الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44887 18
الدرس الخامس عشر

عمدة الأحكام 1

{الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله أيُّهَا الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم برنامج (جادة المتعلم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم. باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، فحياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم، كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند باب القراءة للصلاة.
بسم الله، الحمد لله رب العالمين، قال الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (باب القراءة في الصلاة.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد، فقد عقدَ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الباب وهو (باب القراءة في الصلاة) والقراءة في الصلاة بوجه عام من أهم ما شُرعت له الصلاة، فإنَّ الصلاة إنما شُرعت لأجل ما فيها من ذكر الله -تبارك وتعالى، وهكذا الأصل بوجه عام في عموم العبادات، أنَّها إنَّما تُشرع لِما فيها من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، سواء كان هذا الذكر ذكرًا قوليًّا أو ذكرا قلبيًّا، والذكر القلبي هو الإخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ- والخشوع لله -عَزَّ وَجَلَّ، فإذا نظرنا إلى الصلاة، فكلُّ الصلاة من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأعظمُ ما فيها من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو قراءة كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا كانت القراءة في الصلاة مُقدَّمة على غيرها من أذكار الصلاة، فإنَّ أذكار الصلاة قد وقعَ فيها نوع من الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- بين من يُوجبها ومن لا يُوجبها، وأمَّا القراءة في الصلاة فإنَّ عامة أهل العلم على وجوبها، سواء قالوا إنَّ الواجب هنا إنما هو الفاتحة أو إنَّ الواجب هو عموم القراءة في الصلاة، هذا أمر.
إذا نظرنا إلى الصيام مثلًا أو الزكاة فإنه إنَّ لم يكن فيها ذكر قولي، لكن فيها ذكر قلبي، والذكر القلبي من أعظم ما يكون، ولهذا فإن الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- لما ذكرَ منازل الذكر ومنازل الذاكرين؛ ذكر أنَّ الذكر على ثلاثة أنواع أو على ثلاثة مراتب:
- الذكر الذي يتواطأ فيه القلب واللسان فهذا هو أجلُّه.
- والذكر الذي يكون ذكرا قلبيًّا، ولا ينطق به اللسان، فهذا بعده في المنزلة.
- والذكر الثالث هو الذكر الذي يكون باللسان ولا يتواطأ عليه القلب، فهذا بالمنزلة الدنيا.
فالصيام من ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكنه ذكر قلبي، ولهذا وصفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، فهو مدعاة إلى تقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
الزكاة أيضًا فيها الذكر القلبي لله -عَزَّ وَجَلَّ- فإن فيها مزيد توكل على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومزيد تسليم لأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومزيد إخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ-، كون الإنسان يأتي إلى ماله الذي بذل في تحصيله الجهد والوقت، ثم يجود به لله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا أمر ثقيل على النفوس، لا يصنعه إلا مَن كان مُتوكِّلًا على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومَن كان يطلب ما عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فهذا ذكر قلبي، وإن لم ينطق به اللسان، هذا هو عموم العبادات، فالعبادات بوجه عام لم تُشرع إلا لأنَّ تكون ذكرًا قوليًّا أو ذكرًا قلبيًّا، أو يجتمع فيهما الأمران جميعًا كما هو حال الصلاة.
ولهذا كثيرًا ما يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- العبادة ثم يعقِّبها بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، كما قاله في الحج وقاله في الصلاة وقاله في الجهاد، يأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بذكره، دلالة على أنَّ الذكر هو المقصد الأسمى من العبادة، سواء كان هذا الذكر ذكرًا قوليًّا أو ذكرا لسانيًّا، هذا أمر.
الأمر الآخر: أنَّ القراءة في الصلاة بعموم على قسمين:
- قراءة الفاتحة.
- وقراءة ما زاد عن الفاتحة.
فقول المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (باب القراءة في الصلاة) يشمل ذلك قراءة الفاتحة وقراءة ما زاد عليها.
فأمَّا قراءة الفاتحة: فإنَّ الأصل فيها حديث عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو عمدة هذا الباب، وهو محل الخلاف عند أهل العلم -رحمهم الله- بين من قال بوجوبها على مَن كان خلف الإمام أو على ما يجهر فيه الإمام، وبين من قال بعدم وجوبها.
حديث عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي ﷺ قال: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، هذا حديث متفق على صحته ومجمع عليه بين العلماء كلهم، لم يخالف فيه أحد، لم يخالف في صحة هذا الحديث أحدٌ بلغه، لكنهم قد تنازعوا في شمول هذا الحديث:
- فمنهم من قال: إنَّ هذا الحديث شامل وعام في الجميع، فهو يشمل صلاة المنفرد، ويشمل صلاة الإمام، ويشمل صلاة المأموم، سواء كان فيما يجهر فيه إمامه، وفيما لا يجهر فيه.
قالوا؛ لأنَّ قوله ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» عام، "لا" ناهية أو نافية و"صلاة" نكرة، والنكرات إذا سُبقت بنفي أو نهي دلَّ على عمومها، هذه قاعدة مُقرَّرة، قاعدة عربية قبل أنَّ تكون قاعدة شرعية، الأصل فيها العموم، فقالوا: هذه تشمل كل الصلوات، سواء كانت الصلاة نافلة أو فريضة، سواء كانت صلاة خلف إمام أو صلاة منفرد.
- ومن العلماء من قال: لا، بل هذا الحديث إنما يستعمل بقدره، والأصل في الشريعة أن تُجمع نصوصها، فإذا جمعت نصوصها اتَّسقت؛ لأنَّا لو قلنا بهذا لكنَّا ممن يقول إن النصوص تؤخذ بعمومها بكل الأحوال ولا يُنظر إلى ما يخصصها، أو يُعمل بالمطلقات ولا يُنظر إلى ما يقيدها، وهذا لا يقوله أحد.
فإذا كان كذلك فإنَّ قول النبي ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» فيه الدلالة على وجوب قراءة فاتحة الكتاب، وإذا كان كذلك وقد تقرر هذا الأصل، وهذا القول هو قول الجمهور، نعم خالف فيه بعض الحنفية فإنَّ بعض الحنفية لم يكن يرى وجوب قراءة الفاتحة، وإنما يرى وجوب قراءة ما تيسَّر عمومًا، ويستدل بحديث المسيء صلاته، قال النبي ﷺ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»[1]، وما قال له: اقرأ فاتحة الكتاب، لكن هذا قول مرجوح؛ لأنَّا نقول: إنَّ هذا أيضًا من حمل المطلق على المقيد، فقول النبي ﷺ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» مُطلق، قيَّدهُ الأمر بقراءة فاتحة الكتاب، هذه مسألة.
فإذا قلنا ذلك فنقول: الأصل وجوب قراءة فاتحة الكتاب على الإمام وعلى المنفرد وعلى المأموم فيما لا يجهر فيه إمامه، هذه مواضع يمكن أن يحمل عليها هذا الحديث بلا خلاف ولا نزاع -يعني بلا نزاع دليل آخر.
فأمَّا حال المأموم مع إمامه فيما يجهر فيه: فإنَّا نظرنا إلى قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، قد أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- أمرًا ظاهرًا بالإنصات لقراءة كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا أصل قرآني، وقد نقلَ الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- الإجماع على أنَّ هذا الأصل إنما نزلَ في قراءة الإمام في الصلاة.
وبعض الناس نازع وقال: لا هذا الإجماع غير صحيح.
نقول: لا، هذا الإجماع إجماع صحيح؛ لأنَّ الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: إذا كان الأمر بالاستماع أمرًا مطلقًا فلا أن يكون الأمر بالاستماع للإمام في الصلاة من باب آكد، وهذا من الاستدلال بمفهوم الأولوية الصحيح؛ لأنَّك إذا كنت جالس في حلقة وأنت لست مصلٍّ ولا قارئ، فرأيت القارئ يتلو كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ما جاز لك أنَّ تنشغل بالحديث، وإلا إذا أردت أنَّ تنشغل بالحديث يُقال لك: انصرف! فمن باب أولى إذا كنتَ قد قمتَ بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والإمام يقرأ كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهذا كله يحقِّق أنَّ هذه الآية نزلت أولويَّة في الإنصات للإمام خلفَ بوجه عام. هذا أمر.
الأمر الآخر: نظرنا إلى المقاصد الشرعية من تلاوة الإمام، ونظرنا إلى ما يقابلها من قول القائلين بوجوب قراءة المأموم خلفَ إمامه فيما يجهر فيه، فرأينا أنهم يقولون: اقرأ ولو كان إمامك يقرأ، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أنكر على من نازعه القراءة، فقال: «مَا لِي أُنازَعُ القُرآنَ» [2]كما في صحيح مسلم، فدلَّ ذلك على النهي عن منازعة الإمام، ومنازعة الإمام أنَّ تقرأ والإمام يقرأ، ورأينا أنَّ مَن قال بوجوب قراءة المأموم خلف الإمام يقول إنك تقرأ حتى لو كان إمامك يقرأ إذا لم يكن إمامك يسكت السكتة التي يسكتها بعد قراءة الفاتحة، وهذا قد جاء عن عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فقد جاء عن عبادة بن الصامت أنه كان يأمر بالقراءة حتى والإمام يقرأ، فيقال: ما الحكمة إذًا من قراءة الإمام؟!
ويقال: إنَّ قراءة الفاتحة من الأمور التي ذهب جماعة من العلماء -رحمهم الله- بل إن الجمهور على أنها من أركان الصلاة أو من واجباتها العظام، وإذا كان كذلك وهي مما يتكرر في الصلاة مرة بعد مرة فمن المعلوم أنه لم يكن للشَّرع أن يسكت عنها لو كان الأمر بها واجبًا، ولو كان الأمر بها واجبا لكان الجمع بين قراءة الإمام وقراءة المأموم أمرًا ميسورًا، يقرأ الإمام ثم يأمره الشارع بالإنصات، قدرًا يقرأ معه المأموم، كما أنه يُشرع للإمام إذا قال: "آمين" يسكت شيئًا يسيرًا حتى يقول من خلفه "آمين"، ووجدنا أنَّ الشرع لم يرخِّص ولم يرد عن النبي ﷺ أنه كان يسكت بين الفاتحة وبين قراءة السورة البتَّة، وما حُفظ عن النبي ﷺ من حديث سمرة: «حَفِظتُ سَكتَتَيْنِ في الصَّلاةِ»[3]، فإنما جاءت في السكتة التي قبل القراءة التي هي سكتة الاستفتاح التي سأل عنها أبو هريرة، والسكتة التي قبل الركوع، يسكت سكوتًا يسيرًا قبل الركوع حتى يتراد إليه نفسه، فلو كان السكوت بين القراءة الفاتحة وبين قراءة السورة أمرًا واردًا عن النبي ﷺ لتتابعت نصوص الصحابة على نقله، ولَمَا تنازع الصحابة في هذه المسألة البتة؛ لأنَّ الأمر واضح، وإلا لقالوا: ما سكت النبي ﷺ هذا السكوت إلا لأجل أن يأمرنا بالقراءة! فلما لم يكن هذا، ومن المعلوم أنَّ هذه الأفعال يُستدل بها على الأحكام الشرعية، أفعال النبي ﷺ حينما يقرأ القرآن ثم يُنكر ويقول: «مَا لِي أُنازَعُ القُرآنَ»، ثم يفرغ من قراءة الفاتحة فيشرع ﷺ في قراءة السورة، ولا يمهل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فإنَّ هذا كله يدل على أنَّ النبي ﷺ ما كان يريد منهم إلا الاستماع لقراءة الإمام.
ثم يقال أيضًا: من المعلوم أنَّ المأموم يؤمِّن على قراءة إمامه، وهذا الدليل بحد ذاته أنا أرى أنه فيصل في هذه المسألة، المأموم يؤمن على قراءة إمامه، ولم يشرع للمأموم أن يؤمِّن على شيء إلا لأجل أن يُشارِك فيه الإمام، فلمَّا أمَّن كان شريكًا للإمام في قراءته، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث القدسي: «قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»[4]، والصلاة هنا هي: الفاتحة. قال: «فإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾...»، وقد سبق أن ذكرنا أنَّ الصلاة معناها الدعاء، فسمى الفاتحة صلاة؛ لأنَّها دعاء، فإذا فرغ المأموم أو الإمام، قال المأموم من خلفه: "آمين"، فهل يسوغ له بعد أن يكون أمَّن وشارك إمامه في الدعاء أن يرد الدعاء وأن يأتي به مرة أخرى؟! هذا لم تأتِ به الشريعة.
ومما يقرره: دعاء القنوت، فإنَّ النبي ﷺ قد ثبت عنه قنوت النوازل، فكان يقنت الصحابة يؤمِّنون، فهل رأينا أحدًا منهم بعد أنَّ فرغ من تأمينه ردَّد دعاء النبي ﷺ؟! إذا قال النبي ﷺ: «اللَّهمَّ قاتِلِ الكفرةَ الَّذينَ يُكذِّبونَ رُسُلَك»[5]، فقال من خلفه: "آمين"، يرجع فيقول: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عند دينك...! ما رأينا ذلك!
فتقرَّر أنَّ تأمين المأموم مما يجعله شريكًا لإمامه في هذه الفاتحة، وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 88]، ثم قال: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَ﴾ [يونس: 89]، مع أنَّ الداعي هو موسى ﷺ، لكن قالوا: كان يدعو وهارون يؤمِّن، فدلَّ ذلك على أنهما شركاء وأنهما يسميان داعيان.
فإذًا، إذا قال المأموم: "آمين" فقد قرأ الفاتحة.
أيضًا مما يُلحظ: أنَّ من قرأ مع إمامه لا يكاد ينتفع بشيءٍ من صلاته، فلا هو قد انتفعَ بقراءة الإمام، واستمعَ لها بإنصاتٍ وخشوعٍ، ولا هو انتفعَ أيضًا بقراءته التي يقرأها؛ لأنَّه يقرأها هزًّا، ولهذا نجد أنَّ الوسواس كثيرًا ما يدخل على الناس من هذا الباب، من باب أنه قد قرأ قراءة ليس فيها تدبر ولا تأمُّل، ثم أصبح بعد ما يفرغ من الصلاة يقول: ربما أسقطت منها أحرفًا من سرعة القراءة! فإذًا هذا -والله أعلم- مما لم تأتِ به الشريعة.
ثم نظرنا فوجدنا أنَّ من دليل القائلين وهو أقوى وعمدة القائلين بوجوب القراءة على كلِّ حال؛ وجدنا أنَّ عمدتهم حديث عبادة بن الصامت، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إنِّي أراكُمْ تَقرؤُونَ القُرآنَ وراءَ إمامِكمْ، فلا تَفعلُوا إلَّا بِأُمِّ القُرآنِ فإنَّهُ لا صلاةَ لِمَنْ لمْ يَقرأْ بِه»[6]، ولعمر الله لو صحَّ هذا الحديث لكان فيصلًا؛ لأنَّه الصريح، ولهذا مَن صحَّح هذا الحديث من العلماء ما نستطيع أنَّ نعتب عليه بشيء، لكن هذا الحديث حديث معلول، وقد أعله الإمام أبو عيسى الترمذي -رَحِمَهُ اللهُ- لما ذكره، وقال: والمحفوظ فيه حديث الزهري؛ لأنَّ هذا الحديث المعلول قد جاء من رواية محمد بن إسحاق، عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت، ومكحول شامي، ومحمد بن إسحاق مدني لكنه ليس بقوي، وأمَّا هذا الحديث الذي بين أيدينا فإنه في الصَّحاح، الحديث الأول ليس في الصحيحين وإنما رواه الترمذي، أما هذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة؛ وجدنا أنَّ الواسطة ومدار الإسناد هو محمود بن الربيع، ورأينا أنه يرويه عنه رجلان مكحول الشامي والزهري المدني، والزهري أوثق من ملء الأرض من مكحول، على الرغم من فضل مكحول -رَحِمَهُ اللهُ- لكن لا يقارن مكحول بالزهري، فالزهري أوثق الناس، ولو كان هذا الحديث محفوظًا عند الزهري لأخبر به، فلهذا أعله الإمام الترمذي، قال: والمحفوظ فيه حديث الزهري، هذا هو المعروف، وهو قول النبي ﷺ: «لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[7]، وهذا الاستفسار -والله أعلم- إنما هو من قول عبادة بن الصامت، فهو من قول الصحابي وهو معارِضٌ بقول غيره من الصحابة كجابر وابن مسعود وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيرهم، فهما قولا صحابيان قد تعارضا، وإذا تعارضا نظرنا إلى الدليل، فمَن كان معه الدليل وعملنا بقوله، فإذًا هو القول الصحيح إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مثل هذه المسألة التي ذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ.
وهذا القول -أعني أنَّ المأموم لا يقرأ خلف إمامه فيما يجهر فيه- هو القول المشهور عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو القول المحفوظ عن الإمام أحمد، وهو القول الذي يدل عليه حكايته للإجماع في الآية التي ذكرناها، وهي قوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
{أحسن الله إليكم.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ. وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ»)}.
حديث أبي قتادة الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو العمدة والأصل في القراءة عمَّا زاد على فاتحة الكتاب، فكتاب (عمدة الأحكام) فعلًا هو كتاب كاسمه، كلُّ أحاديثه عُمَدٌ في بابها، إذا جاء إنسان يريد أن يستدل على فاتحة الكتاب، فأول ما يستدل به هو حديث عبادة، إذا أراد يستدل على مشروعية القراءة بما زاد عن فاتحة الكتاب فأعلى ما يستدل به هو حديث أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم.
قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ»، قوله «كَانَ» يدل على الاستمرار، ويدل على أنَّ هذا هو المعهود من فعل النبي ﷺ، أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وفي الركعتين الأوليين أيضًا من صلاة العصر بفاتحة الكتاب، ويقرأ معهما سورةً، يعني يزيد على فاتحة الكتاب، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «لا صَلاةَ لِمَن لم يَقرَأْ بفاتِحةِ الكِتابِ فَصَاعِدً»[8]، وزيادة «فَصَاعِدً»، غير محفوظة، لكن نقول: عمل النبي ﷺ كان عليها، أنه ﷺ كان يزيد على فاتحة الكتاب؛ بل لم يحفظ عن النبي ﷺ أنه صلى في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب فحسب، كل ما حفظ عليه النبي ﷺ أنه كان يصلي في الركعتين أوليين سواء كانتا ركعتان فحسب أو رباعية أو ثلاثية؛ كلما صلاهم النبي ﷺ فإنه يقرأ فيهما بشيء زاد على فاتحة الكتاب، إلا حديثًا واحدًا قد روته عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كانَ النبيُّ ﷺ يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حتَّى إنِّي لَأَقُولُ: هلْ قَرَأَ بأُمِّ الكِتَابِ؟»[9]، لكن نقول: هذا ظنٌّ، هذا حديث ظني يدل على السرعة وما يدل على النفي، وقد نقل لنا الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كابن عباس وغيره أنَّ النبي ﷺ كان يقرأ في هاتين الركعتين بما زاد على فاتحة الكتاب، لكنه يقرأ ﷺ شيئًا يسيرًا، وقراءته ﷺ بالآية كما في حديث ابن عباس وبالآيتين تدل على تأكيد القراءة بما زاد عن فاتحة الكتاب، فهي إذًا من سنن الصلاة المؤكدة، أن يقرأ بفاتحة الكتاب ويقرأ بما زاد عليها في الركعتين الأوليين من كل الصلوات، سواء صلاة الفجر أو المغرب أو العشاء أو الظهر أو العصر، هذه كلها يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فما زاد.
قال: «يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانً»، من سنة النبي ﷺ المطَّردة أنه كان ﷺ يطيل الركعة الأولى أكثر من الركعة الثانية، وهذه محفوظة عن النبي ﷺ في الفروض كما في حديث أبي قتادة، ومحفوظة عنه ﷺ أيضًا في النوافل، كما في حديث حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث زيد بن خالد الجهني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي حديث عائشة؛ كلهم لَمَّا يذكرون صلاة النبي ﷺ ويسوقونها؛ يكون فعل النبي ﷺ في الركعة الأولى أطول من فعله في الركعة الثانية، وذلك في قراءته ﷺ، فهذه مشروعة في النوافل وفي السنن بوجه عام.
قال: «يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» أمَّا صفة التطويل فقد ذكرها أبو سعيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كُنَّا نَحْزِرُ قِيامَ رَسولِ اللهِ ﷺ في الظُّهْرِ والْعَصْرِ فَحَزَرْنا قِيامَهُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِراءَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ»[10]، فهذه ثلاثة أوجه، والظاهر -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ كان يفرقها، يعني وجه ونصف ووجه نصف، قال: «وحَزَرْنا قِيامَهُ في الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِن ذلكَ، وحَزَرْنا قِيامَهُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ علَى قَدْرِ قِيامِهِ في الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وفي الأُخْرَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ علَى النِّصْفِ مِن ذلكَ»، يعني تكون تقريبا وجه ونص، فتكون صلاة العصر أقل من صلاة الظهر.
قال ها هنا: «وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانً»، والله أعلم أنَّ النبي ﷺ كان ينبههم بذلك إلى أنه يقرأ، حتى لا يظنُّوا أنَّ النبي ﷺ مُنصِت أو ساكت، أو أنه ﷺ قد أصابه سهو، فكان ﷺ يقرأ أحيانًا ثم يقول ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، ثم يقرأ من سورة فيرفع صوته أحيانًا، ونقول: إنَّ هذه من السنن التي ينبغي للإمام أن يفعلها، حتى يُخبر أو يُشعر مَن وراءه من المأمومين أنه لم ينسَ، خاصَّة إذا أرادَ أن يطيل؛ لأنَّ المأموم قد يظن أنَّ إمامه قد سها فربما سبَّح به، خاصة إذا كان من عادته إلا يطيل.
قال: «وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ»، أيضًا على مثل ما كان يصنعه ﷺ في صلاة الظهر إلا أنَّ صلاة العصر على النصف من صلاة الظهر، فإذا كانت القراءة في صلاة الظهر بثلاثة أوجه -وجه ونصف في كل ركعة- فصلاة العصر بوجه ونصف في ركعتين، فتكون القراءة في صلاة العصر بنحو ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾، ونحو ذلك، هذه من سنن النبي ﷺ أو من هديه ﷺ في الصلاة.
قال: «وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ»، أي: أنه ﷺ كان يقرأ أيضًا في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر ومن صلاة العصر وأيضًا من المغرب ومن صلاة العشاء كان ﷺ يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فحسب وما يزيد عليها، ونقول: إنَّ هذا التفصيل من أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يدل على عدم المشروعية، خلافًا لمن قال به من العلماء كالشَّافعية، فإنَّ بعض العلماء -رحمهم الله- قال إنه يشرع للإنسان أن يزيد في القراءة على فاتحة الكتاب فيما سوى الركعتين الأوليين، ونقول: لا، والسبب في ذلك أنَّ أبا قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد نقل لنا التفصيل عن رسول الله ﷺ، فلم يذكر فيه ذلك، ثم إنه لم يُنقل عن النبي ﷺ في صلاة واحدة أنه قرأ ما زاد عن الركعتين الأولين بشيء يزيد عن فاتحة الكتاب، وسنته ﷺ أولى أنَّ تُتَّبع.
قال: «وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ»، ذكرنا أنَّ هذا غالبًا هو سنة النبي ﷺ، لا نقول: إنها سنة كلية ولكنها أغلبية، أغلبية بمعنى أنَّ النبي ﷺ أحيانًا قد يسوِّي بينهما أو يقارب، كما كان النبي ﷺ مثلًا يقرأ في سورة الجمعة بـ "سبح والغاشية"، الغاشية في الركعة الثانية مع أنه من المعلوم أنَّ سورة الغاشية أطول يسيرًا منه ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، ففي هذا دلالة على أنه لا بأس أن يسوي الإنسان بين الركعتين أو يزيد عليهما، لكن السنة عن النبي ﷺ وهي السنة الأغلبية أنَّ تكون الركعة الثانية أقصر من الركعة الأولى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ»)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لما ذكر مشروعية قراءة الفاتحة ثم ذكر مشروعية قراءة السورة الزائدة على الفاتحة؛ أراد أن يبين سنة النبي ﷺ في الصلوات بأي شيء كان يقرأ ﷺ؟
والصلوات بوجه عام على نوعين:
صلوات سرية: فهذه لا يكاد ينقل عن النبي ﷺ فيها كبير شيء إلا بالحزر، أن يحزر الصحابي فيقول قرأ بنحو سورة السجدة، لكن هل قرأ سورة السجدة؟ ليس هناك جزم.
وأمَّا الصلوات الجهرية: فإن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد سمعوها من النبي ﷺ، فسمع جبير من النبي ﷺ قراءته ﷺ بسورة الطور، وقد سمعها جبير من النبي ﷺ وهو مشرك، فإنه قدم في فدائي أسارى بدر فأخَّره النبي ﷺ شيئًا يسيرًا -يعني جعله في الانتظار- ثم صلى ﷺ بأصحابه ليسمعه القرآن، فسمعه جبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [الطور: 35 - 37]، قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ»[11]، وقد شفَّعه النبي ﷺ في أسارى بدر، قال: لو كان المطعم بن عدي حيًّا -الذي هو والد جبير- كل الأسرى ما انعتقوا من الأسرى إلا بفداء، إلا أسرى جبير بن مطعم، فإن النبي ﷺ قد أطلقهم له من غير فداء، قال ﷺ: «لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُمْ له»[12]، وذلك لِيَدٍ كانت للمطعم ﷺ، فإنه هو الذي أجار رسول الله ﷺ لَمَّا رجع من الطائف، فحفظها له رسول الله ﷺ، وهكذا أهل الكرم، فأصحاب المكارم يحفظون الأيادي، حتى لو كانت لمشرك حربي، فتحفظ له اليد، فجبير ووالده حربيون، ومع ذلك فإن النبي ﷺ قد حفظ لهم، فهذه من أخلاق الإسلام التي ينبغي أن يتخلق بها.
قال: «سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأَ في المَغْرِبِ بالطُّورِ»[13]، ومن المعلوم أنَّ المحفوظ في الصلوات هو حديث سليمان بن يسار «ويقرأُ في المغربِ بقصارِ المفصلِ، ويقرأُ في العشاءِ بوسطِ المُفصلِ، ويقرأُ في الصبحِ بطوالِ المفصلِ»[14]، والمفصل يبدأ من سورة ق وينتهي بالناس، فمن سورة ق إلى سورة عبس هذا -على قول- هذا هو الطوال، ومن سورة عبس إلى الضحى هذا هو الأوسط، ومن الشرح فما تحت هذا هو القصار؛ هذا هو المفصل عندهم.
ذكر سليمان أن النبي ﷺ كان «يقرأُ في المغربِ بقصارِ المفصلِ، ويقرأُ في العشاءِ بوسطِ المُفصلِ، ويقرأُ في الصبحِ بطوالِ المفصلِ» وها هنا قد قرأ النبي ﷺ في المغرب بالطور، وإذا تتبعنا الأحاديث المروية عن النبي ﷺ في الإفصاح عما قرأ به النبي ﷺ في صلاة المغرب سنجد أن النبي ﷺ قرأ في المغرب بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وهذه ليست من القصار وإنما هي من الأواسط، وكما في حديث أم الفضل أن النبي ﷺ قرأ بالمرسلات، وقرأ بالدخان، وقرأ بـ ﴿المص﴾ الأعراف، فالأحاديث الواردة في الإطالة في المغرب أكثر من الأحاديث الواردة في التقصير فيها.
ويُقال -والله أعلم: إن ما يُنقَل عن النبي ﷺ من قراءته في المغرب بكذا أو كذا لا يدل على السُّنيَّة، لأنه لم يُنقَل أن النبي ﷺ كان يُكررها، ومن المعلوم أن النبي ﷺ قد صلى صلاة المغرب في حياته آلاف المرات، فإن النبي ﷺ قد مكث في المدينة عشر سنوات، صلى فيها 3600 صلاة مغرب، هذه تستوعب القرآن بتمامه، فالظاهر -والله أعلم- أن الصحابي إنما ينقل لنا ما سمعه من النبي ﷺ، ودائمًا يُحفَظ عن النبي ﷺ ما يُخالف ما تجري به العادة، فلما كانت عادة النبي ﷺ قراءة قصار المفصل أو التخفيف في المغرب ما كان مُستَنكرًا، فإذا قرأَ بشيءٍ طويلٍ نقله الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وهذا المعنى حقيقة ينبغي أن يُقرَّر؛ لأنَّ دعوى أنه يُشرع القراءة في المغرب بمثل هذه السور أو أنها سنة؛ نقول: لا، بل نقول إنَّ النبي ﷺ قد قرأها، فتشرع القراءة بها وتشرع القراءة بغيرها، مما نظن -والله أعلم- أنَّ النبي ﷺ قد قرأه، وقد لقي أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يومًا صحابيًّا، فقال له: (هل صليت مع النبي ﷺ أمس صلاة كذا؟ قال: نعم. قال: فبِمَ قرأ رسول الله ﷺ؟ قال: لا أدري، لا أذكر)، يعني؛ لأنَّها صلاة معتادة وتتكرَّر، فيغيب عن ذهن الإنسان ما قرأ به رسول الله ﷺ، فهذا مما يقرِّر هذا المعنى، ويقال: قراءة بعض الناس سورة الطور في صلاة المغرب لا تدل على السنية مطلقًا، نعم قرأها النبي ﷺ لكن هل لأنَّ النبي ﷺ كان يريد أن يخص بها صلاة المغرب؟ لا البتة، حتى تأتينا بالدليل أنَّ النبي ﷺ كان يكرِّرها، وإلا فالأصل أنَّ صلاة المغرب تتكرر كثيرًا، فهل كان النبي ﷺ يكرر هذه الصلاة؟!
هذه من المسائل التي ينبغي أنَّ تقرر في مثل هذه المسألة.
والعلماء -رحمهم الله- كالمتفقين على أنَّ الأصل في القراءة في صلاة المغرب بالقصار، قالوا: لأنَّ وقت المغرب وقت يسير، لكن قالوا: لا بأس للإمام في بعض الأحيان أن يطيل فيها اقتداء بالنبي ﷺ، نقول: نعم هذا القدر من الإطالة قدر مسنون؛ لأنَّا لما رأينا مجموعة من النصوص جاءت عن النبي ﷺ في قراءته بالدخان، وفي قراءته بالطور، وفي قراءته بـ ﴿المص﴾، وفي قراءته بالمرسلات، دلَّ ذلك على أنه يشرع أحيانًا الإطالة فيها قدرًا زائدًا عن قصار المفصل ونحوه.
{أحسن الله إليكم، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ»)}.
هذا أيضًا في باب قراءة النبي ﷺ في صلاة العشاء، وهو أصح ما جاء عن النبي ﷺ في القراءة، وفيه أنَّ البراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سمع رسول الله ﷺ قرأ في سفر بالتين والزيتون، فهذا يدل بوجه عام على أنه يجوز قراءة مثل هذه السور في الصلاة، ومن المعلوم أنَّ سورة التين والزيتون عند العلماء هي من قصار المفصل، مع أنه من المتقرر أنه يشرع في صلاة العشاء أن يقرأ فيها بالأوساط.
فإن قيل من أين؟
قلنا: من أمر النبي ﷺ لمعاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما في حديث جابر، قال: «فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى﴾؟»[15]، وفي بعض الروايات: «اقرَأْ بهم سُورةَ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ و ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾»[16]، وفي بعضها: «أفتَّانٌ يا معاذُ؟! أين كنتَ عن ﴿سَبِّحِ اسمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى:1] ﴿وَالضُّحَى﴾ و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾»[17]، هذه خمس سور كلها عند العلماء من أوساط المفصل، فقد أمرَ بها معاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فهذه هي سنة النبي ﷺ أنه كان يقرأ في المغرب بأوساط المفصل.
وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قرأ فيها كما في هذا الحديث بالتين والزيتون؛ فيدل أيضًا على أنه يشرع للإنسان إذا كان في سفر أن يخفِّف تخفيفًا زائدًا؛ لأنه قال ها هنا: «كَانَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ»، فيشرع للإنسان إذا كان في سفر أن يخفف تخفيفًا زائدًا على التخفيف الذي يكون في الصلوات للحاضر؛ لأنَّ المسافر على أُهبة انتقال وما إلى ذلك، فالسنة فيه التخفيف.
قال: «فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ».
من المعلوم أنَّ قراءته عليه الصلاة كانت قراءة سليقية، والقراءة السليقية هي القراءة الخالية من الألحان، لا بأس أن يرجِّع الإنسان فيها، والترجيع هو المد؛ لأنَّ المد كان من أساليب العرب، فلا بأس بالترجيع كما في حديث عبد الله بن مغفل، لكن المبالغة في التلحين ليست من هدي النبي ﷺ البتة، وليست من شيام العرب، العرب ما كانوا يلحِّنون هذه اللحون، وإنما دخلت إليهم لما اختلطوا بغيرهم، فنقلوا إليهم لحون الموسيقى أو لحون الأغاني ونحوها، حتى لو كانت غناءً باللسان، ونقصد الغناء الجائز الذي هو الهزج، فنقلوها إلى القرآن، ولهذا أنكر الإمام الشافعي وغيره القراءة باللحون، وقال: خرجت من بغداد وقد أحدثوا فيها القراءة باللحون.
واللحون هي القراءة بمثل هذه الأوزان بطريقة مطَّردة، يأتي يقول: سأصلي بكم اليوم باللحن الفلاني، سماه "لحن" أو سماه "مقام" أو سماه ما شاء؛ نقول: أصل أنه ما كان في القرآن هذه الألحان، وإنما الأصل في القرآن أن يقرأه الإنسان قراءة مترسِّلة، قراءة بصوته السليقي، يُحبِّرها ما استطاع لكن لا يبالغ في تحبيرها بمثل هذه اللحون التي تُخرج القراءة عن أنَّ تكون هي القراءة الشرعية التي كان النبي ﷺ يقرأ بها.
هذه هي قراءة النبي ﷺ، وكان البراء-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يسمع أبو موسى الأشعري ويسمع عقبة بن عامر وكان من أحسن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قراءة لكتاب الله صوتًا، ولكنه يقول: «مَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ» ﷺ، لأنَّها كانت غاية ما يكون في القراءة السليقية، يقرأها ﷺ بلا تكلُّف.
ولم يذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا قراءة النبي ﷺ في صلاة الفجر، وقد ثبت في صحيح الإمام مسلم أنه ﷺ قرأ فيها بسورة ق، وقرأ فيها بالتكوير، وقد ثبت أنَّ النبي ﷺ قد قرأ فيها بالسجدة والإنسان؛ فهذه من الأمور التي كان النبي ﷺ يقرأ فيها؛ فيدل بوجه عام على أنَّ النبي ﷺ كان يطوِّل شيئًا أو قدرًا زائدًا في صلاة الفجر على صلاة العشاء وصلاة المغرب، وهذا أمر متقرر عند العلماء -رحمهم الله- وهو أنه يشرع في صلاة الفجر الإطالة شيئًا يسيرًا على صلاة العشاء وعلى صلاة المغرب.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَ ذَلِكَ؟» فَسَأَلُوهُ. فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَخْبِرُوهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديث وهو حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في الرجل الأنصاري الذي كان يصلِّي بأصحابه، فيقرأ بهم، فإذا فرغ من قراءة فاتحة الكتاب شرع يقرأ بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وإذا فرغ منها شرع بعد ذلك بقراءة سورة أخرى، فقال له أصحابه كما في صحيح الإمام مسلم، وأيضًا في صحيح الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ: إنَّك تقرأ بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فإمَّا أن تجتزئ بها، وإمَّا أن تتركها وتقرأ ما بعدها، يعني ما الحاجة إلى أن تجمع بين هاتين السورتين؟
وفيه تقرير لأصل مهم، وهو أنَّ فعل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد كان يجري على وِفق فعل النبي ﷺ، وعلى أنهم إذا سمعوا من الإمام خلاف ذلك أنكروه، فإذًا حينما يصلي الصحابة خلف أبي بكر وخلف عمر ويقرونهم؛ يدلُّ ذلك على الإجماع، وعلى أنَّ هذه الصلاة هي صلاة رسول ﷺ، ولهذا كان من أقوى ما قيل في عمل أهل المدينة الذي يحتج به الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، أن يُقال عمل أهل المدينة الذي يحتج به: ما توارثوه في العبادة خلفًا عن سلف، تنقل العبادة، وتنقل الأذان، وتنقل صيغة الصلاة، وصيفة الصلاة، تنقل قدر المكيال والموازين وما إلى ذلك؛ هذه كلها ما تنقلها إلا عن أبيك وعن جدك وأنت حديث عهد بالنبوة، لم يدخل فيها التغيير، فإذًا هي قول قوي والعمل بها عمل قوي بل هو ليس عملًا بعمل أهل المدينة، بل يُقال: إنه عمل بالإجماع الصحيح، الذي هو عمل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- والتابعين.
فهذا الأصل ينبغي أن يُقرر، ومن دلائل تقريره: أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد أنكروا على هذا الرجل لما خالف فعل النبي ﷺ، فقد كان من فعل النبي عليه وسلم أنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بسورة كما ذكر أبو قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فأمَّا أن يقرأ بسورة زائدة على ذلك فلا، فأنكروا عليه، ومع ذلك فإنَّ النبي ﷺ قد أتاه واستدعاه، وإنما استدعاه ﷺ لأجل أن يستعلم منه، وهذا يدل على أن هذا الفعل ليس هو هدي النبي ﷺ، فقال: «فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَخْبِرُوهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ».
الشاهد: أنَّ هذا يدل على ما قرره الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ-، أنه يجوز الجمع بين السورتين في الركعة الواحدة، ولهذا بوَّب "ومن جمع سورة مع سورة، ومن قدم سورة على أخرى، ومن قرأ ببعض آية"، وقال قتادة: كل من عند الله، فحينما تقرأ هاتين السورتين ما في بأس، ما في بأس أن يجمع الإنسان، لكنها ليست هي سنته ﷺ.
نقول: يجوز، لكن ليست هي السنة، وهذا في المكتوبات، فأمَّا في النوافل فقد ثبت عن النبي ﷺ، كما في حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان يقول: "إني لأعلم القرائن، التي كان يجمع بينها النبي ﷺ"، فذكر عشرين سورة من المفصل، كان يجمع بين كل سورتين في ركعة، يوتر ﷺ بعشر وواحدة، فتكون إحدى عشر ركعة، في كل ركعة من هذه يقرأ فيها النبي ﷺ بسورتين يجوز ما في بأس، وقد ثبت أنَّ النبي ﷺ قد صلى بحذيفة وابن مسعود، فصلى بهم فقرأ بهم بالبقرة وآل عمران والنساء وبعض الرواية والمائدة؛ فدل على أنَّ الحال في النوافل أوسع منه في المكتوبات، لكن هل يجوز في المكتوبات؟ نقول: يجوز ذلك، فلأجل ذلك عقد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذه المسألة.
بقي أيضًا مسألة أخرى قد يتكلم عنها في هذه في هذا الباب وهو أنه يجوز التقديم أو ما يسميه بعض العلماء بالتنكيس بالسور، التنكيس في سور: هو أن يقرأ في الركعة الأولى بـ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ويقرأ في الركعة الثانية بـ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، ما في بأس، يعني ليس من شرط ذلك أنَّ تقرأ القرآن مرتبًا، تجد بعض الناس إذا فرغت من الصلاة أنكر عليك، فقال: لماذا تقرأ بسورة الناس في الركعة الأولى وتقرأ بسورة الشرح في الأخيرة؟
نقول: قد ثبت عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ذلك، فثبت عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قرأ في الركعة الأولى بالكهف وفي الركعة الثانية بيوسف، وهذا تنكيس في السور، والتنكيس في السور لا يضر؛ لأنه لا يخالف شيئًا البتة، إنما المحرم هو التنكيس في الآية، التنكيس في الآية أنَّ تقرأ فتبدأ بآخر السورة قبل أولها في الركعة الواحدة، فأمَّا لو بدأت بآخر السورة في الركعة الأولى وبدأت بأولها في الركعة الثانية؛ فإنَّ الأمر في ذلك أيضًا إنَّ شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- واسع، وقد ثبت أنَّ النبي ﷺ وقف على بلال وهو يقرأ من السورة الفلانية شيئًا، فقال له النبي ﷺ: «وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ»[18]، فما أنكر عليه، رسول الله ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ: «فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى؟ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ»)}.
هذا حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سبق وتكلمنا عنه، والحديث إنما جاء في صلاة العشاء، فإن النبي ﷺ قال لمعاذ: «فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى»، وإنما أنكر هذا الرجل على معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صلاة العشاء، فإنه جاء إلى معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد جنح الليل، والرجل يعمل في الزراعة وقد أقبل بناضح، والناضح هو الجمل الذي يسقى عليه، فعقل جمله وصلَّى مع معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فشرع معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقرأ بالبقرة، فعلم هذا الرجل أنَّ على معاذ ليلًا طويلًا وصلى، ثم شكى إلى النبي ﷺ، فأمر النبي ﷺ معاذًا أن يقرأ «بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى»، وكأن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: يبدو أنَّ هذا الأمر من النبي ﷺ ويظهر أنه ليس خاصًّا بصلاة العشاء فحسب، بل هو عام، حتى في الفجر، وحتى في المغرب، كلها يصلي فيها فيقرأ فيها بمثل هذه السور، وهذا الحقيقة القول قول وجيه؛ لأنَّ النبي ﷺ علله، قال: «فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ»، فكأن النبي ﷺ يقول إذا كان يصلي وراءك هؤلاء فإنه يشرع لك التخفيف مطلقًا، فإذا لم يكن يصلي وراءك أحد هؤلاء من الكبير والضعيف وذي الحاجة وفي بعض الروايات: الصغير؛ فهؤلاء أربعة، فإنه يشرع لك أن تعمل بالسنة، والا فإنَّ السنة هي مراعاة حال هؤلاء.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ تَرْكِ الْجَهْرِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]. وَفِي رِوَايَةٍ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَلِمُسْلِمٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَ)
}.
هذا الباب هو باب ترك الجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ لأنَّ هذه من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- لكن ينبغي أن يقرر قبل الخوض في هذه المسألة أنَّ الخلاف ها هنا إنما هو خلاف في الاستحباب، يعني: ليس خلافًا يدخل في التحريم وفي الكراهة، وإنما يقال: ما هو فعل النبي ﷺ المطرد؟ هل هو الجهر بها؟ أم الإسرار بها؟ فذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو العمدة والأصل في هذا الباب.
إذا سُئل الإنسان ما تقرير فعل النبي ﷺ في الجهر بالبسملة؟ لم يتبادر إلى ذهنه إلا حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]»، نصَّ هنا على أنَّ الافتتاح بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وفي حديث أبي هريرة: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال عبدي الحمد لله رب العالمين»، ذكر الحمد وما ذكر البسملة، وفي رواية ها هنا «صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وفي لفظ: «يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»، فدلَّ على أنَّ السنة المطَّردة عن رسول الله ﷺ أنه لم يكن يجهر بالبسملة،.
هل كان يقرأها ﷺ؟
نقول: نعم كان يبسمل.
ومما يدل عليه: الأحاديث التي استدل بها من قال مشروعية الجهر بالبسملة، فإنَّ جماعة من العلماء كالشافعية وغيرهم قالوا بمشروعية الجهر بالبسملة.
فإذا قلنا لهم من أين؟
قالوا: من حديث أبي هريرة، أنه صلَّى "فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قرأ بأمِّ القرآنِ"[19]، نقول: القراءة تدل على مشروعية قراءتها لكن لا تدل على الجهر، وجهر أبي هريرة بها إنما كان ليعلِّم أصحابه، ومِن المعلوم أنَّ حال التعليم يختلف عن حال التقرير.
فإذًا الأصل أن يُقال في البسملة: إنه لا يشرع الجهر بها، وإنما يُسن الإسرار بها، لكن لو أنَّ الإنسان جهرَ بها أحيانًا نقول: ما في بأس، هذا سواء كان الجهر بالبسملة في قراءة الفاتحة، نقول الصحيح أنَّ البسملة من فاتحة الكتاب، على الصحيح من أقوال أهل العلم، يعني يشرع قراءتها أو يجب قراءتها، خلافًا لمن قال من العلماء كمالك -رَحِمَهُ اللهُ: إنه لا يجب قراءتها، نقول: بل يجب قرأتها؛ لأنَّها من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن الفاتحة.
لكن هل هي من كل سورة؟ هذه مسألة وقع فيها الخلاف بين العلماء.
والصحيح -والله أعلم- أنها هي آية من كتاب الله، ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30]، لكنها ليست آية في كل سورة، وإنما هي آية في فاتحة الكتاب وهذا على ترقيم الكوفيين، فإنَّ الكوفيين الذين نقرأ الآن بقراءتهم يرقِّمونها فيضعون ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ تجد بعدها رقم واحد، وأمَّا من أهل المدينة فإنهم كانوا يخرجونها عن أنَّ تكون ضمن الفاتحة، والأمر في ذلك واسع؛ لأنَّهم كلهم مُقرِّون على أنها من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن الخلاف إنما هو هل هي من هذه السورة بعينها؟ أو أنها مقدمة لها وفاصلة لها؟ هذا فيما يتعلق بقراءتها.
أمَّا فيما يتعلق بالجهر بها فإن حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في هذه المسألة حديث فيصل فاصل، يقال: المرجع في مثل ذلك إلى حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو أنَّ النبي ﷺ ومَن بعده من الخلفاء لم يكونوا يجهرون بها، فلا يشرع إذا الجهر بالبسملة، ولو جهر بها أحد لم يُنكر عليه؛ لأنَّ أبا هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد جهر بها أمام أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فلم يُنكر عليه، لكن سنة النبي ﷺ المطردة ترك الجهر بها، ولا يعني ذلك كما قررنا قبل قليل أنَّه لا يشرع نطقها؛ بل يقال: يشرع أنَّ تذكر البسملة، بل يشرع أكثر من ذلك يذكر قبلها التعويذ، ولم يذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا الاستعاذة؛ لأنَّه لم يثبت فيها حديث في الصحيحين، وإنما جاء في غير الصحيحين من حديث علي بن علي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه «أعوذُ باللهِ السميعِ العليمِ من الشيطانِ الرجيمِ ، من همزِه ونفخِه ونَفْثِه»[20]، وفي ذلك قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، فنقول: تشرع الاستعاذة على الصحيح من أقوال أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.
{أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم صاحب الفضيلة، والشكر موصول لكم أيُّهَا الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم -بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين}.


[1] صحيح البخاري (6667).
[2] أخرجه أبو داود (826) واللفظ له، والترمذي (312)، والنسائي (919)، وأحمد (7994) باختلاف يسير.
[3] أخرجه أبو داود (777)، وابن ماجه (845)، وأحمد (20258).
[4] صحيح مسمل (395).
[5] صحيح الأدب المفرد (538).
[6] ضعيف الجامع (2082).
[7] صحيح البخاري (756).
[8] سنن أبي داود (822).
[9] صحيح البخاري (1171).
[10] صحيح مسلم (452).
[11] صحيح البخاري (4854).
[12] صحيح البخاري (3931).
[13] صحيح البخاري (765).
[14] أخرجه النسائي (982)، وأحمد (10882) باختلاف يسير.
[15] أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465).
[16] صحيح ابن خزيمة (1/ 570)، صحيح ابن حبان (2400).
[17] أخرجه النسائي (997).
[18] سنن أبي داود (1330)، حسنه الألباني.
[19] أخرجه النسائي (905)، وأحمد (10449) باختلاف يسير.
[20] صحيح أبي داود (775).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك