الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

64640 18
الدرس الرابع

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام، في برنامج (جادة المتعلم)، يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، والكتاب المقروء فيه هو كتاب "عمدة الأحكام" للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ونرحب باسمي وباسمكم بفضيلة الشيخ حياك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات}.
حياكم الله وبارك فيكم.
{كنَّا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند (باب السواك) نستأذنكم يا شيخ في بداية القراءة، قال الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا ذكر أحكام الوضوء وذكر أيضًا جملة من أحكام الخلاء عقَّبها بالسواك، والسواك سُنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله ﷺ، بل هو أحد السنن المؤكدة عن النبي ﷺ، حتى أنَّ النبي ﷺ قال لأصحابه في إشارة إلى تأكيده: «أكْثَرْتُ عليكم في السِّوَاك»[1]، ولو قيل: إنَّ السواك مُتواتر عن رسول الله ﷺ لكان هذا معنى صحيحًا، فإنه قد جاء عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة.
والسواك بوجه عام مأخوذ من التَّساوك، والتَّساوك هو التمايل، يقولون: "أقبلت الإبل تساوكُ هزالا"، يعني تتمايلُ من الهزل ومن التعب، وإذا كان كذلك فإنما سمي السواك سواكًا؛ لأنه يتمايل على الأسنان.
والسواك بوجه عام يقع بكل عودٍ منقٍ، سواء كان هذا العود عود أراك أو غيره، والمحفوظ عن النبي ﷺ أنه قد ذكر الأراك في شيء من سنته، فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ»[2]، لكن أغلب من يذكر السِّواك عن النبي ﷺ لا يُقيده بالأراك، وإنما يذكر السواك مُطلقًا، فيكون كل عود منقٍ للأسنان سواء كان أراكًا أو بشامًا أو زيتونًا أو غيرها، هذه كلها بل حتى فرشاة الأسنان، لو أنَّ إنسانًا تعذر عليه أن يجد السواك وشقَّ عليه أن يضيع سنة النبي ﷺ في الأمر بالسواك سواء كان عند الوضوء أو عند الصلاة، فحمَل معه فرشاة أسنان وتسوَّك بها، قلنا: تقع مجزئة؛ لأنه يحصل بها النظافة والإنقاء.
فإذًا معنى السواك: كل عود مُنقٍ يستعمل لإنقاء الفم أو الأسنان فإنه يسمى سواكًا بوجه عام.
وهو مسنون في كل الأحوال للصائم ولغير الصائم، ولهذا قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ: "باب مشروعية السواك للصائم بعد الزوال"، يعني: قبل الزوال وبعد الزوال كلها مما تشرع، فإذا كان الصائم الذي قد يقال في حقه: إنه لا يشرع في حقه السواك من جهة أنه قد يسقط من السواك شيء من الآثار وقد يبتلعها الصائم، ومع ذلك فإن النبي ﷺ رغب الصائم في السواك، فإن مَن سواه من باب أولى، وقد كان ﷺ يستاك في أحوال كثيرة، وهو مما يدل على أنَّ الإسلام يُراعي مكارم الأخلاق، ويُراعي النظافة في أعلى منازلها، ولهذا جُعلت اليمين لكل المحاسن، وجعل اليسار للأمور المستكرهة، وأمر بالاستطابة من الخلاء، وأمر بتطييب كل أعضاء الجسد، فليس شيء من أعضاء الجسد إلا وجاء الشرع بتطييبه والمحافظة على نظافته، وسنَّ النبي ﷺ سنة فيه، فالرأس جاء فيه الترجيل وجاء في المسح، وكذلك اللحية والشارب، ومنها الفم الذي هو من آكد أعضاء الجسد التي ينبغي أن تُطهر؛ لأنه موطن ذكر الله عز وجل، ومن أجل ذلك فإن النبي ﷺ كان يستاك كثيرًا، حتى جاء عنه أنه قال: «لقد خشيت أن أحفي مقادمي»، وهي مقدم الأسنان؛ لأن النبي كان يناجي جبريل -عليه السلام- ويناجي ربه، وكان ﷺ يناجي الناس، وكان يثقل ويشق عليه أن يجد الناس منه الريح -بأبي هو وأمي-، ولَمَّا قلنَ له زوجاته: نجد منك ريح المغافير؛ شق عليه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ومن أجل ذلك فإنه ﷺ وهو الطاهر المطهر الطيب المطيب كان يستعمل السواك على أحوال كثيرة، فيستعمله إذا استيقظ من نومه؛ لأنه مظنة تغيُّر الفم، ويستعمله ﷺ في وضوئه، وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: «لَوْلا أنْ أَشُقِّ على أُمَّتِي لَأَمَرْتُهم بالسِّواكِ مع كلِّ وُضُوء»[3]، ولكن لفظه لم يذكر عند الإمام البخاري ومسلم، ولهذا ما ذكره المصنف، وإنما لفظ «صَلَاة»، ولفظ «الوُضُوء» محفوظة رواها أصحاب السنن، فأمر به النبي ﷺ عند الوضوء، وأمر به عند الصلاة.
قال المصنف: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ»، ذكر -رحمه الله- سنة من آكد السنن القبلية للصلاة، كما أنَّ الوضوء واجب للصلاة وتثليث الوضوء من سنن الوضوء وهو أيضًا من مُقدمات سنن الصلاة، ومما يُعين على الصلاة وعلى حُسنها، فإنَّ الإنسان كلما أحسن مقدمات الصلاة حسُنت صلاته، وكثير من الناس يقول: أعاني من عدم الخشوع في الصلاة، يقال له: إنك ما أحسنت استقبال الصلاة، تمامًا كالضيف الذي يَقدم عليك بغتة، أو نسيت موعده فما شعرت بجزء إلا وقد فتح عليك الباب، فالأعم الأغلب ستضيفه على حال سيئة، ما تهيأت ولا تجهزت! فكذلك شأن الصلاة، إذا أتيت إلى الصلاة تتعامل معها، وقت الإقامة يأتي الإنسان فيتوضأ وضوءًا سريعًا ثم يخرج عجلًا إلى الصلاة؛ فإنَّ هذا مما ينقص من الخشوع في الصلاة، ولهذا النبي ﷺ ندب إلى منازل قبل الصلاة، حتى إذا أتى الإنسان إلى الصلاة جاءها بأكمل وجه، فندب ﷺ إلى إحسان الوضوء وإلى تثليثه وإكماله وهو من أعظم ما يُعين على الخشوع في الصلاة، وندب ﷺ إلى المشي، «إذا أقيمَتِ الصَّلاةُ، فلا تَأتوها وأنتُمْ تَسعونَ، ولَكِن ائتوها وأنتُمْ تمشونَ، وعليكُمُ السَّكينةَ فما أدرَكْتُمْ فصلُّوا، وما فاتَكُم فأتمُّو»[4]، أمر بالمشي، الذي هو مشي السكينة والوقار، وأمر ﷺ أيضًا بالسواك لها، ومن تسوك في الصلاة رأى الفتح عليه في الدعاء؛ لأنه مظنة ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُحب من عبده أن يُحسن استقباله، فإذا استاكَ العبد للصلاة علم الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ هذا العبد يحب مُناجاته، فوفقه سبحانه وبحمده لحسن مُناجاته، وفتح عليه من الدعاء، وفتح عليه من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والصلاة إنما أصلها ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلأجل ذلك كان السواك من سنن النبي ﷺ التي لا يكاد يتركها البتة.
قد جاء عن النبي ﷺ لكن ما يصح أنه ﷺ قال: «صلاةٌ بسِواكٍ أفضلُ مِن سبعينَ صلاةً بغَيرِ سِواكٍ»[5]، لكن هذا ما يصح، لكن المعنى الصَّحيح المتقرَّر أنَّ النَّبي ﷺ لم يكن يترك السواك في صلاته البتة.
فإن قال قائل: من أين؟
قلنا: إنه ﷺ لَمَّا قام إلى صلاة الليل استاك، مع أنَّ الليل مظنة نسيان، لكن حذيفة يقول: "كان النبي ﷺ إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"، قد روى الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- من حديث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده في صفة شهود ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صلاة النبي ﷺ في الليل وفيها أنَّ النبي ﷺ ثلاث مرات: "ينام ثم يستيقظ فيستاك، ثم يُصلي ثم ينام ثم يستيقظ ويستاك ويتوضأ ثم يصلي"، فدلَّ ذلك على أنَّ النبي ﷺ لم يكن يترك هذه السنة البتة في صلاته.
ولهذا فإنَّ أحد رواة هذا الحديث وهو زيد بن خالد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، رواه عند أصحاب السنن، وقد سأل الإمام أبو عيسى الترمذي -رَحِمَهُ اللهُ- الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- عن الترجيح بين حديث أبي هريرة أو حديث زيد بن خالد؛ لأنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن الذي هو يرويه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد روى هذا الحديث مرة عن أبي هريرة ومرة عن زيد، فقال الإمام الترمذي للبخاري: أيُّهما أصح عندك؟ قال كلاهما، قال: وكان زيد بن خالد يضع سواكه منه موضع القلم من أذن الكاتب.
في الزمن السابق الكاتب الذي يكون عند الأمير أو الوزير، ما كان عندهم جيوب، فيضع القلم على أذنه حتى إذا احتاج شيئًا أخذه فكتب به، فكان زيد بن خالد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يضعه منه موضع القلم من الكاتب، لما عهده من النبي ﷺ من محافظته على هذه السنة.
فإذًا هذه من السنن التي ينبغي أن لا يُغفل عنها، سُنَّة السواك قبل الصلاة.
قال: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ»، هذا من النبي ﷺ إشارة إلى أنه ﷺ إنما ترك الأمر بالسواك حتى لا يشق على أمته، وبناء عليه فالمؤمن يقول: هذا لا يشق علي يا رسول الله، وهذا أمر يسير، وأمر ممَّا يُتعبد به لله -عَزَّ وَجَلَّ-، فينبغي إلا يغفل عنه البتة، وأن تكون هذه من السنن التي تصاحب الإنسان في وضوئه وفي صلاته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»)}.
حديث حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو الحديث الذي أشرنا إليه قبل قليل لَمَّا كنا نتكلم عن حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفيه أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»، الشوص: هو غسل الأسنان بالمسواك، فحق الأسنان من السواك أن تغسل، فالأصل أن تغسل الأسنان، كما كان النبي ﷺ يصنع ذلك، يشوص فاه بالسواك.
وقوله: «يَشُوصُ فَاهُ» يشمل الأسنان ويشمل أيضًا اللسان؛ لأنَّ الفم يشمل الأسنان ويشمل اللسان ويشمل أيضًا ما قاربها من اللثة، فإذًا يُستدل بهذا الحديث على عموم استعمال السواك في هذه المواضع كلها، وقد ورد في صحيح الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري وسيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَسْتَاكُ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ، قَالَ: وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أُعْ، أُعْ، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ، كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ»، إشارة منه إلى أنَّ النبي ﷺ قد كان يستخدم السواك حتى في تنظيف اللسان،؛ لأنَّ العلماء يقولون ربما كان السان أحوج إلى التنظيف من الأسنان، فإنَّ اللسان قد تعلق به من بقايا الأطعمة ما لا يعلق أحيانًا بالأسنان، فإذًا هو أيضًا بحاجة إلى أن ينظف كما ينظف الأسنان.
وكان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك؛ لأنه مظنة تغير رائحة الفم، ولأجل ذلك تجد أن الحنابلة -رحمهم الله- يقولون: "يُسن السواك عند وضوء وصلاة وانتباه وتغير فم"، يعني: انتباه من النوم.
وقولهم "تغير فم" جاء من المعنى، أنَّا رأينا النبي ﷺ استاك لما قام الليل لأن الفم يتغير عند القيام من الليل، فإذًا دلَّ ذلك على مشروعية استخدام السواك عند تغير الفم.
وقالوا: من مواطن تغير الفم إطالة السكوت، لو أن الإنسان سكت سكوتًا طويلًا يتغير، أو إطالة الكلام، لو تكلم كلامًا كثيرًا فإنه يتغير، فهذه من التي يشرع فيها السواك، وهذا أيضًا مما يدل على ما قررناه قبل قليل وهو أنه لم يعرف عن النبي ﷺ أنه كان يصلي بغير أن يستاك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَصَرَهُ. فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضَمْتُهُ، فَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَفَعَ يَدَهُ - أَوْ إصْبَعَهُ - ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى - ثَلاثًا - ثُمَّ قَضَى. وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي». وَفِي لَفْظٍ «فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَعَرَفْتُ: أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ)}.
هذا الحديث أيضًا من الأحاديث التي ذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- مع أنَّ هذا الحديث ليس من الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ولكن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أراد بذلك أن يُبين محبة النبي ﷺ للسواك، وأنه من سنته ﷺ المؤكَّدة، وأنَّ النبي ﷺ لم يترك السواك حتى وهو في مرض موته، ثم ذكر فيه هذه القصة وهو أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دخل على النبي ﷺ والنبي ﷺ في آخر أيام حياته قبل وفاته ﷺ بأيام يسيرة قالت: (وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إلَى صَدْرِي)، يعني: قد وضعت النبي ﷺ في حجرها وأسندت رأسه إلى صدرها -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قالت: (وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ)، قالوا: هذا مما يدل على مشروعية السواك الرطب، وأنَّ السواك الرطب مقدمًا على السواك اليابس، ولهذا لَمَّا رآه النبي ﷺ أبصره، يعني: أمد إليه بصره، ﷺ لمحبته له.
قالت الرواية الأخرى: (فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَعَرَفْتُ: أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ)، المرأة اللبيبة العاقلة تعرف ما يريده زوجها حتى لو لم ينطق به، وقد كانت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رأس اللبيبات، فلمَّا رأت النبي ﷺ ينظر إلى عبد الرحمن علمت مقصده ﷺ، مع أنه كان في حال النزع ﷺ وفي حال الكرب الشديد، فقالت -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضَمْتُهُ، فَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه دلالة على مشروعية استعمال السواك من أكثر من رجل، ومما يدل عليه أنَّ النبي ﷺ قال: «أَرانِي في المَنامِ أتَسَوَّكُ بسِواكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَناوَلْتُ السِّواكَ الأصْغَرَ منهما، فقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكْبَرِ»[6]، فدلَّ ذلك على جواز أن يستخدم السواك.
فإن قال قائل: فالنبي ﷺ لم يستخدم سواك عبد الرحمن إلا بعد أن قضمته عائشة؟
قلنا: لكنها قضمته ثم طيبته، يعني أزالت اللحاء، ثم عركته بأسنانها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حتى لانَ، ثم دفعته إلى رسول الله ﷺ ولهذا قالت في الحديث الآخر: «مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي»[7]، وفي رواية: «فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ»[8]، لأنها وضعت السواك وطيبته للنبي ﷺ ولا زال ريقها فيه، ثم دفعته إلى النبي ﷺ، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يأخذ السواك من بعض الناس الذين لا يتكرَّههم، يعني على سبيل المثال: الأب يأخذ من ابنه، أو الزميل يأخذ من زميله أو الزوجة تأخذ من زوجها سواك وتستخدمه، ما فيه بأس، وقد كان جرير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يدفع سواكه إلى بعض أهله فيستنوا به، وفعل النبي ﷺ مقدَّم، فإنه ﷺ استنَّ بهذا السواك بعد عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
قالت: (فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضَمْتُهُ، فَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا أَحْسَنَ مِنْهُ)، يعني حركه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قالت: «مَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَفَعَ يَدَهُ -أَوْ إصْبَعَهُ- ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى - ثَلاثًا - ثُمَّ قَضَى. وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي».
هذا الأثر عن النبي ﷺ دلالة على أنَّ مِن مواطن مشروعية السِّواك: القدوم على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يحسن لنا الختام، فالنبي ﷺ لما أراد أن يَقدم على ربه -عَزَّ وَجَلَّ- جعل آخر ما يقدم عليه ﷺ أن استاك. ثم قال: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى»، فإذا كان هذا في القدوم على الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حال الكرب والغم فلأن يكون في مناجاة الله والقدوم عليه في بيته في حال السعة من باب أولى، وهذا هو مراد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لما أورد هذا الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَسْتَاكُ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ، قَالَ: وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أُعْ، أُعْ، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ، كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ»)}.
هذا حديث أبي موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أشرنا إليه قبل قليل، وهو أن النبي ﷺ قد كان يستاك بسواك -في بعض الروايات- رطب، هذا فيه مشروعية الاستياك بالسواك الرطب وأنه مقدم على السواك اليابس.
قال: «وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أُعْ، أُعْ، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ، كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ»، يتهوع، أي: يستفرغ أو يريد أن يتقيأ.
وفي هذا ما ذكرناه من أن السواك لا يشرع في الأسنان فحسب بل يشرع في الفم بعامة ومنه اللسان، فيشرع أن ينظف اللسان بالسواك، ويشرع أن ينظف الفم بالسواك، وفي هذا أيضًا دلالة على أن فرشاة الأسنان مما يغفل عنه كثير من الناس فيما يتعلق باستصحاب النية فيها، لما ذكرنا في حديث الأعمال بالنيات أن هناك عادات يفعلها بعض الناس قد تصبح عبادات بالنية، منها فرشاة الأسنان، فإن كثير من الناس يستخدم هذه الفرشاة بنية النظافة، لكنه ما يستصحب فيها النية الصالحة، وهو أن تكون من السواك، لأننا ذكرنا أنها تقوم مقام السواك أو أنها مما تسمى سواكًا، حتى لو كانت تسمى فرشاة أسنان، فإذًا هذا مما تستصحب فيه النية، ومما ينبغي أن تكون شاملة للأسنان وللفم وللسان واللثة ونحو ذلك، فإن هذا كله من هدي النبي ﷺ ففي حديث حذيفة: «يشوص فاه»، وفيه حديث بموسى: «وطَرَفُ السِّوَاك على لسانه، وهو يقول: أُعْ، أُعْ، والسِّوَاك في فِيه، كأنَّه يَتَهَوَّع».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة -رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَ»)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر هذا الباب الجليل وهو باب "المسح على الخفين" وهذا الباب من تيسيرات الشريعة، وهو مما يدل على أنَّ الأصل في القدمين الغسل خلافًا لمن قال: إنَّ الأصل المسح؛ لأنَّه إذا كان الأصل فيهما المسح فما الحاجة إلى المسح على الخفين؟ ما كان ثم رخصة!
فالأصل بوجه عام في القدمين هما الغسل، لكن الشرع قد جاء بالتيسير فيما إذا كان شيء يغطي القدم.
وما يغطي القدم بوجه عام على قسمين:
- الخفاف.
- والجوارب.
ويدخل في الخفاف: النعال إذا كانت سابغة، وأقصد بالسابغة: التي إلى الكعبين.
والخفاف: كل ما كان يغطي القدم من الجلد، ويشمل القدمُ الكعبين، وهما العظمان الناتئان على الساق فإنه يُسمى خفًا، وهو الذي جاءت فيه النصوص عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمسح على الخفين مما تواتر من سنته ﷺ، والإمام عبد الغني المقدسي إمام واسع العلم، لَمَّا ذكر المسح على الخفين ذكر أشهر حديث في الباب، فأشهر أحاديث المسح على الخفين هو حديث المغيرة بن شعبة، ولهذا قدَّمه المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- على غيره من الأحاديث، باب المسح على الخفين عن المغيرة بن شعبة، وهذا الحديث حديث مجمع على صحته.
والمسح على الخفين رُوي عن سبعين من الصحابة، ومن العجيب أنه قد روي عن طائفة من الصحابة من المتأخرين في الإسلام، كجرير بن عبد الله فإنه قد رواه البخاري ومسلم، ولكن صحابيًّا جليلًا من المكثرين من الأحاديث لم يكن يعرف المسح على الخفين، وهو أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإن أبا هريرة لم يكن يعرف المسح على الخفين، وما روى عن النبي ﷺ حديثًا في المسح على الخفين، وهذا مما يدل على أنَّ بعض السنن قد تغيب، وأنه لا يُثرَّب على الإنسان إذا غابت عنه بعض سنن النبي ﷺ ويقال إنه جاهل أو إنه قليل علم! فقد غاب عن كبار الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- سنن، وقد غاب عن الصديق والفاروق وعثمان وعليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- سنن عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: الجورب وهو الذي يُستخدم الآن، في الزمن الأول ما كانت تستخدم الجوارب، وهي التي تكون من قماش، فكل ما كان من قماش ولم يكن من جلد فإنه يُسمى جوربًا ولا يُسمى خفًّا، والأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في الخفين إنما تتناول الجلد بوجه عام.
أمَّا الجوارب فما كانت معروفة عندهم؛ لأنَّ فيها نوع توسُّعٍ، وإنما يلبسها أهل النعيم وأهل السعة، ولهذا كل ما جاء في السنة بلفظ "الجورب" فإنه لا يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ، سواء في حديث المغيرة الذي يرويه محمد بن ثروان عن هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أنَّ النبي ﷺ «مَسَح على جَوْرَبَيه ونَعْلَيه»[9]، جاء بعض أهل العلم وقال: إن الحديث صحيح. نقول: كيف؟ أصل الحديث في البخاري ومسلم وليس فيه ذكر الجوربين.
إذًا؛ ذكر الجوربين لا يُحفظ عن النبي ﷺ، ولكنه محفوظ عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- حتى أني لا أعلم أحدًا من الصحابة يرى مشروعية المسح على الخفين -وهم كل الصحابة باستثناء أبي هريرة- ويمنع من المسح على الجوربين، وهذا المعنى يكفيك في تقرير المسح على الجوربين.
ومن أحسن ما يروى في هذا الباب: ما يروى عن أنسٍ وعليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنهما كانا يقولا: "الجوربان بمنزلة الخفين" وهما من أهل اللغة، فلمَّا أنزلا الجوربين منزلة الخفين دلَّ على أنهما مثلهما في المعنى، هذا المعنى كله لتقرير مسائل هذا الباب، فكل ما نتكلم فيه الآن عن الخف فإنه ينقل إلى الجورب؛ لأن الآن سؤال الناس ليس على الخفاف، ومن يلبس البساطير المجلدة هذه قليل، لكن أغلب الناس يلبسون هذه الجوارب، والسؤال إنما يقع عنها.
فقال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (باب المسح على الخفين)، وقد ذكرنا أنَّ الأمة مجمعة على مشروعية مسح على الخفين، ولكنهم قد اختلفوا في مسح الجوربين، لم يقل أحد من العلماء بمشروعية المسح على الخفين من أصحاب المذاهب الأربعة إلا الإمام أحمد، وقوله في ذلك هو القول الراجح، وهو القول الذي تدل عليه نصوص الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وهو القول الذي عليه الآن أغلب جمهور الأمة، على الرغم من كون أغلب الأمة إنما هم أحناف أو مالكية أو شافعية، ولكنهم مع ذلك يعملون بمذهب الإمام أحمد في مثل هذه الصورة؛ لأنَّ السُّنة قد استقرت، وعمل الناس قد استقر على مشروعية المسح على الجوارب.
قال: (عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَ»).
هذا الحديث كما ذكرناه هو أصح شيء جاء في تقرير المسح على الخفين، والمسح على الخفين جاء عن أكثر من سبعين من الصحابة فهو متواتر، وحديث المغيرة هو حديث الباب.
قال: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَ».
حديث المغيرة فيه جمل عظيمة، من أهمها وهو الذي قصده المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حينما ما ذكر حديث المغيرة قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» يدل على أنَّ المسح على الخفين أو على الجوربين لا يجوز إلا إذا كان قد سبقهما طهارة، بمعنى أن يكون قد لبسهما أولا على طهارة كاملة، يتوضأ الوضوء الكامل ثم يلبس جوربيه أو خفيه، فإذا فَعَلَ جاز له المسح، وهذا الحكم حكمٌ إجماعي، قد أجمعت الأمة على أنه شرط في المسح على الخفين.
وتبقت أحكام في المسح على الخفين أو الجوربين منها: هل يشترط أن يكون الجورب أو الخف مجاوزًا للكعب -بمعنى يغطي الكعبين- الذين هما العظمان الناتئان؟
نقول: نعم؛ لأن العلماء -رحمهم الله- يرون أنَّ لفظ "الخف" لا يقع إلا على ما يكون قد جاوز الكعبين.
فإن قال قائل: من أين قلتم ذلك؟
قلنا: من قول النبي ﷺ في الحج: «إلاَّ أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»[10]، فدلَّ ذلك على أنَّ الأصل في الخف أن يكون فوق الكعب -يعني: مجاوزًا للكعب- وأنه إذا نزل عن الكعب خرج عن أن يكون خفًا، فإذا خرج عن أن يكون خفًا حرم المسح عليه وجاز لبسه في الحج، وهذا المعنى ينبغي أن يلتفت إليه، وهذا القول هو قول جماهير العلماء -رحمهم الله- ويدل عليه حديث المغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأنه قال: «خُفَّيهِ»، فذكر الخفين، وذكرنا أنَّ الخف لا يطلق إلا على هذا المعنى.
قال: «فَمَسَحَ عَلَيْهِمَ»، ذكر المغيرة المسح على الخفين وما بين المغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كيف مسح النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟
والأصل بوجه عام أنَّ ما أعرض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- عن ذكره فإنما أعرضوا عنه قصدًا حتى لا يتمحَّل فيه، بمعنى أن يقال: كيفما حصل المسح فإنه يكون مجزئًا، ولكن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إنَّ المشروع أن يمسح على ظاهرهما دون باطنهما، لحديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حديث ليس في الصحيحين وإنما في غير الصحيحين، فإنَّ علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه -لأنه هو الذي يتعرض للمشي- وقد رأيت النبي ﷺ يمسح على أعلى خفه"، وقد جاء في بعض أحاديث المغيرة: «أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يمسَحُ علَى أعلَى الخُفِّ وأسفَلِه»، ولكن هذا حديث منكر ما يصح، والصحيح فيه أنه حديث مرسل من حديث ورَّاد الذي هو غلام المغيرة، أو كاتب المغيرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فهو حديث لا يصح.
فإذًا، الأصل في المسح على الخفين أن يمسح ظاهرهما.
كيف يمسح؟
نقول: امسح بأي صورة، تمسح طولًا، تمسح عرضًا، كيفما حصل المسح أجزأ؛ لأنَّ الشرع لم يُبين فيه، ولو أراد النبي ﷺ مسحًا مُعينًا لبيَّنه، ولهذا أراد مسح الرأس واستيعابه نقل إلينا الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنَّ النبي ﷺ كان يستوعب الرأس بالمسح.
هذا من المسائل المتعلقة والمرتبطة بحديث المغيرة بن شعبة.
الأصل أيضًا بوجه عام: أنَّ الخف والجورب ما دام يُطلق عليه اسم الخف والجورب فإنه يجوز المسح عليه، وممَّا يدل عليه: أن النبي ﷺ قد كان يسافر ومعه الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- السفرات الطويلة فلا تسلم خفافهم من أن تتخرَّق، وهذا أمر معهود في خفاف العرب، فلم ينهَ النبي ﷺ عن مسح شيء منها، فما دام أنه لا زال يُطلق على هذا الخف اسم "الخف" أو اسم "الجورب" فإنه يجوز المسح عليه، حتى لو كان مخرَّقا ما لم يخرج عن مسمى "الخف"، ولو أصبح مقطعًا بطريقة ما عاد يصبح يسمى معها جوربًا ولا شرابًا ولا خفًا؛ ففي مثل هذه الصورة يقال: لا يجوز المسح عليه.
وفي الحديث دلالة على أنه يجوز المسح على الخف حتى ولو لم يستمسك بنفسه، ما دام أنه قد غطى الفرض فإنه يُسمى خفًا؛ لأنه ليس من شرط الخف عند العرب أن يستمسك بنفسه، فلو أنه ربطه بشيء كان صحيحًا وأجزأ في المسح، وكان مسحًا مجزئًا على الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ»)}.
هذا حديث حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو أنه كان يتماشى -أو يماشي- النَّبي ﷺ، قال: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَأتَى سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمً»، السُّبَاطَة: هي المزبلة.
قوله: «فبالَ قَائِمً» وفيه دلالة على أنَّ البول قائمًا جائز ما فيه بأس، لكنه خلاف الأولى، ولا يعيَّر به، فالعرب قبل الإسلام ما كانوا يبولون إلا قائمين، حتى أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أو بعض الصحابة حديثي العهد بالإسلام، كما في حديث عبد الرحمن بن الحسن الذي رواه الإمام أبو داود، لَمَّا رأوا النبي ﷺ يبول قاعدًا، قالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة! فدلَّ على أنَّ العرب عندهم أنَّ البول قائم، فأنكر النبي ﷺ عليهم، وقال: «أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا لَقِيَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَوْلُ قَطَعُوا مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ مِنْهُمْ فَنَهَاهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ»[11]، فدل ذلك على أن الشَّرع حينما جاء بالبول قاعدًا كان لغرض الاستتار والاستنزاه من البول، فالإنسان إذا بال قائمًا ربما يصيبه أحيانًا من الرذاذ، وكانوا يقولون في الأعراب: "هذا أعرابي بوَّال على عقبيه"، أي: يبول واقفًا، فإذا بال واقفًا نزل بوله على عقبيه ومشى كعادة العرب وما تنزه عن هذا البول، وهذا الذي جاء عليه حديث: «إنَّهما ليُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ»، فإذا بال من قعود لم يكن كذلك، وإذا بال قائمًا وتوقى لم يكن كذلك أيضا، ولم يكن عليه في ذلك حرج.
قال: «بَالَ قَائِمً»، وما ذكر حذيفة أنه كان من وجع، وبعض العلماء قال: إنَّ هذا البول من النبي ﷺ كان بوجعٍ بمأبضه ﷺ، والمأبض: هو باطن الركبة، ما كان يستطيع أنه يجلس ويثني ركبته.
نقول: ما ذكره حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا اجتهاد من العلماء ما يسلم له، بل يجوز البول للإنسان قائمًا إذا كان يتوقى، لكنه خلاف الأولى.
قال: «فَقَامَ كما يَقُومُ أحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ منه»[12]، يعني: ابتعدت منه.
قال: «فأشَارَ إلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حتَّى فَرَغَ»، يعني: جعله كالسترة للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وفيه دلالة على أنَّ البول ليس مما ينبغي أن يتباعد فيه، بعض الناس إذا أراد أن يبول أبعد حتى لا يراه أحد، نقول: لا، ليس هذا هو السنة، ما في بأس أنك تبول وأنت قريب، الأهم أنه لا يُنظر إلى عورتك، بدليل أن النبي ﷺ لما بال جعلَ حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كالسترة له، فدين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وسط، ما يأمر بكشف العورة ولا يأمر بالمبالغة والتنطُّع، وإنما يُشرع البعد عند قضاء الغائط، «كان إذا ذهَبَ المَذهَبَ أبْعَدَ»[13]. المذهب: الغائط؛ لأنه مظنة لخروج الأصوات ومظنة للروائح، والإنسان يحتاج في الغائط إلى كثير من العمل؛ فهذا يشرع له أن يبعد، وأمَّا البول فلا، ولهذا قال: «فَقَامَ كما يَقُومُ أحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ منه، فأشَارَ إلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حتَّى فَرَغَ»، فكان كالسترة للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال: «فَبَالَ، وَتَوَضَّ»، فيه دلالة على مشروعية الوضوء بعد البول، وعلى مشروعية أن يكون الإنسان على طهارة في كل أحواله.
قال: «وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ»، هذا هو مقصد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لما ذكر مسح الخفين، يريد أن يقرر أن المسح على الخفين ثابت عن النبي ﷺ بوجوه كثيرة، ثابت من حديث المغيرة، وثابت من حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقوله ها هنا: «وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ» فيه المعاني السابقة التي قررناها وهو مما استدل به العلماء -رحمهم الله- على مسألة المسح على الجبائر، قالوا: إذا كان الشرع قد رخَّص في المسح على الخفين مع أنه بالإمكان نزعهما؛ فالمسح على الجبيرة التي توضع على الكسور من باب أولى، وهذا الكلام كلامه صحيح ومُقرَّر.
وليس من شرط الجبيرة -على الصحيح- أن تُلبس على طهارة بخلاف الخف، فاشترطنا في لخف أن يُلبَس على طهارة، لكن الجبيرة قد ما يتأتى للإنسان، قد يُكسر ويحمل إلى المستشفى وهو مغمى عليه، ثم يُجبَّر، فهل يقال: قبل أن يجبر لازم يُوضَّأ؟! وحتى لو وُضِّئَ أين نيته؟!
فإذًا؛ الصحيح في الجبيرة: أنه لا يُشترط لبسها على طهارة، ولكن يشرع أيضًا فيها المسح، يتوضأ الإنسان إذا كان عليه جبيرة فيغسل ما ظهر من العضو ويمسح الجبيرة قياسًا على مسح الخفين.
والفرق بينها وبين مسح الخفين: أنَّ الأصل في الجبائر أن يستوفى المسح عليها، فتُمسح بتمامها، وأمَّا المسح على الخفين فإنما يُكتفى فيه بالمسح على ظاهرهما.
لم يذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في المسح على الخفين التَّوقيت، وأنه يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام المسافر، والسبب في ذلك: أنه لم يُتفق على حديثهما، وإنما تفرد الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- بروايته من حديث المقدام بن شريح -رَحِمَهُ اللهُ- عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه التوقيت.
من أين يبدأ التوقيت؟
هذا محل خلاف بين العلماء -رحمهم الله- وأصح الأقوال -والله أعلم: أنه يبدأ من أول طهارة بعد حدث بعد لبسهما، حينما يلبس الخف على طهارة وأحدث، فمتى أوقع أول طهارة يبدأ الوقت.
فإن توضأ على غير حدث، كأن لبس الخف ولم يحدث، ثم جاءت صلاة الظهر فأراد أن يجدد الوضوء، فهنا ما يبدأ الوقت، ما يبدأ إلا من حيث تكون الطهارة واجبة عليك، والطهارة الآن في حقك ليست واجبة وإنما هي مسنونة، فهذه من معاني المسح على الخفين.
أيضًا من المعاني التي في حديث المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد رواه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ النبي ﷺ مسح على عمامته، ولم يروه الإمام البخاري، فالإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- إنما روى حديث المسح على العمامة من حديث عمرو بن الضمري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومسلم رواه من حديث المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال العلماء: فيه مشروعية المسح على العمامة إذا كانت عمامة مشدودة على الرأس، فيجوز للإنسان أن يمسح عليها، الحين الذين يلبسون العمائم قلَّة من العرب بوجه عام، لكن بعض النساء قد تحتاج إليها، قد تشد رأسها شدًّا محكمًا، أو تلف عليها خمارًا لفًّا شديدًا فيشق عليها نزعه، فالعلماء -رحمهم الله- قد قاسوا ذلك على العمامة، وقد جاء عن أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها كانت تمسح على خمارها، وهذا من التَّسهيل والترخيص، وقد قال به الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- وهو القول الصحيح، أن الخمار إذا كان ملفوفًا لفًا شديدًا وكان يشق للمرأة نزعه؛ فإنه يجوز لها أن تمسح عليه، هذا أيضًا من رخص الشريعة التي جاءت في حديث المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنِّي، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّ». وَلِلْبُخَارِيِّ «اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّ». وَلِمُسْلِمٍ «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ»)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر في هذا الحديث المذي، قال: (باب في المذي وغيره) يعني غيره من الأحداث التي تخرج من الفرج.
والمذي: هو ماءٌ خفيفٌ لزجٌ يخرج أثناء الشهوة، وهم يفرقون بين المذي والمني والودي يقولون:
الودي: ماء فيه لزوجة يخرج بسبب مرض، يخرج أحيانًا قبل البول أو بعده.
المني: هو ماء غليظ يخرج عند الشهوة أيضًا، لكن يفرقون بينه: أن المذي يخرج خفيفًا والمني يخرج دافقً.
ثم ذكر فيه حديث عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث هو أصل الباب في الطهارة من المذي، وهو طهارة الجسد، وأصل في طهارة الملابس من المذي هو حديث محمد بن إسحاق الذي يرويه عن خزيمة بن ثابت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الذي سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في غسل ثوب نبي الله ﷺ من المذي. فهذان أصلان لدينا:
الأصل الأول: وهو حديث عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً»، يعني: كثير المذي، ومن المعلوم أنَّ عليًا هو زوج فاطمة.
قال: «فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنِّي»، وفي هذا دلالة يا إخوان وأخوات على أنَّ من مكارم الأخلاق أن لا يذكر الإنسان ما يُستحيى منه مما يقع بين الرجل وامرأته عند أهل امرأته، وكذلك المرأة لا تذكر هذا عند أهل زوجها، هذا من مكارم الأخلاق، ومتى ما طرح الإنسان هذا المعنى خرج إلى الابتذال، وخرج إلى منقصات المروءة، ولهذا كان علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أكمل الناس مروءة، فكان من مروءته -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه شق عليه أن يسأل النبي ﷺ عن حُكمٍ شرعي لا يُستحيى منه، ولكنه استحيا من رسول الله ﷺ لمكان ابنته، قال: «فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ»، وهذا هو الأصح في الروايات، وجاء في بعضها أنه أمر عمارًا، لكن الأصح أنه أمر المقداد. قال: «فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّ».
علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فاغتسلت حتى تشقق ظهري من الغسل» كان يظن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ شأن المذي كشأن المني، فكان كلما أمذى اغتسل حتى تشقق ظهره، فأرسل المقدادَ يسأل النبي ﷺ فقال: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّ»، فرخص فيه النبي ﷺ وألحقه بأخف النجاسات، حتى قال العلماء -رحمهم الله: إنَّ أخف النجاسات بول الصبي ثم المذي، ولهذا قال النبي ﷺ في بعض الروايات: «انْضَحْ ذَكَرَكَ».
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِمُسْلِمٍ «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ»)، النضح: هو الرش، ففيه دلالة على التَّخفيف في هذه النجاسة، وأن الأصل فيها إذا وقعت من الإنسان أن يغسل ذكره وينضحَ ما أصابه، إذا أصابت سراويله وغيرها غسلها غسلًا خفيفًا، والنَّضح هو أخذ الماء وغمر الثوب به من غير عَركٍ، يعني من غير أن يعركه أو يدلكه وإنما يريق الماء عليه، فتقع بذلك الطهارة من المذي، فطهارة الجسد تكون بنضح الفرج أو غسله غسلًا يسيرًا، وطهارة الثوب ونحو ذلك يكون بغمره من الماء، وأمر النبي ﷺ بالوضوء بعد ذلك، يعني ما شدَّد النبي ﷺ فيه وأمر بالغسل؛ وإنما أمره بالوضوء.
أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنَّ المذي نجس، لكنهم في نجاسته على أنه من أخف نجاسات، ولهذا أرشد النبي ﷺ إلى طريقة الغسل هذا أمر.
الأمر الآخر: أنهم قد اختلفوا ما الذي يغسل؟ هل يغسل الذكر؟ أو يغسل الذكر والأنثيين؟
نقول: إن الرواية عن النبي ﷺ إنما هي بالأمر بغسل الذَّكر فحسب، ما ذكر النبي ﷺ غسل الأنثيين، وغسلها إنما يروى في حديث ابن أبي زناد الذي يرويه عن عروة، وهذه الزيادة زيادة لا تصح ولا تثبت عن النبي ﷺ، فإن الأمر إنما هو بغسل الذَّكر بحسب.
هذا شيء من الكلام على معاني هذا الحديث الوارد عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحً»)}.
هذا الحديث أصله من أصول الشريعة، هذا الحديث أصل من أصول الشريعة وهو قاعدة أو دليل على قاعدة جليلة من قواعد الشرع، وهي قاعدة "اليقين لا يزول بشك".
ومن أعظم ما يستدل لها: حديث عبدالله بن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: «شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحً»، الأصل في الإنسان حينما يدخل الصلاة أنه قد دخلها وهو متطهر، فإذا كان كذلك فإنه يبقى على هذا الأصل حتى ينقله عنه ناقل يقيني، والناقل اليقيني أشار إليه النبي ﷺ أحد ما يتعلق بالحوادث، يعني ليس مجرد الوسوسة والتوقع، فتحرُّك البطن بالقرقرة ونحو ذلك لا يكون مفسدًا للوضوء، وليس يقينًا، وخروج الأصوات أحيانًا من البطن ليس كذلك، وإحساس النفخ الذي يكون في المؤخرة ليس كذلك، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحً»، يعني يشمها، فأمر النبي ﷺ بالتَّمسُّك بهذا اليقين وعدم الانتقال عنه إلا بيقينٍ مثله، وهذه قاعدة عامة تستصحب في كل أمور الشريعة، فعلى سبيل المثال: لو أن إنسانًا شكَّ في طهارته وهو خارج الصلاة؛ فنقول له: ما هو آخر عهدك؟ قال: آخر عهدي أني استيقظت من النوم، نقول: تذكر أنك توضأت بعدها؟ قال: لا، قلنا إذًا: اليقين الآن عندك هو الحدث حتى ترفعه بيقين آخر. قال: والله اليقين عندي أني متوضئ لصلاة الظهر، وأظن أني أحدثت! نقول: تظن أو تتيقن؟ قال: ما أتيقن وإنما أظن ظنًّا. نقول إذًا: فأنت على طهارتك حتى تنتقل منها بيقين مثلها وحتى تتيقن أنك قد أحدثت هذا هو الأصل العام في الشريعة وهذا الأصل يتناول الشك الحاصل في العبادة والشك الحاصل قبل العبادة.
فالشك الحاصل في العبادة: لو أن إنسانًا كبَّر في الصلاة ثم شكَّ هل توضأ أو لا؟
نقول: هل توضأتَ أو لا. يقول: نعم أنا كنت متوضئ لصلاة العصر والآن أصلي المغرب.
نقول: أحدثتَ؟ يقول: ما أذكر حدثًا.
نقول: إذًا، أنت على طهارتك.
والشك قبل الصلاة: لو أنَّه شكَّ هل أحدث أو لا؟
نقول: أنت على حالتك.
ومما يُقرَّرُ أيضًا: أنَّ الشَّك بعدَ العبادة من باب أولى ليس معتبرًا، ما دام أنك قد فرغتَ من العبادة وقضيتها فانتهى الأمر، وهذا الشك لا يبطل العبادة ولا يؤثر فيها شيئًا، وهذا مما يقطع باب الوسواس على كثيرٍ من الناس المبتلين به في الوضوء وفي الصلاة.
نقول: افرغ من وضوءك بأسرع وقت، فإذا فرغت من وضوئك فقد أتيتَ به كما أوجبَ الله، وكل شكٍّ يعتريك بعدَ ذلك هو شكٌّ مطَّرَح لا يُلتفت إليه، والشك بعدَ العبادة ليس بمبطل لها.
كذلك إذا فرغتَ من الصلاة فشككتَ هل قرأت الفاتحة أو لا؟ هل قرأت التسبيحات أو ما إلى ذلك؟
نقول: هذا كله شكٌّ لا معنى له، ولا يتعلق به حكم شرعي، وكله مطَّرَح.
لعلنا نتوقف ها هنا والله أعلم.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم.
شكر الله لكم صاحب الفضيلة، وشكر الله لكم أيها الإخوة المستمعون، نلقاكم بإذن الله في حلقةٍ أخرى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] البخاري (888).
[2] مسلم (137).
[3] أخرجه النسائي في السنن الكبرى، ج2 برقم 30430.
[4] صحيح الترمذي (327).
[5] ضعيف الجامع (3519).
[6] مسلم (2271).
[7] البخاري (4084).
[8] البخاري (4096).
[9] السنن الكبرى (1/284)، ضعيف.
[10] صحيح البخاري (1542)، وصحيح مسلم (1177).
[11] أبو داود (22) واللفظ له، والنسائي (30)، وابن ماجه (346)، وأحمد (17795).
[12] صحيح البخاري (225).
[13] السلسلة الصحيحة (1159).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك