{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم برنامج (جادَّة المتعلِّم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حيَّاكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد وقفنا -أحسن الله إليكم- عند حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال الإمام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»، وَفِي لَفْظٍ «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ»)}.
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين أمَّا بعد:
فبد أن ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- جملةً من أحاديث الغسل؛ لأنه قال: (باب الجنابة)، ذكر فيها جملة مما يتعلق بأحكام الجنابة، أراد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يُبين أيضًا حُكمًا جليلًا قد وقع الخلاف فيه في الصَّدر الأوَّل من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وهو حكم الغسل من الإيلاج إذا لم يكن ثَمَّ إنزال، فإنَّ هذا الأمر مما اختلف فيه الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وقد حكَى أبو موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما في صحيح الإمام مسلم، قال: "اختلف المهاجرون والأنصار في الغسل من الإيلاج"، أي: إذا جامعَ ولم يُنزل، يسمى عندهم بـ "الإكسال"، يُقال: الرجل أكسل، بمعنى: أنه جامع فلم ينزل، فاختلفوا: فقال أبو موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَا أَشْفِيكُم مِنْه"، ثم ذهب فدخل على عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وهذا من فقه أبي موسى، ومن الرَّد إلى أصحاب الشَّأن، فإنَّه رَدَّه إلى أصحاب الشأن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وهنَّ زوجات النَّبي ﷺ، فدخلَ على عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وقال: "يا أُمَّاهْ، إنِّي أُرِيدُ أنْ أسْأَلَكِ عن شيءٍ وإنِّي أسْتَحْيِيكِ، فقالَتْ: "لا تَسْتَحْيِي أنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سائِلًا عنْه أُمَّكَ الَّتي ولَدَتْكَ، فإنَّما أنا أُمُّكَ"، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، فأخبرها، فقالت: على الخبير سقطت، سمعت النَّبي ﷺ يقول: «إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»[1]، فانتهى الصحابة إلى قول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
فكان الأمر في أول الإسلام كما يرويه أبو حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب -رَضِيَ اللهُ عَنْه-، قال: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمروا بالغسل بعد ذلك"؛ لأنه قد جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي سعيد أنَّ النَّبي ﷺ مرَّ يوما على عتبان بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فصاحَ به وهو في بيته، فخرج وهو قد اغتسل، فقال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَلَّنَا أعْجَلْنَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إذَا أُعْجِلْتَ، أوْ أقْحَطْتَ فلا غُسْلَ عَلَيْكَ، وعَلَيْكَ الوُضُوءُ»[2].
فذهب بعض العلماء ومنهم جماعة من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- إلى أنَّ الغسلَ إنَّما يكون من الإنزال فحسب، بمعنى أنه إذا جامع الرجل امرأته فلم ينزل فإنه لا غسل عليه، وقالوا: إنه قد جاء في هذا الحديث وجاء في حديث أم كلثوم عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنَّ أعرابيًّا سألَ النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إني أجامع فلا أنزل، فقال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنِّي لأَفْعَلُ ذلكَ أنا وهذِه، ثُمَّ نَغْتَسِلُ»[3]، نعم في هذا الحديث قال: «ثُمَّ نَغْتَسِلُ»، لكن الحديث الذي رويناه قبل قليل فيه أنَّ النَّبي ﷺ لم يكن يغتسل وما أمر بالغسل، وفيه أنه ﷺ قال: «إِنَّما المَاءُ مِنَ المَاءِ»، يعني: «إِنَّمَا المَاءُ» الذي هو غسل الجنابة، الماء الذي يُتطهر به، «مِنَ المَاءِ» الذي هو ماء المني، لكن كان هذا في أول الإسلام.
ولأجل ذلك فإنَّ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- قد انتقى حديث أبي هريرة انتقاءً؛ لأنَّ أبا هريرة مُتأخر الإسلام، ما أسلم إلا في السنة السابعة بعد صلح الحديبية، فقد جاء إلى النَّبي ﷺ وهو في خيبر، فإذا كان كذلك وقد روى هذا الحديث فإنه يدل على أنَّ ما سواه من الأحاديث منسوخ، وهذا هو المعنى الصَّحيح، أنَّ أحاديث «المَاءُ مِنَ المَاءِ» منسوخة، وأنَّ الغسل إنما يجب من التقاء الختانين، وعلى هذا انعقد الإجماع بعد الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، حتى إنَّ بعض العلماء -رحمهم الله- قد قال: "إنه ليس أحد من الصحابة ينقل عنه أنه كان يرى أنَّ الماء من الماء إلا رجع عنه"، ويقولون: إنَّ الأصل في رجوعهم هو حديث أبي موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولكن الحقيقة قد ثبت عن بعض الصحابة أنه لم يرجع عنه، وإنما استمر على ذلك، وهذا السبب -والله أعلم- فيه أنه لم تبلغه السُّنة عن رسول الله ﷺ، ومن انتهى إلى ما قد سمع فهو معذورٌ، لكن نحن قد بلغنا هذا الحديث، فإذًا إذا حصل الإيلاج فإنه يوجب الغسل حتى ولو لم يُنزل.
قال ﷺ: «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ»، يعني: أعضاءها الأربع: الرجلين واليدين.
قال: «ثُمَّ جَهَدَهَ»، يريد بذلك الإيلاج.
قال: «فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»، وَفِي لَفْظٍ «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ»، هذا اللفظ لفظ صريح قد رواه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- ولم يذكره البخاري -رَحِمَهُ اللهُ-، ما ذكره البخاري؛ لأنه قد تفرد بروايته بعضهم فإنه قد رواه مطر، لكن روايته له رواية صحيحة، فإذًا هذا اللفظ لو لم يذكر لدلَّ عليه المعنى؛ لأنَّ بعض العلماء قال: إن هذا اللفظ -والله أعلم- مدرج من بعض الرواة لتفسير الحديث عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- «أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِنْدَهُ قَوْمٌ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ؟ فَقَالَ: صَاعٌ يَكْفِيكَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي، فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْك شَعْرًا، وَخَيْرًا مِنْكَ - يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ»، وَفِي لَفْظٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثً» الرجل الذي قال ما يكفيني هو: الحسن بن محمد بن علي ابن أبي طالب، أبوه ابن الحنفية)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا ذكر صفة الغسل من الجنابة وموجبات الغسل من الجنابة أراد هنا أن يبيِّن ما هو المقدار الذي كان النَّبي ﷺ يغتسل به، والحقيقة أنه قد كان الأولى بالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يذكرَ حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم، من حديث شعبة وغيره عن عبد الله بن جبر، عن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبي ﷺ: «كانَ يَتَوَضَّأُ بالمُدِّ، ويَغْتَسِلُ بالصَّاعِ، إلى خَمْسَةِ أمْدادٍ»[4]، لماذا؟
لأن هذا يستوعب الوضوء ويستوعب الغسل، هذا الحديث يستوعبهما جميعًا، أعني حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لكن يظهر -والله أعلم- أنه إنما ذكر حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- للرد به على المتنطِّعة، فإنَّ دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا تنطُّع فيه ولا غلو، ولهذا ذكره ها هنا، وذكر هذا الحوار اللطيف الذي جرى بين جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنَّ قومًا سألوه عن الغسل فقال: (صَاعٌ يَكْفِيكَ)، الصاع أربعة أمداد، والمد ذكرنا أنه قريب من أربعة مائة مل وزيادة أو أربعة مائة وخمسين إلى خمسمائة.
إذًا؛ الصاع أربعة أمداد، والمد خمسمائة مل، فيكون الصاع تقريبًا قريب من اثنين كيلو، أو ما يوازيها ويعادلها من لترات، هذا هو الصاع الذي كان النَّبي ﷺ يغتسل به، فإذًا هذا هو قدر الماء المأمور به شرعًا، وما سواه فإنه يخشى أن يعدَّ نوعًا من السَّرَفِ، ولهذا ما نُقل عن النَّبي ﷺ أنه كان يغتسل بأزيد من ذلك إلا في اغتساله ﷺ بالفَرَق، والفَرَق كان يسع ثلاثة آصُع، لكن كان يغتسل مع عائشة، قالت: "كنتُ أغتسلُ أَنا ورسولُ اللَّهِ ﷺ من إناءٍ واحدٍ من قَدَحٍ يقالُ لَهُ: الفَرَقُ"، فيُقال: إنه قد يُعفى عن الزيادة اليسيرة في الماء، يعني ما يكفيك صاع؛ فإلى صاع ونصف يرخَّص لك فيها، لكن ما سوى ذلك فإنه يخشى أن يكون نوعًا من السَّرف، وهذا من المعاني التي نغفل عنها كثيرًا الآن بوجود هذه المراوح ونحوها.
والعبادات بوجه عام ينبغي أن يُراعى فيها ما جاء عن النَّبي ﷺ؛ لأنَّ هذا الغسل ليس غسل نظافة حتى يقال للإنسان لو توسَّع فيه، يعني: الأمر فيه واسع! بل يقال: لا، هذا غسل مُتعلق بعبادة، يقول الإنسان: هل تفسد العبادة؟ نقول: ما تفسدها، لكن لها أثر؛ لأنه كما سيأتي إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما بعد أنَّ مقدمات العبادة لها أعظم الأثر في تمام العبادة، الصلاة -على سبيل المثال- ما تبدأ من حين التكبير، ورمضان ما يدخل عليك من رمضان فحسب، بل لرمضان مقدمات، شعبان كله مقدمة له وتهيئة له، فمن أحسن التهيئة للعبادة أعانه الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيها ووفَّقه فيها على خير حال، ولهذا كان النَّبي ﷺ يُحسن الوضوء، ويُحسن المشي إلى الصلاة، ويُحسن إتيان الصلاة بوجه عام، ويُبكِّر لها ﷺ، ويُحسن هيئته فيها، هذه كلها معانٍ جليلة إذا استصحبها الإنسان حسُنَت له صلاته، ومن ذلك التزام القدر الشرعي في الوضوء، تقول: يُصيبني الوسواس في الصلاة؟ نقول: أحد معاني إصابة الوسواس في الصلاة هو عدم التزامك بالأمور الشرعية التي قبل الصلاة، كيف وضوءك؟ تتوضأ بماء غزير جدًّا ربما كان يوضئ على عهد الصحابة -رضي الله عنهم- قبيلة! والنبي ﷺ- يتوضأ بالمد وأنت تتوضأ بالصِّيعان! ويغتسل النبي ﷺ بالصاع وأنت تغتسل بالقلَّة! ما من شكٍّ أن هذا من أعظم ما يكون من المجاوزة، ولهذا -وإن لم يصح- حديث «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ»[5]، إنما أنَّ معناه مقرَّر عند العلماء -رحمهم الله- بالإجماع، حتى أن البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- على الرغم من التزامه للصحيح في صحيحه قد علَّقَ هذا الحديث إشارة إلى أنَّ هذا المعنى متقرِّر عن النبي ﷺ، فذكره المصنف هنا حتى يُبين أنه لا يلزم من الإسباغ كثرة الماء، ليس هناك ترابط بين الإسباغ وبين كثرة الماء، ربما يسبغ الإنسان بالقدر الشَّرعي، وربما يجاوز الإنسان القدر الشرعي في الماء ولا يُسبغ.
قال: (فَسَأَلُوهُ عَنْ الْغُسْلِ؟ فَقَالَ: صَاعٌ يَكْفِيكَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي، فَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْك شَعْرًا، وَخَيْرًا مِنْكَ)، في بعض الروايات أنَّ هذا الرجل قال لجابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إني رجل كثير الشَّعر. فقال كان النَّبي ﷺ شعرًا منك وأطيب منك، ووسعه"، فما بالك بشأننا الذين أغلبنا الآن ليس بصاحبِ شعرٍ كثير! ومع ذلك ما يكتفي بهدي النَّبي ﷺ في الغسل!
فقال جابر: (كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْك شَعْرًا، وَخَيْرًا مِنْكَ) يريد رسول الله ﷺ.
قوله: (ثُمَّ أَمَّنَا فِي ثَوْبٍ)، سيأتي إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- الكلام عليه والكلام على أحكامه في باب الصلاة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ التَّيَمم، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا، لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: «يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ، فَقَالَ: «عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ»)}.
المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بوَّبَ باب التيمم، فلَمَّا ذكر أحكامَ الغسلِ وأحكامَ الوضوءِ عقَّب ذلك ببديل الوضوء، فإنَّ بديل الماء بوجه عام إنما هو التَّيمم، ولفظ التيمم إنما هو من تيمَّمتُ، تقول: تيمَّمتُ مكةَ أو تيمَّمتُ الوجهة، بمعنى: قصدتها، ومنه قول امرئ القيس:
تَيَمَّمتِ العَيْنَ التي عِنْدَ ضارجٍ ... يفيء عليْها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامي
"تيممت" يعني: قصدت.
فإذًا التيمم هو القصد، لكنه القصد إلى الأرض، كأنك عمدتَّ إلى الأرض أو تيممتَ الأرضَ، توجهت إليها حتى تتطهَّر بها، فهو إذًا بدلُ طهارةِ الماء لفاقده، وهو طهارة التراب، أو ضَرب أو مسح ما على الأرض بصفة مخصوصة سيبينها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حديث عمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه.
وذكر هنا حديث عمران بن حصين قال: (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا، لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: «يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ، فَقَالَ: «عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ»).
هذا الحديث بوجه عام يدلُّ على مشروعية التيمم، والتيمم أصلٌ قرآني، قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبً﴾ [النساء: 43]، فهو أصل قرآني ثابت بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، إذا عُدم الماء تيمم الإنسان الصعيدَ، والأصول القرآنيَّة الأصلُ فيها أنها تحظى بإجماع الأمة، ولهذا لَمَّا لم يذكر المسح على الخفين لم يقع فيه إجماع الأمة وخالف فيه بعض الصَّحابة، وذكرنا أنَّ أبا هريرة لم يكن يرى المسح على الخفين، لكن المذكور في القرآن يحظى دائما بإجماع الأمة، فقد أجمعت الأمة بوجه عام على مشروعية التَّيمم، وإن اختلفوا في صفته، أو في مُوجباته، أو في نواقضه؛ لكن المعنى بوجه عام مُجمع عليه، وإذا حصلَ ذلك فالواجب علينا أن نقصدَ إلى سنة النَّبي ﷺ، ونرى عموم الأحاديث الواردة عن النَّبي ﷺ ونأخذ منها الأحكام الظَّاهرة، ما سواها نعرض عنه، لأنه لو كان ثابتًا لما أغفله رسول الله ﷺ- خاصَّة أنه أصلٌ قرآني، ومِن المعلوم أن النَّبي ﷺ مبين لكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
فذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث عمران، والأحسن والأصح في طريقة في التيمم أن لا يقدم على حديث عمار بن ياسر شيء؛ لأنَّ حديث عمار بن ياسر هو الأصل في هذا الباب، أعني أنه هو الأصل في باب التيمم، وهو أصح ما في باب التيمم، لهذا فإنَّ الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- لما ذكرَ باب التيمم وذكر فيه طريقة مشروعيته ذكر فيه -رَحِمَهُ اللهُ- وسبب نزوله ذكر فيه مباشرة حديث عمار بن ياسر كأول حديث وكرَّره -رَحِمَهُ اللهُ- تكريرًا كثيرًا في مواضع مختلفة من كتاب التيمم، كأنما يريد أن يقول: سنة التيمم تدور على حديث عمار.
وأصل التيمم جاء من قصةٍ وقعت لعائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فإنها كانت مع النَّبي ﷺ في غزاة، فانقطعَ عقدٌ لها كانت قد استعارته من أسماء تتزين به، هي خرجت مع النَّبي ﷺ وليس مع النَّبي ﷺ إلا هي وضرَّة لها، فقد كان النَّبي ﷺ يُقرع بين نسائه، ولا يخرج معه إلا اثنتين في السفر، فلما رجعوا قالت: انقطع عقد لأسماء -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فأقام النبي ﷺ على التماسه، وهذا من حسن خلقه ﷺ، حبس الجيش بتمامه لهذه الفتاة، فكانت -رضي الله عنها- ابنة أربعة عشرة أو خمسة عشرة سنة، قالت: "وبعث النبي ﷺ رجالًا في التماسه، فحضرت عليهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا، ثم شكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ-، فأنزل الله -جَلَّ وَعَلَا- آية التيمم ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبً﴾ [النساء: 43]، فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيرًا، ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، والله ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينه إلا جعل الله لكِ وللمسلمين منه فرجًا ومخرجًا"، ففرجَ الله -عز وجل- عن المسلمين بهذه الواقعة، فنزلت بها آية التيمم، فكان فيه فرجًا عظيمًا على المسلمين؛ لأنَّ الصحابة شقَّ عليهم أن يتركوا الصلاة -كما يقول بعض العلماء في فاقد الطهورين- أو يصلون على غير وضوء، فأنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية التيمم، والتيمم بوجه عام لا يكاد يفقده إلا القليل، يعني إذا كان الماء يُفقد كثيرًا فإن التيمم لا يكاد يُفقد إلا في حالات يسيرة.
ذكر حديث عمران: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا، لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ؟»)، هذا في غزوة من غزوات النَّبي ﷺ، غزى بهم النَّبي ﷺ هذا الحديث حديث طويل قد ذكره الإمام البخاري بتمامه، لكن ذكره أيضًا في موضع آخر مختصرًا.
قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا، لَمْ يُصَلِّ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْقَوْمِ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ» وما كان يعلم الحكم الشَّرعي، وفيه دلالة على أن أحكام الشرعية قد تخفَى على الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- الذين هم مع النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فقال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَقَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ»، هذا الحديث بعد حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لأنَّ في حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الصحابة والنَّبي ﷺ في ذلك الوقت ما كانوا يعلمون أن التيمم بديل، حتى أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الآية.
قوله: «فَقَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيَكَ»، في هذا الحديث أنَّ النَّبي ﷺ لَمَّا عثر على الماء: «وكانَ آخِرُ ذَاكَ أنْ أعْطَى الذي أصَابَتْهُ الجَنَابَةُ إنَاءً مِن مَاءٍ، قالَ: اذْهَبْ فأفْرِغْهُ عَلَيْكَ» فدلَّ ذلك على معانٍ، منها:
المعنى الأول: أنَّ التيمم إنما يشرع عند فقد الماء، أو عند العجز على استعماله، فإنَّ العجز عن استعماله يُنزَّل منزلة فقده، ومثل العجز عن استعماله: أن يكون الإنسان مريضًا، ويُمنع من استخدام الماء، مصاب بحروق أو قروح وما إلى ذلك، فيقال له: لا تستخدم الماء، ففي مثل هذه الصورة يتيمم، أو مريض وليس فيه قروح، لكن ما يستطيع أن يذهب إلى دورة المياه، ولا يوجد أحد يحضر له الماء، كبعض المرضى في المستشفيات الذي لا يوجد له مرافق، ففي مثل هذه ما يلزمه أن يسأل الناس؛ لأنَّ هذا مما يقع به المنَّة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قد كرَّم عباده، فلست محتاج إلى أن تطلب من الناس المنَّة، تطلب من رجل تعال ساعدني، احضر لي ماء! إنما يتيمم.
إذًا، هذا معنى: أن التيمم إنما يكون عند فقد الماء أو عند تعذُّر استعماله، إما لبرد أو لمرض، أو لغير ذلك كما في قصة عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
المعنى الثاني: أنَّ قول النَّبي ﷺ: «فَإِنَّه يَكْفِيكَ»، يدل على أنه يقوم مقام الماء، وأنه ليس طهارةً مبيحةً -كما يقول بعض العلماء- فبعض العلماء يقول: هو مبيحٌ وليس برافع.
معنى مبيح: أنه طهارة دون طهارة الماء، وإذا قالوا كذلك يترتب عليه بعض الأحكام، مثل:
إذا قلنا: إنه مبيح؛ فإنه ليس بطهارة كاملة بل هو مؤقت بوقت الصلاة، فإذا دخل عليك وقت الصَّلاة الثَّانية تتيمم، لكن إذا قلنا: إنه رافع؛ أقمناه مقام الماء، والأصل أنك لا تتوضأ إلا وأنت محدث إلا إذا أردت أن تجدد الوضوء فلا بأس، لكنك لست مأمورًا بذلك وجوبًا.
فقوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّه يَكْفِيكَ» يدل -والله أعلم- على أنه كافٍ لك، بمعنى أنه يقوم مقام الماء.
فإن قال قائل: إذا قلنا إنه يقوم مقام الماء؛ فلماذا يتوضأ؟
قلنا: لأنَّ النَّبي ﷺ قد جعل كفايته محدودة أو مؤقتة بحصول الماء، فمتى ما حصل الماء ارتفعت الكفاية، وهذا المعنى معنًى صحيح إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو مما يقرِّره حديث عمران، وبه يزول كثير من الإشكالات على الناس، فيقال: يتيمم الإنسان، فإذا تيمم صلى بهذا التيمم ما شاء من فروض ونوافل، ولا ينقضه إلا نواقض الوضوء، أو وجدان الماء، فإذا وجد الماء ينقضه. هذا هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم -رحمهم الله.
تبقى بعض الأحكام المتعلِّقة بكيفيَّة التيمم وما إلى ذلك سيذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ، كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا - ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ»)}.
هذا الحديث من أصحِّ الأحاديث الواردة عن النَّبي ﷺ وهو العمدة في أحاديث التَّيمم؛ لأنَّ عمار بن ياسر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد ذكر في هذا الحديث عن النَّبي ﷺ صفة التيمم وفيه أنَّ النَّبي ﷺ بعث عمارًا في حاجة له ﷺ قال: (أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدْ الْمَاءَ)، وقد كان قرينه في هذه الرحلة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإنه في الرواية الثانية قال عمار لعمر: (أما تذكر يا أمير المؤمنين إني كنت أنا وإياك في غزاة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصلِّ، وأما أنا فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة)، عمَّار رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندهم الآية ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبً﴾ ، لكن عندهم أنَّ الآية محمولة على فاقد الوضوء وليس الواقع في الحدث الأكبر، فعمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قاسَ التيمم في الغسل على التيمم في الوضوء، وهذا مما يدل على أنَّ القياس متقرر عند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فلما رأى أنَّ التيمم في الحدث إنما هو اليدين والوجه، ورأى أنَّ الوضوء إنما هو في هذه الأعضاء، اليدين والوجه مع الرأس والرجلين، فقاس الجنابة على الغسل، ولَمَّا رأى أنَّ الغسل يشترط فيه تعميم الجسد بالماء عمَّم جسده بالتراب، فتمرَّغ في الصَّعيد كما تتمرغ الدَّابة.
قال: «ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ» ﷺ، فدلَّ هذا الحديث على معانٍ:
أولها: مشروعية التيمم للغسل الأكبر في الجنابة، وأنَّ كل ما يوجب الغسل ويُعجز فيه عن الماء فإنه يتيمم فيه، فالحائض والنفساء إذا طهُرت فلم يكن عندها ماء تتيمم، والجنب يتيمم.
ثانيًا: أنَّ التيمم في الحدث الأكبر كالتيمم في الحدث الأصغر سواء، ما في فرق بينهم.
ثالثًا: أنه بيَّن لنا في هذا الحديث معنى جليلًا وهو أنَّ التيمم إنما هو ضربة واحدة، ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ ، فيضرب بيديه الأرضَ ضربةً واحدةً ثم يمسح بهما وجهه، ثم يمسح شماله بيمينه، ويمينه بشماله، يبدأ يمسح على اليمين ثم يمسح اليمين على الشمال، ويكون بذلك قد أتى بما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به.
هذا القول -يعني أنَّ التيمم ضربة واحدة- هو قول الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- وهو القول الراجح في هذه المسألة، خلافًا لمن قال: إنه ضربتان، فلا يصح ولا يثبت عن النَّبي ﷺ أنه أمر بضربتين، ولهذا قلنا: المعول عليه حديث عمار، وحيثما اختلفت الأحاديث في التيمم فردها إلى حديث عمار ترشد، ويستبين الحق.
مسألة أخرى: هل التيمم إلى الكفين أو المرفقين؟
نقول: في حديث عمار إلى الكفين، قال: (وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ)، ما قال: "إلى المرفقين"، ولا ذكر الساعد، فدلَّ على أنَّ القول الصَّحيح أنَّ التيمم إنما هو على الكفين فحسب، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ ، ولم يقل: "للمرافق"، ولو أراد المرافق لذكرها كما ذكرها في الوضوء.
فهذا من المعاني التي ينبغي أن تُقرَّر، أن التيمم في حديث عمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ضربة واحدة، وأنها إلى الكفين فحسب، وأنه يبدأ فيه بالوجه قبل اليدين؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه بدأ بالوجه، قال: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ ، وقد ثبت عن النَّبي ﷺ أنه قال: «أَبْدَأُ بما بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»[6]، فإذًا يُبدأ بمسح الوجه، لكن لو أنه عكس فمسحَ اليدين قبل الوجه فجماهير العلماء على أن ذلك مجزئ؛ لأنَّه قد جاء في بعض رواية عمار: البداءة باليدين، فدلَّ ذلك بوجه عام على أَّن الرواة قد تسمَّحوا وتسهَّلوا في رواية هذا المعنى عن النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وفي حديث عمار أيضًا -والله أعلم- في قوله: «ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ»، في بعض رواياته: «إنَّما كانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا فَضَرَبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَفَّيْهِ الأرْضَ، ونَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بهِما وجْهَهُ وكَفَّيْهِ»[7]، حتى يزيل عنهما شيئًا من التراب، فدلَّ ذلك على أنَّ اشتراط بعض الفقهاء تعميم الوجه بالتراب وتعميم اليدين بالتراب لا معنى له، وإنَّما يقال: الأصل هو تعميمهما بالمسح، وليس من شرط تعميمهم بالمسح أن يعمَّما بالتراب، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن ضرب النَّبي ﷺ بيديه الأرض يدل -والله أعلم- على أنَّ كل ما سمي أرضًا فإنه يجوز التيمم به، كل ما كان على ظهر الأرض مما هو من جنس خلقتها يجوز التيمم به، رمل، تراب، طين، ثلج؛ كلها يجوز تيمم بها، ومما يدل عليه أن النَّبي ﷺ مرة من المرات أقبل على الجدار فضرب عليه وتيمم ﷺ؛ فدل ذلك على أن كل ما على ظهر الأرض أو كان مما هو على ظهر الأرض لكن نقل عنها فإنه يجوز التيمم به، بخلاف مَن قيَّده بالتراب.
فنقول: إن تقييده بالتراب لا يدل عليه دليل، وأن ما ورد عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا، إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ»[8] ليس فيه دلالة على تقييده بالتراب؛ لأنه قَيَّد الإطلاق في معانٍ كثيرة، فقال ﷺ: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورً»، و"الأرض" تدل على العموم، نعم الأصل في التراب أنه مقدَّم بلا شك، لكن غيره مما يكون على ظهر الأرض يقع به الإجزاء، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة -إن شاء الله عز وجل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً»).
هذا حديث جابر -رضي الله عنه- يذكره العلماء -رحمهم الله- غالبا في فضائل النَّبي ﷺ وفي فضائل الأمة المحمدية بوجه عام، أو في أبواب الشفاعة، لكنهم أيضًا يذكرونه في باب الطهارة من جهة قول النَّبي ﷺُ: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورً»، وهذا يدل على أنَّ هذا من خصائص هذه الأمَّة؛ لأنَّ الأمم السابقة لم يكن الواحد منهم يُؤمَر بالصَّلاة إلا في بيعته أو كنيسته، يعني كانوا يؤمرون بأن يصلي في البِيَع والكنائس، ما يصلي في أي مكان فربما أفضى ذلك إلى تأخير الصَّلاة، وما من شك أنَّ هذا من نقصان الدِّين، حتى لو كان عذر، نقول: معذور ما في بأس لكنه نقص، ولهذا قال النَّبي ﷺ في الحائض: «أليسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ قُلْنَ: بَلَى، قالَ: فَذَلِكِ مِن نُقْصَانِ دِينِهَ»[9]، ليس من النقص التي تلام عليه، لكنه ليس كمن أتى بالكمال، فإذًا هذه الأمة قد كمَّل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها الدين بأن جعلها حيثما أدركتها الصلاة صلَّت، كلُّ الأرض طاهرة، هذا هو الأصل.
وبناء عليه؛ فإنَّ قوله: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورً»، يُقال فيه: لا يخرج من هذا العموم شيء إلا بنصٍّ، إذا أتيت تقول: المكان الفلاني لا يُصلَّى فيه. نقول: لا، حتى تسوق لنا النَّص عن رسول الله ﷺ-، المقبرة جاء فيها النَّص أنَّ النَّبي ﷺ نهى عن الصَّلاة فيها، وليس ذلك لنجاستها، ولكن ذلك لذريعة الشِّرك، فالمقبرة طاهر، والمدفون فيها من أموات المسلمين طاهرون، حتى الكفار أجسادهم طاهرة، لكن الأصل في ذلك: أن النهي في المقبرة إنما لأجل أنها ذريعة للشِّرك، وذريعة إلى عبادة القبور، ودعائهم.
وأمَّا الحمام فلأنه مأوى الشياطين لا لأنه نجس؛ لأنَّ الحمام قد يكون نظيفًا ما فيه شيء، لكن لأنه مأوى الشياطين فلأجل ذلك حرم.
فإذًا الأرض الأصل فيها: أنها كلها تجوز فيها الصَّلاة، إلا ما قيَّده الشرع.
قوله: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورً»، يدل على جواز الطهور بكل ما سمي أرضًا، الثَّلج الذي على الأرض هو من الأرض، لو أنك في هذه البلاد التي في القطب الجنوبي أو القطب الشمالي، وسألك رجل ما الذي تطأ عليه؟ تقول له: الأرض، لو أنَّ رجلا قال لك: احلف أنَّ الأرض ليست تحتك. ما تستطيع! تقول: لا، تحتي الثلج. يقول: الثلج من الأرض.
فإذًا؛ كل ما كان من جنس الأرض فإنه يجزئ الطهارة به.
ومنه الرمل، فالنَّبي ﷺ في غزوة تبوك قد سار المسافة الطويلة على رمال، ومع ذلك فإنه ﷺ ما كان يحمل معه التراب، فدلَّ ذلك على أنه يجوز الطهور بكل ما كان على ظهر الأرض.
هذا إذًا من خصائص هذه الأمَّة المحمديَّة على صاحبها أفضل الصَّلاة والسَّلام، وهذا من فضلها وشرفها، وفضل رسولها ﷺ.
نشرح الحديث شرحًا يسيرًا حتى لا يفوت منه شيء:
قوله: «أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي»، هذا من خصائص النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قوله: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»، من المعلوم أنَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا أهل جهاد، منهم مَن كان يجاهد بلسانه، ومنهم من كان يجاهد مع لسانه بسنانه، فنوح ﷺ وهود وصالح ولوط وإبراهيم -عليهم الصلاة والسلام- كلهم لم يكونوا يجاهدون جهاد السِّلاح، وإنما كانوا يجاهدون جهاد الكلمة، وفيه دلالة على أنَّ جهاد الكلمة هو الأصل، وسليمان ﷺ كان يجاهد بالكلمة وبالسِّلاح، ومع ذلك فإن أولي العزم من الرسل كانوا أفضل منه، فنوح وإبراهيم لم يكونوا من أهل الجهاد بالسنان -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
فإذًا ليس بكل الأحوال أن يكون الجهاد بالسنان أفضل بالكلمة، فالجهاد بالكلمة هو الأصل، والجهاد بالسنان تابع له، فكان منهم سليمان ﷺ ممن كان يجاهد بالسنان، وممن كان يجاهد بالسنان موسى ﷺ، ويوشع بن نون، ﷺ الذي دخل بيت المقدس، وسيدهم في ذلك رسول الله ﷺ، ولكنه امتاز عنهم بأنه نُصر بالرعب مسيرة شهر، بمعنى أنه تفتح له المدائن بما يقذفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الرعب في قلوب أعدائه، ولهذا فُتحت الأمصار للمسلمين في أزمنة يسيرة بعامل الخوف.
وقد قال جماعة من العلماء -رحمهم الله: إن قوله «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ»، ليس خاصًّا به ﷺ وإنما هو خاصٌّ بكلِّ مَن كانَ على سيرته ﷺ، وليس أيضًا مُقتصرًا على النَّصر بالجهاد الذي هو جهاد السنان، بل حتى جهاد الكلمة كان له وَقْعٌ، ولهذا يبعث النَّبي ﷺ وهو لا زالَ في المدينة لم يملك شيئًا من أرض الله غيرها، يبعث ﷺ في صُلح الحديبية إلى ملوك العالم كلهم، إلى المقوس وإلى هرقل وإلى كسرى وإلى غيرهم وإلى أُكيْدِر، وإلى صاحب البحرين المنذر بن ساوى؛ فيأتي إلى هرقل فيخضع لهذا الكتاب ويلين له ويعظِّمه غاية التَّعظيم، يذهب إلى المقوقس فيكون كذلك، هذا من الرعب الذي يقذفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قلوبهم.
قوله: «مَسِيرَةَ شَهْرٍ»، أي: مسافة شهر، الذي بيني وبينه شهر يصله خبري ويُرعَب من أمري قبل أن أصله، وليس هذا بوجه عام دلالة على أن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- له لكنه دين رعب، لا، لكن دين رعب لمن أبى؛ لأنَّ الدين بوجه عام والدنيا لا تقوم إلا بهذين المعنيين، لا تقوم إلا بحجة وإلا بسنان يدعم الحجاج، قد يكون عندك سنان وما يكون عندك حجة، مثل المغول اكتسحوا العالم وكان عندهم سنان ولم يكن عندهم حجة فذهبت دولتهم، وقد يكون عندك حجة لكن ما يكون عندك سنان فلا يمكَّن لك، قال ﷺ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ»[10]، فإذا اجتمعا بلغا من العلياء كل ما كان، وقد اجتمعا لرسول الله ﷺ.
قوله: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورً»، هذه هي الجملة التي ساق المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- الحديث من أجلها.
قال ﷺ: «فَأَيُّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ»، هذا هو الحكم الشرعي، وفي بعض الروايات: «فعِندَه مَسجِدُه وطَهورُه»[11]، المسجد: أرض الله. والطهور: التـراب. فإن عُدم الماء فتيمم.
فإن فقدتَّ الماءَ والترابَ صليتَ على حالك، مثل الصحابة الذين بعثهم النبي ﷺ لالتماس عقد عائشة، فلما أدركتهم الصلاة وليس معهم ماء صلوا، فما أنكر النبي ﷺ عليهم، فدلَّ ذلك على أن مَن فقدَ الطهورين -التراب والماء- فإنه يصلي على حاله، فهذا هو الأصل الشرعي في هذه المسألة.
قال ﷺ: «وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي»، أما المغانم فهو ما يصيبه المسلمون في الحرب، وقد ذكرها الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه وأنزل فيها سورة تمامها وهي سورة الأنفال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: 1]، وقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: 41]، وقد كان الأصل في المغانم قبل هذه الأمة المحمدية أنها محرمة على الأنبياء.
ماذا كانوا يصنعون؟
ورد في صحيح البخاري: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وهو يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بهَا ولَمَّا يَبْنِ بهَا، ولَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا ولَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، ولَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وهو يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلَاةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيبًا مِن ذلكَ، فَقالَ لِلشَّمْسِ: إنَّكِ مَأْمُورَةٌ وأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليه، فَجَمَع الغَنَائِمَ، فَجَاءَتْ -يَعْنِي النَّارَ- لِتَأْكُلَهَا، فَلَمْ تَطْعَمْهَا، فَقالَ: إنَّ فِيكُمْ غُلُولً»، والغلول هو السرقة من الغنيمة، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 161].
قال: «فَلْيُبَايِعْنِي مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بيَدِهِ، فَقالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ، فَلْيُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بيَدِهِ، فَقالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ، فَجَاؤُوا برَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعُوهَا، فَجَاءَتِ النَّارُ، فأكَلَتْهَا. ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الغَنَائِمَ؛ رَأَى ضَعْفَنَا وعَجْزَنَا فأحَلَّهَا لَنَ».
فجعل الله -عز وجل- الغنائم في أمة محمد خاصيَّة لها، وكانت من أطيب الكسب، ولهذا فإن توسُّع النبي ﷺ إنما كان من الغنائم، فالنبي ﷺ- ما ملكَ شيئًا حتى فُتحت خيبر، فلما فتِحَت خيبر توسَّع النبي ﷺ بما غنمه من اليهود.
قال: «وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ»، هذه أيضًا من خصائص النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
والمقصود بالشفاعة -والله أعلم: أنها الشفاعة لفصل القضاء بين الناس يوم القيامة؛ لأنَّ ما سواها من الشفاعات يشترك فيها غير النبي ﷺ معه، لكن الشفاعة التي يختص بها النبي ﷺ هي الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة إلى الله لفصل القضاء بين الناس، والتي يأتون فيها إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ثم إلى محمد ﷺ.
أما الشفاعة في إدخال بعض هذه الأمة في الجنة وهي التي قالها النبي ﷺ: «وأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي في الآخِرَةِ»[12] ما قال "للناس"، فإن الشفاعة الأولى شفاعة للناس، وأما التي قال فيها «وأُرِيدُ أنْ أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي في الآخِرَةِ» فهي شفاعته ﷺ لأصحاب الكبائر من أمته، يُشفِّع الله -جَلَّ وَعَلَا- به خلقًا عظيمًا من أصحاب الكبائر من أمة النبي ﷺ، وأولى الناس بها من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، ومن اتَّبع سنة النَّبي ﷺ، ما أظن أن النَّبي ﷺ يرى رجلًا كان يتَّبع سنته فيتخلَّى عنه، أولى الناس بشفاعته ﷺ أتباع سنته، مَن كان إذا قيل له: قال رسول الله ﷺ-؛ قال: سمعنا واطعنا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ﴾ [النور: 51]، هذا هو قول أهل الإيمان.
فإذًا، أولى الناس بشفاعة النَّبي ﷺ هم أمَّته، أو مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، وهم أهل التوحيد.
قال: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً»، هذه خاصية من خصائص النَّبي ﷺ.
الأصل في الأنبياء من بعد نوح ﷺ أنَّ دعوتهم كانت خاصَّة، نوح دعوته كانت عامَّة؛ لأنه لم يكن ثَّمَّ إلا قومه، ونوح ﷺ موطنه كان في الهند، التي هي العالم القديم، يسمَّى عند العلماء بالعالم القديم الذي أُهبط فيه آدم عليه السلام، فإن آدم عليه السلام إلى نوح إلى الطوفان قد كان مسكنهم الهند، هذه هي منازلهم، وكان نوح عليه الصلاة والسلام إنما بعث لقومه، فلم يكن أحد إلا قومه، ولهذا قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارً﴾ [نوح: 26]، فأهلك الله -عَزَّ وَجَلَّ- الناس كلهم بعد نوح ﷺ إلا مَن كان معه.
ثم من كان بعد نوح ﷺ من الأنبياء فإنما كانت بعثتهم إلى قومهم خاصَّة، هود إنما بعث إلى قومه عاد، وصالح إنما بعث إلى قومه ثمود، ولوط إنما بعث إلى قومه، وهكذا جميع الأنبياء، حتى أنبياء بني إسرائيل وهم أكثر الأمم الذين بُعثت فيهم الأنبياء مع أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال في كتابه: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، فالأصل أن جميع الأمم قد بُعث فيهم الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقد جاء في حديث أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، أنه سأله عن الأنبياء، فقال: «قلتُ يا رسولَ اللهِ كم الأنبياءُ قال: مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، الرسلُ من ذلك ثلاثمائةٍ وخمسةَ عشر جمًّا غفيرً»[13]، هذا الحديث وإن كان في إسناده نظر، لكن الظاهر -والله أعلم- أنَّ معناه متقرر، قد قال الله -جَلَّ وَعَلَا- عن نبيه: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164]، فالرسل كثير لكن نجهلهم، وما نعرفهم ولا نقف على أسمائهم، وليس لنا حاجة في الاطلاع عليهم؛ لأنَّ من احتجنا إلى الاطلاع عليه قد أطلعنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه، فذكر في كتابه بضعة وعشرين نبيًّا ورسولًا وذكر قصصهم، وأما مَن سواهم من الرسل فحالهم كحال هؤلاء، هذه السُّنة تتكرَّر في هؤلاء جميعًا، فما هي الحاجة إلى أن يذكر لنا في كتاب الله ثلاث مئة وثلاثة عشر رسول؟ اختار الله -جَلَّ وَعَلَا- منهم المصطفون فذكرهم، وربما لم يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أقوامًا هم أفضل ممن ذكر، لكن الأصل فيمن ذُكر في القرآن الأصل أنهم هم الأشرف، ولهذا قال بعض العلماء: إنَّ أفضل الرسل هم من ذكروا في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن مَن سواهم فإنه فاضل شريف لكنه دون هؤلاء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الفضل والشرف.
قال: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً»، أقول: حتى أنبياء بني إسرائيل، فإن موسى ﷺ مبعوث إلى بني إسرائيل، وعيسى مبعوث إلى بني إسرائيل، ولهذا من أعظم التناقضات والمناقضات للإنجيل ما يسمى بـ "التبشير، أو التنصير"، هذا مما يناقض أصل دين المسيحيَّة، فإنَّ في أصل الإنجيل "مدائن السَّامريين لا تطرقوا، وأبوابهم لا تدخلوا"، والسامري عند بني إسرائيل هو كالعجمي عند العرب، السامري هو من لم يكن من بني إسرائيل، ولهذا جاءت قصة السَّامري في القرآن، فالسَّامري رجل من السَّامرة لم يكن من بني إسرائيل أصلًا، ولهذا يصفونه بني إسرائيل بوصفة دونية بقوله ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 87]، بعض الناس يظن أن اسمه "سامري" لا، وإنما "السامري" وصف له، يعني أنه ليس إسرائيليًّا، فإذًا ما جاء في الإنجيل: "مدائن السامريين لا تطرقوا ولا تدخلوا وأبوابهم لا تطرقوا، ولكن انطلقوا إلى النعاج الضالة من بني إسرائيل، فإياهم فاهدوا"، فهذا هو دين عيسى ﷺ دينه إنما هو مرسَل أو مبعوثٌ إلى بني إسرائيل، وما بين إبراهيم ﷺ إلى عيسى جمٌّ غفيرٌ من الأنبياء، فإنَّ أكثر الأمم التي بُعث فيها رسل هم بنو إسرائيل، " كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ، كَمَا تَسُوسُنَا الْمُلُوك، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، حتى كان محمد ﷺ- فكان الختام"، وإذا كان الختام فإنه لا يسوغ أن يكون خاصًّ بأمةٍ؛ لأنَّ معناه أنَّ هذه الأمم ستغرق في الجاهلية، وإنما يكون عامًّا، فكان هو اللَّبنة التي أكمل الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها هذا البنيان العظيم، الذي هو بنيان النُّبوة، قال ﷺ: «إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ»[14].
ويكون بذلك ختامنا.
{أحسن الله إليكم شكر الله لكم فضيلة الشيخ، كما نشكر الإخوة المشاهدون، نلقاكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[1] صحيح أبي داود (216).
[2] صحيح مسلم (345).
[3] صحيح مسلم (350).
[4] صحيح مسلم (325).
[5] أخرجه ابن ماجه (425) واللفظ له، وأحمد (7065).
[6] صحيح مسلم (1218).
[7] صحيح البخاري (338).
[8] صحيح مسلم (522).
[9] صحيح البخاري (304).
[10] أخرجه البخاري (5705)، ومسلم (220) واللفظ له
[11] أخرجه أحمد (22137)، والبيهقي (1059).
[12] صحيح البخاري (6304).
[13] أخرجه أحمد (22288).
[14] صحيح البخاري (3535).