الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44885 18
الدرس الحادي عشر

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم (جادة المتعلم) والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، نستأذنكم في القراءة.
قال الإمام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ. فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ»)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبد ه ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فحديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذا أعظم الأحاديث الواردة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في فضل صلاة الجماعة، ولو اختير حديث ليكون معلمًا لفضل صلاة الجماعة وتقدمها لاختير حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنه قد جمع معانٍ جليلة منها:
- أنَّ في هذا الحديث النَّص الصَّريح الواضح على أنَّ صلاة الجماعة المرادة هي صلاة المساجد، قال ها هنا: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ» فبين النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- على أنَّ صلاة الجماعة ليست هي الصلوات التي تقع بين الإنسان بأكثر من شخص، يعني: صلاة الرجل مع رجلين أو ثلاثة، هذه عند العلماء -رحمهم الله- أو في السنة بوجه عام وعند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم- تدخل ضمن صلاة الفذِّ، وإنما صلاة الرجل في الجماعة هي صلاته في المساجد، قال: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفً»، فالصلاة في البيت والسوق قد قدمنا أنها قد تقع مع أكثر من شخص، بل الغالب أن يصلي الإنسان في بيته ومعه أخوه ومعه ابنه، وربما إذا عجز عن ذلك يصلي معه زوجه أو أخته، والسوق من باب أولى لا يخلو من ذلك.
ومما يدخل في هذا المعنى: صلاة الإنسان في مكتبه وفي مقرِّ عمله، فهي سوق الناس الآن، فالناس تتعدد أسواقهم، فمن أسواق الناس الآن مقارِّ العمل والمكاتب والمجمعات الحكوميَّة والدَّوائر الحكومية؛ فكل المصليات التي فيها هي من باب صلاة الرجل في بيته وفي سوقه، ما لم يكن مَسجدًا مشرعًا.
الأصل في المسجد معنيين بوجه عام:
الأول: أن يكون مسجدًا للجميع، مفتوحَ الباب للجميع، ما يكون مسجدًا مغلقًا لأناس خاصِّين.
الثاني: أن تقام فيه الصلوات الخمس.
فمتى ما وجد فيه هذان المعنيان أصبح مسجدَ جماعة.
فإن قال قائل: من أين هذا المعنى؟
قلنا: من تتبُّعِ واستقراء أحوال المساجد في عهد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وفي عهد أصحابه، فلم يكن شيء يسمى مسجدًّا إلا هذا، وما سواها من مساجد البيوت التي تكون في بيت الإنسان، وقد وضع له مسجدًا فإنه ما يعدُّ مسجدًا بالمعنى الشَّرعي الذي تقع به الجماعة، وهذا مما لا يخالَف فيه، فما لم يكن المسجد مما تقام فيه الصلوات الخمس وما لم يكن المسجد مفتوحًا للناس بوجه عام يصلون فيه ما يكون مقصورًا على أحدٍ؛ فإن هذا يخرج عن كونه مسجدًا إلى أن يسمَّى "مصلَّى" وقد يسمى مسجدًا مجازًا أو مسجدًا لغة، لكنه ليس هو المسجد الذي تقع به هذه الفضيلة.
قوله: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفً»، وهذا فضلٌ عظيمٌ، وفي حديث ابن عمر السابق «سَبْعًا وَعشْرِينَ» وفي حديث أبي سعيد «خَمْسًا وَعِشْرِينَ»، والأكثر «خَمْسًا وَعِشْرِينَ» وإنما جاء في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال «سَبْعًا وَعشْرِينَ»، وهذا عند العلماء -رحمهم الله- ليس من باب الخطأ، ولكن من باب تفاضل الأجور، قد تُضعَّف لرجل سبعًا وعشرين، وقد تُضعَّف لرجل خمسًا وعشرين، لكن أقل التضعيف هو خمس وعشرين، وهذا فضل عظيم، صلاة واحدة يصليها الإنسان فتضعَّف خمسًا وعشرين ضعفًا مما لا شك فيه أنها خير من صلاة الرجل هذا الذي فذًّا خمسة أيام، حتى يُدرك فضيلة فرض واحد يحتاج لأن يصلي خمسة أيام، فهذا من الفضل العظيم الذي لا ينبغي أن يُفرَّط فيه.
ثم شرع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُبين فضيلة المساجد، ففضل المسجد بوجه عام ليس فقط في صلاة الجماعة، فالنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يريد أن يُبيِّن أن المسجد خير كله، قال: «وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ»، هذا فيه اعتبار النيَّة، قال: «لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ»، فهذه أيضًا أوزار، فكما أن الصلاة درجات فهذه أيضًا أوزار تُحط عنه ودرجات تُرفع له، فترفع له بإحدى خطوتيه درجة وتُحط عنه بالأخرى سيئة، وهذا كله مما يُعين على حسن الصلاة، فمن أعظم ما يُعين على حسن الصلاة التَّقلُّل من الذنوب، فكلما قلَّت ذنوب الإنسان كانت صلاته أعظم، وكان وقع الصلاة في قلبه أعظم.
إذًا؛ أنت بحاجة إلى شيءٍ يُكفَّر عنكَ الذنوب قبل أن تشرع في هذه الصلاة.
ومما يُكفر الله -جَلَّ وَعَلَا- به عنك الذنوب من غير أموال تنفقها: هذه الخطوات التي تخطوها إلى المسجد، وهذا من أعظم ما يُعين على الخشوع في الصلاة.
ولهذا لا يكاد أحد يعقل عن الله -عز وجل- ولا عن رسوله ﷺ يقول: إنَّ صلاة الجماعة في بيتي أرتاح وأطمئن وأخشع وأُقبل على الله -عز وجل- أكثر من إقبالي عليها في المساجد! لا يقولها أحد، ومن قالها قيل له: إن فيك من سيمات أهل البدع.
فإنَّ المخالفين التاركين لصلاة الجماعة على ثلاثة أقسام:
- قسم منهم مُذنب وخطَّاء ويستغفر الله -عز وجل- وربما تأوَّل وكان على مذهبٍ من المذاهب الثلاثة -الشافعية أو المالكية أو الحنفية- الذي يرون أنَّ صلاة الجماعة مسنونة أو فرض كفاية، فحديثنا ليس موجَّه له.
- وقسمٌ إنما يترك صلاة الجماعة تقاعسًا وتكاسلًا، فهذا قد تخصَّل بخصلة من خصال المنافقين.
- وقسم -والعياذ بالله- وهو شرُّ هذه الأقسام الثلاثة كلهم: يتركها تديُّنًا، وهم المعتزلة والخوارج الرافضة، ولهذا كانت صلاة الجماعة هي الفيصل بين السني والبدعي، ولهذا ترى علماء السنة يقرِّرون ويقولون: "ونرى الجماعة خلفَ كل برٍّ وفاجر من أمة محمد ﷺ".
ما الغرض من تقرير هذا المعنى؟
الغرض من تقريره: مخالفة أهل البدع، الذين يبدعون أهل السنة ولا يصلون خلفهم، لأنه لَمَّا كان -بحمد الله- أهل السنة هم الذين لهم الغلبة والظهور، كانت المساجد إنما هي مساجدهم، كان البدعي يقول: كيف أصلي خلف هذا الذي أرى أنه مبتدع؟ فيعتزل الصلاة، فمن اعتقد أن صلاته في بيته أعظم خشوعًا لقلبه؛ كان إما هو معتزلي أو خارجي أو رافضي، هؤلاء الثلاثة هم الذين يتعبدون لله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصلوات في البيوت، ولهذا ما يركع لله -عَزَّ وَجَلَّ- ركعة في المساجد، وقد تعطَّلت منهم المساجد، والمعتزلة من أعظم الناس هجرًا للجماعة، والخوارج لا يرون أصلًا مشروعية الائتمام بأحد بعد رسول الله ﷺ، والرافضة حالهم معلوم، ما يصلون في المساجد وما عندهم مساجد أصلًا!
فإذًا؛ مما لا شك فيه أنَّ من أعظم ما يتقرَّب به العبد لله -عَزَّ وَجَلَّ: أن يعلم أنَّ في ذهابه إلى الجماعة إحياء للسنة، ذكرنا فيما سبق حديث «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ» ، وأنه يشرع للإنسان أن يجمع بين النِّيَّات، فإذا ذهبت للمسجد يا أخي تعبَّد لله -عَزَّ وَجَلَّ- بإحياء السنة، وإحياء جماعة المسلمين وجمع كلمتهم، وتقويتهم على عدوهم، انظر المهابة التي تقع للمسلمين، حينما يُرى أنهم يصلون خلف إمام واحد في الحرم المكي أو الحرم المدني، شيء عظيم يقع في القلوب، رهبة عظيمة، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده.
ولهذا كان العلماء -رحمهم الله- يقولون: تشرع الجماعة في كل حين وتتأكد في مساجد الثغور، حتى أن الحنفية والمالكية والشافعية الذين يرون بسنية الصلاة ربما قالوا أحيانًا بوجوبها في هذه المساجد، مساجد الثغور التي تشرف على العدو، حتى يرى العدو كثرة المسلمين، فإذًا تكثير سواد المسلمين في الصلاة من أعظم ما يتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فهي إذًا من أعظم معاني التي ينبغي أن يُلتفت إليها، ولا يغيب ذهن الإنسان عنها.
قال: «وَذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ. فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ».
هذا أيضًا من الفضل العظيم، تقدَّمت في الصلاة فمكثتَ وقتًا يسيرًا فأنت في صلاة وتجري عليك أجور المصلي، لما انتظر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث حميد عن أنس وحديث الحسن عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهم: «انْتَظَرْنَا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، حتَّى كانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: ألَا إنَّ النَّاسَ قدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا، وإنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا في صَلَاةٍ ما انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ» ، ما دامت تنتظر الصلاة يا أخي لا تتعجل ولا تقلَّب وتنظر إلى الساعة ما دام أن ما عندك أمر ولا حاجة ولا ضرورة، يا أخي هذه عبادة تتعبد فيها لله -عَزَّ وَجَلَّ- دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث، كثير من الناس ربما يستثقلها! فإذا سلَّم وخرج إلى المسجد وجدته يتحدَّث مع صاحبه ربما الدقائق وربما السَّاعات! هذا مما لا شك فيه أنه من عدم مراعاة فضائل العبادات، وعدم مراعاة الوقوف بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»، لو لم يكن من فضل انتظار الصَّلاة إلا صلاة الملائكة عليك ودعاؤها لك لكفى بذلك فضلًا وشرفًا.
وفي هذا دلالة على أنَّ معنى الصلاة: الدعاء، قال: «فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»، صحيح أنَّ الصلاة أيضًا بمعنى الثَّناء على العبد في الملأ الأعلى، لكن أيضًا الثناء في الملأ الأعلى بمعنى الدعاء له، أو ذكره بالذكر الجميل.
قال: «وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ»، أيضًا هذا المعنى قررناه في حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ، ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ»)}.
هذا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو أحد الأحاديث التي قدمناها وذكرنا أنها مما يدل على وجوب صلاة الجماعة، فإنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد توعَّد هؤلاء، ومَن زعم من العلماء أنَّ هذا إنما هو في صلاة الجمعة فقد أخطأ، لأنَّ النَّص واضح، قال: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ، ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ».
فصرف لفظ الصلاة الذي يحمل على أقرب معهود ومذكور الذي هو "صلاة الفجر والعشاء" على معهود بعيد لا يحصل إلا في الأسبوع مرة واحدة، مما لا يسوغ، تأخذ لفظ "الصلاة" وتحمله على صلاة الجمعة! هذا مما لا يسوغ، فالأصل في هذه الصلاة أنها هي صلاة العشاء والفجر، وأنها هي الصلاة المكتوبة، فالصلاة المكتوبة بوجه عام تقاس على العشاء والفجر.
وقد بيَّن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ثقل هذه الصلاة، فقال: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَ»، أي من الفضل والأجر. قال: «لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوً».
إذًا؛ كل صلاة تقع في وقت غفلة الناس وفي وقت نومهم فإنها تكون ثقيلة، ويُميَّز بها أهل الإيمان من أهل النفاق.
وفي هذا الزمان صارت صلاة العشاء غير ثقيلة على كثير من الناس، فإذًا ما تكون هي المعيار، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فثقل صلاة العشاء والفجر على المنافقين ليس لذات صلاة العشاء والفجر، ولكن لأجل أنها تقع في أوقات نومهم، فالأصل في العرب أنهم ربما تعشوا قبل غروب الشمس، فإذا غربت الشمس من قبل الإسلام نام الإنسان، ألم تسمعوا قول عمر: "نام النساء والصبيان"؟ فالأصل عندهم أنه إذا غربت الشمس ناموا كطيور، فحال العرب في الزَّمن الأوَّل وحال الناس كالطير ينام عند غروب الشمس ويستيقظ عند طلوع الشمس.
فإذًا الأصل أنَّ المنافقين إنما ثقلت عليهم صلاة العشاء والفجر ليس لذات صلاة العشاء والفجر، ولكن لأجل أنها تقع في أوقات نومهم، فكل صلاة تقع في أوقات نوم الناس فإنه يقاس بها إيمان الإنسان من نفاقه، صلاة العشاء أصبحت صعبة عند كثير من الناس، لكن أصبح يقابلها بالصعوبة صلاة العصر، يرجع الإنسان من دوامه فينام، فتثقل عليه صلاة العصر، فيقال: العصر الآن أصبحت مقياس، كما أن الفجر أصبحت مقياس الآن بين الرجل المؤمن وبين الرجل الذي في قلبه شعبة من النفاق.
وها هنا إنما يراد بها أيضًا شهودها في الجماعة؛ لأنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد بيَّن أن ثقلها هنا في إتيانها، قال: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوً» ما قال: "صلوهما"، لو كان الأمر صلاة؛ بل قال: «لَأَتَوْهُمَ»، والإتيان إنما يكون إلى المساجد، فدلَّ ذلك على تقرير هذا المعنى، وهذا مِن أعظم ما استدلَ به الحنابلة -رحمهم الله- على تقرير القول الصَّحيح الذي هو قول الصحابة وقول جماهير علماء الحديث: أن صلاة الجماعة واجبة، لأن صلاة الجماعة واجبة، ذهب بعض العلماء إلى أنها شرط في الصلاة.
وثبت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «لَا صَلاةَ لجارِ المسجِدِ إلَّا في المسجدِ»، جاء هذا موقوفًا عن ابن عباس وهو لا يصح عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وقوله: «لَا صَلاةَ لجارِ المسجِدِ»، يعني لمن سمع النداء، فدلَّ ذلك على وجوبها.
ولهذا قال الظَّاهرية ببطلان الصلاة لمن يصلي وحده من غير عذر، فصلاة الجماعة واجبة عليك، فمعنى وجوب صلاة الجماعة مما قرَّره حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في تحريض هؤلاء، وأنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إنما كفَّ عن تحريقهم لِمَا في بيوتهم من النساء والصبيان الذين لا ذنب لهم، لا ذنب لهم هم معذورون يصلون الصلاة في بيوتهم.
{قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عبد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعُهَ» قَالَ: فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عبد اللَّهِ: وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عبد اللَّهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتَقُولُ: وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ؟" وَفِي لَفْظٍ «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وحديث عبد الله بن عمر ليس مما يستشهد به غالبًا على وجوب صلاة الجماعة، لأنَّ الأصل في حديث عبد الله بن عمر أنه يساق في جواز شهود المرأة للجماعة، لكن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أراد بذلك بيان تأكيد صلاة الجماعة، وأن المرأة لو أرادت صلاة الجماعة فلا يجوز لزوجها أن يمنعها منها، فدلَّ ذلك على تعظيم قدر صلاة الجماعة، وعلى أفضليتها وعلى آكاديتها، مع أنَّ الأصل في النساء بوجه عام أنَّ الجماعة لا تُشرع لهن، وقد ثبت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «وصلاتُها في دارِها خيرٌ من صلاتِها في مسجِدِ قومِه» ، فهذا الأصل مقرَّر بوجه عام، وإن كان موضع خلاف بين العلماء -رحمهم الله- لكن السنة قد جاءت بتقريره، وهو أنَّ الأصل في صلاة المرأة أن تصلي في بيتها، لكن قال بعض العلماء -رَحِمَهُم اللهُ: إنه قد يستثنى من ذلك صلاة الجماعة، لأننا رأينا نساء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- كنَّ يُصلين مع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، كما جاء عن عائشة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ»، وصلاة النساء مع الرجال في عهد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مُتواترة، فإنَّ النساء كنَّ يشهدنَها، وقد كانت عاتكة بنت زيد تشهد صلاة الجماعة فلا تكاد تتخلف عنها البتة، وكان يشق ذلك على أزواجها، فكان أول أزواجها عبد الله بن أبي بكر، ثم خلفه عمر -رضي الله عنه- فكان يشق عليه ذلك ولا يمنعها، لنهي النبي ﷺ عن منعهن، فكان يشق عليه من جهة أنه يغار عليها، وكذلك الزبير -رضي الله عنه- لَما عقَّب عليها بعدَ عمر -رضي الله عنه- كان يشق عليه خروجها.
قال بعض العلماء: إنَّ هذا يدل على مشروعيَّة شهود النساء للجماعة.
وإذا كان كذلك؛ فإنَّ هذا مما يدل على مزيد تأكيد صلاة الجماعة للرجال، لأنه إذا شُرعَت في حق النساء ومُنِعَ الرجل من أن يمنع امرأته من شهودها؛ فلأن تكون في حق الرجال من باب أولى.
وبناء عليه؛ فلو أنَّ الأم منعت ابنها عن صلاة الجماعة خوفًا عليه لم يُطعها كما قال الحسن -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لأنَّ صلاة الجماعة واجبة عليه، ولا يجوز لها أن تمنعه، وإذا كانت المرأة التي لا تجب عليها صلاة الجماعة لا يجوز لزوجها أن يمنعها، ولو منعها لم يكن له عليها طاعة؛ كان ذلك في حق مَن وجبت عليه صلاة الجماعة من باب أولى، وهذا المعنى مما ينبغي أن يُقرَّر من حديث «لا تَمْنَعُوا إماءَ اللهِ مساجِدَ اللهِ» ، وحديث «إذا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أحَدِكُمْ إلى المَسْجِدِ فلا يَمْنَعْه» ، وقد جاء في بعض الروايات كما في حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر: «إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» .
والأظهر في فعل الصحابيات -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- أن شهودهنَّ للجماعة إنما كان غالبًا في الليل، ما كنَّ يشهدنَ الظهر والعصر إلا يسيرًا، فكان الشهود في الليل؛ لأنه تستتر فيه المرأة، وهذا مما يُقرر أنَّ المرأة إذا كانت تخرج غير مُستترة ما تخرج، اجلسي في بيتك لا تخرجين، لا تصلين التراويح، وقد قبل الله منك وأراحك، لا تخرجين بزينتك تفتنين عباد الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الصلاة، إذا لم تخرجي مستترة كما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- غير متطيبة فالصلاة في البيت خير لك، خروجك الآن ما له معنى، بالعكس آثام وأوزار، وإنما تخرج المرأة وهي مستترة، وهذا المعنى يقرِّره ما ذكرناه من أنَّ الأصل في صلاة النساء إنما كانت في الليل، لأنه أكمل للستر ولهذا جاء في حديث ابن عمر: «إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ».
إذا تقرر هذا المعنى فنقول: الأصل بوجه عام في حضور المرأة للمسجد أن تحضر مستترة، وإنَّ هذا كان فعل الصَّحابيات، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ»، هذا هو الأصل.
قد ثبت أن بعض الصَّحابيات شهدن صلاة الظهر أو العصر مع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وإنما كان ذلك في صلاة كسوف، كما في قصة أسماء -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أو في العيد كما في قصة جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي غيره من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم.
قال ها هنا: (فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) وهو بلال بن عبد الله بن عمر، وقد سماه بلالًا على بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي هذا معنى لطيف وهو: أنه ينبغي للإنسان حقيقة إذا سمى أن يراعي التسمية أو المسمى عليه فإنَّ لهذا أثر عظيم، ولهذا النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لما جاءه أبو أسيد بابنه قال له النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: سمه "المنذر"، على اسم الصحابي المنذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي استشهد تيمنًا به، فالتسمية على أسماء أهل الفضل والصلاح مما ينبغي يُقصد، وقد كان الزبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يسمي أبناءه كلهم على أسماء الصحابة الذين استُشهدوا، فسمى عروة على اسم عروة بن الزبير، وسمى مصعب على مصعب بن عمير، وسمى حمزة على حمزة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وهكذا...، وكان يسمي بأسماء الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم- تيمنًا بهم. فإذا هذا المعنى مما ينبغي يراعى.
وكان بلال هذا سماه أبوه عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على بلال مؤذن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال: «وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ»، أخذته الغيرة، وهذا من سوء الأدب، فلا تزايد على رسول الله ﷺ، غيرةُ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وغيرةُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أعظم من غيرتك، ولو كان في ذلك أمر يستدعي الغيرة لما رخَّص فيه، النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال: (فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ)، وفي بعض الروايات أنه قال: (لعنك الله)، وابن عمر لم يكن من اللَّعانين، لكن لأجل أنه مخالف للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقد جاء في بعض الروايات أن ابن عمر هجره هجرًا طويلًا، لأنه يقول له: قال رسول الله ﷺ، وهو يقول: والله لنمنعهن! هذا من الرد على رسول الله ﷺ!
ولهذا ينبغي للمؤمن إذا سمع قول النبي ﷺ؛ يقول: سمعنا وأطعنا، نسلم لأمر الله وأمر رسوله ﷺ.
{قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ».
وَفِي لَفْظِ: «فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ: فَفِي بَيْتِهِ». وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ. وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِيهَ»)
}.
هذا حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- الذي هو أصل في بيان السنن الرواتب، لَمَّا فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر وجوب صلاة الجماعة وذكر مواقيت الصلاة، كان أعظم الصلوات بعد هذه الصلاة صلاتي السنن الرواتب والوتر، فيذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا السنن الرواتب ثم سيعقب فيما بعد إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- بذكر الوتر، لكنه إنما ذكر السنن الرواتب وقدَّمها هنا لأجل أنها مرتبطة ارتباطًا ظاهرًا بالمكتوبات، وهذا من حسن الترتيب، فذكر فيه حديث ابن عمر الذي هو أصل الرواتب.
لو قال قائل: ما هي السنن الرواتب؟
نقول لك: في حديث ابن عمر، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فهذه عشر ركعات.
فإن قال قائل: فأين أنتم من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- أنَّ النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَومٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا، غيرَ فَرِيضَةٍ، إلَّا بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا في الجَنَّةِ» ، ثم ذكر التفصيل وفيها أنها أربعًا قبل الظهر؟
قلنا: حديث ابن عمر مُقدَّم، وحديث أم حبيبة يقال فيه والله أعلم: إنه عام في سنن الرواتب وغيرها حتى ما يُضيق على الإنسان، إن فاتتك الاثنا عشر ركعة من السنن الرواتب صلِّ أربع ركعات ضحى، أو تنفَّل ما شئتَ بعدَ صلاة المغرب أو بعد صلاة العشاء؛ كلها تدخل في هذا؛ لأنَّ النص صريح، قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَومٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعً»، فكل ما كان تطوعًا فإنه داخل ضمن هذا الفضل، وهذا هو الأصح، وأمَّا أن يُقيد الإنسان فيقول: إنَّ السنن الرواتب قبل الظهر أربعًا، فإن فاتتك فقد فاتك سنن الرواتب! نقول: لا.
وهذا مما يثقل على كثير من الناس، فإنَّ من أعظم السنن التي يُلحَظ أنَّ كثيرًا من الناس يتخلى عنها هي السنة القبلية للظهر؛ لأنها أربع ركعات، فربما استثقلها الإنسان، وربما أدركه الوقت أو زحمه فلا يقضيها!
فيُقال: الأظهر أن ما قبل الظهر ركعتان، نعم قد جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لم يكن يدع أربعًا قبل الظهر»، لكن هل هذه هي سنن الرواتب؟ أو هذه نافلة زائدة عليها؟
من العلماء مَن قال: هي نافلة زائدة عن هذه السنة، وأمَّا سنة الظهر المعروفة فهي ما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- الذي كان أشد الناس اتباعًا وملاحظةً لرسول الله ﷺ.
قال: «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ»، بعد صلاة الجمعة تشرع ركعتان.
وقد جاء في حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي أخرجه الإمام مسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعً» .
- فقال بعض العلماء بترجيح حديث ابن عمر.
- وقال بعضهم: بل يُقال: إنَّه إن صلى في المسجد صلَّى أربعًا، وإن صلَّى في بيته صلَّى ركعتين حتى يجمع بين الحديثين؛ لأنَّ حديث ابن عمر فيه: «كَانَ لاَ يُصَلِّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ» .
قال: «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ». وَفِي لَفْظِ: «فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ: فَفِي بَيْتِهِ»، يعني: هذه الركعات كان يُصليها النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في بيته.
أمَّا ركعتا الظهر القبلية فكان النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يصليها أحيانًا في المسجد، وكذلك أيضًا البعدية.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ. وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِيهَ»).
هذه سنة الفجر التي هي أشد السنن الرواتب تأكيدًا، وسيذكر المصنف بعد قليل حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: «لَمْ يَكُنِ النبيُّ ﷺ علَى شيءٍ مِنَ النَّوافِلِ أشَدَّ منه تَعَاهُدًا علَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ»، وفي لفظ مسلم: «رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَ»، هذه هي آكد السنن الرواتب، ولهذا ما كان النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يدعها لا في سفر ولا في حضر، فإنَّ الأصل في السنن الرواتب أنها تسقط في السفر، يقول ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَمَّا صلى ركعتين لم يصلي قبلها ولا بعدها"، وأثره عن رسول الله ﷺ، فأمَّا سنة الفجر فقد ثبت في حديث أبي قتادة لَمَّا ناموا عن الصلاة وهم في سفر، قال: «ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» ، وركعهما من كان يركعهما ومن لم يكن يركعهما من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهم-، فدلَّ على أنَّ الأصل في سنة الفجر أنها ثابتة ومقررة.
وإذا كان كذلك فإنَّ سُنَّة الفجر من السنن التي لم يذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا، والسبب في ذلك أنه لم تسعفها الأحاديث المتفق عليها:
فمن سننها التخفيف، فإنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان يخففهما حتى تقول عائشة: «كأنَّ الأذانَ بأذنيْه» ، يعني: كأن المؤذِّن يُقيم، وفي هذا -والله أعلم- معنى جليل، وهو أنَّ الإنسان إذا صلى وأقام المؤذن أنه لا يقطع، وأمَّا حديث: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فلا صَلَاةَ إلَّا المَكْتُوبَةُ» ، أي: لا صلاة مبتدأة، فأمَّا الصلاة التي صليتها فالأصل في ذلك أن تخفِّفها، كما قالت عائشة: «كأنَّ الأذانَ بأذنيْه»، يعني كأن المؤذن الآن يقيم الصلاة فهو يخفف الصلاة ويسرعها.
تقول عائشة في المعنى الآخر: «حتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هلْ قَرَأَ بأُمِّ الكِتَابِ؟» ، معناه: أنه لا يشرع بعد طلوع الفجر إلا ركعتا الفجر، فيركع هاتين الركعتين ثم يصلي بعدها صلاة الفجر، فإذا صلى صلاة الفجر دخل في حقه وقت النهي.
كذلك إذا صلى صلاة العصر دخل في وقته حق النهي حتى لو قدَّم صلاة العصر وصلاها صلاة جمع، فلو أنَّ إنسانًا مسافرًا يومًا ودخل عليه وقت صلاة الظهر صلَّى الظهر والعصر جمعًا، نقول: الوقت في حقك الآن أصبح وقت نهي إلى غروب الشمس.
كذلك إذا صلى صلاتي المغرب والعشاء جمعَ تقديم فله أن يوتر؛ لأن الوتر بعد صلاة العشاء، وأنت قد أوقعت صلاة العشاء.
إذًا؛ الأمر الأول: لا يشرع بوجه عام أن يصلي الإنسان بعد طلوع الفجر إلا ركعتا الفجر.
الأمر الثاني: يشرع فيهما تخفيفهما.
الأمر الثالث: أنهما لا يسقطان في سفر ولا في حضر.
الأمر الرابع: أن السنة المتواترة عن رسول الله ﷺ أو المشتهرة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه كان يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص -قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد- قد جاء هذا في غير ما حديث من حديث ابن عمر ومن حديث ابن مسعود ومن حديث ابن عباس وغير ما واحد، يقرأ فيهما بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ و ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ، وجاء فيهما أيضًا القراءة بـ ﴿قُولوا آمَنَّا باللَّهِ وَما أُنْزِلَ إلَيْنَ﴾ [البقرة:136] في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران:64]، وفيه دليل على جواز أن يقرأ الإنسان في الركعة الواحدة بآية واحدة، هذا فيما يتعلق بسنة الفجر.
نأتي إلى سنة الظهر: سنة الظهر قد ذكرنا قبل قليل من أحسن ما فيها والأشهر أنها ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وأنه لا بأس أن يصليها الإنسان أربعًا أحيانًا إذا نشط؛ لأنه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان يصليها أربعًا قبل الغداة، لكن المعروف من السنن الرواتب أنها ركعتان، كما في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولهذا كان أبو حاتم -رَحِمَهُ اللهُ- وأبو زرعة وهما من أئمة أهل الحديث يدفعان حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه أصحاب سنن الترمذي وغيره بهذا الحديث، فيقولان: "إنما تُردُّ السنن إلى حديث ابن عمر"؛ لأنَّ هذا هو الأصل في سنن الرواتب، وما ذكر ابن عمر ها هنا سنة قبل العصر، وإنما ذكر سنة قبل الظهر وسنة بعدها، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وما ورد فيهما تخفيف، فالأصل فيهما أن تصلى كما يشاء الإنسان.
أمَّا العصر فلم يرد فيه شيء، وقد جاء فيه حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من حديث أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «ثمَّ يصلِّي قبلَ العصرِ أربعَ رَكَعاتٍ» ، وهذا الحديث على الصحيح عند أهل العلم من الأحاديث المعلَّة، وجاء فيه حديث جعفر بن مسلم بن مهران عن جده عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «رحمَ اللهُ امرأً صلَّى قبلَ العصرِ أربعً» وهذا الحديث أيضًا في إسناده نظر، فإذًا صلاة العصر ما يشرع قبلها شيء، لكن لو أن الإنسان تنفَّل بين الأذانين كما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «بيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاةٌ» فإن هذا سائغ.
من الخطأ الشنيع: أنَّ بعض الناس أصبح يلتزم أربعًا قبل العصر كأنما هي سنة راتبة.
ونقول: ما عاد هناك فرق بين السنن الرواتب وغيرها! فلتكن السنن الرواتب بدل ما هي عشر أو اثنا عشر صارت أربعة عشر أو ستة عشر.
قال: «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ»، وركعتا المغرب قد جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه كان يُسميهما "صلاة البيوت"، كما جاء في حديث كعب بن عجرة، ويشهد له حديث ابن عمر، نعم حديث كعب بن عجرة في إسناده نظر، لكن يشهد له حديث ابن عمر، فإنه قال: «فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ: فَفِي بَيْتِهِ»، فيدل على ما قررناه من أن الأصل في سنة صلاة المغرب أن تكون من صلاة البيوت، يعني تصلى في البيت.
وهذا مما يقرر أن السنن الليلية يُشرع فيها ويُؤكد فيها تأكيدًا أوليًّا أن تكون في البيت، بخلاف السنن النهارية، فالسنن النهارية قد يُوسَّع فيها، لكن السنن الليلية الأولى فيها أولوية مطلقة أن تكون في البيت، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لأصحابه: «فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ في بُيُوتِكُمْ» ؛ لأنَّ النوافل التي تقصد إنما أغلبها نوافل ليلية، فلأجل ذلك قلنا لما قررناه قبل قليل.
قال: (وَفِي لَفْظِ: «فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ: فَفِي بَيْتِهِ». وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»).
تكلمنا عن صلاة المغرب وعن سنة المغرب، وقد جاء في بعض الروايات كما في حديث ابن عمر أنَّ قال: «رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ، وَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ » ولكن هذا حديث معلول، ولكن لو فعل فلا بأس؛ لأنَّ الأصل فيهما أنهما تخففان.
ثم سنة العشاء، وسنة العشاء قد ثبت أنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- صلَّاها ركعتين، وقد جاء في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان يصليها أحيانًا أربعًا، «ثُمَّ جَاءَ إلى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ» ، وجاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو حديث يُسأل عنه كثيرًا، أنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَانَ كَعِدْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ، وهذا الحديث يثبت موقوفًا على عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهما-، ولكنه لا يصح مرفوعًا إلا النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، والجزم بهذا الفضل حقيقة مما يُحتاج إلى سند أقوى، لكن يُقرر معنى مشروعية الصلاة الأربع بعد صلاة العشاء أحيانًا فعل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث ابن جبير عن ابن عباس الذي رواه الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ»)}.
لَمَّا فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر مواقيت الصلاة تكلَّم عن أول ما يكون في المواقيت، فإنَّ أول ما تُعلم به المواقيت هو الأذان.
والأذان بوجه عام هو: الإعلام، ومنه قوله تعالى: ﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنبياء/109] يعني: أعلمتكم، وقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة/3] أي: إعلام من الله ورسوله.
فإذًا الأذان بوجه عام: هو الإعلام.
وهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بهذه الألفاظ المخصوصة، وقد كان الأذان أوَّل الأمر شاقًا عسيرًا، فإنه من حين ما فُرضت الصلوات المكتوبة على النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قبل الهجرة بثلاث سنوات -أو بسنتين على قول- حينما عرج به ﷺ فُرضت الصلوات ونزل جبريل على النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من يومه فعلمه المواقيت، فلم يُصلِّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- صلاة إلا في وقتها بعد ذلك، هذا أمر متقرر، لكن لم يكن ثَم أذان، وإنما كان الناس يجتمعون ويتحيَّنون كحالهم في صلاة العشاء، أحيانًا يجتمعون وأحيانًا يُبكِّرون وأحيانًا يتأخَّرون، فإذا اجتمع الرهط منهم صلَّوا، فشقَّ ذلك على المسلمين، واستمر الحال على هذا إلى أن هاجر الناس إلى المدينة، وكانوا يجتمعون في العصبة فيصلي بهم سالم مولى أبي حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكان أكثرهم قرآنًا، ثم هاجر إليهم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، والحال على ما هو عليه، فشكوا إلى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-أن الصلاة تفوتهم، فكان في السابق الأمر هين عندهم، في مكة يصلون مستخفين، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرجلان والثلاثة، ما يصلون خلفَ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بكل الأحوال، في المدينة قبلَ أن يقدم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إن فاتتهم الصلاة مع سالم صلوا مع فلان، لكن جاء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فشقَّ عليهم أن تفوتهم الصلاة مع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فذكروا شيئًا يعرفون به وقت الصلاة، نتسامع فيه حتى نُقبل، فاقترحوا أن يوروا نارًا قالوا إذا جاء وقت الصلاة أورينا نارًا، طيب توري نارًا في الليل، فماذا ستصنع في النهار؟ أو يصنعوا بوقًا كبوق اليهود، أو ناقوسًا كناقوس النصارى، وهم على هذا الأمر خرجَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعبد الله بن زيد، والإنسان بوجه عام يرزق على قدر نيَّته، فالرجل من هذين الرجلين خرج مهمومًا، إنما فكره من نصنعه مع هذا الأمر، قال عبد الله بن زيد: «لَمَّا أمَر النَّبيُّ ﷺ بالنَّاقوسِ لِيُضرَبَ به لِيجتمَعَ النَّاسُ إلى الصَّلاةِ أطاف بي مِن اللَّيلِ وأنا نائمٌ رجُلٌ عليه ثوبانِ أخضرانِ وفي يدِه ناقوسٌ يحمِلُه فقُلْتُ: يا عبدَ اللهِ أتبيعُ النَّاقوسَ؟ قال: فما تصنَعُ به؟ قُلْتُ: أدعو به إلى الصَّلاةِ قال: أفلا أدُلُّكَ على خيرٍ مِن ذلكَ؟ قُلْتُ: بلى قال: إذا أرَدْتَ أنْ تُؤذِّنَ تقولُ: اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ أشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ أشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ حَيَّ على الصَّلاةِ حَيَّ على الصَّلاةِ حَيَّ على الفلاحِ حَيَّ على الفلاحِ اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ لا إلهَ إلَّا اللهُ ثمَّ استأخَر غيرَ بعيدٍ ثمَّ قال: تقولُ إذا أقَمْتَ الصَّلاةَ: اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ أشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ حَيَّ على الصَّلاةِ حَيَّ على الفلاحِ قد قامتِ الصَّلاةُ قد قامتِ الصَّلاةُ اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ لا إلهَ إلَّا اللهُ فلمَّا أصبَحْتُ غدَوْتُ على رسولِ اللهِ ﷺ فأخبَرْتُه فقال: إنَّها لَرُؤيا حقٍّ إنْ شاء اللهُ، قُمْ فأَلْقِ على بلالٍ ما رأَيْتَ فلْيُؤذِّنْ فإنَّه أندى صوتًا. فقُمْتُ مع بلالٍ فجعَلْتُ أُلقي عليه ويُؤذِّنُ بذلكَ فسمِع عُمَرُ صوتَه وهو في بيتِه على الزَّوراءِ فقام يجُرُّ رِداءَه يقولُ: والَّذي بعَث محمَّدًا ﷺ بالحقِّ لَأُريتُ مِثْلَ ما رأى فقال رسولُ اللهِ ﷺ: فللَّهِ الحَمْدُ» كان هذا هو مبدأ الأذان، فلما رأى عبد الله بن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذه الرؤيا وشرع الأذان دلَّ ذلك بوجه عام، على أنه إذا كان ثَم مدينة أو ثم قرية فإنه لا بد فيها من أذان، هذا فرض كفاية، وأنه إذا أجمع أهل بلد على تركه قوتلوا، يقول أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما يرويه عبد العزيز بن صهيب عنه: «كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُغِيرُ إذَا طَلَعَ الفَجْرُ، وكانَ يَسْتَمِعُ الأذَانَ، فإنْ سَمِعَ أذَانًا أمْسَكَ وإلَّا أغَارَ» ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الأذان من أعظم شعائر الدِّين الظَّاهرة، وأنه لا يجوز التواطؤ تركه ولا على تعطيله، وأنه إنما يكون بحيث تقع به الكفاية، إذا كانت المدينة يكفيها ثلاثة مؤذنين أو أربعة مؤذنين فكذلك، وليس من شرط الكفاية أن يسمعه كل الناس، لكن يؤذن في أرجائها، لأنه من المتقرر أن بلالًا لما كان يؤذن ما كان يسمعه أهل المدينة كلهم، وما كان النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يقول: ضعوا في مكان مؤذن بحيث ينتهي إليه الصوت! لا؛ بل الأصل في ذلك أن يُقال: يكون في كل جزءٍ من المدينة مؤذن، ويؤمر الإنسان بأن يأتي إلى الصلاة، فإتيان الصلاة ليس من شرطها السماع الأُذني، وإنما شرطها تمكُّن السماع -بمعنى حصول السماع- فهذا هو الأصل في الأذان، وأنه ما يجوز تركه ولا الإقرار بتركه ولا التواطؤ عليه، وتركه والتواطؤ عليه مما يجعل الإنسان يدخل في ضمن المُقاتَلَة، فيُقاتله الإمام.
لَمَّا رأى عبد الله بن زيد هذا المنام ونقله إلى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أمر النبي ﷺ بلالًا أن يشفع الأذان وأن يوتر الإقامة.
وشفع الأذان: بمعنى تثنيته.
ووتر الإقامة: بمعنى إفرادها.
وتثنية الأذان: أن تُكرر جُمله بحيث تكون مثنَى مثنَى "الله أكبر الله أكبر" هذه جملة واحدة، فتُكرر مرتان وتكون "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر".
كذلك "أشهد أن لا إله إلا الله" هذه جملة تُكرر مرتان، "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله"، هذه مثنى.
كذلك "أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، هذا شفع.
وكذلك "حي على الصلاة، حي على الصلاة"، هذا شفع.
وكذلك "حي على الفلاح، حي على الفلاح"، هذا شفع.
وكذلك "قد قامت الصلاة" مثنى، في رواية أيوب: «أُمِرَ بلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، إلَّا الإقَامَةَ» ، يعني إلا قوله: "قد قامت الصلاة".
ثم يقول: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
إذًا؛ هذا هو الأذان المشفوع برواية بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
هناك روايات أخرى التي هي رواية أبي محذورة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيها التثويب، وكيفما أذَّنَ أجزأَ كما قاله أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، فالأصل جواز الأذان، تؤذن بأذان بلال أو بأذان أبي محذورة في ذلك فالأمر واسع، لكن يكفي أذان بلال شرفًا أنه مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وأنه هو الأذان الذي كان يُؤذن به بين يدي رسول الله ﷺ حتى توفاه الله، وهو الأذان الذي يُؤذن به الآن في الحرمين الشريفين، هذا هو أذان بلال.
قوله: «وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ»، يقول: "الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة"، تثنى الإقامة في الإقامة، "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". هذا هو أذان بلال وإقامته.
وأمَّا أذان أبي محذورة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّ أبا محذورة كان يؤذِّن نحو هذا الأذان إلا في الشهادتين، فإنَّه كان يثوِّب فيهما، والتَّثويب أن يقول في نفسه: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله"، ثم يمد بها صوته، هذا الفرق بين أذان بلال وأذان أبي محذورة.
وأمَّا الفرق بين إقامة بلال وإقامة أبي محذورة:
- فإقامة بلال على ما ذكرناه.
- وأمَّا إقامة أبي محذورة فإنها مثناة، يقول: " الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله"، وإنما ذكرت أذان أبي محذورة وإقامته حتى لا يُنكَر على من أذَّنَ به وأقامَ، لأنَّ بعض الناس ما يعرف من السنة إلا ما لقنه، لو استفتح الإنسان باستفتاحٍ غير استفتاحه لأنكره! ولو تشهد بتشهد في الصلاة غير تشهده لأنكره! ولو أذن بأذان غير أذانه لأنكره!
نقول: هذا الأذان ليس حكرًا عليك، وسنة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ليس هي ما تختاره، وإنما الأصل في السنة بوجه عام أن يُعمل بها كلها ما دام أنها قد نقلت إلينا فنعمل بها، وننوِّع فيها، لأن التنويع في السنة مما يثاب عليه لأنه من إحياء السنة، ولهذا جاء عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- أنه كان يقول: "اختار تشهد ابن مسعود ولو تشهد الإنسان بأي تشهد لم أمنعه"، يتشهد بالتشهدات التي يراها، تشهد ابن عباس، أو تشهد عمر، أو تشهد ابن عمر أو غيرهما.
{قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أُدْمٍ، قَالَ: فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوءٍ، فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإنما ذكره هنا؛ لأنَّ فيه بعض الأحكام المتعلقة بالأذان، فإنَّ أبا جحيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذكر أنه جاء إلى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- (وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أُدْمٍ)، والأدم: هو الجلد المدبوغ بوجه عام.
قال: (فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوءٍ، فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ).
الناضح: هو الذي ينتضح عليه.
والنائل: هو الذي يناله.
وهؤلاء يتبركون بالنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام.
قال: (فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ)، هذا فيه دلالة على جواز لبس الأحمر، وعلى أن ما يمكن لبس الشماغ الأحمر أو غيره؛ فيقال إنه مما لا ينبغي، فمما لا شك فيه أن الأفضل أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان يلبس البياض، لكن أيضًا كان النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يلبس الأحمر.
قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ)، فيه دلالة على أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان إزاره إلى إنصاف ساقيه، وعلى أنه كان مشمرًا لأن هذا كان من عوائد العرب.
قال: (قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ).
هذا هو المقصد من ذكر هذا الحديث في باب الأذان، وهو أنه يُشرع للمؤذن أنه إذا جاء إلى (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) أن يلتفت يمينا (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ)، وشمالًا (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ)، ولو أنه التفت يمينًا في (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) ثم شمالًا في (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) الثانية؛ لم يكن عليه في ذلك حرج، لكن الأولى عند أغلب العلماء أنهم قالوا: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) في جهة، و (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) في جهة.
وفيه دلالة على أنَّ الالتفات يكون بالرأس فحسب؛ لأنه في بعض الروايات قال: «وَلَمْ يَسْتَدِرْ» يعني ما التفت، ما استدار برجله، وقد كانوا في الزمان الأول أحيانًا يصنعونه لما يؤذن على المنارة ونحوه يستدير برجله، فنقول: لا، ما يشرع، وإنما يشرع للإنسان أن يؤذن اتجاه القبلة، ثم يقول يمنة وشمالًا "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ"، وبوجود الميكروفونات نقول: ما في بأس، إذا كان الإنسان حتى بوجود الميكروفونات يستطيع الإنسان أنه يلتفت يمينًا وشمالًا ويوصل الصوت، يعني يطبق السنة ويوصل الصوت، لكن الأصل بوجه عام في الأذان أنه للإعلام والإبلاغ، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ» ، والصوت الندي ليس هو الصوت الجميل، لا، وإنما هو الصوت العالي، ولكنهم قالوا: إنه في الأعم الأغلب أنَّ الصوت العالي يصاحبه جمال؛ لأنه إذا كان صوتك خافت ما نعرف صوتك جميل أو لا، وإنما يعرف الصوت بجماله إذا ارتفع وضخُم.
فإذًا؛ قوله: «أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»، يعني: أجهر وأعلى صوتًا، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لأبي سعيد -رضي الله عنه- وأوصى به أبو سعيد عبد الرحمن بن صعصعة: «فارْفَعْ صَوْتَكَ بالنِّداءِ» ، فلو كان بيننا الآن مسابقة للمؤذنين ونريد أن نختار منهم مؤذنًا؛ فإن المعيار الشرعي فيه هو علو الصوت، وهذا كان في الزمان الأول لما لم تكن ثَم ميكروفونات، والآن الميكرفون يغني عنك سواء كنت عال الصوت أو منخفض الصوت، وإنما في الزمان الأول إنما كان المعيار هو علو الصوت، فإذا كان الإنسان أعلى صوتًا كان أولى بالأذان.
وبناءً عليه؛ فإن كل ما كان يُحقق هذه الغاية فهو الأولى بالاتباع بوجهٍ عام.
قال: «ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ».
العنزة: هي العصا الصغيرة التي فيها زُجّ، و"الزُّجّ" مثل الحديدة يُغرَس في الأرض.
قال: «فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ».
نتوقف هاهنا، والله تعالى أعلم.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم، والشكر موصول لكم أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله -عز وجل- في حلقة أخرى من هذا البرنامج. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك