الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44833 18
الدرس الثاني

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامج "جادة المتعلم" يصحبكم فيه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، والكتاب المقروء هو كتاب "عمدة أحكام" للحافظ الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ الله تعالى- حياكم الله فضيلة الشيخ، وحيا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
الله يبارك فيك.
نستكمل ما وقفنا عنده في الدرس الماضي وقد وقفنا عند حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»، وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»}.
بعد الحمد لله وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذا الحديث من أحاديث الآداب بوجه عام، وهذا هو الأصل فيه، ولكن العلماء -رحمهم الله- لم يخلوه من استنباط الأحكام.
قوله: (وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»)، فيه النَّهي من النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن البول في الماء الدائم، والماء الدائم يُقابل كل ماء مستبحر أو ماء متحرك كماء الأنهار وماء البحار، هذا لا يسمى ماء دائمًا وإنما يسمى ماء مُستبحرًا؛ لأن الماء الدائم ها هنا المراد به: الماء الراكد، وقد جاء بيانه في الحديث الآخر عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» وليس المراد بالماء هنا: الماء الذي لا ينقطع، وإنما المراد به الماء المستقر في مكان واحد، كمياه المسابح مثلًا، ومياه البرك ومياه البحيرات الصغيرة ونحو ذلك، فهذه كلها من الماء الدائم التي ينطبق عليها إرشاد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حينما قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» فهذا النهي من النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نهي أدب، ولكنه محل خلاف بين العلماء هل هو على التحريم أو على الكراهة؟
الصواب فيه: أنه محرم، ما يجوز للإنسان أن يبول في الماء الدائم لأنه يقذره على غيره، وعليه فإنه لا يجوز البول في المسابح ونحو ذلك، وإنما إذا احتاج الإنسان للبول خرج وبال، ولا يجوز البول في البحيرات ونحو ذلك، أو المياه التي تقصد من الناس؛ لأنَّ هذا مما يقذرها، بخلاف مياه الأنهار، ومياه البحار والمياه العظيمة المستبحرة التي لا يصدق عليها أو لا يتحقق فيها أنها مياه راكدة.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»، قوله: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ»، يعني ثم يزيل نجاسته أو حدثه من هذا الماء. فهل يعني هذا أنه يحرم الجمع بين هاتين الصورتين فحسب؟ يعني يجوز للإنسان أن يبول في الماء الدائم إذا لم يكن يغتسل منه؟
نقول: لا.
ومن أجل ذلك فإن الحافظ عبد الغني احتاج إلى رواية مسلم، مع أن الأصل أنه إنما يروي الرواية المتفق عليها، ولكن ها هنا قال (وَلِمُسْلِمٍ: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»)، ما ذكر فيه: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ»، وإنما ذكر النهي عن الاغتسال؛ فدلَّ ذلك على أن لهذا الحديث معنيان.
المعنى الأول: أنه لا يجوز البول في الماء الراكد بكل وجه، سواء كنت تغتسل منه أو لم تكن كذلك، لأنك إذا لم تغتسل أنت منه فإن غيرك قد يغتسل منه.
المعنى الآخر: أنه لا يجوز الاغتسال في الماء الدائم للجنب، فالجنب ما عليه نجاسة، وإنما عليه حدث، والحدث هو وصف حكم يحل بالبدن لا يمكن مشاهدته، بخلاف النجس، فالنجاسة كالبول والغائط -أكرمكم الله- تُشاهَد، فهذه كلها نجاسات، أما الحدث الذي هو الوصف بالجسد لا يمكن مشاهدته، ولذلك لا تستطيع أن تميز هل الإنسان محدث أو لا حتى يُخبرك، ومع ذلك فإن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد نهى عن الاغتسال في الماء الدائم للجنب.
سؤال: ما هو حد الماء الدائم الذي يخرج به عن كونه راكدًا؟
هذا مما اختلف فيه العلماء -رَحِمهُ اللهُ:
بعضهم قال: إنه يُحدُّ بالقلتين فما زاد، فإن كان قلتين فما فوق فإنه لا يكون ماءً دائمًا، وإنما يكون ماءً كثيرًا، لأنه يدفع النجاسة بنفسه.
وإن كان ما دون ذلك فإنه يكون ماءً قليلًا.
والظاهر -والله أعلم- أن قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي» قد جاء تفسيره؛ لأنه قال: «الَّذِي لا يَجْرِي»، فكل ماءٍ لا يجري فإنه يُسمى ماءً دائمًا أو ماءً راكدًا، وعليه فلا يجوز البول فيه، وهذا من المعاني التي ينبغي تقريرها.
وهذا النهي من النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- على التحريم على الصحيح، وأنه لا يجوز أن يجمع فيه بين الوضوء وبين الاغتسال.
قوله: «لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»، إشارة إلى أنه لا يُشرع رفع الجنابة في مثل الماء الدائم، وهذا مما ينبغي أن يُتقى، فإنَّ الماء إذا كان قليلًا فإنَّ العلماء -رحمهم الله- قالوا: لا ينبغي أن ترفع به الجنابة، بمعنى أنه لا ينبغي أن ينغمس فيه، إلا إن كان ماءً كثيرًا قد جاوز القلتين، فإذا جاوز القلتين جازَ له أن يغتسل فيه أو ينغمس فيه ليرفع جنابته، وهذا ما قرره جماعة من العلماء -رحمهم الله.
وفي هذا المعنى أيضًا: إشارة إلى أن الماء لا ينجس إلا بظهور النَّجاسة فيه، وهذا هو القول الصَّحيح، سواء كان هذا الماء ماءً قليلًا أو ماءً كثيرًا؛ لأن العلماء -رحمهم الله- ومنهم الحنابلة وغيرهم قالوا: إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فإنه على قسمين:
الأول: إن كان قلتان فما دونه فإنه ينجس مُطلقًا، حتى لو لم تظهر أثر النجاسة على الماء.
الثاني: إن كان فوق القلتين نظرنا: إن ظهرت أثر النجاسة نجسناه، وإلا فإنه لا ينجس.
والصحيح هو مذهب مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، فإن مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- كان يرى أن الماء لا ينجس البتة إلا بالتغيُّر، فإذا تغيَّر الماء نجس، ولهذا قد جاء للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «الماءُ طَهورٌ لا يُنَجِّسُه شَيءٌ»[1]، وفي بعض الروايات وهذه الرواية ليست صحيحة لكنها مجمع على معناها: «إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»[2].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعً)). وَلِمُسْلِمٍ: «أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ». ولَغَ: شَرِبَ بطَرَفِ لسانِهِ عَفِّروهُ: التعفيرُ: التمريغُ في العَفْرِ وهو الترابُ)}.
هذا الحديث وهو حديث ولوغ الكلب من الأحاديث التي تتحدث عن طهارة الأنجاس بوجه عام، وهذا الحديث أصل في بابه -أعني أصل في طهارة نجاسة الكلب- النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ»، والرواية المحفوظة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إنما هي: «إذَا وَلَغَ الكَلْبُ» لم يأتِ بلفظ شرب إلا مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- وإلا فإن كل من رواه عن الزهري إنما كان يروي هذا الحديث بلفظ «إذَا وَلَغَ الكَلْبُ» وهذا هو الأصل، لأن الكلب لا يقال فيه "شرب" وإنما يقال فيه "ولغ".
قوله: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعً». وَلِمُسْلِمٍ: «أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
قال -رحمه الله: (وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»)، هذا فيه دلالة على أنَّ طهارة نجاسة الكلب بوجه عام أو النجاسة المغلظة لا تزول بما تزول به غيرها من النجاسات، فإن الأصل في النجاسة: أنها متى ما زالت عينها طهرت، هذا هو الأصل في النجاسة بوجه عام، فإذا طهرت النَّجاسة من غسلة واحدة كان بها، وإلا زاد غسلة حتى تطهر، ولو أن النجاسة طهرت بغير الماء لكانت طهارتها طهارة صحيحة، كما لو طهُرَت باليبس والجفاف أو الشمس، أو السكين التي تذبح بها الشاة فيكون عليها الدم المسفوح الذي هو نجس بالإجماع فيأتي الجزار فيسمحها بخرقة، فإنَّ هذا أيضًا يقع مسحًا صحيحًا، وتكون طهارة لهذه العين، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، إلا في نجاسة الكلب، فإن نجاسة الكلب مُستثناة من عموم طهارة الأنجاس، وقد جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الأمر بأن تطهَّر أو تغسل سبعًا، وإنما ذاك لأجل غلظ نجاسته، لكن هذا مقيد بالولوغ فحسب، يعني لا يقاس عليه غيره.
ولهذا مما يكثر السؤال عنه ومن المسائل التي تكثر لما تلبَّس به بعض المسلمين -هدانا الله وإياهم- من إدخال الكلاب إلى بيوتهم، تجد أنه يسأل يقول: الكلب يصيب جسدي، فهل أغسل جسدي سبع مرات؟ أو الكلب يصيب برجله أو بقدمه أو بيده فيها الإناء، فهل يجب عليَّ أن أغسل الإناء سبع مرات؟
نقول: لا. الغسل إنما هو من الولوغ، والولوغ إنما يكون في الشيء المتحرك السائل، ما تقول إذا جاء الكلب -أكرمكم الله- فلعق يدك، لو أنك قلت "ولغ" لأنكر عليك أهل اللغة، قالوا: ما يسمى ولوغًا هذا، وإنما يسمى لعقًا، وإنما يكون الولوغ في الشيء السائل.
فبناء عليه: إذا كان في الشيء السائل فإنما الحكم مقترن بما جاء به النص، لأن هذا الحكم خرج عن وفق المعهود في إزالة النجاسات وهو غسلة واحدة تزول بها النجاسة، فلما جاء هذا الحكم على خلاف المعهود دلَّ على أن هذا حكم خاص ينبغي أن تراعى فيه أحواله وكيفياته، وينبغي ينطلق فيه من النص الوارد عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والنص الوارد عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إنما جاء في الولوغ فحسب، فبناء عليه إنما يكون الغسل سبعًا للإناء الذي ولغ فيه الكلب، فأما ما سوى ذلك من لعق الكلب كأن يلعق الكلبُ الإنسانَ لعقًا فهذا نقول محل خلاف بين العلماء:
- من العلماء من يقول: إنه لا ينجس أصلًا ولا يغسل.
- ومن العلماء من قال: يغسل غسلة واحدة.
فمالك -رَحِمَهُ اللهُ- كان يرى بوجه عام أن الكلب ليس بنجس، ويقول: لو أنَّ الكلب لعقك لم يكن في ذلك نجاسة، وإنما النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أمر بغسل الإناء سبعًا، وهذا حكم تعبدي لأنه أو غير ظاهر الفهم، لو لأنه نجاسة كانت زالت بغسلة واحدة، فلما جاء الأمر بغسلها سبعًا إحداهن بالتراب دلَّ على أن الأمر لأمر آخر يعلمها الشرع ولكنه قد يكون غاب عنا، فهذا هو قول مالك -رَحِمَهُ اللهُ.
وأبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- كان يرى أن لا ينجس منه إلا فمه، يقول: النجاسة في الكلب إنما هي قاصرة على الفم، وأمَّا ما سوى ذلك فإنه ليس بنجاسة. وهذا القول قول وسط بين قول مالك -رَحِمَهُ اللهُ- وبين قول الجمهور الذين هم الشافعية والحنابلة الذين يرون أن الكلب كله نجس.
فالظاهر -والله أعلم- أن يقال: إن نجاسته مقيدة بفمه، وإذا كان الأمر كذلك يُنظر:
- إن كان قد ولغ فإنه يغسل سبعًا إحداهن بالتراب.
- وإن كان قد لعق فإنما يغسل مرة واحدة، لأن الحديث إنما جاء على الولوغ ولم يجئ على اللعق، ولو أراد النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اللَّعق لأخبر به؛ لأن اللعق أكثر من الولوغ، وحاجة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إلى إرشاد الناس في اللعق لو كان ثابتًا بحكم أكثر من الحاجة إلى الولوغ؛ فدل ذلك على أن الأصل في اللعق أنه إن غسل فإنما يغسل مرة واحدة.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعً»، قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سبعً»: هذا نص صريح عن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في التَّسبيع، ومن ثَم فإن كل الأقوال التي يقول بها الأئمة مما كانت أقل من التسبيع كقول أبي حنيفة وغيره "إنما يغسل ثلاثا"؛ نقول:
أولًا: كلها أقوال مرجوحة، لأنه إذا ثبت النص كان المعول عليه. هذا امر.
ثانيًا: أن -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال في رواية مسلم: «أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ»، والتتريب مما أهمله البخاري، فما أخرج الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- رواية التتريب، وما تركها إلا لأجل إشكال عنده فيها، فإن الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- كان أن رواية التتريب مما تفرد بها محمد ابن سيرين، وأن كل من روى هذا الحديث عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يذكر رواية التتريب، ولهذا مالك -رَحِمَهُ اللهُ- ممن روى هذا الحديث لم يكن يقول بالترتيب، لأنه ما يحفظها عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ومن انتهى إلى حيثما علم فقد سلم، لكن ما صحت عنده وجب عليه أن يعمل بما جاءه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والصحيح: أن هذه الرواية رواية صحيحة وثابتة قد أخرجها الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-، لكن قد ورد الخلاف فيها أين موضعها؟ فجاء في بعضها: «أولاهن»، وجاء بعضها «أخراهن»، وجاء بعضها «إحداهن»؛ وأصح هذه الروايات رواية: «أولاهن بالتراب» فيكون التراب هو المقدم، يترِّبه ثم يغسله بعد ذلك سبعًا، لكنه لو أخره أو جعله في إحداهن كان ذلك مجزئًا، حيثما حصل التتريب أجزأ ذلك.
جاءت رواية عبد الله بن مغفل وهذا من مقاصد ذكر الإمام عبد الغني رَحِمَهُ اللهُ-لهذا الحديث- فالأصل في عمدة الأحكام هي الأحاديث المتفق عليها، لكن مع ذلك قال: «وله»، أي: لمسلم، في حديث عبد الله المغفل أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِناءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»، لسائل يسأل يقول: يا إمام ما حاجتك لأن تذكر حديث عبد الله بن مغفل وأنت من شرطك ذكر المتفق عليه؟
كأن الإمام عبد الغني المقدسي بعلمه الواسع في الحديث قال: أريد بذلك أن أذكر من يريد أن يضعِّف رواية مسلم في قوله: «أولَاهُنَّ بالتُّرابِ» إلى أن هذا الحديث قد صح عن صحابي آخر وبوجه آخر وهو حديث عبد الله بن المغفل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه: «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»، لكن الإشكال في حديث عبد الله بن مغفل أنه ذكر في ثمان، وفي حديث أبي هريرة سبع. فكيف يجمع بينهما؟
لم يقل أحد من العلماء بوجوب التَّثمين إلا الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ- وإلا كل العلماء على أنه سبعًا فما دون.
والصَّحيح -والله أعلم- أن قوله: «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ»، كأنه جعل التراب إذا خُلط بالماء غسلةً، فالتراب في الأعم الأغلب فإنه يختلط بالماء فكأنه غسلة، هذا هو الظاهر في حديث عبد الله المغفل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
يبقى السؤال: إذا ولغ الكلب في هذا الإناء، فما الذي نصنعه بالماء الذي قد ولغ فيه أو باللبن؟
مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن يرى على مذهبه أنه يراق، فيرى أنه يُشرب، وقد جاء في حديث علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إذَا وَلغَ الكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُم فليُرِقْهُ»[3]، هنا الأمر بالإراقة، لكن هذه الزيادة مما فيها العلماء -رحمهم الله- ولهذا الإمام مسلم أخرها ثم أشار إليها قال: "لم يذكر أحد هذا الحرف وهو قوله «فليُرِقْهُ» إلا علي بن مسهل"، يريد أن يشير إلى أن هذا الحرف مما قد يتكلم فيه، لكن بوجه عام: جماهير العلماء على العمل به. قالوا: إذا ولغ في شيء فإنه يراق، لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد أمر بغسل الإناء، فإذا أمر بغسل الإناء فكيف يؤمر بشرب ما فيه؟! لم يأمر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بغسله هذا الغسل المضاعف إلا لنجاسته، فهذا أحد المعاني التي تتعلَّق بالكلاب ونحو ذلك.
إذا فُهم هذا فإنه يقال: إن الأصل بوجه عام أن الشريعة قد جاءت بأصول الأحكام، وبما يحتاج إليه المكلفين، واذا جاءت في الكلام على الكلب -أكرمكم الله- مع أنه من أقصى الحيوانات على الإنسان، وحاجته له دون لبعض الحيوانات مثل الحمير في السابق، ومثل الإبل والبقر يحتاج إليها أكثر، وليس حاجته إليها أو اعتياده عليها مثل اعتياده على القطط مثلًا، فالقطط قد تدخل كثيرًا إلى البيوت في الزمان السابق؛ فدلَّ ذلك على أن الأصل فيها العفو وأن ريقها طاهر بوجه عام طاهر، ريقها الذي يسمى "السؤر" لأن السؤر يقصد به إما الريق أو يقصد به البقية، فكلها الأصل فيها أنها طاهرة، لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد قال في القط: «إنَّها ليست بنَجَسٍ، إنَّما هي مِنَ الطَّوَّافينَ عليكم أوِ الطَّوَّافاتِ»[4].
 أنها ليست من
كذلك أيضًا الحمير؛ لو أن الحمار لعق شيئًا. هل يقال هذا نجس ويغسل سبعا؟ قد نقول لا، التسبيع غير مطروح.
فهل يُقال: يغسل واحدة؟
نقول: حتى الغسلة الواحدة ما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه أمر بغسلها.
بعض العلماء -رحمهم الله- قال: يقاس على الكلب ما هو أشد نجاسة منه وهو الخنزير، وقد قال به الشافعية -رحمهم الله- قالوا: الخنزير أشد نجاسة من الكلب.
فنقول: لا. ما نستطيع نقيس، لأن هذا قد جاء على خلاف المعهود في الكلب، وما ذكر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الخنزير؛ فدلَّ ذلك على أن المعنى إنما هو مقرر في الكلب دون غيره.
وفي هذا ما يشير إلى أنه ينبغي للإنسان ألا يساكن هذه الكلاب، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إلَّا كَلْبًا ضارِيًا لِصَيْدٍ أوْ كَلْبَ ماشِيَةٍ، فإنَّه يَنْقُصُ مِن أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ»[5]، القيراط: هو الجبل العظيم.
وقد جاء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «لَا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ ولا تَصاوِيرُ»[6]، والكلب ها هنا على الصحيح على المفهوم العام، حتى قال بعض العلماء: حتى كلب الصيد والحراسة إذا كان موجودًا عندك بيتك نعم يرفع عنك الإثم إذا كان لحاجة، لكن لا تدخله الملائكة.
ومما يُقرر هذا المعنى: أن جبريل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد امتنع من دخول بيت النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لما واعده ثلاثًا فلم يدخل، فأبطأ جبريل على النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فقال: «ما يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَا رُسُلُهُ»[7]، فلما نظروا وبحثوا وجدوا جرو كلب قد توفي تحت سرير النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ومعذور النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لأنه ما دخل بإذنه، ومع ذلك فإن الملائكة قد امتنعت من دخول هذا البيت، وهو بيت النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وهذا معنى عظيم ينبغي أن يلتفت له، وألا يتساهل فيه البتة، ومن لا يساكن الإنسان مثل هذه الحيوانات، لا يسيء إليها ولا يساكنها، ويجعلها أقرب إليه من بعض إخوانه. والله المستعان!
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: «أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا»، وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»)}.
هذا الحديث وهو حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أصل في كيفية الوضوء عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا قلنا "أصل" فالمعنى: أن كل ما لم يذكر في هذا الحديث فإنه لا ينبغي أن يقال بوجوبه، إذا قلنا هذا المعنى أو قررنا هذا المعنى سيستبين لنا -بإذن الله- جزء كبير من الأحكام المختلف فيها، وهذا هو معنى ما سبق وقررناه حينما قلنا: إن عمدة الأحكام وإن الصحيحين من قبلهما قد حويا أحاديث الأحكام.
فإذا جاء وصف الوضوء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عالم ربانيٍّ جليلٍ متَّبع كعثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صحابي من جلة أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أعلمهم بالوضوء ومن أكثرهم عناية بالطهارة؛ فإنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان أنظف الناس، لم يكن يأتي عليه يومٌ إلا ويُفيض على رأسه، وهذا ما كان من عوائد العرب، ولهذا تلقف من النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حديث الوضوء ورواه أحسن رواية، ثم إن هذا الحديث مما تواتر واشتهر عن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنه قد رواه عنه جماعة، أشهرهم حمران مولاه، الذي ذكره هنا الإمام عبد الغني المقدسي، ورواه عنه غيره، وقد كان عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يحدث به بمحضرٍ من الناس، ومنهم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فإذا كان كذلك فكل ما لم يذكر في هذا الحديث لا ينبغي أن يُقال بوجوبه.
إذا تقرر ذلك نأتي إلى المسألة الأولى:
قوله: «أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ»، أين التسمية؟
الجواب: ما ذكرها، مع أنه قال: "أعلمكم وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ"، ولو ذكرها لنقلت إلينا.
فلو قال قائل: إنما كانوا ينقلون إلينا الوضوء.
نقول: نقلوا إلينا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ»، وهذا قولٌ، ومع ذلك فإنهم قد نقلوه، فهل هذا اللفظ أولى أو ذكر البسملة لو كانت موجودة؟
الجواب: ذكر البسملة.
فإذا تقرر هذا المعنى فإن البسملة في الوضوء ليست واجبة، وإنما غاية ما يُقال فيها إنها مسنونة، بل إن مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن يرى سنيتها، وقال: عندي حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد والربيع وابن عباس وعلي وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ هؤلاء كلهم رووا حديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الوضوء ولم يذكر أحدٌ منهم التسمية.
إذًا؛ غاية ما يُقال في التسمية في الوضوء: إنها مسنونة فحسب.
وأمَّا ما يُروى عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من قوله: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْه»، فالأصح في هذا الحديث أنه لا يثبت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، ولهذا ما أخرجه البخاري ولا أخرجه مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-، ولو كان صحيحًا لأخرجوه لأنه من الأصول التي يُحتاج إليها.
المسألة الثانية: «فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ»، فيه دلالة على أنه لا يشرع غمس اليدين مباشرة في الإناء بكل حال، سواء كان مستقيظًا من نومِ ليلٍ وهذا يحرم عليه، أو لم يكن مستيقظًا من نوم الليل، وإنما كان في مسجد فأحدث ثم توضأ.
فإذا أوتي بالإناء، نقول: ما شرع لك أن تغمس يديك، فهذا ليس من الأدب، لأنه قد ثبت أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما علمهم الوضوء فلما فرغ رفعه فشربه، فدل ذلك ولو كان قد غمس اليدين فيه قبل أن يغسلهما كان فيه نوع من التقذير له، لكن أفرغ على يديه فغسلهما ثلاثة، فدل ذلك على مشروعية وعلى سنية غسل اليدين ثلاثة، إلا القائم من نوم ليل فإنها تجب عليه.
وغسل اليدين هنا لا يجزئ عن غسلهما بعد الوجه، فإنه إذا فرغ من غسل الوجه سيرجع ويغسل يديه بتمامهما، وهذا مما يقع الخطأ فيه كثير من الناس، تجده أنه يغسل يديه ابتداء ثم يغسل وجهه ثم يأتي فيغسل يديه فيبدأ بهما من المفصل، ونقول هذا خطأ بلا شك وهذا وضوء غير مجزئ.
قال: «فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ»، فيه دلالة على مشروعية تثليث الوضوء وأنه هو الوضوء الكامل وليس هو الوضوء الواجب، الوضوء الواجب يجزئ فيه واحدة، لهذا قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ: «وتوضأ النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مرَّةً مرَّةً، ومرَّتينِ مرَّتينِ، وثَلاثاً ثلاثً»، كره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فدل ذلك بوجه عام على مشروعية التثليث، وعلى هذا القول إجماع الأمة على أنه يشرع تثليث الوضوء إلا في الرأس، فإن الرأس يمسح مرة واحدة، وأما ما سوى ذلك من أعضاء الوضوء فإنه يشرع فيها التثليث.
والتَّثليث إنما يراد به: استيعابها بالغسل كل مرة، فأما أن يأخذ غرفة فيغسل جهة من يده ثم يأخذ غرفة ثانية ثم يغسل جهة من يده ثم يأخذ غرفة ثالثة فيغسل جهة من يده؛ فإنما هي مرة واحدة، أما التثليث فهو أن تأخذ غرفة واحدة فتغسل بها يدك بتمامها، ثم ترجع مرة ثانية كذلك، ثم ثالثة؛ هذا هو وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الذي هو أتم الوضوء، وهذا وضوء مستحب، وأما الواجب فإنما هو مرة واحدة.
قال: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ»، فيه مشروعية أن يتناول بعد لغسل الأعضاء بيمينه، أدخل يمينه في الوضوء ثم أخذها فتمضمض بها، واستنشق واستنثر. وفي بعض الروايات أنه «استنثرَ بيُسرَاهُ».
وفيه دلالة على مشروعية أن يكون الغرف غرفة واحدة، لا يأخذ مرة ومرة للاستنشاق، وهذا يسمى عند العلماء بالفصل، نقول: الأصل أن الفصل لا يصح فيه شيء، وإنما الأصل الوصل وهو أن تأخذها بغرفة واحدة، تتمضمض فيها وتستنشق ثم تستنثر بيسراك، هذا هو السنة وسيأتي إن شاء الله -عَزَّ وَجلَّ- بيان هذا المعنى في حديث عبد الله بن زيد، فيه: «فَمَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن غَرْفَةٍ واحِدَةٍ» هذا أمر.
قال: «ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ»، فيه دلالة على مشروعية المضمضة والاستنشاق في الوضوء.
تكلمنا في الاستنشاق لكن المضمضة محل خلاف بين العلماء، هل هي واجبة أو لا؟
أصح الأقوال: أنَّ المضمضة ليست بواجبة في الوضوء.
فإن قال قائل: قد قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث لقيط بن صبرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِذَا توضَّأتَ فمَضمِضْ»[8]، قلنا: إن هذه الزيادة لا تثبت في حديث لقيط، وبناء عليه فاذا لم تثبت هذه الزيادة لم يبقَ في المضمضة إلا فعل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وفعل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد اختلف به العلماء هل هو على الوجوب في مثل هذا أو على السنية؟
وجمهور العلماء في المضمضة أنها على سنية، بينما الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- كان يذهب إلى وجوبها.
ونقول: من تمضمض فقد أتى بما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- وقد خرج من الخلاف.
وهذه من المسائل التي ينبغي للإنسان أن يخرج فيها من الخلاف، فهذا من صور الخروج من الخلاف -أعني المضمضة- لأن العلماء مجمعون على أن من تمضمض فقد أتى بما امر الله -عَزَّ وَجلَّ- وقد أتى بوضوئه تامًّا.
قال: «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثً»، الوجه: هو كل ما يواجه الإنسان.
وحدُّه: منابت الشعر.
قالوا: من منابت الشعر من أعلى الرأس إلى الذقن.
ثم اختلفوا في اللحية، قالوا هل اللحية من الوجه أو لا؟ هذه محل خلاف بين العلماء -رحمهم الله.
في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان رجلًا كثَّ اللحية وما ذكر في اللحية؛ فدل ذلك على أنه يكتفى بغسل ظاهر الوجه.
وحده عرضًا: من الأذن إلى الأذن، يشمل هذا حتى البياض الخفيف الذي يسمى عند العلماء بـ "العذار" الذي يكون بين شعر اللحية وبين الأذن، هذا كله من الوجه لأنه مما يواجه الإنسان، فهذا أيضًا مما يعمم.
قال: «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثً»، فيه استيعاب الوجه بالغسل.
قال: «وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثً»، اليد متى ما أُطلقت فإنها تشمل من حد الأصابع إلى ما يحدد في النص، فإذا أطلقت اليد بوجه فإنما تتناول إلى الكف، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ﴾ [المائدة: 38]، أجمعت الأمة على أن قطع يد السارق إنما يكون من مفصل الكف، لكن إذا قُرن بها ما يدل على المجاوزة فإنه ينبغي أن يستصحبها، هنا قال: «وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ»، فدل ذلك على أنها تغسل من أطراف الأصابع إلى المرفقين، وأن المرفقين يدخلان فيهما، وقد حكي ذلك عن جماهير العلماء لم يخالف فيه إلا بعض العلماء، فالظاهر أن المرفقين مما يدخلان في الغسل.
قال: «ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ»، بين ها هنا أيضًا مسح الرأس ولم يذكره مثلثًا وإنما قال: «ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ».
وها هنا قاعدة ينبغي للإخوان والأخوات استصحابها وهي: أنهم إذا نظروا إلى حديث في البخاري وفي مسلم ثم رأوا هذا الحديث عن هذا الصحابي خارج البخاري ومسلم وفيه زيادة لم تذكر عند البخاري ولا مسلم، فإنه ينبغي أن يُتوقَّف في هذه الزيادة وفي ثبوتها ويُحقق فيها.
من أجل ذلك فإنَّا لما نظرنا في سنن أبي داوود وجدنا أن أبا داوود -رَحِمَهُ اللهُ- قد روى هذا الحديث من طريق عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولكنه ذكر فيه «ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثلاثً» أين البخاري مسلم من هذه الزيادة؟ البخاري ومسلم رويا أحاديث مسح الرأس من حديث عثمان ومن حديث عبد الله بن زيد وليس فيها ذكر التثليث؛ فدل ذلك على أن التثليث الرأسي لا يصح، وإنما حقه المسح مرة واحدة قياسا على مسح الجوربين فإنما يمسحان مرة واحدة، وإذا كان الشيء يُمسح ثم مسحته ثلاث مرات؛ فقد جعلته كأنما هو مغسول مرة، تتابع الماء عليه ثلاث مرات يصيره كالمغسول، وهذا ما يريده الشرع، إنما أمر الشرع بالمسح وما أمر بالغسل.
فبناء عليه: الصحيح أن الرأس إنما يمسح مرة واحدة.
وقوله: «ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ» يدل على استيعاب مسح الرأس، وهذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم، أنه ينبغي أن يستوعب الرأس بمسحٍ، لأن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لو أراد عدم الاستيعاب لمسح ببعض رأسه، ونقل إلينا الراوي أنه إنما مسح ببعض رأسه.
ومما يدل على الاستيعاب: حديث عبد الله بن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي سيأتي بعد قليل إن شاء الله -عَزَّ وَجلَّ.
قال: «ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثً»، غسل رجليه مع الكعبين والعقبين، فدل ذلك على مشروعية غسل الرجلين ثلاثًا أيضًا، وأن التثليث أيضًا مشروع في غسل الرجلين، لأن بعض العلماء قال: إنه لا يشرع غسل الرجلين ثلاثًا، لأنه لم يرد في حديث عبد الله بن زيد!
نقول: ورد في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا هو الصحيح عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وينبغي يعلم أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد توضأ هذا الوضوء السَّابق بالمُدِّ، والمد تقريبا خمس مئة جرام، إذا رأيتم علب الماء هذه التي هي ثلاثمائة وثلاثين مل؛ فالمدُّ علبة وقريب من نصف العلبة، قد توضأ بها النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هذا الوضوء السابغ، فدل ذلك على أنه يمكن للإنسان أن يسبغ الوضوء ويثلِّثه ويأتي به بالقدر الذي توضأ به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم لما فرغ من ذلك التعليم قال عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ»، يعني قريبًا من وضوء هذا، وهذا من الصحابي أدب. ما قال "مثل وضوءي هذا"، فالصحابة عندهم نوع من التورع في الألفاظ.
وقوله: «نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ»، يعني قريبا منه، يعني لا أريد أن أزعم أن وضوئي مثل وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهو ليس كذلك، قد أكون نسيت فيه أو فات عليَّ شيء؛ فمهما بلغت في تعليمي لكم فإني لن أصل إلى تعليم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهذا نوع من الأدب، ولهذا كان طائفة والصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- إذا رووا عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حديثًا قالوا: "أو نحو هذا، أو مثل هذا"، وهذا كله من باب التأدب مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتنزيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أن يكتب في حديثه أو يزاد فيه أو ينقص.
قال: (وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»)، هذا فيه فضل إسباغ الوضوء وفضل التثليث لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إنما جعل هذه الفضيلة لمن توضأ وضوءا مثلَّثا، فمن توضأ الوضوء السابغ ولكنه غير مثلث؛ نقول: ما تشمله هذه الفضيلة، لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ»، يعني قريبا منه أو مثله.
قال: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ»، حديث النفس: هو الحديث الذي يسترسل الإنسان معه فيه.
وحديث النفس على قسمين بوجه عام، وهذا يجدها الإنسان من نفسه في الصلاة:
- إن كانت العوارض التي تعرض للإنسان فلا يسترسل معها وإنما يدفعها فهذا معفو عنه، ولهذا قلَّ ما يحصل السهو مع هذه العوارض التي تعرض لك ثم تنساها.
- فإن استرسل معه، ذكر مشكلة عنده اجتماعية، فمجرد ذكره وإعراضه عنها لا يصيره في عداد السَّاهين ولا يصيره في عداد مَن لا ينطبق عليه هذا الحديث، لكن استرسل معها وبدأ الآن يبحث عن حلولها؛ فهذا هو حديث النفس الذي نهى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عنه، وهذا هو الذي يقع كثيرًا بسببه السهو في الصلاة، الاسترسال مع حديث النفس، تجد الإنسان من حين ما يسترسل وهو يفقد اتزان الصلاة، ولا يعرف كم صلى ركعتين أو ثلاث أو أربع، ولا يعرف بما قرأ به الإمام، ولا يعرف هل أتى بما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- به أو لم يأتِ به؟!
قال: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، هذا من الفضل العظيم الذي يدل على فضل الوضوء بوجه عام، من أعظم فضائل الوضوء حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ومن أعظمها أيضًا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه الإمام مسلم. وفيه أنه «إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ، أَوِ المُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِن وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بعَيْنَيْهِ مع المَاءِ، أَوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ»[9]، وقال في أعضاء الوضوء كلها كذلك، فهذا أيضًا من أعظم فضائل الوضوء.
ومنها قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَ»[10]، إذًا هذا من فضائل الوضوء التي أخبر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بل هو اصح ما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في فضل الوضوء، وقد رواه عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وفي هذا الحديث أيضًا معنى آخر: وهو أنه يحرم الزيادة على الثلاث؛ لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد توضأ هذا الوضوء الكامل، ولهذا قال الإمام البخاري: "وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يُجاوز فعل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ" فمجاوزة فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالوضوء أربعًا.
ولهذا قال بعض العلماء: "ما أراه إلا إثمًا"، أي: إذا تجاوز إلى الأربع.
وما من شك أنه باب من أبواب الوسوسة مع كونه تعديًا؛ لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث عمرو بن شعيب لما توضأ قال: «فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وأساء وظلم»، وفي زيادة «أو نقصَ»، وهو قد تجاوز حدود الله -عَزَّ وَجلَّ- التي حدَّها بها.
إذا المجاوزة أحيانا قد تكون بالنَّقص، وقد تكون أحيانا بزيادة، ما يفهم بعض الناس من المجاوزة إلا أنها النقص، نقول: لا، قد يكون التجاوز بالزيادة على ما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- به وعلى ما أمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ». وَفِي رِوَايَةٍ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ». التَّوْرُ: شِبْهُ الطَّسْتِ)}.
 
هذا هو حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو الذي ذكرنا أنه مع حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هما أصل أحاديث الوضوء، فمن أراد أن يعرف وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وما يجب منه وما لا يجب فعليه أن يقصد إلى هذين الحديثين.
قد ذكرنا مثلا أن البسملة لا تجب لأنها لم تذكر فيه، وسنذكر الآن أن مسح الأذنين ليس بواجب، لأنه لم يذكر في هذا الحديث، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وحديث: «الْأُذُنَانِ من الرَّأْسِ» الذي يرويه أبو إمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إنما هو حديث موقوف على أبي إمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-لا يصح رفعه إلى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ولو مسحهما رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنقله إلينا عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعبد الله بن زيد، لأنهما وصفا الوضوء وصفًا دقيقًا، حتى أن عبد الله بن زيد وصفَ طريقة أخذ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من الماء، وصف لنا طريقة مسح النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- برأسه كيف ذهب بهما إلى مؤخر رأسه ثم رجع بهما؛ فهل يُتصور أن يغفل هذين الصَّحابيين الجليلين عن مسح الأذنين؟
الجواب: بلا شك لا؛ فإذًا مسح الأذنين على الصَّحيح من أقوال أهل العلم أنه مسنون وليس بواجب.
قال في هذا: (شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ)، التور: ذكر أنه هو الطست أو القدر أو الوعاء الذي يوضع فيه الماء.
والصفر: هو النحاس ونحو ذلك، وفيه دلالة على جواز استخدام النحاس، لأن بعض العلماء كابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يكرهه لما فيه من الرائحة.
نقول: إنه ليس بمكروه. لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد توضأ به.
نعم إن قيل: إن أغلب وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كان بالمزادة التي الجلد، ما كان يتوضأ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الأوعية النحاسية إلا قليلًا، لكن هذا ما يدل على كراهتها.
قال: (فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرِ)، هذا يوافق حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفيه أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ما غمس يديه مباشرة في التور، وإنما أكفأهما.
قال: (فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا بِثَلاثِ غَرْفَاتٍ)، هذا فيه دلالة على أنه فرَّق، لكن ليس فيه دلالة على الفصل.
ما الفرق بين في التفريق والفصل؟
المضمضة والاستنشاق لهما صفتان على الصحيح من أقوال العلم:
الصفة الأولى: إمَّا أن يأخذ غرفة واحدة فيمضمض بها ويستنثر ثلاث مرات بهذه الغرفة.
الصفة الثانية: وإمَّا أن يغترف ثلاث غرفات فيمضمض بها ويستنثر.
الصفة الثالثة وهي التي يقع فيها العوام أو كثير من الناس: يأتي فيأخذ غرفة من ماء ثم يتمضمض بها، ثم يأخذ غرفة ثانية ثم يستنشق بها، وهذه الصورة لم تثبت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهذه هي ما يسمى عند العلماء بصورة الفصل بين المضمضة والاستنشاق، وقد جاء فيها حديث: "رأيت النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يفصل بين المضمضة والاستنشاق" لكنه حديث واهٍ وضعيف جدًّا ولا تقوم به الحجة، بل حديث عبد الله بن زيد على خلافه، وفيه: «تمضمض واستنشق واستنثر من كف واحدة» يعني جمع بينهما النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لكن لو أن الإنسان فصل بين المضمضة والاستنشاق فالوضوء صحيح لكنه ليس هو سنة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ)، فيه دلالة على جواز التنويع بين أعضاء الوضوء في الغسل، وأنه ليس من شرط التثليث أن يكون لكل أعضاء الوضوء، فلو أن إنسانًا توضأ، فلما وصل إلى الرجلين أعجله المؤذن فأقام فغسلهما مرة واحدة؛ كان ذلك مجزئا ما فيه بأس، لأن الأصل إنما هو الإسباغ، والإسباغ هو غسل العضو، فكيفما وقع غسل العضو كان مجزئًا.
قوله: (فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً)، هذا الحديث من أحسن الأحاديث عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- التي بيَّنت كيفية مسح الرأس بل هو الأصل، فأصل الأحاديث التي بيَّنت كيفية مسح الرأس وهل يستوعب أو لا؛ هو حديث عبد الله بن زيد، ولهذا من روى هذا الحديث أو من حفظه وكان عنده عمل به كالإمام مالك والإمام أحمد، فإنهما كانا يريان وجوب استيعاب الرأس بالمسح، خلافًا للشافعي، الشافعي يقول: يجزئ مسح بعضه.
وأبو حنيفة يقول: يجزئ مسح ربعه.
أحمد ومالك قالا: عندنا حديث عبد الله بن زيد وفيه صفة المسح. (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ)، أيشٍ أكثر الاستيعاب من هذا الحديث ومن هذه الصفة؟! فقد استوعبت مسح الرأس بتمامه.
وفي حديث الربيع ما يقاربه، لكن حديث الربيع عكس أنه بدأ بالمؤخر ثم رجع للمقدم، وحديث عبد الله بن زيد مقدم عليها، لكنها كلها تدل على استيعاب الرأس وعلى أن الرأس يمسح مرة واحدة. تمسح مرة واحدة، وأنه لا تكرار للمسح في الرأس، وهذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله.
قال: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ)، هذا نص صريح في حديث خالد بن عبد الله الطحان الذي يرويه عن عمرو بن يحيى قوله: (ثم مرة واحدة)، كأنما يريد بذلك أن يقطع الشك الذي وقع فيه بعض العلماء حينما قال في مسح الرأس أنه يكون ثلاثًا، فقال: إنما يكون المسح مرة واحدة.
قوله: (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) ما ذكر "ثلاثا" والظاهر -والله أعلم- أن غسلهما مرة واحدة، فدل ذلك على جواز التنويع في غسل أعضاء الوضوء، بعض أعضاء الوضوء تغسلها ثلاثًّا، تنشط فغسلت وجهك ثلاث مرات وغسلت يديك مرتين وغسلت رجلك مرة؛ ما في بأس ما دام أنك قد استوعبتها.
قوله: (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ)، تكلمنا عنه قبل قليل وذكرنا أنَّ فيه من الدلالة الظَّاهرة على أنَّ مسح الأذنين ليس بواجب، وأنه لو كان واجبًا لذكره عبد الله بن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولذكره عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا مما يخفف به على بعض الناس؛ لأن الوسوسة أحيانًا تلحق بعض الناس في مسح الأذنين وما يعرف كيف يمسحها، وربما أخذ يمسحها بطرق عجيبة!
فنقول: إن هذه كلها الأمر فيها واسع، فلو لم تمسح الأذن ابتداء ما كان عليك في ذلك حرج، نعم قد جاء مسح الأذن في حديث الرُّبيِّع وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لكنه لم يأتِ في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولا في حديث عبد الله ابن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أيضًا من المعاني: أن تخليل اللحية للرجل الملتحي ليست بواجبة، والظاهر في غسل اللحية سواء كانت كثيفة أو خفيفة أنها إنما يمسح ظاهر؛ لأنها شأنها كشأن الوجه، وما سواها مما بطن فإنه لا يعد وجهًا، وما سمعنا أن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد كان كثَّ اللحية أنه خللها، وما يُنقل عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من تخييل اللحية فإنه لا يصح ولا يثبت، خاصة في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كل أحاديث التَّخليل التي وردت عن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا تصح ولا تثبت عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من المعاني التي ينبغي أن تنظر أو تتدارس في هذا الحديث: الموالاة في الوضوء. ففيه أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد والَى في وضوئه، وتوضأ وضوءا متواليًا، والموالاة في الوضوء هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله- أنه ينبغي أن يوالي فيها.
ما هو ضابط الموالاة؟
قالوا: ذهبنا فوجدنا أن العرف في الموالاة ألا تؤخر غسل العضو المتأخر حتى ينشف العضو الذي قبله في الحالة الطبيعية، وهذا المعنى معنًى لا ينازع فيه.
من المعاني أيضًا المقررة في هذا الحديث: وجوب الترتيب لأن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد حكوا وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مرتبا، وقد ذكره الله -عَزَّ وَجلَّ- في الآية التي قرأناها أول ما بدأنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، انظر كيف أدخل الممسوح بين المغسولات؟ عندنا الوجه واليدين وعندنا الرجلين كلها مغسولة، وأدخل بينها المسح.، قالوا: ما أدخل
 الممسوح بين المغسولات إلا للدلالة على الترتيب، وإلا لو لم يكن الترتيب مقصودًا لأخر المسح.
ونظرنا إلى وضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فوجدناه وضوءا مرتبًا، ما توضأ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وضوءا لم يكن مرتبًا أو لم يكن على ما ذكره الله -عَزَّ وَجلَّ.
نعم العلماء -رحمهم الله- فيما يتعلق بالوضوء والترتيب قد خفَّفوا شيئًا يسيرًا في تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، قالوا: لو أنه غسل وجهه ثم مضمضة واستنشق لم يكن عليه بأس، لأنهما عضو واحد وهو الوجه، فلو قدَّم غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق لم يكن عليه بذلك بأس، وأما ما سوى ذلك فلا.
يبقى معنًى آخر: وهو معنى التَّيامن في الوضوء، فهذا الحديث ما ذكر فيه التَّيامن لا في حديث عبد الله بن زيد ولا في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عليه في أحاديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا نتوقف هنا.
{أحسن الله إليكم وبارك الله فيكم فضيلة الشيخ. شكر الله لكم أيها الإخوة المستمعون، وبارك الله في الجميع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 ------------------
[1] صحيح النسائي (325).
[2] سنن ابن ماجه (521)، والدارقطني (47)، والبيهقي (1226).
[3] سنن النسائي (66).
[4] صحيح أبي داود (75).
[5] صحيح البخاري (5481).
[6] صحيح البخاري (5949).
[7] صحيح مسلم (2104).
[8] سنن أبي داود (144).
[9] صحيح مسلم (244).
[10] صحيح مسلم (667).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك