الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44702 18
الدرس الثالث

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامج (جادة المتعلم) وهو الحلقة الثالثة في هذا الدرس، يصحبكم فيه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{بارك الله فيكم.
كنا قد وقفنا أيها الشيخ الكريم عند حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
قال الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَة َ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»)}.
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أمَّا بعد:
فهذا الحديث الذي ترويه عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أصلٌ عظيم في التَّيامن في كلِّ ما يُستحسن ويُستحب، وقد بيَّنت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أن النبي ﷺ كان يعجبه التيمُّن في تنعله.
«تَنَعُّلِهِ»: يعني البداءة بلبس النعل.
«وَتَرَجُّلِهِ»: يعني ترجيل الشَّعر، فكان النبي ﷺ يبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر.
«وَطَهُورِهِ» أو «وَطُهُورِهِ»: ويشمل هذا وضوءه ﷺ وغُسله.
فأمَّا الوضوء: فإن حديث عثمان وعبد الله بن زيد الذين شرحناهما في المجلس السابق لم يكن فيهما دلالة على التَّيامن، وإنَّما فيهما إشارة إلى غسل العضو بوجه عام، في قوله: «فَغَسَلَ يَدَيْهِ....، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ»، ما فيه: ثم غسل رجله اليمنى ثم غسل رجله اليسرى؛ فذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديث بعدهما كالإشارة منه إلى مشروعية التَّيامن وإلى أنه يُشرع أن يبدأ في وضوئه بغسل الأعضاء الميمَّنة، يبدأ باليمين في يده ثم اليسرى، فإن قدَّم اليسرى على اليمنى فإنه لا يضر على الصحيح من أقوال أهل العلم، بل إنه حكي إجماعًا، فقد جاء عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وابن مسعود أنه قال فيهما: "لا يضرك بأيهما بدأت"، هذا من حيث إبطال الوضوء، لكن من حيث مخالفة السنة نقول: نعم، فيه مخالفة للسنة؛ لأنه إذا ثبتَ أن النبي ﷺ كان إذا اغتسل -كما في حديث عائشة- بدأ بشقه الأيمن، مع أنَّ الغسل الأعم الأغلب إنما يعم الجسد، ولكن كان يدعو عليه الصلاة والسلام بشيء نحو الحلاب فيبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر ﷺ، فإذا كان هذا مشروعًا في الغسل فلأن يكون مشروعًا في الوضوء من باب أولى، ولهذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ».
وقول: «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» لفظ عام، فكل ما اختلفنا فيه هل يشرع فيه التيامن أو لا؛ ننظر هل هو من الأمور المستحسنة عند الناس والمستحبة والمقبولة أو لا؟
فإن كان من الأمور المستحسنة عند الناس بوجه عام بدأنا فيه باليمين مثل: المصافحة تكون باليمين، ومثل البداءة بالمجالس للسلام إنما يكون باليمين؛ لأنَّ هذه كلها أمور مستحسنة.
ومنها السواك العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا في السواك هل يكون باليد اليمنى أو باليد اليسرى؟ فيقال: السواك مستحسن، وإذا كان كذلك فإنه يُشرع أن يكون باليمين.
كذلك لُبس الساعة مُستحسن، إذًا ينبغي أن يكون في اليمين، هذا هو الأصل.
وكذلك البداءة بالثياب في اللباس، فكان النبي ﷺ يبدأ بالشق الأيمن في ذلك كله، ويجعل ﷺ شماله لِمَا سوى ذلك، يعني: من الأمور المستكرهة، فكان يجعلها ﷺ لخلائه، فكان ﷺ يستجمر باليُسرى، وكل ما يُستكرَه فإنَّما ينبغي أن تستخدم له اليسرى، وهذا أصل عام من أصول الشريعة قد قررته عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في هذا الحديث أحسن تقرير، فقالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» يعني: من الشأن المستحب دون المستكرَه، فإنَّ المستكرَه قد جاء عن حفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها قالت: « كان ﷺ يَجعَلُ يَمينَه لِطَعامِه وشَرابِه وثيابِه، ويَجعَلُ شِمالَه لِما سِوى ذلك»، وهذا يُبيِّن أنَّ حديث عائشة ليس على عمومه، وإنما هو على عمومه فيما يُستحسن دونما يُستكرَه.
ومنه أنَّ النبي ﷺ قد أنكرَ على مَن طعِمَ بشماله، وأمره النبي ﷺ أن يطعم بيده اليمنى، فلمَّا أصرَّ على ذلك دعا عليه النبي ﷺ كما في صحيح الإمام مسلم؛ فدلَّ ذلك على مشروعية اليمنى مُطلقًا.
يبقى سؤال: هل يستدل بذلك على مشروعيَّة أن يدخل الإنسان إلى الخلاء برجله اليسرى؟
قد يُقال: نعم، مع أنه لم يكن عن النبي ﷺ بيوت خلاء، وإنما كان النبي ﷺ يتبول في بيته، وكان ربما تبول في إناءٍ، وكانت عائشة تقول: «كانَ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قَدحٌ مِن عيدانٍ تَحتَ سَريرِهِ، يبولُ فيهِ باللَّيلِ»[1]، وكان ﷺ يتغوَّطُ في الخلاء، فما كان عندهم كُنُف -أكرمكم الله- فكانوا يتأذونَ بها، تقول عائشة: "وشأننا شأن العرب الأُوَل"، أي: نتأذى بوجود هذه الحمامات في البيوت؛ لأنهم ما كان عندهم مثل الصرف الصحي الآن، فوجودها في البيوت مما يسبب الروائح، فكانوا إنما يتخلون في الخلاء، ولهذا سموه: "خلاء"؛ لأنه خالٍ، فكان النبي ﷺ يتخلَّى فيه، يعني: يقضي حاجته في هذا المكان، كالمناصع ونحوها، ومعلوم أنَّ المناصع: ليس مكان تدخل إليه برجلك.
فبناء عليه: لا يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ أنه كان إذا دخل إلى الخلاء بدأ برجله اليسرى؛ لأنَّه ما كان يدخله ﷺ، لكن قد يُستدل بحديث حفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- على هذا الأمر، وقد يُستدل بحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- على مشروعية أنَّ الإنسان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليُمنَى، وإلا فما يصح في هذا الباب عن النبي ﷺ أنه كان يُقدِّمُ رجله اليمنى عند دخول المسجد، نعم ثبت أنه كان يقدم رجله اليمنى إذا لبس النعل، وإذا خلعَ بدأ باليُسرَى، فقد يُستدل بهذا الحديث على مثل هذا المعنى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ». فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ»)}.
 هذا هو حديث الغرة والتحجيل، وإنما أَخَّره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- إلى آخر أحاديث الوضوء؛ لأنه مما وقع فيه الخلاف بين العلماء -رحمهم الله-، وهنا الإمام -رَحِمَهُ اللهُ- قد رتَّب هذا الكتاب ترتيبًا حسنًا، فبدأ فيه بأصول الأحكام ثم أخَّر ما اختُلف فيه.
هذا الحديث يتعلق بمسألة عند العلماء تسمى مسألة مجاوزة الفرض -أو مجاوزة العضو- فالأصل في غسل اليدين أنهما إنَّما يُغسلان إلى المرفق، فإذا استوعبَ المرفق كان قد أتى بما أوجب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والأصل في القدمين أن يُغسلان إلى الكعبين، فإذا أتى بهما كان قد أتى بما أوجب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن ما حكم المجاوزة؟ يجاوز في الرفع يعني لا يغسلها إلى المرفق بل يغسلها إلى العضد، أو إلى نصف العضد، أو يرفع فيغسل رجليه إلى نصف الساق، هل يشرع هذا أو لا؟
هذا مما وقع فيه الخلاف بين العلماء، وهذه مسألة تتعلق بالسُّنيَّة ولا تتعلق بالوجوب، يعني هل يسن أو لا؟
مردُّ الخلاف في هذا إلى حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهو قول النبي ﷺ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».
"الغرة" بوجه عام: هي البياض الذي يكون في رأس الفرس، فيسمى: فرسًا أغر.
والتَّحجيل: هو البياض الذي يكون في قوائمه، فيُقال: فرس محجل القوائم.
وإنما قال النبي ﷺ عن هذه الأمة: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» للدلالة على فضل الوضوء، وعلى أنَّ هذه الأمَّة تعرف بالوضوء، وعلى أنَّ هذا الوضوء بهذه الصفة مما اختصت به هذه الأمة، نعم الوضوء كان معروفًا في الأمم السابقة، وفيه قصة سارة: فأخذت تتوضأ وتصلي، لَمَّا أرادها الفاجر؛ فدلَّ على أنَّ الوضوء كان معروفًا في الأمم السابقة، لكن الوضوء بهذه الكيفيَّة إنما هو معروف عن أمة محمد ﷺ، ولهذا لَمَّا قال الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: يا رسول الله، كيف تعرفنا -يعني يوم القيامة- في الأمم؟ قال: «سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ»[2]، سيما: يعني العلامة، وإذا كانت من علامات معرفة الأمة المحمديَّة النَّاجية في المحشر فإنها أيضًا من علامات الأمة المحمدية التي في النَّار، فإنَّ من أمة محمد مَن سيكون في النار، لكنه ليس خالدًا مخلدًا فيها -نعوذ بالله منها- فأصحاب الكبائر الذين طغت كبائرهم ولم تشملهم رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وطغت سيئاتهم على حسناتهم هم في النار، قال النبي - ﷺ: «فيُخْرِجُونَهُمْ ويَعْرِفُونَهُمْ بآثَارِ السُّجُودِ»[3]، آثار السجود: هي آثار الوضوء أيضًا، الوجه واليدان والرجلان؛ فهذا معنى قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».
وهل هو بياض كبياض البَرَصِ ونحو ذلك؟
نقول: لا؛ بل هو نور في هذه المواضع، يأتون به يوم القيامة يمتازون عن غيرهم.
وقيل إنَّ قوله: (فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ) مدرج من قول أبي هريرة-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا هو القول الصَّحيح، يعني: قد قاله أبو هريرة بناء على الفهم، ولهذا كان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يستسرُّ بهذا العمل عن الصَّحابة، فكانَ يتوضَّأ فيرفع حتى يكاد يبلغ العضد، وإذا غسل شرع في السَّاق، فقال له نعيم المجمر: ما هذا الذي تصنعه يا أبا هريرة؟ قال: "يا بَنِي فَرُّوخَ أنتُمْ هاهُنا؟ لو عَلِمْتُ أنَّكُمْ هاهُنا ما تَوَضَّأْتُ هذا الوُضُوءَ"؛ لأنكم ما تعرفونه! لأنه اجتهاد من أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قالوا: مما يدل على ذلك: أنه إذا كان ممكن للإنسان أن يطيل تحجيله فإنَّ إطالة الغرة غير ممكنة، فالغرة في الوجه وأنت مأمور باستيعاب الوجه، فقوله: (فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ) كيف أطيل غرتي؟
أحلق شعري ثم أغسل ما زاد عليه؟! فهذا مما يقرِّر أن هذا المعنى إدراج أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأنه كان قولًا له، ولهذا فإنَّ القول الصحيح في هذه المسألة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يجاوز فعل النبي ﷺ، فنحن نرى أنَّ النبي ﷺ قد توضأ في حديث عثمان إلى المرفق وإلى الكعب، ثم قال عثمان: (مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ)، فمن جاوزَ فإنه يكون قد جاوزَ أمر النبي ﷺ ووضوء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قال نعيم المجمر: (رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ». فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: سَمِعْتُ خَلِيلِي ﷺ يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ»).
والصحيح في معنى قوله: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» أنه إذا توضأ كما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فأمَّا من نقصَ نقصت حليته وأمَّا من جاوز فلا، لأن هذه الأعضاء هي أعضاء الوضوء فحسب، وما سِوى ذلك فإنه ليس من أعضاء الوضوء.
من قال بمشروعية غسل العضد أو بمشروعية غسل الساق؛ قلنا له: قد أتيت بأمر جاوز أمرَ الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ الله عَزَّ وَجَل قال: ﴿إِلَى المِرْفَقَينِ﴾ و ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ وأنت قد جاوزت ذلك!
ولهذا كان القول الصَّحيح من أقوال أهل العلم هو: الوقوف حيث وقف رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومما يؤيد هذا المعنى: أنَّ صفة الوضوء عن النبي ﷺ قد رويت من وجوه كثيرة، فقد رواها عثمان في الصَّحيحين، وعبد الله بن زيد في الصَّحيحين، والربيع بنت معوذ في السنن، وعبدالله بن عمرو بن العاص في السنن، وعلي في السنن، وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أصله في الصحيحين، ورواه أصحاب السنن بتوسُّع؛ كل هذه الأحاديث عن النبي ﷺ ليس في شيء منها مجاوزة القدر، فدلَّ على أنه كالمتواتر، ولهذا ما يُعرف عن أحدٍ من الصَّحابة أنه كان يصنع ذلك إلا ما يروى عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وشيئًا يسيرًا عن عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- في غسل العنق، وأمَّا ما سوى ذلك فلا.
ونقول: إنما السنة ما سنَّها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أحسن الله إليكم وبارك الله في علمكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ دخولِ الخلاءِ والاستطابةِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ». الخُبُثُ: بضمِّ الخاءِ والباءِ، جمعُ خبيثٍ. الخبائثُ: جمعُ خبيثةٍ، استعاذَ من ذكران الشياطين وإناثهم)
}.
قول المصنف -رَحِمَهُ اللهُ-: (باب الاستطابة).
الاستطابة: هو طلب الطيب، والطيب يقابله الخبث، وإنَّما يطلب الإنسان الطيب إذا خرجَ منه الخبث، والعرب تسمِّي دائمًا بالأضداد، فيسمون مثلا الصَّحراء: مَفازة -تيمنًا- مع أنها مُهلكة ولكنهم يسمونها "مفازة" تيمُّنًا بالفوز. ويسمون "اللديغ: سليم" تيمنًا بالسلامة. ويسمون "دخول الخلاء: استطابة" تيمنا بطلب الطيب، مع أنه حينما يدخل الخلاء فإنما يخرج الحدث، ولكنه إذا أخرج الحدث بحث عمَّا يُطيبه، يعني: يرفع عنه هذا الحدث إما باستخدام الأحجار -وهو الاستجمار- أو باستخدام الماء وهو الاستنجاء- وسيأتي إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- الكلام عليها.
قال ها هنا: (باب الاستطابة) ثم ذكر فيه حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»)، هذا الحديث بهذا النَّص وبهذا القدر هو أصح ما جاء عن النبي ﷺ في دخول الخلاء، وما سواه من الزيادات فإنها لا تصح، مثل زيادة: "بسم الله"، فقد جاءت في حديث أنس لكن ما تصح، الرواة من كبار أصحاب أنس وعبد العزيز بن صهيب لم يذكروا لفظ "بسم الله"، وقد جاء في حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الخَلَاءَ، أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ»[4]، لكن هذا حديث أيضًا معلول.
فإذًا؛ أصح ما في هذا الباب هو أن يقول الإنسان: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»، ويلتزم بما جاء عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: (إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ)، في بعض الروايات: (إذَا أَرَادَ أَن يَدْخُلَ)، وفي بعضها: (إِذَا دَخَلَ)، والفرق بينها:
أنَّ قوله: (إِذَا أَرَادَ أَن يَدْخُلَ) فيه دلالة على أنه يُشرع قول هذا الذكر قبل الدخول.
وقوله: (إِذَا دَخَلَ) فيه دلالة على التَّرخيص في قول هذا الذكر حتى بعد أن يدخل، فلو أنَّ إنسانًا دخل إلى الخلاء -دورة المياه- وذكر هذا الذكر ثم قال: لا، فيه ذكر الله وما يشرع لي أن أقول ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مثل هذا المكان!
نقول: لا، بل يُشرع لك؛ لأنه قد جاء عن النبي ﷺ أنه (كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ) فإذًا يُشرع لك أن تقوله ولو كنت داخل الخلاء، فتقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»، فهذا من أماكن الترخيص التي رُخص فيها في ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه ذكر مناسب للمحلِّ.
واستعاذَةُ النبي ﷺ حينَ دخول الخلاء من الخبث والخبائث، فيها دلالة على أنَّ الحمامات -وهي الكنُف- والحمامات إذا أُطلقت عند العرب فإنما يقصد بها المراوش، فكانوا في السابق يصنعون الحمامات للتروُّش -أي: للاغتسال فحسب- يضعون فيها الماء الحار، يعني: أشبه ما تكون الآن بدور المساج ونحوها، أو أماكن التروُّش التي تكون مثلا في الصَّالات الرِّياضية ونحو ذلك من الأماكن مخصصة للاغتسال، فهذا يسمى حمام، وأمَّا دورة المياه التي هي مكان قضاء الحاجة فإنما تسمى عندهم: "خلاءً أو كنيفًا"، خلاءً؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّى فيها بنفسه، والكنيف: المكان المجانب.
فإذًا، بوجه عام هذه تسمى كُنف، وهي التي يشرع فيها قول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»، وأمَّا دخول الحمام -بمعنى المِروَش- فيقال: ليس هو مجال هذا الذكر.
إذا كان هذا الأمر؛ فالكنُف -أو الخلاء- مكان لاستيطان الشياطين فيه، ولهذا استعاذ النبي ﷺ منهم، والأصل أنَّ الشَّيطان يتسلَّط على الإنسان في أحوال، منها حال العري فإنَّ الإنسان إذا تعرَّى لعِبَ به الشيطان، ولهذا قد جاء عن النبي ﷺ في حديث أبي هريرة -وإن كان في إسناده نظر- لكن قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَن أَتَى الغَائِطَ فَلْيَسْتَتِر، فإِنْ لَمْ يَجِد إِلَّا أَن يَجْمَع كَثِيبَا من رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْه، فإنَّ الشَّيطَان يَلعَب بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ»[5]، والنبي ﷺ قال: «فإنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»[6]، وقال: «إذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِن مَنامِهِ فَتَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثًا؛ فإنَّ الشَّيْطانَ يَبِيتُ علَى خَيْشُومِهِ»[7]، فيبحث الشيطان عن الأماكن التي تكون منافذ ليدخل منها، ومن المعلوم أنَّ الإنسان إذا تكشَّف خرجت عورته، وعورته منافذ، فيتلعَّب بها الشيطان، وربما تسلَّط على الإنسان من هذا الجانب، فكلمَّا تعرَّى الإنسان عرَّض نفسه للعب الشَّيطان به، وربما تعلَّق به الجن إمَّا محبةً أو تلاعبًا، فهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحاذرها -أعني العري- ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يتعرَّى إلا إذا احتاج لذلك، عنده غسل يغتسل ويكتفي بذلك، أمَّا أن يطيل العُرِيَّ فإنَّ هذا ليس مما يُستحسن، وقد كان الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا وقفَ على الصَّحابة قال: "أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء فوالله إني لأدخل الكنيف وانا مقنع رأسي حياء من الله -عَزَّ وَجَلَّ"، هذا كله من الاستحياء من الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا معنى.
المعنى الآخر: أنَّ الجنَّ لهم تعلق بالأوساخ -وأعني بالجن الشياطين وليس صالح المؤمنين- ولهذا ما نرى السَّحرة إلا في أوسخ الأماكن، ولا يمكن أن يقبل الجني من السَّاحر نظيف البدن ولا نظيف المكان ولا حَسِن الرائحة، الشَّياطين بوجه عام مُولعة بالأماكن القذرة والأماكن النَّتنة والأماكن سيئة الرَّائحة.
ولهذا مما ينبغي أن يُلتفت إليه: أنه ينبغي العناية في البيوت بالنظافة، هذا مما يدفع الشياطين عنها، تأتي إلى مكانٍ من البيت فتجد أنه وسخ، ومكان رائحة خبيثة؛ هذا قد يكون مجمع للشياطين.
ومن المعاني التي ينبغي أن يُنظر إليها في هذا الحديث: أنَّ النبي ﷺ قد أوصى بمعنى جليل يغفل عنه كثير من الناس، فقال ﷺ: «وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقً»[8]، وقد درجَ بعض الناس في بعض البيوت على التَّسهُّل في فتح أبواب الحمامات، فتجد أنَّ باب الحمام مفتوح دائمًا! نقول: هذا خلاف السنة، بل لا يشرع في شيء أن يُغلق كما يغلق باب الحمام، حتى لا يكون مصدرًا لدخول الشياطين إلى البيت، إذا كان الشيطان موجودًا في الحمام فليكن في الحمام -أكرمكم الله- ولا يخرج منه إلى البيت، فإنَّ الباب إذا أُغلق وذكر اسم الله -عز جل- عليه، ومن ذكر اسم الله أن يقول الإنسان: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» هذه استعاذة فيغلقه.
هذه من المعاني التي ينبغي أن تُلاحَظ في دخول الكُنُف والخلاء ونحو ذلك، ولهذا جاءت عن النبي ﷺ هذه السُّنة في أصح كتاب -صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم -رحمهما الله.
قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»، فُسِّرَ الخبث والخبائث بأنهما ذكران الجن وإناثهم؛ لأنَّ الذكران تتسلط أحيانًا على إناث البشر، وإناث الجن تُسلَّط أحيانًا على ذكران البشر، لهذا نجد في كثير من الأحيان أنَّ التلبس قد يحصل من جنس مخالف، المرأة يتلبسها الذكر من الجن، والرجل يتلبسه المرأة من الجن، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتنبَّه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُو». قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: «فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ». شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا: اتجهوا نحوَ المشرقِ أَو المغربِ. وهذا بالنسبةِ لأَهلِ المدينةِ المنورةِ)}.
هذا الحديث أصلٌ جليلٌ أو أدبٌ عظيمٌ من آداب قضاء الحاجة، وفيه أنَّ النبي ﷺ قد نهى عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول، وأمرَ بالتَّشريق والتغَّريب، وإنما هذا الأمر بالتَّشريق والتَّغريب في حق أهل المدينة؛ لأنَّ قبلة أهل المدينة جنوبية، فالمدينة شمال مكة وقبلتهم الجنوب، فإذا شرَّقوا وغرَّبوا لم يكونوا على سَمْتِ القبلة، ولكنها في حق أهل نجد -على سبيل المثال- ليس كذلك وإنما يقال في أهل نجد ولكن يشمِّل أو يجنِّب، هذا هو الأصل في أهل نجد.
وهذا أيضًا مما يُرد على الظَّاهرية بوجه عام، فيقال: التَّمسك لا يكون بظواهر النُّصوص وإنما يكون بالفهم العام للنَّص والمعنى العام للنص.
أهل نجد هل يشرق أو يغرب؟
إن شرَّق أو غرَّب استقبل القبلة واستدبرها، فإذًا قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ» محمول عند جماعة من العلماء على التحريم، على أنه يحرم استقبال القبلة، قالوا: والاستقبال أعظم من الاستدبار، الاستدبار قد جاء فيه نوعٌ من الترخيص، كما في حديث عبدالله بن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "رَقِيتُ علَى بَيْتِ أُخْتي حَفْصَةَ..."[9]، وسيذكره المصنف بعد قليل إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا يدل على أنَّ الاستدبار الأمر فيه أهون، ولهذا لو أنَّ إنسانُا أُلجئ بين الاستقبال والاستدبار؛ قلنا: استدبر القبلة ولا تستقبلها.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ» النهي عن الاستقبال والاستدبار هل هو مُطلق يشمل جميع الحالات سواء كان الإنسان في المدينة أو كان في الصحاري؟ أو أنه مقيد بالصحراء؟
قد ذهب بعض العلماء -رحمهم الله- إلى أنه مقيد بالصحاري دون البنيان، قالوا: فإذا كان ثَم بنيان فإنه يجوز الاستقبال والاستدبار، والسبب في ذلك: أنَّ النبي ﷺ كما في حديث عبد الله بن عمر -الذي سيأتي بعد قليل- قد استدبرَ، وقد نقلنا أنَّ مروان الأصفر سأل ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن ذلك فقال: "إنما هو في الصحراء فأمَّا إذا كان بينك وبين القبلة شيء فلا"، يعني لا بأس أن تستقبلها وأن تستدبرها.
وابن عمر كان من أكثر الناس اتِّباعًا لسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحقيقة أنَّ القول بعمومه قول قوي، وهو منع الاستقبال والاستدبار مُطلقًا، والاحتجاج بفعل النبي ﷺ لا يصح؛ لأنَّ الفعل قد يكون خاصًّا، وقد فعله النبي ﷺ مُستترًا به، وهذا النَّصُّ نصٌّ عام، وقد يُتصوَّر الخطأ من جهة أنَّ الراوي ظنَّ أنَّ النبي ﷺ مُستدبرًا ولم يكن مُستدبرًا، وهذا يقع للإنسان كثيرًا أحيانًا، فقد تختلط عليه الجهات، لكن النَّص ما يكتنفه شيء من الخطأ.
قالوا: مما يؤيد هذا المعنى؛ أنَّ راويه وهو أبو أيوب الأنصاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنه ونستغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ"، قدم الشام -وكانت الشام معمورة- فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة -يعني فيها بناء- قال: "فننحرف عنها ونستغفر الله"؛ فدل ذلك على أنَّ أبا أيوب كان يرى أن هذا الحديث في البنيان وفي الصحراء -وهو راويه- وراوي هذا الحديث الناس بمقصد رسول الله ﷺ منه.
هذا من المعاني التي ينبغي تحريرها.
إذًا؛ ينبغي للإنسان حقيقة إلا يجازف في مثل هذه المسألة، وينبغي أنه يُرشد المقاول والمشرف على البيت الذي يبنيه إذا أراد أن يبني، ألا يستقبل القبلة وألا يستدبرها، وأن ينحرف عنها كيفما شاء، والأهم من ذلك ألا يكون مستقبلًا لها ولا مستدبرًا، هذا هو القول الصحيح إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي تبرأ به الذِّمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب ِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: «رَقِيْتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ، مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةَ»)}.
هذا الحديث هو ما استدل به جماعة من العلماء -رحمهم الله كالإمام- أحمد والإمام الشافعي وغيرهم على أنه يجوز للإنسان الاستقبال والاستدبار في البنيان.
قال ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «رَقِيْتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ، مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةَ»، قالوا: مع كونه ﷺ هو من قال: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ»، فدلَّ ذلك على أنه إذا كان في البنيان فإنه يرخَّص فيه، لكن ذكرنا أنه لا يصح يُستدل بفعل النبي ﷺ على قوله؛ لأنَّ الفعل قد يكتنفه بعض الأمور -كما ذكرناها قبل قليل.
فإذًا القول الصحيح في مثل هذه المسألة أن يقال: إنه يحرم الاستقبال والاستدبار مُطلقًا، وإن رُخِّص فإنه قد يرخص في الاستدبار في البنيان.
ونقول لهم: الآن أنتم استدللتم به على جواز الاستدبار؛ فأين لكم منه جواز الاستقبال؟ فمعنا نص «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ» وما فيه شيء ينسخه!
إذًا؛ الأبرأ للذِّمَّة في مثل هذه الصورة: أن لا تستقبل القبل ولا تستدبر بالمراحيض، وهذا من التكريم والإجلال لحرمات الله -عز وجل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ الْخَلاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ». العَنَزَةُ: الحَرْبَةُ الصَغِيرَةُ)}.
هذا الحديث هو أصح شيءٍ عن رسول الله ﷺ في مشروعية الاستنجاء بالماء، ولو أنَّ الإنسان أخذ صحيح البخاري ومسلم وأخذ يبحث عن أحاديث استنجاء النبي ﷺ بالماء فلن يجد فيها إلا هذا الحديث، فهذا هو أصح شيءٍ عن النبي ﷺ في الاستنجاء بالماء، ولهذا قدَّمه الإمام المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ.
قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ الْخَلاءَ»، ذكرنا أنَّ "الخلاء" يُراد به الكنيف، وهو مكان قضاء الحاجة.
قوله: «فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي»، أي: قريب من سنِّي، وقد كان أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا قدم رسول الله ﷺ المدينة ابن عشر سنين، ولَمَّا توفي ﷺ كان ابن عشرين سنة.
قوله: «إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ». الإداوة: هي القربة التي يكون فيها الماء.
قوله: «وَعَنَزَةً»، أي: العصا القصيرة، وكانت تُحمَل مع النبي ﷺ وتُغرَس أمامه حتى يُصلي إليها.
وفي هذا معنى لطيف، وهو: أنه يُسنُّ للإنسان بوجهٍ عام إذا فرغ من وضوئه أن يقرن ذلك بركعتين يصليهما.
والدليل: أنَّ النبي ﷺ كانت تُحمَل معه الإداوة والعنزة، فأما الإداوة فإنما كانت لاستنجائه ﷺ وطهوره ﷺ، وأما العنزة فإنما كانت لصلاته ﷺ.
قوله: «فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» فيه دلالة على مشروعية الاستنجاء بالماء من الخارج من السبيلين، وهذا قد انعقد الإجماع المتأخر عليه، فأما الصحابة فلا، فإنَّ منهم مَن كان يتنزَّه عن استخدام الماء، ولم يكن يستحب استخدام الماء لإزالة الحدث؛ لأنهم ما كان عندهم إلا الإداوة، فإذا أخذ الإداوة وغسل الماء فإنه سيضطر إلى أن يباشر باليد اليسرى إزالة الحدث، فتصبح اليد مباشرة للأذى، بخلاف استخدام الأحجار، فإنه إذا استخدم الحجر كان المباشرُ للأذى هو الحجر، ولهذا كانوا إذا ذُكر لهم الغسل بالماء؛ يقولون: أُفٍّ، لا يزال في يدي نتَنِهِ -أي نتن الحدث- فهذا هو معنى تنزه بعض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كحذيفة وعبد الله بن الزبير وسعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- عن استخدام الماء، لأجل أنهم كانوا على عادة العرب الأولى.
أمَّا النبي ﷺ فإنه قد عُهِدَ عنه استعمال الماء واستعمال الأحجار لكن الأكثر بلا شك أنه ﷺ كان يستخدم الأحجار لندرة الماء.
قوله: «فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ»، أي لإزالة الحدث، فدلَّ ذلك على مشروعيته، وعلى أنه مما يستطاب به، ولهذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- للنساء: "مُرنَ أزواجَكنَّ أن يستطيبوا بالماءِ، فإني أستحييهمْ منه، أنَّ رسولَ اللهِ كان يفعلُه"، فالاستنجاء بالأحجار فيه حسنة وهي أنَّ اليد لا تباشر النَّجس، لكن فيه أمر آخر سيء، وهو أنه لا يزيل إزالة كاملة، فيبقى شيءٌ يسيرٌ وهذا الشيء اليسير معفو عنه، يعني: لو أنَّ إنسانًا استنجى بالأحجار ثم بعد أن لبس ملابسه وخلعها رأى شيئًا يسيرًا، نقول: هذا معفو عنه، ومما حكي الإجماع عليه، أعني هذا الحدث، ولا يقال: إنَّ صلاتك باطلة؛ بل يقال: إنَّ صلاتك صحيحة، والعلماء -رحمهم الله- يقولون: يُعفى عن أثر استجمارٍ يسير بمحله، ما دام أنه في المحل، وما في الملابس يُغسل فيما بعد، لكنه أيضًا لا يُفسد الصلاة.
الإشكالية في الاستجمار: أنَّ الإنسان في الزَّمان الأول كانوا يعرقون، فإذا عرق خرج منه شيء من الرائحة، بسبب أنه يعرق ويجلس ويقوم، وقد يكون في شيء من أثر الغائط لم يزله، ولهذا قالت عائشة: "مُرنَ أزواجَكنَّ أن يستطيبوا بالماءِ" -أي: يتبعوا الماء الأحجار- فإني أستحييهم وإن رسول الله ﷺ قد كان يفعله".
والعلماء يقولون بوجه عام: إنَّ من استخدم الأحجار لإزالة الخبث ثم استخدم معه الماء فقد أتى بالكمال.
لو قال إنسان: ما فعله النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ!
نقول: بل الظاهر أنه فعله، في حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد يدلُّ على أنه فعله؛ لأن النبي ﷺ كان يستجمر دائمًا، وإنما استخدم الماء كالزِّيادة على ذلك، فدلَّ ذلك على مشروعيته، سواء كان الاستجمار بالأحجار أو ما يقوم مقام الأحجار مثل: المناديل وغيرها، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يباشر إزالة النجاسة بيده إلا إذا اضطر لذلك، هذا هو الأصل: أن لا يباشر الإنسان النجاسة باليد ما استطاع الإنسان، وقد اتفق العلماء -رحمهم الله- وقد حكي إجماعٌ على أنه يحرم للإنسان أن يباشر النَّجاسة من غير حاجة، فهذا المعنى ينبغي أن يقرَّر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ وَلا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ»)}.
الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا ذكر مشروعية الاستطابة بالماء عقَّب -رَحِمَهُ اللهُ ورضي عنه- بهذا الحديث وهو حديث أبي قتادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحديث أبي قتادة حديث جليل المعاني، فيه ثلاثة معانٍ: اثنان منها يتناولان أبواب الاستطابة وواحد منها يتناول أبواب الشُّرب وآداب الشرب.
- فأمَّا ما يتناول باب الاستطابة منها:
أولًا: قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ»، نهى النبي ﷺ عن إمساك الذَّكر باليمين، فدلَّ ذلك على تقرير حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وهو أنَّ اليسار إنَّما لِمَا يستكره وأنَّ اليمين إنما تكون لِمَا يُستطاب، فإذا أراد الإنسان أن يستنجي أو يستجمر واضطر إلى مسك ذكره فإنه يشرع له أن يمسكه بيساره، ولا يباشره باليمين.
قالوا: فإذا كان هذا في مكان الحاجة وفي موضع الحاجة فما سواه من باب أولى، في غير الحاجة أن يمسك باليمين هو من باب أولى، فهذا المعنى من الآداب التي ينبغي أن تراعى.
ثانيًا: قوله: «وَلا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلاءِ بِيَمِينِهِ» التَّمسُّح هو الاستجمار؛ لأنه مسح، ويريد بذلك النبي ﷺ ألا تباشر إزالة الخبث بيدك اليمنى، وإنما يزال باليسرى حتى لو كان بواسطة، إذا استخدمت الجمار قد لا تباشر النجاسة بيدك، لكن مع ذلك اليد التي تزيل هذه النجاسة وتُستخدم في الاستجمار إنما هي اليسرى وليس اليمنى، فإذًا اليمنى منزهة عن مثل هذه الأمور، وهذا محمول عند جماعة من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- وابن عبد البر وطائفة من علماء الحديث محمول على أنه كراهة تحريمية، يعني يحرم مُباشرة الأذى أو إزالة النجاسة باليمنى، إلا لعاجز عن إزالتها، ما يستطيع يزيلها إلا باليمنى كأن تكون يده اليسرى مقطوعة أو مصاب فيها، وقتئذ يجوز له استخدام اليمنى، فأما ما سوى ذلك فلا، إنما تكون اليسرى للأحداث ونحو ذلك.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» هذا هو المعنى الثالث المتعلق بباب الأشربة، وهو أنَّ النبي ﷺ قد نهى من شَرِبَ أن يُباشر النفس وقت الشرب، بمعنى أنه لا يشرب ويتنفس، وإنما يشرب فإذا أراد أن يتنفس أزال الإناء عن فمه وتنفس خارجه، قالوا: وإنما ذلك؛ لأن الأنفاس تخرج في كثير من الأحيان أو في بعض الأحيان مشبعة بروائح الجسد وما إلى ذلك، فإذا تعدَّدت الأنفاس على الإناء الواحد قذَّرته، ولهذا يقولون: في هذا الماء زُهومة، وسبب الزهومة أنه قد يشرب من الإناء أكثر من واحد ثم يتنفسون فيه، فإذا تنفس فيه الرجل والرجلان والثلاثة تغيَّر.
وفي هذا الحديث دلالة على مشروعية المشاركة في الشرب، وأنَّ تحديد علبة محددة أو قارورة مُعينة لكل شخص ليس هو سنة النبي ﷺ، بل على أنه لا بأس أن يشرب الإنسان من الإناء ويتركه ثم يشرب منه غيره، وهذه هي سنته ﷺ، ما كان ﷺ يأتي بآنية فيوزعها على أصحابه، وإنما كان يأتي بالإناء فيشرب منه الجمع، فإذًا الأكل بعد الغير أو الشرب بعد الغير ليس مَكروهًا، بل إنه مما يعين على التواضع، لهذا كان النبي ﷺ يُؤخِّر حتَّى يكون آخرهم شربًا ﷺ، كما في قصة أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بعد ما شربوا كلهم، لكن الذي ينبغي: أن لا يُتنفَّس في الإناء حتى لا يُقذِّره على غيره.
فإذًا الريق ليس بقذارة، ريق المؤمن ليس بقذر، بل هو طاهر وليس بنجس ولا يقذِّر إذا شربه الإنسان، لكن الأنفاس أحيانًا قد تقذِّره ولا يقال إنها نجسة، لكنها قد تقذِّره وقد تظهر فيه الزهومة أو بعض ما يُتنزَّه عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَ»)}.
هذا الحديث وهو حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حديث جليل عظيم القدر، وهو متعلق بجزء من مسائل من آداب الاستطابة بوجه عام.
وإذا قلنا: "آداب" فإنه لا يشترط في ذلك أن تكون هذه الآداب من الآداب المسنونة بل قد تكون واجبة.
قوله ﷺ في هذا الحديث: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، ذكر النبي ﷺ معصيتين قد وقع فيهما هذان الرجلان:
أولهما: عدم الاستنزاه من البول.
والثانية: النميمة.
ومقصدنا في هذا الباب: الجملة الأولى منه، وهو قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ».
الاستتار هنا ليس عدم الظهور أمام الناس، أو أن تضع سترة بينك وبين الناس، لا، إنما المراد بالاستتار ها هنا: الاستنزاه.
إن قال قائل: من أن أتيتم بذلك؟
قلنا: أتينا بذلك من روايات الحديث الأخرى، وأنَّ النبي ﷺ فسَّر الاستتار قال: «لَا يَسْتَنْزِهُ مِن بَوْلِه»[10]، ولم يُرد يضع سترة بينه وبين الناس، نعم الاستتار واجب، لكنه ليس هو علة هذا الحديث.
فإن قال قائل: فقد يراد به الاستتار وقد يكون هذا اللفظ هو اللفظ الراجح.
نقول: لا، مما يدل على ذلك أنَّ أبا موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان يُشدد في البول، من قول النبي ﷺ وكان يقول: "إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كانَ إذَا أصَابَ ثَوْبَ أحَدِهِمْ قَرَضَهُ"؛ لأنهم كان عليهم آصار وأغلال ليست على هذه الأمة، "فكان إذا أصاب جلد أحدهم قرضه" يعني حكَّه حتى يظهر اللحم.
قال: "وإن أصاب ثوب أحدهم قطعه"، وكان أبو موسى يبول في قارورة من التشديد، ولكن حذيفة قال: "ليته لم يشدد"، يعني ما يبلغ التشديد هذا، رأيت النبي ﷺ، أتى إلى سباطة قوم فبال قائمًا.
وفيه: أنه ينبغي للإنسان أن يتوسَّط، لا يكون عرضة لوقوع البول عليه، لكن ما يصيبه من الشَّيء اليسير من رشاش البول الذي لا يستطيع أن يتنزه عنه معفو عنه، وأمَّا ما سوى ذلك فلا.
ومن عدم الاستنزاه من البول أو عدمه التنزُّه منه: ما يصنعه بعض الناس حينما يفرغ من البول تجد أنه لا يستنجي، فهذا داخل في هذا الوعيد، مما يقع من عدم الاستنزاه من البول أو الاستتار من البول أن بعض الناس إذا فراغ أو قبل أن يفرغ ربما لبس ملابسه فيقع شيء من القطرات المتعمدة، ما نتكلم عن سلس البول، فسلس البول هذا مسألة أخرى، هذه كلها من عدم الاستتار، فقوله «لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ» يعني لا يتوقى ولا يتنزه من بوله.
وبناء عليه، فنقول: إنَّ التنزه من البول من الواجبات، ولا يجوز للإنسان أن يعرِّض نفسه لبوله إلا ما يُعفى عنه من يسير الرَّذاذ الذي يقع للإنسان الذي وصفه العلماء بأنه كرؤوس الدبابيس، كما لو جلس الإنسان على الجلَّاس -أكرمكم الله- ثم أصابه شيء من الرَّذاذ اليسير؛ فهذا معفو عنه، لكن ما سوى ذلك فنقول: لا.
هذا مما أن يعلم من قول النبي ﷺ وقد توعَّد فيه النبي ﷺ بعذاب القبر، فدلَّ على أنها كبيرة.
قال: «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، ثم قال في بعض الروايات: «بلى وانه لكبير» يعني إنه لكبير عند الله.
وقوله: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، يعني هذا الأمر عند الناس أمر يسير يستطيعون أن يتوقون منه، وربما استسهلوه، وربما وقعوا فيه واستكثروا منه، مع أنه شيء يستطيعون أن يتنزهوا عنه، منه البول.
ومما يدل على عظم هذا الأمر: أن النبي ﷺ قد قرنه بالنميمة، والنَّميمة عند العلماء -رحمهم الله- كبيرة من الكبائر، قال: «وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»، فقرن النبي ﷺ النَّمام بهذا الرجل الذي لا يتوقى من الأحداث أو من الأنجاس، قرنهما النبي ﷺ وجعلهما في منزلة واحدة.
ثم إنَّ النبي ﷺ قد عمد إلى جريدة رطبة فشقها نصفين وغرز على كل قبرٍ واحدة، فقالوا: يا رسول الله لم فعلت ذلك؟ قال: «قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَ»، يعني شيئًا من عذاب القبر، وقوله: «مَا لَمْ يَيْبَسَ»، يعني إلى أن تيبس هذه الجريدة، وقد جاء عن بعض الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كبريدة أنه لما توفي أوصى أن يجعل على قبره جريدتان، ونحن نرى بعض الناس إذا توفى أمر أن يُجعل على قبره جريدة، فنقول: لا يشرع. أنت الآن تتفاءل على نفسك أو على ميتك بعذاب القبر، وهذا ما يشرع، هذا من سوء الظن بالمسلم، تضع الجريدة لو أنه كُشف لك ما كُشف لرسول الله ﷺ، فإنَّ النبي ﷺ قد كُشف له أنهما يعذبان، فأمَّا إذا لم يُكشف لك فلا يجوز لك أن تسيء الظن بالمسلم، ولا يجوز أن تُسيء الظنَّ بالله -عَزَّ وَجَلَّ- أنت لو أردت أن توصي، إذا قلتَ: وأوصي أن يغرس على قبري جريدة! أنت بهذا تسيء الظن بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وتظن نفسك معذَّب في القبر، اسأل الله السلامة واسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- العافية، وأحسن الظن بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
فيُقال: إنَّ هذا الفعل خاص برسول الله ﷺ لما كشب له من أمر عذاب القبر لهذين الرجلين.
لقائل أن يقول: هذان الرجلان من أهل الإسلام أو من أهل الكفر؟
نقول: من أهل الإسلام، لأنهما لو كانا من أهل الكفر لكان الشرك يأتي على كبيرتهم، وكان ما هما فيه من الشرك أعظم بكثير مما هما فيه من هذه المعصية.
ولقائل أن يقول: يُتصوَّر هذا من الصحابة؟
نقول: نعم، الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وإن علت منزلتهم لكنهم بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم، لكن قد يكون هذا من رحمة الله -عز وجل- بهم، فإن من المكفرات الماحية للذنوب: عذاب القبر، ربما عُذِّبَ الإنسان في قبره فيكون في ذلك مغفرة لذنوبه، حتى إذا قدم على الله -عز وجل- يوم القيامة قدم له وهو سليم وبرئ، وأُدخل الجنة من غير أن يتعرَّض للنار.
ولهذا لما ذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- المكفرات التي تكفر للإنسان، ذكر منها التوبة وما إلى ذلك، وذكر منها عذاب القبر، ومنها ما ذكره النبي ﷺ في هذا الحديث.
{أحسن الله إليكم وبارك فيكم.
شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وشكر الله لكم أيها الإخوة المستمعون، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة أخرى من هذا البرنامج. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] أخرجه أبو داود (24) واللفظ له، والنسائي (32).
[2] مسلم (247).
[3] صحيح البخاري (806).
[4] سنن الترمذي (606).
[5] ضعيف أبي داود (35).
[6] صحيح البخاري (2039).
[7] البخاري (3295)، ومسلم (238).
[8] البخاري (3280) واللفظ له، ومسلم (2012).
[9] رواه مسلم في صحيحه بلفظ، رَقِيتُ علَى بَيْتِ أُخْتي حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قاعِدًا لِحاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ.
[10] ابن حبان (3128).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك