الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44794 18
الدرس السادس

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام، في برنامجكم (جاد في المتعلم) والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حيَّاكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم، كُنَّا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند حديث ميمونة رضي الله عنها، أستكمل القراءة يا شيخ؟}.
نعم.
{قال المصنف رحمه الله تعالى: (عَنْ مَيْمُونَةَ بنْتِ الْحَارثِ زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهَا قَالَتْ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجَنَابَة فأَكفَأ بِيِمِينِهِ علَى يساره مَرًّتيْنِ أوْ ثَلاثَا، ثم غَسَلَ فرْجَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يدَهُ بِالأرْضِ أوْ ا اْلحَائِطِ مرًّتينَ أوْ ثَلاثَاً ثمَّ مَضْمَضَ وَاَسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ وَذِراعَيْهِ، ثمَّ أفَاضَ عَلى رَأسهِ الْمَاءَ، ثمَّ غَسَلَ سَائرَ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَل رِجْليْهِ فأتيتهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْها، فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبدهِ ورسولهِ نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد؛ فَلمَّا ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها في بيان غسل النبي عليه الصلاة والسلام، وكنا قد تكلمنا في المجلس الماضي عن شيء من فوائده، جاء بعده بحديث ميمونة رضي الله عنها، والأصل بوجه عام أن حديث ميمونة رضي الله عنها أكثر استيفاءً لغسل النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها، ولكنه قدمه لتقدم وفضل عائشة، فإنَّ عائشة رضي الله عنها مُقدمة على من سواها من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام.
ذكر ها هنا حديث ميمونة رضي الله عنها، وهو الأصل الذي سنشرح عليه صفة الغسل بوجه عام، وسنذكر فيه شيئا مما لم تذكره ميمونة رضي الله عنها وذكرته عائشة رضي الله عنها. وهذا يقرر معنى جليل، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم إذا وصفوا شيئًا من أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام من أفعاله؛ فإنَّهم قد لا يستوفونها بتمامها، قد يفوت على الإنسان منهم الشيء اليسير، لكنه لا يفوت عليهم إلا دون الواجب، ولهذا ما فات ميمونة رضي الله عنها مما ذكرته عائشة، أو ما فات عائشة مما ذكرته ميمونة كلها إنما هي من المستحبات وليست من الواجبات؛ لأنَّ الواجب لا يكاد يفوت الصحابي، وهذا المعنى معنى متقرر وينبغي أن ينظر إليه.
فإذا رأينا أن الأحاديث الواردة في معنى واحد قد أجمعت على إهمال شيءٍ ما؛ دلَّ ذلك على أنه ليس من أصول هذه العبادة، كما ذكرنا في أحاديث الوضوء، لَمَّا رأينا أنَّ عثمان رضي الله عنه وعبد الله بن زيد وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم لم يذكروا التسمية، ولم يذكروا غَسل الأذنين؛ فدلَّ ذلك على أنه ليس من أصول الوضوء؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا تتابع هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على إهماله.
فإذا تقرر هذا المعنى فإنَّه سيتضح لنا بعد قليل -إن شاء الله عز وجل- معاني جليلة مما يظنه بعض الناس واجبًا في الوضوء وليس كذلك، أو في الغسل وليس هو كذلك، وهذا المعنى مما يقع فيه دومًا أو كثيرًا الوسواس؛ فإنَّ الوسواس إنَّما يلحق الناس غالبًا في مجاوزة الشريعة، ولهذا يلحقهم دائمًا فيما إذا كان يُثَلِّثُ الوضوء، فإذا ثَلَّثَ الوضوء تجده يأتي ويُثَلِّثَ الرأس، وتثليث الرأس ما هو بسنة أصلا، وما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك المبالغة في مسح الأذنين لم تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
التسمية كثير ما يلحقها الوسواس، ما يدري هل سمى أو لا؟ وقد رأينا كثيرًا من الناس من شدة ما أُصيب بالوسواس تجد أنه وهو يتوضأ وضوءه كله يكرر التسمية، "بسم الله، بسم الله، بسم الله"، كأنَّما يُذكر نفسه، فإذا رُخِّصَ على هؤلاء وقيل لهم: الأصل بوجه عام أنَّ هذه كلها من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ نسيانها لا يُؤثر في الوضوء شيئًا أو نسيانها لا يُؤثر في الغسل شيئًا، كان ذلك مما يهون عليه.
وإذا تتبع الإنسان وجد أنَّ هذا الذي يُبتلى به الإنسان كثيرا إنما هو مما لم يثبت بنصٍ صريحٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ما ثبت من النصِّ الصريح فإنَّ الله عز وجل يُعينك عليه، ويحول بينك وبين الوسواس فيه، وما ليس كذلك فإنَّه ربما داخله الوسواس؛ لأنه قد يكون أحيانا نوع من الزيادة أو التزيد في العبادة الذي لا يُشرع.
ولهذا سنتكلم -إن شاء الله عز وجل- فيما بعد عن قراءة الفاتحة، لكن ما دام أننا تكلمنا عن مسألة الوسواس وما يتعلق بها، قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، لكن الصحيح عند جماعة من العلماء رحمهم الله، ومن قبلهم الصحابة رضي الله عنهم، أنها لا تشرع إذا جهر الإمام؛ لأدلة كثيرة إن شاء الله عز وجل، إذا جاء وقتها ذكرناها، لكن لأنَّ كثيرًا من الناس قد أولع بقراءة الفاتحة خلف الإمام فيما يجهر فيه، فإنَّه يلحقهم دائمًا الوسواس في مثل هذه المسألة، فتجد أنه يقول: يا أخي ما عرفت، ربما أسقطت آية، ربما تسرعت في قراءة الفاتحة، فما أدري هل أسقطت منها حرفًا أو لا؟ لكن ما يأتي هذا إلا نادرًا في تكبيرة الإحرام، ولا يأتي هذا إلا نادرًا في التشهد، ولا يأتي هذا إلا نادرًا في السلام، هذه كلها أمور واضحة وظاهرة، ما تقع ولا يأتي هذا في أفعال الصلاة، ما يأتي ويقول: هل ركعت أو لا! ولو حصل فإنَّما يقع من باب السهو ولا يقع من باب الوسواس، فهذا من المعاني التي ينبغي أن يلتفت إليها وينظر إليها.
قالت ميمونة رضي الله عنها: (وَضَعْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجَنَابَة فأَكفَأ بِيِمِينِهِ علَى يساره مَرًّتيْنِ أوْ ثَلاثَ) قالوا: فيه مشروعية أنْ تُعين المرأة زوجها على الغسل، وقد كانت نساء النبي عليه الصلاة والسلام هن اللاتي يضعن غسل النبي عليه الصلاة والسلام، وكنَّ رضي الله تعالى عنهن يعتنين بذلك حتى كانت الواحدة منهن ربما وضعت للنبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة آنية، إناء لشربه، وإناء لطهوره، وإناء لسواكه، حيث كان يضع عليه الصلاة والسلام السواك في الماء حتى يكون لينًا.
قالت: (وَضَعْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجَنَابَة فأَكفَأ بِيِمِينِهِ علَى يساره مَرًّتيْنِ أوْ ثَلاثَ) فيه دلالة على السنة المضطردة، وهو أنه لا يشرع غمس اليدين في الماء مُباشرة، وإنما قبل ذلك يكفأ الإنسان على يديه منها، فيغسلهما وينقيهما بعد ذلك يدخلهما في الإناء.
قالت: (فأَكفَأ بِيِمِينِهِ علَى يساره مَرًّتيْنِ أوْ ثَلاثَا ثم غَسَلَ فرْجَهُ) غسل النبي عليه الصلاة والسلام فرجه، في بعض الروايات غسل فرجه وما أصابه، يعني: ما أصابه من الأذى.
(ثُمَّ ضَرَبَ يدَهُ بِالأرْضِ أوْ ا اْلحَائِطِ مرًّتينَ أوْ ثَلاثَ) فيه أيضًا مشروعية الرجوع إلى اليد وتطهيرها بعد غسل هذا العضو، فالنبي عليه الصلاة والسلام ضرب يده بالحائط أو بالتراب أو نحو ذلك، ويقوم مقامه ما سواه من الصابون وغيره، هذه كلها تقوم مقام التراب.
يقول: الإنسان هل يُشرع غسل اليدين بالصابون بعد غسل الفرج؟
نقول: نعم يشرع لفعل النبي عليه الصلاة والسلام لَمَّا ضرب يده بالأرض أو بالحائط مرتين أو ثلاثًا.
قال: (ثمَّ مَضْمَضَ وَاَسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ وَذِراعَيْهِ) بمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام توضأ وضوءه للصلاة، تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ومن هذا فهم بعض العلماء كالحنفية وغيرهم وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، قالوا: المضمضة والاستنشاق تجب في الغسل ولا تجب في الوضوء، مع أنه أيضًا الصحابي الذي قد نقل وضوء النبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر المضمضة والاستنشاق، لكن يقال في هذا والله علم: إنَّ هذا إنما هو الوضوء الكامل، الوضوء الكامل يُشرع فيه المضمضة والاستنشاق، وبوجه عام فمن الأولى للإنسان أَّلا يدعهما، أي: لا يدع المضمضة والاستنشاق وما يتبع الاستنشاق من الاستنثار، فإنَّه إذا استنشق استنثر.
قال: (ثمَّ مَضْمَضَ وَاَسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ وَذِراعَيْهِ) في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك ثلاثا، أي: ثَلَّثَ الوضوء، يعني: توضأ وضوءا مُثلثًا، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، إذا جاء إلى موضع مسح الرأس فإنَّه لا يُشرع مسح الرأس في الغسل؛ لأنَّه ما حاجتك إلى أن تمسح رأسك وأنت ستغسله، وإنما يُشرع أن تُفيضَ عليهما.
قالت: (ثمَّ أفَاضَ عَلى رَأسهِ الْمَاءَ) يعني: غمره بالماء، وفي رواية عائشة رضي الله عنها: (ثم يُخَلِّلُ بيَدْيَهِ شَعْره حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ أفَاضَ عَلَيْهِ الماءَ ثَلاثَ مَرَاتٍ) هذه هي رواية عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يخلل شعره بيده، وهذا والله أعلم محمول على الاستحباب، وفيمن كان كثيف الشعر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيف الشعر، فإنَّ من عادة العرب أنهم لم يكونوا يحلقون شعورهم البتة إلا في حج أو عمرة؛ لهذا جاء عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "كُنَّا نُعْفِي السِّبَالَ إِلاَّ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ"، ومن تفسيرات السِّبَالَ أنها الشعور، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام حج مُلبِّدًا، ما معنى مُلبِّدًا؟ يعني: جمع عليه الصلاة والسلام شعره، ثم وضع عليه الصمغ والعسل حتى يحميه من الأوساخ، دلَّ ذلك على ماذا؟ دلَّ على أنه مُتقرر عندهم أنَّ الشعور لا تحلق، فلم يكن من عادة العرب حلق الشعر، ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه كان له وفرة تضرب إلى منكبيه، فهذا هو شعر النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا لَمَّا قال بعض آل البيت قيل هو محمد بن علي- لَمَّا قال لجابر رضي الله عنه إنَّ شعري كثيف، فقال جابر رضي الله عنه، قد كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا، وخيرًا منك، صلى الله عليه وسلم.
فكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الشعر، وكان يخلل بيديه شعره حتى يتيقن عليه الصلاة والسلام من ماذا؟ من وصول الماء إلى أصول الشعر، ولهذا قالت: (حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ)، يعني: العبرة بوجه عام في الغسل أن تُروي البشرة، وتُروى البشرة يعني: تصل إلى أصل الرأس، فمتى ما لامس الماء أصل الرأس فقد أتيت بما أوجب الله عز وجل عليك، (حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ).
والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أفاض على رأسه ثلاثا، فهذه هي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفيض على رأسه ثلاث مرات.
قال: (ثمَّ غَسَلَ سَائرَ جَسَدِهِ) غسل النبي عليه الصلاة والسلام جسده، وقد جاء فيه بعض الروايات عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، فهذا أيضًا من السنن، حيث يُسن أيضا في الوضوء بوجه عام التيامن ما استطاع، في الدلك يدلك جانبه الأيمن ثم يدلك جانبه الأيسر.
قالت: (ثمَّ غَسَلَ سَائرَ جَسَدِهِ) يعني: عَمَّمَه عليه الصلاة والسلام بالماء.
قالت: (ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَل رِجْليْهِ) ذكرت عائشة رضي الله عنها ها هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخَّرَ غسل رجليه، وفي حديث عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام غسل رجليه قبل الغسل، والأولى في ذلك والله أعلم حديث ميمونة رضي الله عنها، فإنَّ زيادة عائشة رضي الله عنها في أنه غسل رجليه قبل بدء الغسل يعني: توضأ وضوءًا متكاملاً بما فيه غسل رجليه، وذكر الرجلين هذه موضع خلاف بين العلماء، بخلاف حديث ميمونة فإنَّهم قد أجمعوا على صحته وصحة هذه اللفظة فيه، فيكون الرجلين متأخر غسلهما لماذا؟
لأنَّ الغسل يعتلي الإنسان، وسينزل منه بعض الصابون وبعض الأشنان وما إلى ذلك، فيحتاج بعد ذلك إلى أن يغسل رجليه فأخرهما النبي عليه الصلاة والسلام ليكون غسلهما مرة واحدة، فلمَّا فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من غسله، غسل رجليه عليه الصلاة والسلام، هذا هو الوضوء بوجه عام، الوضوء المستحب، فأمَّا الوضوء الكامل فهو أن يعمم بدنه بالماء مرة واحدة.
إذا اغتسل سواء كان هذا الغسل غسلا واجبًا أو غسلاً مُستحبًا، وأقصد بالواجب غسل الجنابة، والغسل المستحب هو كل غسل لعبادة من العبادات، مثل: الغسل عند الإحرام أو غسل يوم الجمعة أو الغسل لقدوم مكة أو غسل يوم عرفة على ما جاء عن بعض السلف أو غسل يوم العيد على ما جاء عن علي رضي الله عنه، هذه كلها أغسال مستحبة، وهي الأغسال التي تكون لأجل عبادة، سواء كان غسلا مُستحبًا أو واجبًا أو غسلا كاملا الذي هو الغسل التام، أو غسلا مُجزئا الذي هو الغسل العام الذي يغسله مرة واحدة، فمتى ما وقع هذا الغسل فإنَّه يرفع الحدثين -الحدث الأكبر والأصغر- كان قد تبول وتغوط وأحدث، خرج منه الريح أو خرج منه مذي أو ما إلى ذلك، كلها إذا اغتسل الغسل الأكبر بشرط «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ»، أن يكون غسلاً لعبادة سواء كانت هذه العبادة عبادة واجبة، تشترط لها الطهارة الكبرى أو كانت عبادة يُستحب لها الغسل، فكيفما وقع فإنَّه يكون رافعًا للحدثين، الحدث الأصغر والحدث الأكبر، ويخرج بذلك نقيًا يُصلي مُباشرة.
ومن أجل ذلك فإنَّ الصحيح في غسل يوم الجمعة أنه غسل مجزئ، يعني: يقوم مقام الوضوء؛ لأنَّ كثيرًا من الناس ربما اغتسل يوم الجمعة غسلا مجزئًا، وهو الغسل الذي يعمم بدنه بالماء، لكنه ينسى أن يتوضأ بعد ذلك، فيلتبس عليه ويقول: أنا اغتسلت، فهل يجب عليَّ الوضوء؟
نقول: لا، إذا كان هذا الغسل غسلا مُستحبًا يعني: غسل عبادة، فإنَّ العبادة تطهر أو يرفع بها الحدث الأصغر والحدث الأكبر على الصحيح من أقوال أهل العلم، ولهذا قد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "مَنْ لَمْ يُطَهِّرَهُ الْغُسْلِ فَلَا طَهَّرَهُ الله"، يعني: الغسل يرفع كل الأحداث، والأحداث في الغسل تتداخل، فلو كانت امرأة قد أصابتها جنابة وقبل أن تغتسل حاضت؛ فإنها إن طهرت من حيضها واغتسلت غسل حيض رفع ذلك غسل الحيض وغسل الجنابة. هل حتى ولو لم تنوِ؟ نقول: نعم حتى لو لم تنو الغسلين، الأهم أن تنوي أن يكون الغسل رافعًا للحدث، هذا هو فقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ».
قالت: (ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَل رِجْليْهِ فأتيتهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْها، فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ) جاءته ميمونة رضي الله عنها بخرقة -التي هي المنشفة- حتى يُنَشِّفَ بها، قالت: (فَلَمْ يُرِدْه)، وبعض الناس ينطق بالكلمة نطقًا خاطئًا، فتجده يقول: (فلم يَرُدَّهَ) والصواب (فَلَمْ يُرِدْه)؛ لأنها قالت بعدها: (فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ) وفي هذا دلالة على أنه لا ينبغي للإنسان المبالغة في التنعم، فينبغي للإنسان أن يحتفي أحيانًا، أن يلبس لباسًا حسنًا أحيانًا، وأن يلبس لباس بين بين أحيانًا؛ لأنَّ هذا نوع من التواضع لله عز وجل، وحتى يُعَوِّد الإنسان نفسه على تغير الدنيا، فالدنيا متغيرة لا تدوم على حال؛ فإذا كان الإنسان ما يعرف إلا التنعم وما صبر على شظف العيش، وأصابه ذلك في خلقه وفي نفسه، ولهذا أحد أعظم ما أعان الصحابة رضي الله عنهم على الفتح وعلى الانتصارات التي حققوها أنهم كانوا على نوع من شظف العيش، ولهذا لَمَّا لَانَ من بعدهم خَفَّت وطأتهم على عدوهم، لهذا كان عمر رضي الله عنه يخشى عليهم، ودائمًا يكتب إليهم: "اخْشَوْشِنُوا ، وَاخْشَوْشِبُوا، وَاخْلَوْلِقُوا، وَتَمَعْدَدُوا كَأَنَّكُمْ مُعَدٌّ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَزِيَّ الْعَجَمِ، وَانْزُوا عَلَى الْخَيْلِ نَزْوًا"، وصايا من عمر رضي الله عنه لأجل ماذا؟ لأجل ألا يصبح في الإنسان نوع من التأنف أو نوع من الرقة التي لا تنبغي له، فهذا كان منهج الصحابة رضي الله عنهم، وقد تلقوه من النبي عليه الصلاة والسلام، فإنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان ربما أحيانا في السفر يشحب عليه الصلاة والسلام، يُصيبه الغبار ويصيبه الشعث عليه الصلاة والسلام، وكان يتنظف عليه الصلاة والسلام ويتطيب، لكن أيضا أحيانًا كان عليه الصلاة والسلام يُصيبه ذلك، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالدهان والامتشاط، وكان لهم شعور، وصاحب الشعر بين أمرين، إمَّا أن يتركه ولا يعتني به فسيكون كالشيطان، وإمَّا أن يبالغ في عنايته به فسيدخل في طبع النساء، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإغباب فيه، والإغباب هو أن تصلحه مرة وأن تتركه مرة، وهذا من المعنى.
قالت: (فَلَمْ يُرِدْها، فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ) عليه الصلاة والسلام، مع أنه قد جاء في بعض الأحاديث التي لا تصح، منها: حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أتاهم فاغتسل، قال: فأتيت بملحفة صفراء، وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كالحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يُنشفان، والتنشيف ليس بمحرم، لكن لما سئل إبراهيم النخعي وهو أحد رواة هذا الحديث قال: إنما كانوا يكرهون للعادة، يعني: يُكره للرجل أن يتخذ عادة ويلزمها ولا يتخلى عنها؛ لأنها تصير في حقه كأنما هي عبادة، فيصير الأمر شاق عليه حينما يتركها.
فإذًا النبي عليه الصلاة والسلام أتته بخلقة فلم يردها (فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ) يقال: السنة بوجه عام ألا ينشف الماء، لا ماء الوضوء ولا ماء الغسل، فأما ماء الوضوء فلم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان ينشفه إلا ما ذكرناه في حديث قيس، وأمَّا ماء الغسل فقد نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن ينشفه كما في حديث ميمونة رضي الله عنها، لكن لو أنَّ إنسانًا فعل ذلك ما كان في ذلك حرج، على ألا يكون ذلك عادة له كما قاله إبراهيم النخعي رحمه الله.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله تعالى: (عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ أن عمر بن الخَطَّابِ رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله أيَرْقُدُ أحدنا وَهُوَ جُنُب؟ قالَ: «نعم إذَا تَوَضَأ أحَدُكُم فَلْيَرْقُد»)}.
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه الذي يرويه عن ابيه عمر رضي الله عنه، في بعض الروايات جعلوه من مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وهو حديث جليل مما يحتاج إليه كثيرًا، فإنَّ عمر رضي الله عنه قد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن مسألة كثيرًا ما تقع للإنسان المتزوج، وهو أنَّ عمر رضي الله عنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام: (أيَرْقُدُ أحدنا وَهُوَ جُنُب؟) يعني: إذا عاشر أهله فأجنَبَ، فهل يرقد قبل أن يغتسل أو لا؟ فأرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الوضوء، يعني: رَخَّصَ النبي عليه الصلاة والسلام له في أن يرقد، لكنه أمره بالوضوء، وقد ذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- إلى أنَّ هذا الحكم على السنية، وهو أنه يُسَنُّ للإنسان ألَّا ينام إلَّا وهو على وضوء إذا كان مجنبًا، مع أنَّ الوضوء ما يرفع الحدث، لكنهم قالوا: لكنَّه يخفف الحدث، وهذا معنى ينبغي أن يلحظ.
فإنَّ الانسان مما ينبغي له إذا أجنب، أي: حصلت له الجنابة بأي سبب كان، ألا تطول به جنابته؛ لأنَّ الجنابة تمنع الإنسان من كثيرٍ من العبادات، بل حتى ذِكْرُ الله عز وجل يجوز للإنسان وقت الجنابة لكنه مفضول، يعني: الفاضل في حقه أن يغتسل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيمن سَلَّمَ عليه مع أنَّ ردَّ السلام حكمه واجب، فَمَا رَدَّ عليه، وقال: «كَرِهْتُ أن أذكرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إلَّا علَى طُهْرٍ»، مع أنه عليه الصلاة والسلام لَمَّا سُلِّمَ عليه كان على الخلاء، لكن بوجه عام يقال: إنَّ الانسان إذا كان على جنابة فإنَّه ينبغي له أن يُسارع وأن يُبادر بالغسل، ومع ذلك فإنَّه يجوز له أن يؤخره لماذا؟
لأنه قد جاء في حديث أبي هريرة أنهم كانوا يجولون في شوارع المدينة وهم على جنابة، لكنَّ الأولى المبادرة، فإنَّ ثَقُلَ عن الاغتسال فيقال: لا أقل من أن تتوضأ، يقول: هو لا يرفع الحدث، نقول: نعم ما يرفع الحدث ولكنه يخففه.
وقد جاء الأمر بالوضوء للمحدث حدثًا أكبر في عدد من المسائل، منها هذه المسألة، وهي ما إذا أراد أن ينام، وقد جاء في بعض الروايات وفيها نظر، فيما إذا أراد أن يأكل أو أن يشرب، ولكن الأصح فيها أنه إذا أراد أن يأكل وأن يشرب غسل يديه، لكن ليس شرطًا له الوضوء.
وقد جاء أيضًا فيما إذا أراد أن يعود إلى أهله مرة ثانية؛ فإنَّه يُشرع له أن يتوضأ بينهما وضوءه، وقد جاء هذا في حديث أبي سعيد عند الإمام مسلم، وقد جاء فيها عن جماعة من الصحابة رضي عنهم، كما رواه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنَّ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يجلسون في المسجد وهم على جنابة إذا توضأوا، وهذا مما يحصل أحيانًا وقت الاعتكاف، ربما يجنب الإنسان وهو في المسجد فيشق عليه، يكون مثلا مُستغرقًا في النوم ويشق عليه أن يذهب وأن يخرج ويتوضأ أو لأي سبب من الأسباب، فيقال له: لا أقل من أن تتوضأ، فإذا توضأت قد يُرخَّصُ لك في الإقامة في المسجد، فهذه من المعاني التي تخفف الحدث.
أرشد النبي عليه الصلاة والسلام عمر رضي الله عنه إلى أن يتوضأ، وهذا على ما ذكرنا عند الجمهور على الاستحباب، لكن القول بوجوبه قول قوي؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: «نعم، إذَا تَوَضَأ أحَدُكُم فَلْيَرْقُد» وهذا الأمر فيه نوع من العزيمة، ولهذا ذهب بعض الظاهرية رحمهم الله إلى أنه لا يجوز للإنسان أن ينام إلا وقد توضأ، قالوا: لأنه لو كان على الإباحة مُطلقًا لَمَا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عمر وقال: «نعم، إذَا تَوَضَأ أحَدُكُم فَلْيَرْقُد»، فلمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دلَّ على أنه مقيد، فلا يشرع ولا يجوز لك النوم على جنابة حتى تتوضأ، وأمَّا حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ينام وهو جنب من غير أن يمسَّ ماءً) فإنه حديث منكر بإجماع العلماء، وقد أجمع على ذلك المتقدمين، حتى إنه حُكِيَ تضعيفه وإنكاره وإعلاله من سبعٍ وعشرين من علماء الحديث، ولا أعلم حديثًا تتابعوا على إنكاره نصًا كما تتابعوا على إنكار هذا الحديث عن الأسود عن عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب من غير أن يمسَّ ماءً.
ولهذا فالقول بوجوب هذا المعنى قول قوي، ولهذا قيل: إن من أعظم مواطن الورع، التورع في مثل هذا، ولذلك لا يشرع للإنسان إذا أجنب أن ينام إلا وقد توضأ أو اغتسل من جنابته فكان هذا أكمل في حقه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصنع هذا ويصنع هذا، ربما اغتسل عليه الصلاة والسلام قبل أن ينام، وربما نام قبل أن يغتسل، كما جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله تعالى: (عَنْ أم سَلَمَةَ زَوْج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ»)}.
المصنف رحمه الله ذكر هذا الحديث، وهو حديث من الأحاديث المتعلقة بالجنابة، إلا أنه حديث متعلق بجنابة الاحتلام، المصنف رحمه الله ذكر في الأحاديث الماضية أحاديث تتعلق بجنابة الجماع، لكن ها هنا ذكر حديث متعلق بجنابة الاحتلام، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث معروف بحديث أمُّ سليم رضي الله عنها، وقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم أم سلمة وعائشة وأنس وأم سليم رضي الله عنهم جميعًا، في أنَّ أم سليم، امرأة أبي طلحة، أم أنس رضي الله عنه، جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ) وفي هذا حسن الأدب عند السؤال عمَّا يُعاب منه؛ فإنَّها قد قدمت هذه التقدمة حتى ما ينكر عليها، وهذا الأصل العام في المرأة، والأصل بوجه عام في الرجل والمرأة أن يَتَحَلَّ العبد بحلية في الحياء، فإنَّه ليس شيء من الحلى أعظم على الإنسان من الحياء، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في وصفه: «إنَّ الحياءَ لا يأتي إلَّا بخَيرٍ»، «الحَيَاءُ خَيرٌ كُلُّهٌ»، وقال للرجل الذي يعظ أخاه في الحياء: "إن تغلب في الحياء" الناس يغلبونك ويأخذون حقك، لا تستحي منهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «دعوه. فإنَّ الحياء من الايمان»، «إنَّ الحياءَ لا يأتي إلَّا بخَيرٍ» فتنازله عن بعض حقه الذي له على الناس وترك الخصام والمراء حياء مما يحبه الله عز وجل، فإذًا الحياء لا يحمل إلا على مكارم الأخلاق، وأعظم الحياء، الحياء من الله تعالى، ومن استحى من الخلق ولم يستحِ من الله عز وجل كان في ذلك الدلالة على أنَّ حياءه من الخلق ليس حياءً يُثاب عليه، ولكنه قد يكون جبلة، وقد ذكرنا أنَّ الطبائع والعادات إذا لم تقترن بالنيات لم يُؤجر عليها، بخلاف الرجل الذي لا يستحي من الله عز وجل؛ فإنَّ الحياء من الله عز وجل عبادة، فإذا أراد أن ينظر إلى ما حرم الله عز وجل عليه وهو خال وليس أمامه أحد يستحي منه من الخلق، علم أنَّ الله عز وجل يراه، وأنه سبحانه وبحمده أحق بالحياء، فاستحيا من الله عز وجل، ومن أجل ذلك ضرب لنا السلف الصالح رضوان الله عز وجل عليهم أحسن الأمثلة في الحياة، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام الذي أوتي مكارم الأخلاق، والذي قال عليه الصلاة والسلام: «ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ كَذُوباً وَلاَ جَبَان»، كان عليه الصلاة والسلام «أشدَّ حياءً من عذراءَ في خِدْرِه»، ليس مما يُعاب على الإنسان الحياء، بل يُعاب على الإنسان الصفاقة، يُعاب على الإنسان مخالفة الحياء، البداءة هذه التي يعاب بها الانسان، بل حتى لا يعاب على المؤمن العي، العي أن الانسان لا يعرف كيف يعبر، ترى إذا ما يعرف الإنسان كيف يعبر ولا يفصح عما في نفسه ما دلَّ ذلك على مَقته، بل ربما دَلَّ ذلك على إيمانه، وقد جاء في صفات المؤمن أنه هين، وجاء في صفات المنافق المتشدق بلسانه كما تتشدق الباقرة، عنده فصاحة ويستطيع يتكلم ويبهرك، وإذا جلس إلى مجلس أخذك بكلامه، ترى هذي كانت صفة بعض كبراء العرب الذين أهلكهم الله عز وجل، وكان من صفة كثير من الصحابة رضي الله عنهم الذين أسلموا مع النبي عليه الصلاة والسلام، أنَّ بعضهم لا يكاد يبين، أولم يقل فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ فإذًا العي أحيانًا قد يكون نوعًا من الحياء فلا يعاب عليه الإنسان.
الشاهد بوجه عام، ذكرنا أنَّ وجوب الحياء من الله عز وجل وأنه هو الحياء الذي يُثاب عليه العبد، وأنَّ من استحي من الله عز وجل؛ فإنَّ الله عز وجل يُورثه أيضا الحياء من خلقه، ومن لزم الحياء فإنَّ الله عز وجل سيضع محبته في قلوب خلقه، الخلق بوجه عام يحبون الهيئة، ولهذا كان من حياء علي رضي الله عنه أنه لَمَّا أراد أن يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن المذي؛ قال: فأمرت المقداد، مع أنَّ عليًا أقرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من المقداد، هو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وصهره، وهذا من المعاني اللطيفة.
يقول الصديق رضي الله عنه: "أيُّها النَّاس استحيوا من الله، فوالله إني لأدخل الخلاء وأنا مقنع الرأس حياء من الله عز وجل" هذا من معاني الحياء.
وقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كما هو حال عثمان رضي الله عنه ممن يوصف في الحياء، ولما وصف النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس -وإن كان في رفعه خلاف- لَمَّا وصف النبي الصحابة رضي الله عنهم بما وصفهم به، فوصف عليًا رضي الله عنه بالقضاء، ووصف الصديق بالرحمة، ووصف عثمان رضي الله عنه بالحياء.
إذًا، قالت: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟) تقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» فإذًا بوجه عام، الحياء لا يلتقي مع العلم، الأصل إذا كان الباب باب علم أن يُرفع ستار الحياء، أقصد بذلك أن يسأل الإنسان عن كل ما يحتاج إليه، ولهذا قال مجاهد: "لا ينال العلم مستح ولا مستكبر" المستحي يخجل السؤال عن أمور كثيرة، ربما يمكث مع شيخه ثلاث سنوات وخمس سنوات وعشر سنوات فما يستطيع أن يسأله عن سؤال واحدًا، ولهذا لما وصف ابن عباس رضي الله عنه وًصِفَ بأنَ له لساناً سَؤولا، أي: لسان سؤول للعلم.
الشاهد: نساء الأنصار رضي الله عنهن كن من ذلك، وهذا معنى أوجهه إلى إخوتي بوجه عام، وهو أن المرأة ينبغي لها ألا تحقر نفسها، وأن تتعلم أمر الله عز وجل كما يتعلمه الرجال، فالشرائع للرجال والنساء، وليست خاصة بالرجال، والأصل أنَّ المرأة متى ما طلبت العلم وفقت له أكثر من توفيق الرجل، فإنَّ قيل لم؟ قلنا: لأنَّ علم النساء في الغالب علم يتعلق بالعمل، كيف؟
المرأة في الأعمِّ الأغلب حينما تطلب العلم ما تريد من نفسها أن تكون شيخة، ولا عالمة، ولا طالبة علم، إنما تريد أن تطلب العلم لتستطيع أن تقيم دينها، وهذا هو علم الصحابة رضي الله عنهم، فتوفق في شيء يسير من الزمن في كثيرٍ من العلم، والعلم الحقيقي هو العلم الذي يتعلق به العمل، أمَّا العلم الذي ربما لا يعرض لك في حياتك ولا مرة، وربما لا تسأل عنه ولا مرة، فتدخل في تفريعات كثيرة، ولو نزلت بك قلت لا أعلم وسأبحث ما كان عليك لوم، قد نزلت بمن هو أكبر منك، الصديق والفاروق قالوا لا نعلم، فالعلم الحقيقي هو العلم المتعلق بالعمل، وهو علم الصحابة، لَمَّا كان عمر رضي الله عنه يبعث الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمصار كان يأمرهم أن يربوا الناس بماذا؟ بعملهم، ينهاهم عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن بعض أهل الضلال أنه كان ينهاهم عن حديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يَكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، نقول: لا، وإنما أراد بذلك عمر رضي الله عنه منهم أن يربوا الناس بالعمل أكثر من القول، يقول: أنتم تقدمون على أناس هم أهل قراءة قرآن، بين أيديهم الوحي الأول، منشغلون به، دعوهم ينشغلون بكتاب الله عز وجل، وأمَّا السُّنة فأنتم قد نقلتموها عن النبي عليه الصلاة والسلام بمشاهدتكم، كم الصلاة من سُنة؟ وكم في الطهارة من سنة؟ كم مر بنا من الأحاديث؟ مر بنا عدد كبير من الأحاديث في الطهارة، وسيمر بنا جملة كبيرة من الأحاديث في الصلاة، حتى قال ابن خزيمة رحمه الله وهو من أعلم أمة محمد بسنن الصلاة، قال: في الصلاة خمسمائة سنة، هو لا يقصد بالسُّنَّة ها هنا السنة المعروفة، وإنما يقصد حتى الركن وحتى الواجب وما إلى ذلك، هذه الخمسمائة سُنَّة كان الصحابي يَقدم على النبي عليه الصلاة والسلام، ومِنْ صلاة واحدةٍ يفقهها جميعًا حتى يُصبح أعلم بسنة النبي عليه الصلاة من ابن خزيمة الذي روى مئات الآلاف من الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ولا يقول قائل من الناس: إنَّ مالك بن الحويرث الذي صحب النبي عليه الصلاة والسلام عشرين يومًا، ولا وائل بن حجر الذي صحب النبي عليه الصلاة والسلام ما لا يزيد عن ستة أشهر، لا يقول أحد. أن ابن خزيمة أو حتى محمد بن نصر الخزاعي أعلم منهم، بل هم أعلم، لماذا؟ لأنهم قد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شاهدوا ونقلوا إلى التابعين هذا العلم علمًا عمليًا، كانوا ينهون عن السؤال عن المسائل غير الواقعة، يقول: عليك حتى تقع كما قال أبي ريحنا حتى تقع، فإذا وقعت بحثنا لك، لماذا؟ لأنَّ علم الصحابة علم عملي.
نرجع فنقول: إن العلم الذي تطلبه كثير من النساء علم عملي تطلبه لأجل ماذا؟ لأجل أن تتعبد لله عز وجل به فتعان عليه، كل من طلب العلم لهذا الغرض أُعِيَن عليه، وفُتِحَ عليه في الزمن اليسير ما لا يُفتح على غيره في الزمن الكثير؛ لهذا كان من أهم ما يُقصد إليه في طلب العلم، المسائل السمعية، والمسائل السمعية ماذا يقصد بها؟ يعني: المسائل التي فيها نصٌ من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي المقصودة في المقام الأول، بينما مسائل القياس والنوازل منزلة ثانية.
أنت أصِّل أصلاً صحيحًا، فإذا أَصَّلتَ أصلاً صحيحًا فانطلق إلى ما بعده.
فإذًا أم سليم رضي الله عنها التي هي من فقيهات الصحابة رضي الله عنهن، سألت النبي عليه الصلاة والسلام، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ والاحتلام عند النساء بوجه عام ليس معهودًا، وإنما يعهد الاحتلام عند الرجال، وهو أمر طبيعي لا يتعلق البتة بما يظنه بعض الناس من قوة الرجل أو ضعفه، بل هو أمر طبيعي، ربما يكون الرجل نحيلاً ويظهر أمام الناس هزيلاً، ولكنه يكون أكثر الناس احتلامًا، وربما عكسه، حتى إنَّ بعض السلف قد قال: إنَّ الأنبياء لا يحتلمون، وقال: إنَّ الاحتلام إنما يكون من تلاعب الشيطان، وهذا المعنى غير صحيح، بل يقال: إنَّ الاحتلام أمرٌ طبيعي، فالرجل قد يحتبس فيهما هذا الماء فتخرجه الطبيعة بالاحتلام، فهو أمر طبيعي، وله جاء عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهن انهما قالتا: «كان النبي عليه الصلاة يطلع عليه الفجر وهو جنب من جماع غير احتلام» لَمَّا قالوا: غير احتلام لم يقل الصحابة الذين بجوارهم كيف تقولون غير احتلام! والنبي عليه الصلاة والسلام لا يحتلم ولا يتصور منه ذلك، فلمَّا قلن: «مِنْ غَيرِ احْتِلامٍ» دلَّ على أنه قد يكون النبي عليه الصلاة والسلام يحتلم، ولم يثبت البتة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نفى ذلك عنه ولا أنه أثبته، فالأمر في ذلك واسع.
الشاهد أنَّ الاحتلام بوجه عام أمر تقتضيه الطبيعة، وهو أمر في الرجال أكثر منه في النساء، والاحتلام بوجه عام على نوعين:
الأول: أن يرى الرجل أنه يُعاشر أو يجامع، أو أن ترى المرأة أنها تُجَامَع.
والثاني: أن ينزل الماء -المني- وقد يقترنا غالبا، ولكن في كثير من الأحيان قد ينفردا، فيرى الرجل أنه قد جامع أو المرأة أنها قد جُومِعَتْ ولا يريا الماء، وربما استيقظ فرأى الماء ولم يذكر شيئا، هذا كله بوجه عام يسمى احتلامًا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ» يعني: جعل هذا كله احتلامًا، ولكنه علق الحكم الشرعي بماذا؟ علقه باليقين فأمر بالغسل في حالة واحدة فقط وهي: حالة رؤية الماء.
يقول الإنسان: رأيت أني أجامع لكنني استيقظت وما وجدت شيئًا، نقول: لا تغتسل.
يقول: استيقظت ووجدت الماء، لكني لا أذكر شيئا، نقول له: اغتسل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّقَهُ بماذا؟ علقه برؤية الماء، قال: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ».
قوله عليه الصلاة والسلام: «رَأتِ اْلمَاءَ» يقصد به المني، والمني يخرج من الرجل كما يخرج من المرأة، لكنه غير معهود من المرأة، ولهذا وَبَّخَتْ بعض الصحابيات أم سليم، فقالت أم سلمة: (فضحت النساء يا أمَّ سليم)، وجاء في بعض الروايات أنها قالت: (تربت يمينك). فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل أنت تربت يمينك، من أين يكون الشبه؟
كيف فضحت النساء؟ لأنَّ المرأة إذا احتلمت دلَّ ذلك على أنَّ لها رغبة في الرجل، والأصل في المرأة أنها حيية، وأنها لا تظهر هذا، يعني: لا تستعلن بإظهاره، فلمَّا قالت أم سليم ذلك؛ أظهرته على الملأ، وأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ هذا الأمر يعد طبيعيًا يستنكر ولا يُعاب، بل إنَّ المرأة إنما تتزوج لأجل أنَّ هذا الأمر من معاني الزواج، أعني: العفة بوجه عام.
فإذًا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ» الماء ها هنا هو المني كما ذكرناه سواء كان من الرجل أو المرأة، والأصل في مني الرجل أنه أبيض، والأصل في مني المرأة أنه كما جاء في حديث أنس أنَّ «ماء المرأة اصفر رقيق، وأنَّ ماء الرجل أبيض غليظ» قلنا هذا المعنى لأجل ماذا؟ لأجل أن العلماء رحمهم الله قالوا: لو أنَّ الرجل رأى الماء ولكن اشتبه عليه، -لا يدري- هل هو مني أو مذي، وهذا يقع. قالوا: إن كان يذكر احتلاما فإنَّه يكون منيًا، وإن لم يذكر احتلامًا ولم يتيقن عنده أنه مني فالأصل عنده أنه مذي؛ لأنَّ الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، فأنا ما انتقل من الحدث الأصغر إلى الحدث الاكبر إلا بيقين. أنا قد رأيت الآن ما يفيد أني قد وقعت في الحدث الأصغر، فلا أنتقل عنه إلى الحدث الأكبر إلا إذا استيقنته، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ» فأحال على ماذا؟ أحال على القاعدة الشرعية الكبرى التي قررناها في حديث عبد الله بن زيد، فالرجل الذي يخيل إليه أنه يريد الشيء في الصلاة، قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أ يجد ريحً».
قلنا القاعدة الكبرى: أنَّ اليقين لا يزول بالشك، فإن كنت الآن مستيقنًا أنك طاهر الطهارة الكبرى، وقد استيقنت أنك أحدثت الحدث بخروج، إمَّا المني أو المذي؛ فلا تنتقل إلى الحدث الأكبر إلا بيقين، وهذا من المعاني التي ينبغي أن تقرر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: «نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ اْلمَاءَ».
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله تعالى: (وعن عَائِشَة قَالَتْ: «كنتُ أغْسِل الْجَنَابةَ مَنْ ثَوبِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاةِ وإن بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ».
وفِي لفظ مسلم: «لقد كُنْتُ أفرُكهُ مِن ثَوْبِ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَركاً فيصَلي فِيهِ»)
}
هذا الحديث وهو حديث عائشة رضي الله عنها، هو من عمد الأحاديث المتعلقة بأحكام المني وأحكام طهارة المني؛ فإنَّ المني بوجه عام خروجه من موجبات الغسل، فإن كان جماع فإنَّ الغسل واجب بإجماع الأمة، ما في أحد من العلماء يخالف في أنه إذا حصل الجماع وحصل نزول المني أن الغسل صار واجبًا، ويجب الغسل أيضًا بالإيلاج ولو لم يحصل إنزال على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وسيذكره المصنف رحمه الله بعد قليل.
هذا فيما يتعلق بالحدث، فهو إذًا خروجه يوجب الحدث الأكبر، عندهم يقولون من الحالات التي إذا خرج فيها المني لا يوجب غسلا، أي: يخرج المني خروجًا من غير أن يكون دافقًا، فبعض العلماء قال في مثل هذه الصورة: لا يجب فيه الغسل، لماذا؟ قالوا: لأنه ليس هو صفة المني، وإنما صفة المني أن يخرج دفعًا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله: «إذا فضخت الماء» والفضخ هو الدفع، هذا قول لبعض العلماء، لكنَّ الصحيح أنه متى ما خرج أو كيفما خرج فإنَّه موجب للغسل؛ لأنَّ هذا هو اليقين وما سواه من الصور مشكوك فيه، هذا فيما يتعلق بالحدث.
بقي ما يتعلق بنجاسة المني، إذا كان خروج هذا الحدث يوجب الغسل، فهل هو نجس كالمذي وكالبول وكالودي؟ المذي والودي والبول نجسة بالإجماع أو لا؟ هذا مما وقع فيه الخلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أعظم ما استند عليه العلماء رحمهم الله في تحرير هذه المسألة حديث عائشة رضي الله عنها الذي بين أيدينا، وقولها: «كنتُ أغْسِل الْجَنَابةَ مَنْ ثَوبِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاةِ وإن بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ». وفِي لفظ مسلم: «لقد كُنْتُ أفرُكهُ مِن ثَوْبِ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَركاً فيصَلي فِيهِ» قالوا: الغسل الظاهر أنه قد يستدل به على النجاسة؛ لأنه لَمَّا غسله كان دليلا على النجاسة، لكن لو لم يأت معنا حديث «لقد كُنْتُ أفرُكهُ مِن ثَوْبِ رَسولَ الله»، وفي الحديث الآخر: «لقد كنت أحكه يابسًا بظفري» قالوا: فلمَّا حكته يابسًا بظفرها دلَّ ذلك على أنه ليس نجسًا؛ لأنه لو كان نجسًا لما أجزأ فيه إلا غسله.
قلنا: هذا إنما يصح على ما قررناه سابقًا من أنَّ النجاسات لا تزول إلا بالماء، مع أنَّ القول الصحيح خلاف ذلك، لكنهم قالوا بكل الأحوال حكه بالظفر لا يعني إزالته، وهذا قول صحيح، أنَّ حكه بالظفر إنما يُزيل الظاهر، لكن في المني شيء سائل خفيف ينزل إلى الثوب، فدلَّ ذلك والله أعلم على أنَّ المنيَّ والله أعلم طاهر، وعلى هذا القول إن شاء الله جماهير العلماء، وقول الإمام أحمد وقول الشافعي رحمه الله، وهو الذي يدل عليه عمل الصحابة رضوان الله عليهم، كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه كان يقول: "إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ، وَإِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ".
فإذًا الصحيح في المني أنه ليس بنجس ولكنه يوجب الغسل، وهذا من تشريعات الله عز وجل، يعني: شيء نجس ويوجب الوضوء وشيء غير نجس ويوجب الغسل؛ وذلك حتى يعلم الإنسان أنَّ هناك فرق بين الحدث وبين النجاسة.
الحدث معنى أو وصف يحل الجسد بوجه عام، تقول عائشة رضي الله عنها: «كنتُ أغْسِل الْجَنَابةَ مَنْ ثَوبِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاةِ وإن بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ» قالوا: هذا مما يدل بوجه عام على أنه يُشرع تطهير الثياب من المستقذرات حتى لو لم تكن أنجاسًا فلا يكون في الإنسان أو في ثوبه شيء من بساق أو مخاط أو شي من دم أو نحو ذلك، ومتى ما كان فيه شيء من ذلك أزاله بما استطاع، كما هو فعل عائشة رضي الله عنها لَمَّا أزالته من ثوب النبي عليه الصلاة والسلام.
قالت هنا: «لقد كُنْتُ أفرُكهُ مِن ثَوْبِ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَركاً فيصَلي فِيهِ» قالوا: فيه دلالة على أنه أيضًا إذا غُسل الثوب وخرج به الإنسان إلى المسجد وبقع الماء فيه فإنَّه لا يُؤثر ولا يُعد من عدم كمال المروءة أو مما يُعاب الإنسان عليه، بل يقال: إنَّ هذا الأمر ليس فيه شيء، وليس فيه إشكال أن يكون في ثوبك شيء من النجاسة فتغسلها ثم ترجع إلى الصلاة، هذا ما فيه بأس، بل إن هذا فيه نوع من الخشونة التي أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام، والتنعم هو أن يأتي الإنسان فيغسل الثوب كله، نقول: لا؛ لأنه قد ثبت أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يومًا جالسًا مع أصحابه رضوان الله عز وجل عليهم، فأشار رجل بشيء في ثوب النبي عليه الصلاة من منيٍ أو نحوه، قال: فأرسل به النبي عليه الصلاة والسلام بيد غلام، وأمره أن يغسل هذا الموضع، أمَّا أن يغسل الثوب كله فنقول: لا، لم يكن هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{أحسن الله إليكم صاحب الفضيلة، وشكر الله لكم، والشكر موصول لكم أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله عز وجل في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك