{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أيُّهَا الإخوة المشاهدون الكرام، في برنامجكم برنامج (جادة المتعلم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ، فحياكم الله}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم.
كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند باب سجود السهو، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ. وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ -وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسِيت أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ». فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ. ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ سَلَّمَ؟ قَالَ: فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمدﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ).
سجود السهو بوجه عام أصلٌ قد جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ، وسجود السهو إنما هو لغرض إتمام الصلاة وإرغام الشيطان، كما جاء عن النبي ﷺ، قال ﷺ لَمَّا أمرَ بسجود السهو: «إذا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أمْ أرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ ولْيَبْنِ علَى ما اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ، فإنْ كانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ له صَلاتَهُ، وإنْ كانَ صَلَّى إتْمامًا لأَرْبَعٍ كانَتا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطانِ»[1]، فدل ذلك بوجه عام على أنَّ سجود السهو إنما يُقصد به كسبُ مرضات الرحمن -عَزَّ وَجَلَّ- وإرغام الشيطان، وجبرُ ما يقع في الصلاة من النقص.
وحتى يعلم -وهذا يعني مسلك لطيف أيضًا- أنَّ النقص قد يحصل بالزيادة؛ لأنَّك إذا زدتَّ في الصلاة شيئًا لم يأذن لك الشارع فيه فأنت ناقص منها، ولهذا شرع له النبي ﷺ وشرع له الشَّارع سجود السهو، فدلَّ ذلك على أنَّ الزيادة في الصلاة من غير جنسها كالنقص فيها ومما يشرع له السجود.
وإذا تأملنا نصوص الشارع نجد أنَّ النبي ﷺ قد أمر بسجود السهو أو فعله في مواضع:
- منها أفعال قد فعلها زيادة في الصلاة هي ليست من الصلاة، قد تكون من جنس الصلاة لكنها ليست من جنس الصلاة، كالركوع والسجود فهذه من جنسها، لكن ليست من الصلاة بمعنى أنَّ تكون ركوعًا زائدًا أو سجودًا أو تسليمًا زائدًا.
- أو أنه ﷺ قد نقصَ من الصلاة.
- أو أنه ﷺ قد شكَّ في الصلاة.
هذه هي المواطن الثلاثة لسجود السهو، أو أسباب سجود السهو، فمعنا في الصحيحين الموضع الأول والثاني: الزيادة والنقصان، وجاء في خارج الصحيحين الشك؛ بل في حديث أبي سعيد، في صحيح الإمام مسلم أيضًا الشك، لكنه ليس في البخاري، يعني ليس متفقا عليه.
ذكر مصنف -رَحِمَهُ اللهُ- الموطن الأول وهو حديث أبي هريرة الذي يُعد عمدة هذا الباب، فعمدة باب سجود هو حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- المعروف بحديث ذي اليدين؛ لأنَّ فيه قصة ذي اليدين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أنَّ النبي ﷺ صلى بأصحابه ركعتين، ثم سلَّم، فاستعلم منه ذو اليدين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: (أَنَسِيت، أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟)، وهذا من حسن الأدب، فقال ﷺ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ»، ما بادر -رضي الله عنه- عليه بالإنكار أو باتهامه النبي ﷺ بالنسيان، وإنما قال: ربما كان أمرًا قد نزل به الوحي، وهذا من أعظم ما يدل على أنَّ أفعال النبي ﷺ سنة، الصحابة كادوا يعملون بهذا ويجعلون صلاة العصر ركعتين، لولا ما بيَّنها النبي ﷺ لهم، قال: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ».
فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» (فَقَالُوا: نَعَمْ). قالوا: "نعم" بألفاظهم، وليس أشاروا إليه كما جاء في سنن أبي داود، بل تكلَّموا وهم الآن يعلمون أنَّ النبي ﷺ قال: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ»، فهم يعلمون أنهم لا زالوا في صلاة، ومع ذلك لَمَّا استعلمهم قالوا: "نعم"؛ فدلَّ على أنَّ الكلام في الصلاة لأجل مصلحتها مما لا تبطل به الصلاة على الصحيح من أقوال أهل العلم، ولا يقال: إنَّ هذا كان أولًا قبل الأمر بالإنصات، نقول: لا، أبو هريرة ما أسلم إلا في السنة السابعة، والأمر بالإنصات كان متقدِّمًا على ذلك، أبو هريرة ما أدرك أصلًا الصحابة وهم يتكلمون في الصلاة، فدلَّ على أنَّ الكلام في الصلاة لمصلحتها مما يجوز.
ومن مواطن ذلك أن يرتجَّ على الإمام، وهذا يحصل أحيانًا حينما يصلي الإمام فيعزب عن ذهنه ما يدري ما يصنع، يكون مثلا جلس الركعة الثالثة أو في الركعة الرابعة فكبر فسبحوا به وهو لم يسجد السجدة الثانية من الركعة الرابعة، وهو ما يدري هل يقوم؟ هل يسبحون به ليقوم؟ ما يعلم ما الذي يريدونه؟ وهذا يحصل أحيانًا، قد يسجد سجدة واحدة في الركعة الرابعة ثم يذهب ذهنه ويجلس يتشهد، فيسبحون به فما يدري، هل يريدون منه القيام بقية ركعة نسيها؟ أمَّا الذي يريدون منه؟! في شرع لبعض المأمومين أن ينبهه، إنَّ استطاع أن ينبهه بالقرآن فحسن، كما لو قال ﴿وَاسْجُدُو﴾ ، وقد جاء ذلك عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أنه كان ينبه بالقرآن، وإن لم يستطع ورأى أنَّ الإمام ما فهم؛ فيجوز له أن يقول: بقي عليك سجدة؛ لأنَّ هذا من مصلحة الصلاة، فهو تكلَّم لأجل إصلاح الصلاة حتى لا تفسد عليه ولا تفسد على ما وراءه بمتابعته على الخطأ، فهذا مما يقرِّره حديث ذي اليدين لما سألهم ﷺ فقالوا: (نعم)، فهم تكلموا، والظاهر أنهم لما قالوا: (نعم) ما قالها واحد منهم، بل ربما أنهم تتابعوا عليها كلهم، فدلَّ هذا على تقرير هذا المعنى، ولم يرد ما ينسخ هذا الحكم، هذا حكم الآن متقرر.
فإذا أراد رجل أن يحكي نسخه؛ نقول: أعطنا ما يحكي نسخه.
فإن قال: قوله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]؛ قلنا: الآية متقدمة.
فإن قال: حديث «فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ»، نقول: كذلك الحديث متقدم، هذا الحديث الذي معنا متأخر.
والنبي ﷺ قد زاد ها هنا في السلام، فإنه ﷺ سلَّم في غير موضعه، ما نقول زاد تشهدًا؛ لأنَّ التشهد من موضعه، لكن قد نقول: إنه زاد فيه عن قدره والأمر فيه واسع، ما يشرع في الزيادة عن القدر سهو، لكن زاد ها هنا التسليم، سلم في الصلاة.
فرجع النبي ﷺ إلى موضعه ثم قام تكبر ﷺ وأكمل الركعتين، ثم سلم ﷺ وجعل سجوده للسهو بعد تسليمه، فدلَّ ذلك على أنَّ من وقعَ منه مثل ما وقع من النبي ﷺ بأن سلَّم قبل إتمام الصلاة، في أي موضع من مواضع الصلاة، الركعة الأولى والثانية والثالثة سلم قبل الموضع قبل إتمام الصلاة، نقول: يُشرع لك أنَّ ترجع فتتم صلاتك، ثم تسلِّم ثم تسجد للسهو كما فعله النبي ﷺ.
ومن هنا ذهب مالك -رَحِمَهُ اللهُ- إلى قولٍ، فقال: يشرع إذا كان السهو من زيادة أن يكون عقب الصلاة، زدت في الصلاة شيء كركوع أو سجود؛ فيشرع أن يكون السجود عقب الصلاة، قال: لأنَّا رأينا حديث ذي اليدين وفيه أنَّ النبي ﷺ قد زادَ هذا التسليم فسجد ﷺ بعد السلام، وهذا القول قول قوي، لكن نقول: ينبغي أن يُعمل ما لم يتعارض مع غيره من الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ، والتي فيها أنه ﷺ سلَّم قبل الصلاة، هذا التقرير في مثل هذه المسألة.
ونقول: إنَّ في حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ لَمَّا سجد سجود السهو بعدَ السلام لم يتشهد ﷺ فدلَّ ذلك على أنَّ سجود السهو ما يشرع فيه تشهد، وعلى أنه يكبر لكل خفض ولكل رفع، وعلى أنه إذا فرغ من ذلك سلَّم أيضًا سلامًا ثانيًا، هذه كلها مما تقررت في حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لأنَّ كليهما قد رويا حديث باليدين رضي الله عنه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا قَضَى الصَّلَاةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ: كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ»)}.
هذا حديث عبدالله بن مالك بن بحينة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبحينة هي جدته يُنسب إليها، وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُعد أصلًا من أصول سجود السهو كحديث أبي هريرة، لكن ذكرنا أنَّ حديث أبي هريرة يتناول الزيادة، وحديث عبد الله بن بحينة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يتناول النقص، فإن فيه أنَّ النبي ﷺ صلَّى بهم فنسي التشهد الأوسط -أو التشهد الأول- وما تشهد ﷺ، فلمَّا فرغ ﷺ من صلاته وانتظر الناس تسليمه كبَّر وهو جالسٌ وسجد سجدتين ثم سلم ﷺ، فدلَّ ذلك على ما قرره مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، من أنَّ مَن نقص شيئًا في صلاته من غير الأركان، فالركن يجب الإتيان به، والنبي ﷺ في حديث ذي اليدين لَمَّا نسي الركعتين رجع فأكملهما، ما قال تسقطان بسجود السهو، فدلَّ على أنَّ ثمَّ في الصلاة أركان وثمَّ واجبات، فركعهما النبي ﷺ وأتى بهما، وهكذا شأن الأركان، الركوع والسجود وقراءة الفاتحة على الصحيح هذه كلها أركان في الصلاة يجب الإتيان بها، فإذا نسيها؛ نقول: ما تجزئك صلاتك إلا بالإتيان بها، وأمَّا ما سواها من الواجبات؛ فإنها تُجبر بسجود السهو، وتسقط بالنسيان، ومما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ قد نسي التشهد الأوسط أو الأول.
ومن أجل ذلك قال بعض العلماء: إنَّ هذا مما يدل على أنَّ التشهد الأوسط والأول ليس بواجب، وإنما هو مسنون، قالوا: مما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ ما رجع إليه.
قلنا: لا، وإنما أُتيتم من جهة أنكم لم تفرِّقوا بين أنَّ في الصلاة أركانًا وفيها واجبات وفيها سنن، وهذا التفريق تفريق حسن؛ لأنَّه يعصمك من الخلل.
بعض العلماء قال: هذه سنة، فنقول لهم: إذا كانت سنة فكم من السنن التي كان يتركها النبي ﷺ في الصلاة؟ جملة مما كان النبي ﷺ يأتي في كل صلاة بكل سننها، وإنما كان ﷺ يصلي فيطيل الصلاة، فالإطالة من السنن، يطيل الصلاة مثلا ﷺ فيقرأ فيها بسورة من الطوال مثلًا، فهذه سنة، ويصلي أحيانًا فيخفِّف، وربما خفَّف ﷺ تخفيفًا زائدًا، لكنه ما كان مخلًّا.
ومن المتقرر أنهم يقولون: إنه لا يشرع سجود السهو لترك السنن، فإذا كان كذلك فكيف يقال إنَّ التشهد الأوسط سنة؟ ما سجده النبي ﷺ إلا وهو واجب.
فإذًا الواجبات كالتَّشهد الأوسط وكالتَّسبيحات عند من قال بها وهم الحنابلة ونحو ذلك؛ هذا مما يُشرع فيه سجود السهو، وهذا سجودٌ لجبر نقصان، فهو لترغيم الشيطان.
ومن أجل ذلك قال مالك -رَحِمَهُ اللهُ: إنه يشرع لكل من نقص في صلاته شيئًا من الواجبات أن يأتي بسجود السهو قبل التَّسليم كما فعله النبي ﷺ في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنه ﷺ سجد قبل التسليم.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُلحظ أنَّ أغلب إنَّ لم تكن كل أحاديث سجود السهو جاءت بالسهو عن الأفعال، هذه كلها أفعال، وما جاء ذكر الأقوال على النبي ﷺ إلا في العمومات، فقوله: «فَإِذَا نَسِيَ أحَدُكُمْ»[2]، قد يقال: إنَّ هذا يُحمل على العموم، فيدخل فيها الأقوال، لكن كل النصوص الواردة عن النبي ﷺ في سجوده ﷺ للسهو إنما جاءت في الأفعال، فهذا يدل على أنَّ سجود السهو يتناول في المقام الأول الأفعال، وبناء عليه فإنَّه لا ينبغي أن يُقال به في الأقوال إلا فيما تتابعت الأئمة على إثباته مثل: الفاتحة، وأمَّا تسبيحات الركوع والسجود فقد يقال -بل الأحسن في ذلك أن يقال-: إنه لا يشرع فيها سجود السهو؛ لأنَّ سجود السهو زيادة، وهذه مسألة مختلف في وجوبها، فمن ثَمَّ قد يقال: إنَّ الأمر في ذلك على السَّعة، وإنه لا يشرع فيها سجود السهو على الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي.
عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا أَدْرِي: قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً؟»)}.
هذا (بَابُ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي)، وقد عقده المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- للإشارة به إلى مشروعية السترة.
والسترة: هي الشيء المنصوب الذي يكون أمام المصلي يستتر به عن الناس، وقد ذكرنا أنَّ هذا الأصل من الأصول النبوية المتقرِّرة عن رسول الله ﷺ، حتى أنَّ كثيرًّا ممن يذكر وضوء النبي ﷺ يقرن معه ذكر العنزة، ففي حديث أنس -رضي الله عنه: «فأحْمِلُ أنا، وغُلامٌ نَحْوِي، إداوَةً مِن ماءٍ، وعَنَزَةً»[3]، وفي حديث أبي جحيفة: «فَخَرَجَ بلَالٌ بوَضُوئِهِ، فَمِنْ نَائِلٍ ونَاضِحٍ، قالَ: فَخَرَجَ النبيُّ ﷺ عليه .... قالَ: ثُمَّ رُكِزَتْ له عَنَزَةٌ»[4]، فالعنزة مقترنة بالوضوء؛ لأنَّ الوضوء يعقبه الصلاة، والعنزة يُستتر بها، تكون سترة لرسول الله ﷺ.
وقد كان الأولى حقيقة بالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يقدِّم حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو قوله: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ إلى شيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ»[5]، حتى يقدم هذا المعنى أو يقرره ثم يبين الوعيد في المرور بين يدي المصلي، لكنه قدَّم ها هنا حديث أبي جهيم الحارث بن الصِّمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه قال رسول الله ﷺ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، وهذا فيه الوعيد الشديد في المرور بين يدي المصلي، والعلماء -رحمهم الله- يقولون: إنما هذا إذا كان المصلِّي يصلي إلى شيء يستره من الناس، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، ومن المعلوم أنَّ سترة الإمام سترة لمن بعده من المأمومين، قالوا: فإذا كان كذلك فإنه لا يجوز المرور بين يدي المصلي ما دام أنَّ له سترة.
والأصل في السترة أنَّ تكون قريبة منه قربًا نسبيًا، بمعنى أنَّ تكون قريبة من ثلاثة أذرع، الذراع تقريبا خمسين سنتي، أو قريبًا منه، متوسط ما بين خمسين إلى خمسة وخمسين على الخلاف؛ لأنَّهم يُحدِّون الذراع ما بين الثمانية وأربعين تقريبًا إلى الستين، والذراع يبدأ من المنتصف ما بين السبابة والوسطى إلى المرفق، هذا هو الذراع عندهم.
وقد كان النبي ﷺ في حديث بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث ابن عمر قال: «ثُمَّ صلَّى وبينَه وبينَ الجِدارِ ثَلاثَةُ أذْرُعٍ»[6]، يعني: متر ونصف، وهو الموضع الذي يكاد يسجد فيه الإنسان، فإذًا هذا الموضع هو موضع السترة المشروع، إذا زاد عنه فوق ذلك فقد لا تكون سترة شرعية؛ لأنَّ الإنسان قد يضع بينه وبين سترته عشرة أمتار ثم يستتر إليها فيحرم الناس من المرور بين هذه السترة، فيقال: لا، هذه ليست سترة شرعية، السترة الشرعية أنَّ تكون قريبة، ولهذا جاء في بعض الروايات: «إذا صلَّى أحدُكُم فليُصلِّ إلى سُترةٍ، وليَدنُ منه»[7]، فأمر بالدنو، وإن كانت هذه الرواية ليست صحيحة، لكن نقول: أحاديث النبي ﷺ المتتابعة على أنه ﷺ كان يدنو من سترته، ولم يكن بينه وبينها إلا شيء يسير، فهذا هو الأصل.
فإذًا نقول: السترة على قول جماعة من العلماء هي واجبة.
ومما يدل عليه: أنَّ النبي ﷺ لم يُعهد عنه أنه صلى لغير سُترة، وأقصد هنا القول بوجوبها، إذا كان الإنسان يصلي في مكان قد يكون عُرضة للمرور الناس، أمَّا لو كان يصلي في غرفة مغلقة مثلًا ما فيه أحد قد نقول إنه يُرخَّص في ذلك، أو يُهوَّن في ذلك شيئًا يسيرًا، لكن يصلي في مكان يمر فيه الناس؛ نقول: لا، لابد لك من اتخاذ السترة، كما كان هدي النبي ﷺ، وحديث ابن عباس سبق وتكلمنا عنه، ونعيد الكلام عنه وهو أنَّ قول ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ورَسولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بمِنًى إلَى غَيرِ جِدَارٍ»[8]، نقول: "قال ابن عباس: إلى غير جدار"، لكنه ربما ما رأى هذه العنزة الصغيرة التي تُوضَع قبلةً لرسول الله ﷺ، هو ما قال: "إلى غير سترة" أو قال: "إلى غير عنزة"، إنما قال: إلى غير جدار، لكن الظاهر -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ لم يكن يصلي إلا إلى ستره، سواء كان في مكة أو في غيرها ﷺ؛ لأنَّ من يروي لنا أخبار النبي ﷺ وسفراته من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يذكر العنزة، كما في حديث طلحة بن عبيد الله وكما في حديث أبي جحيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيحتمل أنَّ تكون بعض أسفار النبي ﷺ إلى مكة، فالأمر في ذلك على الصَّحيح أنَّ نقول: مكة شأنها كشأن غيرها، ينبغي للإنسان أن يستتر فيها، وإذا رأيتَ مصليًا يصلي إلى سترة حرم عليك المرور بينك وبين سترته، وقد سمى النبي ﷺ المار بين يدي المصلي "شيطان"، دلالة على التحريم، وهذا أحد ما استدل به العلماء على وجوب السترة، قالوا: لو كانت السترة غير واجبة ما غلَّظ النبي ﷺ التَّغليظ الشديد على هذا المار، كيف يغلَّظ على رجل يقطع شيئًا مسنونًا؟! وإنما كان التغليظ على مَن يقطع شيئًا واجبًا أو على من يعترض على شيءٍ واجبٍ.
قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ»، ذكرنا يا إخوان ويا أخوات أنَّ الشرع كثيرًا ما يُبهِم أو يُطلِق، فكلمة "أربعين" عامة ما تدري أربعين يوم ولا شهر ولا سنة! فإذا جاء ذلك فأطلق حيث أطلق الشَّرع؛ لأنَّ الشَّرع إنما أطلق لغرض الترهيب، قد تكون أربعين يومًا، لكن قد يقع في بالك أنها أربعين سنة، فيحتاط الإنسان ويكون أبلغ في زجره عن مثل هذا العمل المحرم.
وفي هذا -يا إخوان ويا أخوات- يقال: إنَّ الحكم في ذلك واسع وعام حتى فيما إذا فرغَ الإنسان مِن صلاته مع الجماعة إن كانَ في الصَّف المقدَّم ثم ذهبَ يريد أن يخرج من المسجد؛ نقول: لا تقطع صلاة أحد يصلي من المأمومين، ولا تمر بين يديه، قال: طيب يا أخي هو يصلي إلى غير سترة! نقول: لا، بل كان يصلي إلى سترة إمامه هذه هي غاية ما يستطيعه، لا يجب على كل مأموم أنه يأتي فيضع بين يديه سترة! فيقال: سترة إمام سترة حتى لو انقضت صلاة إمامة؛ لأنَّ هذا هو غاية ما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وما أمر الشرع لكل مأموم بأن يأتي بسترته فيضعها بين يديه، مع أنَّ الشرع يعلم أنَّ المأموم حينما يفرغ إمامه سيكمل بعضهم، ما قال الشرع إن كل من جاء بعد إمامه فإنه ينبغي له أن يأتي بستره! أو من كان أنه سيصلي جزءا من صلاته بعد إمامه فإنه ينبغي له أن يضع بين يديه سترة! لأنَّ سترة الإمام سترة لمن بعده، ولأن النهي عن المرور نهي عام لكل من صلى إلى سترة، وهذا المأموم قد يُصلي إلى سترة إمامه على الصحيح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ. فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ. فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»)}.
قول النبي ﷺ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ» مما استدل به بعض العلماء على عدم وجوب السترة، قال: إنَّ النبي ﷺ ما أمر بسترة، ما قال: "ليصلي أحدكم" لكن نقول: بقية الأحاديث كما في حديث طلحة بن عبيد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ قال: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ تَكُونُ بيْنَ يَدَيْ أحَدِكُمْ، ثُمَّ لا يَضُرُّهُ ما مَرَّ بيْنَ يَدَيْهِ»، نقول: هذا دلالة على الأمر بالسترة.
ونقول: إن قوله: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ»، هذا الحكم إنما جاء لحالة خاصَّة وهذه الحالة الخاصَّة أن يصلي الرجل فيأتي رجل يريد أن يقطع عليه صلاته، فأُمر بمدافعته، قال: «فَلْيَدْفَعْهُ»، أي: يدفعه دفعًا يسيرًا.
قال: «فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ»، المقاتلة ها هنا ليس المراد بها القتال بالسِّلاح، إني أقول: "قاتلتك" وأنا أكون قد عاركتك، فهذه تسمى: "مقاتلة"، ومما يدل عليه تفسير الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فإنَّ أبا سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- راوي هذا الحديث قد كان يصلي خلفَ مروان، فأراد رجل من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفعه أبو سعيد -رضي الله عنه-، فأراد أن يجتاز ولم يجد ممرًّا إلا بين يدي أبي سعيد، وهذا يؤكد لنا ما سبق وذكرناه أن الإنسان قد يفرغ أحيانًا من الصلاة باكرًا ثم يريد أن يتخطَّى المصلين؛ فنقول: لا تتخطاهم، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنالَ من أبي سعيد، ثم خرج فدخل على مروان فشكا إليه، فسأله مروان فأخبره أبو سعيد -رضي الله عنه- بذلك، وبيَّن أبو سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ قال: «فَلْيُقَاتِلْهُ. فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»، وفي بعض الروايات: «فإنَّ معهُ القَرِينَ»[9]، يعني: قرينه من الجن، ففيه دلالة على أنَّ للشيطان تسلُّط على إفساد الصلاة وعلى إنقاصها، فهو كما يفسد الصلاة بالوسوسة فإنه يفسدها أيضًا بحض بعض الناس وتأليبهم على قطع صلاة المصلين، فهذه من الأمور التي ينبغي أنَّ تُراعى، ولهذا نهى النبي ﷺ عن المرور، ومَن مرَّ بين يدي المصلين دلَّ ذلك على أنَّ معه شيطانٌ يؤزُّه ويدفعه، والأصل في الشيطان العجلة، فيقال: ما الذي يدفعك إلى العجلة؟! الأصل في ذلك التريث كما كان هدي النبي ﷺ وهدي أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ. مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ. وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ»)}.
هذا الحديث مما استدلَّ به بعض العلماء على معانٍ، منها:
المسألة الأولى: عدم وجوب السترة، قالوا: لأنَّ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ»)، وقد ذكرنا الجواب عن هذه المسألة في الأحاديث السابقة.
وبعض العلماء قال: إنَّ هذا لعله من خواص مكة، فإنَّ مكة تختص بأنها لا تجب لها سترة، وذكروا فيه حديث عبد الله بن السائب وفيه «يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ»[10].
فنقول: ليس في هذا دلالة على أنه ﷺ لم يكن قد وضع أيضًا عنزة نحو ذلك، قد يضع عنزة والناس يطوفون أيضًا بين يديه ﷺ، كما جاء في حديث أبي جحيفة، قال: «المرأة والحمار يمرون بين يديه»، مع أنه قال: «يصلي إلى عنزة»، يعني يمرون بين يديه من وراء هذه العنزة، فهذا المعنى مما ينبغي أن يُقرَّر. هذه مسألة.
المسألة الثانية: الخلاف في قطع الحمار للصلاة؛ لأنَّه قد ثبت عن النبي ﷺ كما في حديث أبي ذر الله -رضي الله عنه- أنه ﷺ قال: «يَقْطَعُ الصَّلاةَ المَرْأَةُ والْحِمارُ والْكَلْبُ، ويَقِي ذلكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ»[11]، وقد جاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها قالت: "بِئْسَما عَدَلْتُمُونا بالكَلْبِ والحِمارِ، لقَدْ رَأَيْتُنِي ورَسولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وأنا مُضْطَجِعَةٌ بيْنَهُ وبيْنَ القِبْلَةِ"[12]، كأنها تستدل على أنَّ هذا المعنى ليس مُسلَّمًا به.
ومن أجل ذلك فقد قال الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ: "ليس في قلبي من الكلب الأسود شيء - يريد أنه ما جاء استثناء له- ولكن في قلبي شيء من الحمار ومن المرأة".
فيقال -وهذا المعنى لابد أن يقرر: إنَّ المرأة لما قُرنَت إلى هاتين الدابتين ليس دلالة على سوءها؛ لأنَّ الإنسان قد يُقرَن إلى بعض الأمور فلا يدل على سوءه، الله -عَزَّ وَجَلَّ- ألم يقل في كتابه: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8]، ومن المتقرب عند العلماء -رحمهم الله- أنَّ الخيل مما تحمد، فلم يكن في ذلك ذمًّا لها لَمَّا قُرنت بالبغال وبالحمير، ولو أنَّك قلت لرجل: أنت فرس أو فارس أو أنَّك مثل الخيل؛ ما كان ذلك ذمًّا له، ولكان ذلك من المدح له، وهذا مما جرت عليه العرب؛ لأنَّهم يمدحون البهائم، ألم يقل:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُددِ ... وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
قد يمدح أحيانًا الإنسان بمثل هذه البهائم، فلما ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- المرأة والحمار والكلب الأسود لم يكن قَرْن المرأة بهاتين الدابتين ذمًّا لها، ولكن لأجل تسلط الشيطان على مثل هذه الأجناس الثلاثة، المرأة ليس تسلُّطًا على ذاتها، وإنما تسلُّطًا على الرجل بالمرأة، أو لم يقل النبي ﷺ: «إنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ في صُورَةِ شيطَانٍ، وَتُدْبِرُ في صُورَةِ شيطَانٍ»[13]، فهذا ليس ذمًّا للمرأة البتة؛ لأنَّه ما يُعاب على المرأة، ولو أنَّ أحدًا قال للمرأة: أنت شيطان؛ لعُزِّرَ. ولو قال ذلك ربما اتُّهم بفسقه وضلاله؛ لأنَّه يتهم حتى أمهات المؤمنين؛ لأنَّ الأصل في المرأة أنَّ تكون لفظ عام، "أل" الاستغراقية، لكن للشَّيطان تلبُّس بها، يتلبَّس بها حتى يزيِّنها للرجل في عينه، ألم يقل النبي ﷺ: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ»[14]، فالشيطان يتلبَّس بهذه المرأة فيزينها للرجل، حتى تكون بأبهى حُلَّة، مع أنه ربما إذا تملكها التَّملُّك الشرعي -أعني أنه تزوجها- ما لم تصبح في عينه بمثل ما كانت في عينه قبل ذلك، وهذا بسبب تسلط الشيطان، الشيطان يُزيِّن، ألم يقل الشيطان -لعنه الله: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 118، 119]، فهذه كلها من عوامل الشيطان، فالشيطان له تسلط عظيم على الإنسان، فقد يزين له شيء حتى يكون في عينه أحسن من كل شيء، ألم يقل عمر بن أبي ربيعة:
وكَمْ مَالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءِ غَيْرِهِ ... إذَا رَاحَ نحوَ الْجَمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
يملأ الإنسان عينه من شيء ما يحصل له، وربما كان معه أحسن منه، لكن من هذا من تزيين الشيطان له، وهذا المعنى ينبغي أن يُصحب للإنسان الذي يجد في قلبه من النظر المحرم، يُقال له: أحد علاج النظر المحرم أنَّ تعلم أنَّ هذا كله من تزيين الشيطان، وأنك لو قدرت عليه لَما كان أعظم عندك من الذي عندك -أعني من المرأة التي عندك التي بين يديك التي قد أحلها الله عَزَّ وَجَلَّ لك-، لأنَّ الشيطان يعلم أنَّ أعظم لإغواءِ الرجل وإفسادهِ وحَرفهِ عن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- هي المرأة، ليس لشرٍّ في المرأة، ولكن لما ذكرنا لأنَّها فتنة، الله لم يقل الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: 20]، فهذه من الفتنة، فهذا المعنى هو الذي قلناه، وهو أنَّ شيطان تلبُّس بالمرأة، ولا يعني ذلك البتة ذمُّها ولا الوقيعة فيها ولا التَّنقيص من قدرها، وإنما يعني ذلك أنه بلاء للرجل، وإلا فالمرأة قد تكون معتصمة بحبل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقد تكون تقيَّة ونقية وامرأة فاضلة ما يعيبها شيء.
ثم ذكر الحمار، وقد ذكر النبي ﷺ الأمر بالاستعاذة من الحمار إذا نَهق، فإنه رأى شيطانًا، فدلَّ ذلك على تلبُّس الشياطين بالحمير.
ثم ذكر النبي ﷺ الكلب الأسود، ودلَّ ذلك على أنَّ الكلب الأسود كثيرًا ما تتلبس به الشياطين. فجعل النبي ﷺ هذه الثلاثة أشياء هي التي تقطع الصلاة.
ذكر مصنف هذا الحديث وهو حديث الحمار، كأنما يريد بذلك أن يقرِّر مسألة هل الحمار يقطع الصلاة أو لا؟ وهل حديث ابن عباس المتأخر ناسخٌ لحديث أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحديث صالح بن عبيد الله وغيره أو أنه ليس كذلك؟ لأنَّ حديث ابن عباس إنما كان في حَجَّة الوداع في السنة العاشرة من هجرة النبي ﷺ، فهل يكون ناسخًا؟
الصحيح في ذلك -والله أعلم: أنه غير ناسخ؛ لأنَّه ليس نصًّا صريحًا في ذلك، أعني أنه حديث فعلي تَرِد عليه احتمالات كثيرة، قال: «مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ. وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ».
- قد يقال: إنه لم ينكر ذلك عليه؛ لأنَّ النبي ﷺ كان يُصلي إلى سترة.
- قد يقال إنه لم ينكر عليه؛ لأنَّه كان صبيًّا، وكانوا يعلمون قربه من النبي ﷺ فما أنكروا ذلك عليه.
هذه كلها احتمالات واردة لا تجعلنا ننحرف عن النَّص القولي الذي جاء من النبي ﷺ في ذلك.
فإذًا يقال في تلخيص هذه المسألة وتلخيص قطع الصلاة: إنَّ الإنسان إذا كان يصلي إلى سترة فمرَّ بين يديه المرأة أو الحمار أو الكلب الأسود؛ فإنَّ صلاته تقطع ويعيدها، قطع الصلاة يعني: إعادتها، وإذا مرَّ بين يديه رجل أو غير ذلك، فإنَّ الصلاة لا تقطع وإنما يُنتَقَص من قدرها، كأنما هوا لتفاتٌ، أولم يقل النبي ﷺ لعائشة -رضي الله عنها- لَمَّا سألته عن الالتفات: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِن صَلَاةِ العَبْدِ»، فهذا مشابه له، فكأنما هو اختلاس اختلسه الشيطان من صلاة العبد بإدخال شخص آخر عليه حتى يقطع عليه صلاته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ. فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ»)}.
هذا حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وهو مقرِّر لَمَّا سبق وذكرناه، وقد قالَ الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- كما سبقَ: "أمَّا الكلب الأسود فليس في قلبي منه شيء؛ لأنَّه ما جاء فيه استثناء، وأمَّا المرأة والحمار ففيه"، من استثناءات المرأة: قول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ. فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا. وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ»، وهذا من عائشة احتجاج على من قال إن الصلاة تُقطَع بمرور المرأة والكلب الأسود، كانت تقول: "بِئْسَما عَدَلْتُمُونا بالكَلْبِ والحِمارِ لقَدْ رَأَيْتُنِي ورَسولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وأنا مُضْطَجِعَةٌ بيْنَهُ وبيْنَ القِبْلَةِ".
لكن قال العلماء -رحمهم الله: إنَّ هذا ليس مرورًا وإنما هو اعتراض، والاعتراض لا يسمى مرورًا، فيجوز لك أنَّ تصلي بمثل هذه الحالة.
وقالوا مما يدل عليه: أنه يجوز لك أنَّ تصلي إلى الرجل المضطجع، وتصلي إلى ظَهرِ الرجل، ولا يعدُّ ذلك عندهم مرورًا، فإذًا هذا المعنى مما يُجمع فيه بين الأحاديث، فإذا جُمع بينها اتَّسقت هذه الأحاديث ولم يكن بينها تعارض، والله تبارك وتعالى أعلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابٌ جَامِعٌ.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ألَّف هذا الكتاب على الاختصار، وعَلِم أنه إن أفرَدَ كلَّ شيء منها فإنه ربما سيضطر إلى إفراد كل مسألة بباب، فجمعها في هذا الباب الجامع، وإلا فإن غيره من المصنفين كالبخاري وأبي داوود والترمذي يبوِّبون على هذه المسائل كلها أو على هذه الأحاديث عن رسول الله ﷺ كلها؛ لأنَّها كلها أصول في بابها، فذكرَ تحيةَ المسجد، وتحية المسجد التي هي فاتحة المسجد، وهما الركعتان التي يصليهما المرء إذا دخلَ المسجد، وأصل هذا الباب هو حديث أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»، وهذا الأمر من النبي ﷺ ظاهره الوجوب.
ومما يقرر هذا المعنى: أنَّ النبي ﷺ قد أنكرَ على سليك الغطفاني لما دخل في الجمعة -مع أنَّ الإنصات لها واجب- فجلس، فأمره النبي ﷺ أن يقوم فيركع ركعتين، فذهب جماعة من العلماء -رحمهم الله- إلى وجوب تحية المسجد، وهما من الصلوات غير المقصودة بذاتها، يعني أنها لا تُقصد لأصل أنَّ تكون ركعتا مسجد، وإنما المقصد أنَّ لا يكون شيء من الأعمال يُعمل في المسجد قبل الصلاة، فبناءً عليه لو أنَّ الإنسان صلاهما بنية أنَّ تكون السُّنة القبلية لصلاة الفجر فيجوز ذلك، فتكون سنة قبلية لصلاة الفجر مع كونها تحية مسجد، ولو أنَّ الإنسان دخلَ وقد أُقيمت الصلاة فما تجب عليه عند العلماء تحيَّة المسجد، هذا مما يقرِّر بالإجماع أنهما ليستا مقصودتا بذاتهما، بل نقول له مباشرة: ادخل مع الإمام في صلاته، فإذا دخلتَ معه فقد أتيتَ بتحية المسجد؛ لأنَّه ليس شيء من الصلوات الخمس أقل من ركعتين.
قال ها هنا: «فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»، وما اعترض به بعض العلماء من القول بأنهما ليستا بواجبتين هو حديث طلحة بن عبيد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الخمس لَمَّا قال له: «هلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قالَ: لَ»[15]، فيقال: إنَّ الأصل في هذه الخمس أنها هي الخمس التي تجب بغير سبب، أعني تجب وجوبًا متكررًا، فأمَّا ركعتا المسجد فإنهما إنما وجبت لأجل؛ لأنَّهما قرنتا بسبب، كما يقال مثلا في صلاة الكسوف عند مَن قال بوجوبها أو صلاة العيد عند مَن قال بوجوبها أو بصلاة الوتر عند مَن قال بوجوبها؛ هذه كلها عندهم إنما تجب بأسباب، فإذًا هذا حقيقة مما يقرِّر أنَّ الأصل في ركعتي المسجد أنه لا ينبغي تركهما البتة، لكن أنَّ دخل الإنسان في وقت النهي، فهل يصليهما أم لا؟ قد ذكرنا أنه إن دخل في وقت النهي الموسَّع يشرع له أن يصليهما، فإن دخل في الوقت المضيق وهما وقتان: من تضيُّف الشمس للغروب إلى غروبها وهذا قبل غروب الشمس بعشر دقائق، ومن طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح وهذا بعد طلوع الشمس أو عند طلوعها إلى عشر دقائق؛ نقول: هذا الوقت لا يشرع للإنسان فيه أن يدخل المسجد، وإن دخلَ فالأفضل له أن يقف، تقف وتدعو بما شئت لكن ما تجلس، هذا كله مما يؤكِّد أنَّ تحية المسجد من أعظم السنن المؤكدة عند جماهير العلماء -رحمهم الله- وقد قال بعضهم بوجوبها، والقول بوجوبها قول قوي كما قررناه قبل قليل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ»)}.
هذه أيضًا من المسائل العظيمة المحكمة في الصلاة، وهو الأمر بالسكوت فيها، والأمر بالسكوت في الصلاة هو الأصل المقرر عند العلماء -رحمهم الله- بالاتفاق، فإنهم مجمعون على أنَّ الكلام مما يبطل الصلاة، حتى أنهم قد اختلفوا في حكم الكلام إذا كان لمصلحة الصلاة، هل يبطلها أو لا؟
فجماعة منهم على أنه يبطلها، بل اختلفوا في أكثر من ذلك، قالوا: القهقهة هل تبطل الصلاة أو لا؟ مع أنها ليست كلامًا عرفًا، لكن عند جماعة من العلماء أنها تبطل الصلاة، كذلك النحنحة قال بعض العلماء بإبطال الصلاة فيها، فسياقنا لهذه المسائل يقرر أنَّ الأصل في الصلاة هو عدم كلام الناس، ولهذا لَمَّا قال معاوية السلمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للرجل: "يرحمك الله" مع أنه دعاء لكن لَمَّا كان بلفظ الخطاب كان كلامًا، فدعاه النبي ﷺ فقال: «إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ»[16]، يعني من خطابهم، قال: «إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ»؛ فدل ذلك على تقرير هذا المعنى، وهو أنَّ الصلاة لا يجوز فيها الكلام.
تبقى مسألة أخرى، وهي أنَّ الإنسان أحيانًا قد يحتاج إلى نوعٍ من النحنحة أو نوع من التنبيه مما لا يكون كلامًا، يتنحنح أو ربما سبَّح أو نحو ذلك؛ فنقول: لا بأس به، أمَّا التسبيح فقد جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ وإنما يكون في تنبيه الإمام، وقد يُستعمل في غيره، وأمَّا النحنحة فقد جاءت في حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لكنها لا تثبت، وهو: «كانَ لي مِن رسولِ اللَّهِ ﷺ مَدخلانِ: مَدخلٌ باللَّيلِ، ومَدخلٌ بالنَّهارِ فَكُنتُ إذا أتيتُهُ وهو يُصلِّي تَنحنَحَ لي»[17]، نقول: هذا الحديث حديث لا يثبت ولا يصح للنبي ﷺ، لكن قد يقال بجوازها للحاجة.
ويبقى كلام الناس في الصلاة بآيات القرآن، كما نُقل مثلا عن الدارقطني وغيره، أنه يقرأ عليه القارئ فربما أتى إلى قول: "بسر" وهو يريد "نسر" فينبهه الإمام بقوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ يعني: أنها نون.
نقول: هذه وإن قيل بجوازها فالأولى تركها، إذا لم يكن ثَم حاجة لها؛ لأنَّها نوع أيضًا من المخاطبة، نعم ليس هو كلامًا للناس، لكنه أيضًا موجَّه للناس حتى يتخذ فعلًا مبنيًّا على هذا الكلام.
إذًا؛ إذا لم يكن ثَم حاجة فإنه ينبغي تركه.
وجماعة من العلماء يرون تحريمه في الصلاة، نقل ذلك عن الحنفية وغيرهم، وعن المالكية أيضًا وغيرهم.
قال: «حَتَّى نَزَلَتْ ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ» القنوت: هو دوام العبادة لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فقوله: ﴿كل له قانتون﴾ يعني مطيعون وخاضعون، فإذًا من معاني القنوت في الصلاة: عدم الكلام، وهذا أيضًا من الأمور التي تقرِّر أنَّ الأصل بوجه عام في الإنسان أنَّه كلما قلَّ كلامه كلَّما زادَ قنوته لله تبارك وتعالى، الكلام إذا لم يكن كلامًا في الخير فإنَّه يكون كلامًا من اللغو، ولا يكاد الإنسان يسلم من السَّقط الذي يحصل عليه، ولهذا كان أكثر الناس إخباتًا لله -عزَّ وجل- أقلهم كلامًا، فالكلام دائمًا ما يستجر الأخطاء والزَّلات ويستجر الغيبة والنميمة، وفضول الكلام الذي إن لم يُحاسَب الإنسان عليها لم يُؤجر عليها. فإذًا هذا المعنى مما ينبغي أن يُقرَّر ويُلتفت إليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»)}.
هذا هو حديث أبو هريرة -رضي الله عنه- وعبد الله بن عمر- وقد جاء أيضًا عن غيرما واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- كأبي سعيد الخدري وغيره، قال عن رسول الله ﷺ: «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».
ينبغي أن ننبه أنَّ الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- لم يخرِّج حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإنما خرَّجه الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ-، والمتفق عليه إنما هو حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث عند العلماء -رحمهم الله- محمول على صلاة الظهر، فإنه يُشرع فيها الإبراد في شدة الحرب، وهذه المشروعية على الصحيح من أقوال أهل العلم مشروعيةٌ مطلقةٌ، أعني أنها تشرع سواء كان في سفرٍ أو كان في حضرٍ؛ لأنَّ بعضَ العلماء كالإمام الشَّافعي -رَحِمَهُ اللهُ- قال إنما تُشرع في السفر، فأمَّا في الحضر إذا كان يخرج إلى المسجد عن طريق ساباط -وهي المظلة ونحوها- فإنه لا يشرع فيها الإبراد.
ونقول: لا، الأصل أنه يشرع فيها الإبراد؛ لأنَّ الإبراد ليس لذات الحرِّ، يعني ليس للحر الذي يجده الإنسان وإنما لما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ، فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»[18]، فهي أيضًا من تنفس جهنم، ومن المعلوم أنَّ الإنسان يحب أن يستعيذ من جهنم بما استطاع ويتباعد عنها بما استطاع، ولهذا ثبت في حديث مهاجر عن زيد بن وهب عن أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كُنَّا مع النبيِّ ﷺ في سَفَرٍ، فأرادَ المُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فقالَ النبيُّ ﷺ: «أبْرِدْ». ثُمَّ أرادَ أنْ يُؤَذِّنَ، فقالَ له: «أبْرِدْ». حتَّى رَأَيْنا فَيْءَ التُّلُولِ، فقالَ النبيُّ ﷺ: «إنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فإذا اشْتَدَّ الحَرُّ فأبْرِدُوا بالصَّلاةِ»[19]، مع أنهم مجتمعون وما كان يشق عليهم أنهم يصلون، لكن مع ذلك فإن النبي ﷺ أمرهم بالإبراد، فدلَّ ذلك على مشروعية الإبراد بوجه عام في صلاة الظهر.
ويقال هذه السنة عن النبي ﷺ في شدة الحرِّ، إذا كان أشهر القَيْظِ يشرع للإنسان أن يصلي.
لكن يبقى سؤال، وهو يقال: لو أنَّ الجماعة تُصلى في وقت واحد -كما هو الحال في مساجدنا- فكان الإنسان بين خيارين: بين خيار الإبراد وبين خيار الصلاة مع الجماعة، فهل يؤخر صلاة الجماعة من أجل أن يبرد؟
نقول له: إن كان له أن يصلي جماعة في المسجد مبردًا حتى لو جماعة ثانية أو ثالثة فيشرع له ذلك؛ ونقول للإمام: أنت بفعلك قد خلفت السنة عن النبي ﷺ بالأمر بالإبراد، وإن كان ما يستطيع أو لا يتمكَّن من ذلك فنقول: بل حضور جماعة وشهودها أولى من الإبراد، ويُعمل في هذا بمذهب الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- الذي كان يرى أنَّ الإبراد لا يشرع للإنسان في السَّاباط وفي المساجد المعمورة، فيقول: ما هناك حاجة للإبراد، فإذا دُعي إلى الصلاة فليُجب الإنسان لها.
لعلنا أن نتوقف هنا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
{جزاكم الله خير فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أيُّهَا الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] صحيح مسلم (571).
[2] صحيح مسلم (572).
[3] صحيح مسلم (271).
[4] صحيح مسلم (503).
[5] أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505).
[6] مسند أحمد (8/163)، وأصله في البخاري (506).
[7] أخرجه أبو داود (698)، وابن ماجه (954).
[8] صحيح البخاري (76).
[9] صحيح مسلم (506).
[10] أخرجه أبو داود (2016)، وأحمد (27243).
[11] صحيح مسلم (511).
[12] صحيح البخاري (519).
[13] صحيح مسلم (1403).
[14] أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740).
[15] صحيح البخاري (46).
[16] صحيح مسلم (537).
[17] أخرجه النسائي (1212)، وابن ماجه (3708) باختلاف يسير، وأحمد (608) مطولاً.
[18] صحيح البخاري (3260).
[19] صحيح البخاري (539).