أو حينما يسمى الشيء بجزئه يدل على أنه أصل فيه، ولهذا فإن النبي ﷺ قال في الفاتحة: «قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»[8]، فدلَّ ذلك على آكدية قراءة الفاتحة، وعلى أنها قد سميت صلاةً، فكذلك هنا في قوله: «كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ» بمعنى أنه يُصلي النافلة.
قال: «حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ» يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله، ودلَّ ذلك على أنَّ استقبال القبلة في النافلة ليس بواجب.
وهل هذا في السفر والحضر أم أنه مُقيد بحال السفر؟
الظاهر -والله أعلم- أنه مُطلق؛ لأنه لو كان مُقيَّدًا بحال السفر لقيَّده النبي ﷺ.
فإن قال قائل: لِمَ لمْ يفعله النبي ﷺ في الحضر؟
قلنا: الظاهر -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ كان قليلًا ما يركب أصلًا في الحضر، ما كان يركب الدواب ﷺ في الحضر إلا يسيرًا، كان أغلب تنقُّلاته ﷺ كما هو معلوم أنه كان يتنقل ماشيًا، فهذا المعنى ينبغي أن يقرَّب، ثم إنَّ النبي ﷺ كان في الحضر إذا كان على دابَّة ونحوها ربما وقفَ في مسجد فصلَّى فيه كما كان يصلي في مسجد بني عمرو بن عوف وغيره، وربما صلى في بيته ﷺ، فلم يكن في ذلك دلالة على المنع الصَّلاة على الدابة في الحضر.
ومَن منع من ذلك قيل له: نطالبك بالدليل الذي يُفرق بين حالة السفر وحالة الحضر في خصوص هذه المسألة، ولن يجد!
فإذًا هذه المسألة من المسائل التي يوسَّع فيها، ويُقال: إن الأصل في هذه العبادة أنه يجوز فيها القياس، فكما جازت في السفر فإنها أيضًا تجوز في الحضر، والآن الناس بحاجة إلى التَّسبيح في الحضر ربما حاجة توازي حاجتهم إلى التَّسبيح في السَّفر، لبُعد المسافات الآن في الحضر وكثرة الزحام، وربما فاتَ على الإنسان كثير من النوافل بسببِ هذا الأمر، فتجد أنَّه ربما صلَّى مساجد الطرق الصلوات المكتوبات ثم داهمه الوقت، فإذا منع وقيل له: لا تصلي على الراحلة وفي السيارة ونحو ذلك، ولأن الصلاة على الراحلة ما تكون إلا في السفر؛ فات بذلك خير عظيم، ولم يكن هذا التقييد يستند إلى دليل صحيح عن النبي ﷺ، بل الأصل في ذلك هو التوسيع.
قال: «يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ» أمَّا الإيماء برأسه فقد جاء في حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- «فجئتُ وَهوَ يصلِّي على راحلتِهِ نحوَ المشرقِ والسُّجودُ أخفضُ منَ الرُّكوعِ»[9]، هذا هو معنى الإيماء، ولو أنه جعل السجود كالركوع لم يكن في ذلك بأس، لكن الأولى في ذلك أن يقال: يومئ برأسه فيخفضه للركوع ويخفضه أشد من ذلك شيئًا يسيرًا للسجود حتى يُمايز بينهما.
قال: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ»، من المعلوم أن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يفعله حتى في الوتر كما في حديث سعيد بن يسار، فإن سعيد بن يسار كان قد صحب ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: «كُنْتُ أسِيرُ مع عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ، فأوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: أيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ، فَنَزَلْتُ، فأوْتَرْتُ، فَقالَ عبدُ اللَّهِ: أليسَ لكَ في رَسولِ اللَّهِ ﷺ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلتُ: بَلَى واللَّهِ، قالَ: فإنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُوتِرُ علَى البَعِيرِ»[10]، وفي بعض الروايات: «كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ».
قد يقول قائل: ما الحاجة إلى أن يذكر الوتر على البعير مع أنه ذكر التسبيح؟ والتسبيح ذكرنا أنه هو النافلة؟
نقول: المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- له مقصد من ذلك وهو الرد على الحنفية -رحمهم الله- فإنَّ الحنفية يرون أنَّ الوتر واجب، فقال: بما أنَّ النبي ﷺ قد صلَّى الوتر على راحلته فإنَّ ذلك يدل على أنَّ الوتر ليس بواجب، وأنه من قبيل السنن؛ لأنكم تتَّفقون معنا أنَّ المكتوبات ينبغي أن ينزل لها، فدلَّ ذلك على أنَّ الوتر نحا به النبي ﷺ نحو المكتوبات وليس نحو السنن، وهذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم، أن الوتر ليس بواجب، ولكنه سنة من آكد السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ، وأنه يجوز أن يُصلى الوتر على الراحلة.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ «غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ»)، هذا مما يدل على وجوب استقبال القبلة، وقد جاء في بعض الروايات: «فَإِذَا أرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ»[11]، فدلَّ ذلك على أنَّ استقبال القبلة واجب في المكتوبات دون النوافل لمن كان على ظهر الراحلة.
وهل يفهم من ذلك التوسيع بأن يقال إن الأصل في ذلك أنه يجوز للإنسان أن يصلِّي النَّوافل على غير القبلة حتى لو لم يكن على راحلته؟
نقول: لا؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنَّه فعل ذلك البتة، ولا رخَّص فيه ﷺ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا ليس من سنن رسول الله ﷺ، وهو أن يصلي الإنسان النافلة إلى غير القبلة وهو ليس على راحلته.
قوله: (وَلِلْبُخَارِيِّ: «إلَّا الْفَرَائِضَ»)، بمعنى المكتوبة، فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أن الفرائض هي المكتوبات، وأن الوتر ليس من قبيل الفرائض كما قرَّرناه سابقا.
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ»)}.
هذا الحديث الذي ذكرنا أنه من أصول الأحاديث الدالة على وجوب استقبال القبلة عن رسول الله ﷺ وعن صحابته -رضوان الله عزو جل عليهم-، وهذا الحديث من المعاني العظيمة في الامتثال لأمر الله -عز وجل- وأمر رسوله ﷺ.
قال: «بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ»، أي: جاءهم رجلٌ فأخبرهم أن القبلة قد صُرف من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد كان النبي ﷺ يتحرَّى ذلك، وتحري النبي ﷺ لذلك قد شاعَ بين أصحابه -رضوان الله عز وجل عليهم-، أعني أنه قد شاعَ بينهم أن النبي ﷺ يتحرى أن تُحوَّل القبلة.
من المعلوم أنَّ الصلاة إلى بيت المقدس وأنت في المدينة تكون اتجاهها إلى الشمال، فجاءهم آتٍ وهم في صلاة الفجر وهم ركوعٌ فأخبرهم أنَّ القبلة قد حُوِّلَت؛ فاستداروا كما هم إلى جهة الجنوب؛ فدلَّ ذلك على معانٍ، منها:
وجوب استقبال القبلة بقدر الطاقة، وأنه متى ما استبانت للإنسان القبلة وهو في صلاته كان عليه أن ينحرف عنها، وليس من شرط ذلك أن يقطع الصلاة، فلو أن إنسانًا اجتهدَ في البر وصلَّى ثم استبان له أن القبلة منحرفة يمنًا أو شمالًا أو حتى في الخلف، نقول: كل ما عليك أن تستدير إلى القبلة وتكمل صلاتك.
قالوا: وإنما هذا يكون لمن اجتهدَ بقدر وسعه وقدر طاقته.
فأما إذا لم يكن ثَم مجال للاجتهاد بأن يكون الإنسان في المدينة أو يكون الإنسان في الغرفة أو في الفندق وعنده الدَّلائل التي تدله، وعنده الناس الذين يستطيع أن يستدل بهم ويسترشد بهم، فاجتهد وصلى؛ نقول: هذا اجتهاد منقوص، لأنه اجتهاد ليس قائمًا على معاينة الدَّلائل الصَّحيحة للقبلة، وإنما هو اجتهاد أشبه ما يكون باجتهاد الخَرس والتخمين الذي لا يقوم على شيء، وكثير من الناس يحصل له ما يسمى بانقلاب الرأس، يدخل فيعتقد أن الشمال جنوب والجنوب شمال، ما عندك أدلة ولا عندك علامات تهتدي بها، فبناء عليه؛ هذا الاجتهاد اجتهاد غير صحيح، ولا يفهم من ذلك أن الاجتهاد في المدينة لا يجوز، نقول: نعم يجوز إذا كان قائمًا على الأدلة، لكن لما يكون اجتهادك لم يقم على شيء؛ نقول: هذا اجتهاد غير صحيح، وبناء عليه فإنك تعيد الصَّلاة، وتكون صلاتك غير صحيحة، ما دام أنك قد صليت بلا اجتهاد كامل، وبلا اجتهاد صحيح.
لكن لما يكون الإنسان في البرية واجتهد أو ما كان يعرف الاجتهاد أصلًا، وما كان يعرف النجوم، نقول: صلِّ على حالك، هذا هو غاية ما تستطيعه، بخلاف الإنسان الذي في المدينة، ففي المدينة تستطيع أنك تنظر إلى المساجد، أو تسأل أحد، فهذه كلها بالإمكان وربما الأجهزة أيضًا تدلُّك على القبلة ونحو ذلك.
إذًا؛ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لما أخبرهم هذا الرجل بهذا الخبر استداروا إلى الكعبة، فدلَّ ذلك على وجوب استقبال القبلة في الصَّلاة المكتوبة.
ودلَّ ذلك أيضًا على قبول خبر الآحاد في أعظم مهمات الدين بعد توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهي الصَّلاة، لما جاءهم هذا الرجل ما قالوا: لا، ننتظر حتى يأتينا ثانٍ وثالث ورابع ويقوم عندنا مقام التواتر! مع أنه أمر من أعظم الأمور وهو تغيير القبلة، فدلَّ ذلك على أن خبرَ الواحد مما يجب العمل به إذا صحَّ ناقله، وهذا مما من أوائل ما يستدل به العلماء -رحمهم الله- على وجوب العمل بخبر الواحد، وعلى أنه ليس شرط تلقي السنة الصحيحة أن تكون بطريقٍ متواتر، لأنه إذا قيل ذلك ما يكاد يتواتر من السنة إلا الشيء اليسير، وربما إذا أردنا أن نحقق شروط المناطقة؛ نقول: إنه لم يتواتر عندهم شيء عن رسول الله ﷺ البتة! فإذا السنة مهدرة! بلا شك أن هذا إهدار عظيم لأصل من أعظم أصول الدين الذي هو الأصل الثاني بعد كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: «اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّأْمِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ -يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ- فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ»)}.
أنس بن سيرين -رَحِمَهُ اللهُ- إنما سمي أنسًا على أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنَّ سيرين هذا أحد عشرين غلامًا أخذهم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لَمَّا فتحوا عين التَّمر، وقد فتحها خالد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فوجدوا عشرين غلامًا قد جُمعوا في مكان يعلَّمون ويربَّون على النَّصرانية، فاستنقذوهم وبعثوا بهم إلى الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فكان منهم سيرين هذا الذي هو والد أنس بن سيرين ووالد محمد بن سيرين، ووقع غلامًا مملوكا في نصيب أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وزكَّاه الله أنس لصلاحه وتقواه، حتى جاء يومًا إلى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال له: يا أمير المؤمنين إني قد طلبت مولاي أنسًا -يعني أنس بن مالك- أن يُكاتبني فأبى، وكان سيرين رجلًا عاملًا صاحبَ إنتاج، وأنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أبى أن يكاتبه، والمكاتبة من سعة الشريعة، فالشريعة ما أَلغت الرِّق بوجه عام، لكنها عالجته فكان من علاج الشريعة للرق الكتابة، الكتابة: هي أن يأتي المملوك إلى سيده فيقول له: كاتبني، أنا سأشتري نفسي منك بعشرة آلاف، أُنجمها لك وأُقسطها لك على خمس سنوات، فإذا أديتها فأنا حرٌّ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرً﴾ [النور: 33]، فأبى أنس فضربه عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بالدَّرة، وقال له: كاتبه فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرً﴾ ولا أرى غلامك إلا ممن علم الله فيه خيرًا، فصدقت فيه فراسة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وأنجبَ سبعةً من العلماء كلهم مِن خيار عباد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مِن بينهم محمد بن سيرين الإمام الجليل الكبير المفسِّر الذي كان عالم أهل البصرة من غير مدافع، ومن بينهم حفصة بنت سيرين التي كانت هي مع عَمرة بنت عبد الرحمن وهما أعلم النساء في عصرهما، ومنهم أنس بن سيرين هذا، ومنهم معبد بن سيرين، وجماعة من هؤلاء الصالحين الذين كانوا من أبناء سيرين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
قال أنس ها هنا: «اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّأْمِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ»، فيه دلالة على أن الصلاة على الحمار جائزة، وفيه دلالة على أنَّ الحمار ليس بنجسٍ في عينه.
وقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فإنها رجس»، إنما أمر النبي ﷺ بترك لحومها، وكل ما حرم الله -عز وجل- فإنه رجس، إذًا الأصل في ذلك أن الحمار ليس بنجس، ولهذا ما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتنزَّهون منه، وربما ركبه الواحد منهم من غير سرجٍ -وهو المقعد الذي يركب عليه- فدلَّ ذلك على أنه ليس بنجسٍ.
قال: «وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ -يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ- فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ».
فيه دلالة على:
- جواز صلاة النافلة على الراحلة.
- أنه لا يجب استقبال القبلة عند افتتاح النافلة، فإنَّ بعض العلماء قال: جاء في حديث جابر أن النبي ﷺ «كان إذا سافرَ فأراد أن يتطوَّعَ استقبلَ بناقتِه القبلةَ فكبَّرَ ثم صلَّى حيثُ وجَّهَهُ رِكابُه»[12].
نقول: هذا الحديث معلول، كل الأحاديث في الصحيحين على خلافه، وكل الأحاديث ما فيها أن النبي ﷺ كان يستقبل القبلة عند افتتاح النافلة، وهذا يشق على الإنسان ويصعب عليه، إذ كان يصعب عليهم في الزمان الأول لما كانوا على البغال والحمير والجمال ونحو ذلك، وفي هذا الزمان قد يكون أصعب، فقد يكون الإنسان على خطٍّ سريع والقبلة خلفه، فهل يحرفُ سيارته أو يقف ويُكبر؟! فهذا كله مما لم تأتي به الشريعة، والحديث الوارد فيه حديث معلول، والأحاديث التي في الصحيح ليس فيها أن النبي ﷺ كان يستقبل القبلة عند افتتاح النافلة، وهذا هو أصح الأقوال في هذه المسألة -إن شاء الله عز وجل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الصُّفُوفِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ»)
}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الصُّفُوفِ)، يقصد صفوف الصلاة، ومن المعلوم أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورسوله ﷺ قد أمرا بالصَّف، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أمر بالصَّف في القتال، قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، فإذا كان ذلك في حال القتال الذي هو يحاكي حال الصلاة، فإنه في الصَّلاة أولى وأوجب، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قد قال في كتابه: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء: 102]، فدلَّ ذلك على أن على وجوب الصَّفِّ بوجه عام، وعلى أن الأصل في الصَّلاة هي الصفوف، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُه».
والصفوف بوجه عام إنما جاءت بها الأمَّة المحمدية، الصَّف لم يكن يُعرف من قبل في الصَّلاة، وإنما كانوا يصلون على كل حال، مختلفين متفرقين، حتى جاءت هذه الأمة بالصفوف في الصَّلاة، وجاءت بالصفوف أيضًا في القتال، ولهذا أول من قاتل بالصفوف هو النبي ﷺ وأصحابه رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم، وإلا في الأصل في القتال في السابق أنهم كانوا يقاتلون على كل حال، متفرقين غير صفوف، فجاءت هذه الشريعة بالصَّفِّ دلالة على الانضباط الترتيب وعلى أنَّ هذه الشريعة قد جاءت بالكمالات، وأكمل ما يكون الصَّلاة، أكمل الكمالات بهذه الشريعة من العبادات هي الصَّلاة، فجاءت بها الشريعة بهذه الصفوف التي هي غاية ما يكون في الكمال، وأمر النبي ﷺ بتسويتها فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ»، وجماهير العلماء -رحمهم الله- على وجوب تسوية الصفوف، بمعنى أن لا يكون أحد متقدم ولا أحد متأخر.
ومما يدلُّ عليه: حديث النعم بشير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سيأتي بعد قليل، وفيه الوعيد من النبي ﷺ لمن لم يسوِّ الصف.
فقوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» لا يُفهم منه التمام أو الكمال المستحب، نقول: لا، بل هو الكمال الواجب، وهذا يؤكد ما قررناه سابقا، وهو أنَّ من أفعال الصَّلاة السابقة ومن أفعال الصَّلاة المقارِنة ما يُعين فيها على الخشوع، كما ذكرنا أن حُسن الوضوء والمشي إلى الصَّلاة بتؤدة، والسواك، والتبكير إليها، والتنفُّل قبلها؛ كل ذلك مما يعين على الخشوع فيها ومما يعين على تمامها، فكذلك أيضًا تسوية الصفوف مما يعين على تمام الصَّلاة، ولهذا ما تكاد ترى مسجدًا قد سُويت به الصفوف إلا والخشوع فيه أكمل من غيره، وكلما اكتملت الصفوف وسويت كما أمر النبي ﷺ كان أكمل في الخشوع، ولهذا لم يكن بدعًا أن النبي ﷺ كان يحرص عليها الحرص الذي سينقله النعمان بن بشير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
وَلِمُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ، حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ، فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»)
}.
هذا حديث النعمان بن بشير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي قدَّمناه وذكرنا أنه مما يدلُّ على وجوب تسوية الصفوف في الصَّلاة، فإنَّ النبي ﷺ كان يُعنى بها عناية شديدة، فكان ﷺ قبل أن يكبِّر ينظر إلى أصحابه رضوان الله -عز وجل- عليهم ويسوي صفوفهم، قال: «كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ»، والقداح: هو السهم، ومن المعلوم أن السهم له ثلاثة أمور: له النصل الذي هو مقدِّمه، وله القدْح الذي هو المتوسط، وله الريش الذي هو آخره، والأصل في القداح أنها تكون مستوية، حتى تكون أحسن في الانطلاق، وتكون غاية ما يكون في التَّسوية، ولهذا تُطرق بالمطارق وتلان بالحديد، فقوله ها هنا: «كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ» يعني كأنما كان النبي ﷺ يسوي هذه الصفوف حتى تكون كالسهم، يعني هي باختصار كما نقول نحن: سواها كما تكون كالسهم.
قال: «حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ»، فيه دلالة على أنه ليس من شرط الصَّلاة، وليس من مستحباتها استمرار التسوية، بل يُقال: إذا تعارف الناس على التسوية لم يلزم الإمام أن يُسوي، بعض الناس يقول للإمام: لماذا لا تلتفت إلى المأمومين ثم تسوي الصفوف؟
نقول: إذا كان المأمومون قد اعتادوا وعقلوا على التسوية من تلقاء أنفسهم لم يكن لتسوية الإمام معنى، ولهذا قال: «حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ»، يعني: قد استوعبنا هذا الأمر وأصبحنا نسوي كما كان النبي ﷺ يسوي.
والأصل في التسوية: أنَّ النبي ﷺ كان يُسوي بين أصحابه رضوان الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم في مناكبهم وأكعبهم، فكان ﷺ يسوي المناكب، بمعنى أن يكون المنكب على المنكب متجاورة، والأكعب: الكعب مجاورة للكعب، وليس كما يظنه بعض الناس أن التسوية تكون بأطراف القدمين، نقول: التسوية بأطراف القدمين لا تستقيم؛ لأنَّ مَن نظر إليهم من الخلف رأى الخلل فيهم، والناس يختلفون في طول الأقدام، لكن ما يختلفون في الأكعُب، الأكعُب من الناس كلها متساوية، أما طول الأقدام فستجد أنها طفل قدمه هكذا، ورجل طويل قد أتاه الله طولا في رجله؛ فإذًا يختلفون فيها، لكن إذا كانت التسوية بالأكعُب لم يحصل فيه خلاف، وهذا أحد المعاني التي ينبغي أن تقرَّر، لأن بعض الأمور التي تُحدث قد يراد بها الخير ثم لا يحصل منها ذلك، فمِن ذلك هذه الخطوط التي توضع للمصلين قد أوهمت كثير من الناس أن التسوية إنما تكون بأطراف الأقدام، ونقول: لا، الأصل في هذه الصفوف أنَّ التسوية إنما تكون بالأكعُب، بحيث يلصق الكعب بالكعب.
قال ها هنا: «ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ، حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ»، دلَّ على ما قرَّرناه وهو أنَّ الجماعة بوجه عام أو أن الإمام إذا كان يعلم أنَّ المأمومين قد استقاموا وعقلوا التَّسوية لم يلزم أن يلتفت إليهم فيقول: تقدم يا فلان تأخر يا فلان أو ينظر إليهم، ما دام أنهم مستقيمين على ما يعهده.
قال: «فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ»، بمعنى أنه قد تقدم بمنكبه، وقد خالف التسوية التي أمر بها النبي ﷺ.
فقال ﷺ: «عِبَادَ اللَّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»، هذا وعيد شديد من النبي ﷺ لمن لا يسوي الصفوف، ولأجل ذلك ذهب جماعة من العلماء-رحمهم الله- وهو القول الصحيح إلى أن تسوية الصفوف واجبة، ولهذا قد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «ألَا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ المَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا يا رَسولَ اللهِ، وكيفَ تَصُفُّ المَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ ويَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ»[13].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ؟ قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه ﷺ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا. فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ».
الْيَتِيمُ هُوَ: ضُمَيْرَةُ جَدُّ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ)
}.
لَمَّا ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- وجوب الصفوف بوجه عام ووجوب تسويتها ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حديثًا يدلُّ على كيفية الصوف في الصَّلاة ومقام المأمومين من الإمام في الصَّلاة.
قال: «أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ» فيه ما كان ﷺ من التواضع.
قال: «ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ»، فيه دلالة على أنه يشرع للإنسان بوجه عام أنه متى ما ذهبَ إلى بيتِ أحدٍ أن يصلي بهم، لأن في هذا بركة، يصلي بهم ويأمُّهم، يقول: قوموا فلأصلي لكم، قوموا فلنصلي.
وبوجه عام يُشرع أن يقدم صاحب البيت، وهذا من المعاني التي تغيب عنَّا كثيرًا، نذهب إلى البيوت فنتعشَّى أو نتغدَّى ولكن لا تُعمر هذه بشيء من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا مِن الصَّلاة.
قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه ﷺ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَ»، هذا هو مراد -رَحِمَهُ اللهُ- حينما أورد هذا الحديث، يعني هذا هو محل الشاهد من إيراد المصنف لهذا الحديث في (باب الصفوف).
قوله: «فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه ﷺ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ»، فيه دلالة على أنه ينبغي أن يقوم المأموم خلف الإمام إذا كان أكثر من مأموم، حتى ولو كان صبيًّا معه؛ لأنَّ هذا الغلام قد كان صبيًّا، وأنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد كان صبيًّا إلى قريب من وفاة النبي، ﷺ، ومع ذلك فإنَّ النبي ﷺ قد وضعه خلفه مع هذا الغلام، فهذا مقامهم.
قال: «وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَ» فيه دلالة على أنَّ المرأة تصلِّي خلف الرجال، هذه السنة المطردة عن رسول الله ﷺ، ولم يرد عن النبي ﷺ أنَّه رخص في أن تصلي المرأة أو أن تصافّ في الرجال البتة، فدل على أنَّ المرأة تفصل عن الرجل وأنَّ المرأة محلها خلف الصف، ولهذا جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «وخَيْرُ صُفُوفِ النِّساءِ آخِرُها، وشَرُّها أوَّلُه»[14]، وإنما كان ذلك في المساجد لأن النساء كانَّ يصلين خلف الرجال، فكان الصف الأول من النساء يكون قريبًا من الآخر من الرجال، فرغَّب النبي ﷺ النَّساء في مجانبة الرجال، فدلَّ ذلك على معنى ينبغي أن يقرر، وهو أن المرأة كلما كانت أبعد عن الرجال كانت أزكى عند الله، وفي المقابل الرجل كلَّما كان أبعد عن المرأة كان أزكى عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومرادنا بالمرأة والرجل ها هنا: الأجانب، قرب الرجل من المرأة حتى لو كان قربًا شرعيًّا ما يخالطه محرم ليس محمودا، وهو خلاف الزكاة، يعني زكاء النفس، ولهذا حجب الله -عَزَّ وَجَلَّ- نساء نبيه ﷺ بأعظم حجاب، فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: 53]، وقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: 32]، حجاب عظيم لان الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعلم ما في قلوب الرجال من الغريزة للنساء وما في النساء من الغريزة للرجال، فكلَّما كان الرجل أبعد عن المرأة في كلامها كان أزكى عند الله، بعض الرجال يدخل إلى الأسواق فيكلم النساء وهو يستطيع أن يتحاشى ذلك! نقول: تحاشي ذلك من زكاء قلبك، بعض النساء تدخل إلى الأسواق فتكلم الرجال وهي تستطيع أن تتحاشى ذلك أو أن تقلَّ منه، نقول: الإقلال من ذلك هو من ذكاء القلب، ويدل عليه أن الصَّلاة التي هي أعظم ما يكون في الإخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أمر النبي ﷺ فيها بالمباعدة بين الرجل والمرأة.
قال: «فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ»، واللفظ الآخر: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَ»، هذا -والله أعلم- في زيارة أخرى؛ لأنَّ النبي ﷺ كان كثيرًا ما يزور أنسًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويزور أمه أم سليم، فمرة قام فجعل أنسًا خلفه واليتيم معه، ومرة لما كان أنس لوحده جعله النبي ﷺ عن يمينه.
نتوقف هنا والله تبارك وتعالى أعلم.
{شكر الله لكم صاحب الفضيلة، نشكركم أيها الإخوة الكرام، نلقاكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين}.
-------------------------------
[1] رواه أحمد (18010)، والترمذي (179)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في " إرواء الغليل " (230).
[2] أخرجه البخاري (622)، ومسلم (1092).
[3] صحيح البخاري (621).
[4] أخرجه أبو داود (937)، وأحمد (23883).
[5] صحيح مسلم (385).
[6] أخرجه أبو داود (524) واللفظ له، وأحمد (6601).
[7] صحيح مسلم (384).
[8] صحيح مسلم (395).
[9] صحيح أبي داود (1227)، صحيح الترمذي (351).
[10] صحيح البخاري (999)، صحيح مسلم (700).
[11] أخرجه البخاري (400)، ومسلم (540).
[12] أخرجه أبو داود (1225) واللفظ له، وأحمد (3/203)، والدارقطني (1/396)، صححه الألباني.
[13] صحيح مسلم (430).
[14] صحيح مسلم (440).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك