{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم برنامج (جادة المتعلم)، والكتاب المقروء في هذا الدرس هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ فحياكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم.
كنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا، وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]. وَلِمُسْلِمٍ «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا. فَكَفَّارَتُهَا: أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو أصل في بابه، أعني أن حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو الأصل في بيان أنَّ الصلاة لا تسقط البتة بفوات وقتها.
فوات الوقت بوجه عام إمَّا أن يكون بعذر من نوم أو نحوه، فيبقى وقت الصلاة ممتدًّا حتى يستيقظ، فإذا استيقظ كان أول ما يجب عليه أن يُؤدي فرض الله -عَزَّ وَجلَّ- عليه، ولا يكون شيء من أمور معيشته أولى من البداءة بالصلاة، فما يقدم الإنسان الذهاب إلى العمل، ويقول: أذهب إلى العمل أو أغتسل وألبس ثيابي وما إلى ذلك؛ نقول: بل الواجب عليك حينما تستيقظ أن تبادر بالصلاة، الصلاة أهم، كما قال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فهي أولى من كل شيء، فإذا فرغ من ذلك أقبل على أمور دنياه، وهذا الأمر أيضًا مما يغفل عنه كثير من الناس، وذلك أنَّ بعض الناس ربما تفوته صلاة الفجر ويخرج عليه وقتها، فيستيقظ مثلًا بعد خروج الوقت أو بعد فوات الوقت بربع ساعة، فإذا نظر وعلم أنَّ الوقت قد فات قال: أكمل نومي ثم إذا استيقظت صليت صلاة الفجر! نقول: لا، صلاة الفجر الآن في حقك أنت معذور فيها في فوات الوقت الأصلي من جهة أنك كنت نائمًا، لكن حينما استيقظت هذه الاستيقاظة التي رجع إليها ذهنك، فإنه يجب عليك أداؤها في هذا الوقت، يجب عليك المبادرة أن تبادر فتؤديها؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا، وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» هذا يشمل الناسي ويشمل النائم، ولهذا النبي ﷺ لَمَّا استيقظ أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وقد ناموا عن صلاة الفجر مشى شيئا يسيرًا ﷺ ثم صلى بهم، ولم يبدأ بشيء قبل الصلاة ﷺ.
قال المصنف -رَحِمَهُ اللهُ: (عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا، وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ»).
في هذا دلالة على أنَّ الصلاة بوجه عام لا تسقط على الإنسان بفوات وقتها، بل يجب عليه أن يؤديها، وهي لا تسقط إلا في حق المجنون، ومَا يقوم مقام المجنون مثل: المغمى عليه على الصحيح من أقوال أهل العلم، فإنه يقوم مقام المجنون، خاصة إذا كان ما فاته أكثر من خمس صلوات، فإن جماعة من أهل العلم على أنه إذا فاته أكثر من خمس صلوات لا يَقضيها، والحائض والنفساء، فإنهما لا تقضيان ما فاتهما بسنة رسول الله ﷺ، وأمَّا من سوى ذلك فإنه يجب عليه يقضيها لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، هذا من تفسير القرآن بسنة النبي ﷺ.
وفي قراءة الأعمش وهي قراءة الكوفيين: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِّكْرَى﴾ ، وهي أبلغ في الدلالة على المعنى من ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ ، وهي قراءة حفص أو قراءة السبعة. فقوله ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِّكْرَى﴾ يعني وقت ذكرك لها، و ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ يعني: أقم الصلاة من أجل ذكر الله تبارك وتعالى، ومن المعلوم أن ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- غير محدود بوقت، وقد كان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه، فهذا بيان أن وقت الصلاة حيثما يستيقظ الإنسان أو حيثما يذكرها، لا يبدأ بشيء قبلها البتة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ: كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِشَاءَ الْآخِرَةِ. ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ»)}.
هذا الحديث أصل عظيم في جواز اختلاف نية الإمام والمأموم، الحقيقة أن المرجع في هذه المسألة الصَّعبة والمعضلة عند أهل العلم إلى حديث معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فمن معلوم والمتقرر أن «إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به»[1]، كما قال النبي ﷺ، لكن هل هذا القول يشمل كل شيء حتى موافقته في النية؟ أو أن المراد به الأفعال؟
نقول: المراد به الأفعال.
إن قيل: من أين؟
قلنا: من بيان النبي ﷺ في الحديث أولًا فإنه قال: «إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وإذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، فَقُولوا: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ، وإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وإذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعُونَ»، فقد رأينا أنَّ النبي ﷺ قد جعل العبرة بالائتمام إنما هي في الأفعال لا في النيات، فما قال النبي ﷺ: «إنَّما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ به» فإذا صلى الظهر فصلوا ظهرًا، وإذا صلى فرضًا فصلوا فرضًا، وإذا صلى متنفلًا فصلوا متنفلين، ما قال ذلك ﷺ! وإنما أمر بعدم المخالفة له، وهذه المخالفة هي المخالفة الظاهرة، يعني: المخالفة في الأفعال. هذا أولًا.
الأمر الثاني حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصة إمامة معاذ بقومه، فإنَّ مُعاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو إمام العلماء، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «وأعلمُهُمْ بِالحَلالِ والحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ»[2] وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظر إلا أنَّ ثَم ما يؤيده من فعل الصحابة، فإنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قام بالجابية بمجمع من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، قال: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ أُبِيَّ بْنَ كَعْبٍ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ فَلْيَأْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَالِ فَلْيَأْتِنِي؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَنِي لَهُ خَازِنًا وَقَاسِمًا"[3]، فدل على أن هذا المعنى معنًى متقرر عند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وهو أسبقية معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في المعرفة والفقه في دين الله -عَزَّ وَجلَّ-، وقد جاء في مسند الإمام أحمد أنه يحشر قبل العلماء برَتوةٍ، وقد جاء مما يدل على فقه معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما في سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن بعض أشياخه أنه لَمَّا شُرعَت الصلاة أولًا أحيلت على ثلاثة أحوال، وذكر منها: «كان الرجُلُ إذا جاء يسأَلُ فيُخبَرُ بما سبَقَ مِن صلاتِه، وأنَّهم قاموا مع رسولِ اللهِ ﷺ من بينِ قائمٍ وراكِعٍ، وقاعِدٍ، ومُصَلٍّ مع رسولِ اللهِ ﷺ، قال: فجاء مُعاذٌ، فأشاروا إليه، فقال مُعاذٌ: لا أَراه على حالٍ إلَّا كنتُ عليها، قال: فقال: إنَّ مُعاذًا قد سَنَّ لكم سُنَّةً، كذلك فافعَلو»[4]، دل على أن الرجل فقيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومن فقهه أنه كان يجمع بين الحسنيين: حسنى الصلاة في مسجد النبي ﷺ، وخلفَ رسول الله ﷺ، وما فيها من الأجر العظيم، فكان يصلي بمسجد رسول الله ﷺ مأمومًا، ثم ينطلق إلى قومه، فيؤمهم وهم منه على مقدار ميل من مسجد النبي ﷺ؛ لأنهم كانوا في أول العوالي، كان يصلي بهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فإذا صلى مع النبي ﷺ صلاة العشاء مثلا كانت له فرض، وإذا رجع إلى قومه فأمهم كانت له نافلة، فأمهم متنفلًا مفترضون؛ لأنهم يصلون صلاة العشاء، وقد قرره النبي ﷺ وعلم به، لأنه أنكر عليه فيما بعد تطويله، فكان يعلم وكان يراه يصلي معه وما أنكر عليه النبي ﷺ، فدلَّ ذلك على أنه يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم مُطلقًا، يجوز للمأموم أن يصلي الظهر خلف مَن يصلي العصر والعكس، ويجوز له أن يصلي الفريضة خلف من يصلي النافلة والعكس، ويجوز للمقيم أن يصلي خلف المسافر والعكس، أيضًا يجوز للمسافر أن يصلي خلف المقيم، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، بمعنى أنَّ النيات منفصلة، نحن ما نطلع على النيات، ولو كُلفنا الاطلاع على النيات لكلفنا العنت، فالإنسان الذي على طريق سفر يحتاج إلى أن يسأل الإمام تصلي ماذا؟ تصلي ظهرًا أو عصرًا، ثم هل أنت مقيم ولا مسافر؟ وهذه كلها ما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بها!
فإذًا دلَّ هذا الحديث على تقرير هذه المسألة وهي مسألة الانفكاك بين المأموم والإمام، وهذا القول هو قول الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- وهو رواية عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- أيضًا، خاصة في صلاة المفترض خلف المتنفل، فإن الإمام أحمد قد نزع فيها إلى حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في إمامة معاذ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ: بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ»)}.
حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذا في بيان الصلاة على الحوائل، سواء كان هذا الحائل وهو كل ما يحول بينك وبين الأرض، والأرض إنما يقصد بها طبيعة الأرض، يعني ما كان من جنس الأرض من التراب والحصباء والرمل ونحو ذلك، فكل ما كان يحول بينك وبين الأرض فإن حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يأتي عليه.
قال أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ: بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ»، الحوائل بوجه عام عند العلماء على قسمين:
- الحوائل المنفصلة عن الإنسان: فهذه جماهير العلماء بل أنه قد حكي إجماعًا على جواز السجود عليها، وعليه عمل المسلمين الآن، منها الصلاة على السجاد، هذه كلها حوائل منفصلة، وليست هي من جنس الأرض، وإنما هي من المنسوجات، فهذه حوائل منفصلة، ما ورد فيها إلا خلاف يسير عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ- محمول على أنه خلاف الأولى، فإن مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- كان يحب أن يباشر المصلي السجود على الأرض بجبهته من غير حائل.
ونقول: نعم هذه هي السنة المستفيضة عن النبي ﷺ وإلا فقد ثبت عنه ﷺ أنه سجد على الخُمرة، والخُمرة بنحو السجادة المعروفة، ثبت عنه ﷺ وثبت عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وعن زيد بن ثابت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي ﷺ «احْتَجَرَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً -أوْ حَصِيرً»[5]، الحجرة المخصفة في المسجد بالحصير، ليست الحجرة المبنية وإنما إذا وضع الإنسان سجادة قيل: احتجرَ هذا المكان، يعني كأنه وضع حجارة عليه، فقوله: احْتَجَرَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً» يعني أن النبي ﷺ وضع سجادة من حصير فكان يصلي عليها ﷺ، فدلَّ ذلك على جواز الصلاة على الحائل المنفصل.
- وأمَّا السجود على الحائل المتصل فقد وقع فيه خلاف بين العلماء -رحمهم الله- والحائل المتصل هو ما كان متصلًا بجسد الإنسان، مثل: سجود الإنسان على كمِّه أو على شماغه، فهذه كلها متصلة به، فالصَّحيح فيها جوازه لحديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ: بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ»، وثوبه متصل به، فدلَّ ذلك على جواز السجود على المتصل، وقد كان هذا بمحضر من رسول الله ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»)}.
هذه من المسائل التي تنازع العلماء رحمهم الله فيها، وسنة النبي ﷺ أولى بالاتباع، هذه المسألة تأتي على أنه قد اتفق العلماء -رحمهم الله- أنه في الصلاة يجب ستر ما بين السرة إلى العورة، حتى عند العلماء القائلين بأنَّ العورة إنما هي السوأتان فحسب -التي هي العورة المغلظة- يقولون: عورة الصلاة تختلف عن العورة خارج الصلاة، فحتى من قال من العلماء -كالظاهرية وغيرهم- إنَّ العورتان هي السوءتان -القبل والدبر- يقول: في الصلاة يستر ما بين السرة إلى الركبة، فهذا متفق عليه بين العلماء -رحمهم الله- فلا أحد من العلماء يجيز أن يكشف الإنسان فخذه، أو أن يكشف ما دون سرته إلى قريب من عانته، حتى لو كان يقول بأنَّ هذه ليست عورة.
لكن ستر ما زاد على ذلك كالعاتق -والعاتقان هما الكتفان- ما حكم سترها؟
حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»، فيه أمر من النبي ﷺ بستر العاتق، وفي بعض الروايات: «لا يُصَلِّي أحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الواحِدِ ليسَ علَى عاتِقَيْهِ منه شيءٌ»[6]، بالتثنية، فذهب بعض العلماء -رحمهم الله- كالإمام أحمد إلى أنه يجب ستر العاتقين في صلاة الفرض، وبناء عليه فبعض المحرمين أول ما يطوف يضطبع كما هو سنة عن النبي ﷺ، ثم تقام الصلاة فيصلي وهو مضطبع، فيقال: إنَّ هذا على مذهب الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- لا يجوز؛ لأنَّ الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- كان يرى وجوب ستر العاتقين، فعليه يقال له: إذا أقيمت الصلاة فردهما، واشتمل بهما اشتمالًا، يعني: ضع الرداء على عاتقيك جميعًا كحالك إذا فرغت من الطواف.
وقال بعض العلماء: لا، إنَّ هذا من النبي ﷺ إنما هو محمول على الندب، ومحمول على مَن صلى في ثوب واحد، فإنه يقال له: اجعل على عاتقك منه شيء، حتى لا يتكشف، فإنه إذا جعله على عاتقه لم يتكشَّف، قالوا: وأمَّا ما سوى ذلك فإنَّه يجوز للإنسان أن يصلي مكشوف العاتقين، وقد جاء عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أنَّ أصحاب الصُّفَّة كانوا يُصلون خلف النبي ﷺ ليس مع أحد منهم إلا إزاره، فربما انكشفت بعض سوءته، قالوا: هذا دلالة على أنهم قد كانوا يصلون مكشوفي العواتق.
والإمام أحمد يجيب عن هذا جوابًا سهلًا وميسورًا، يقول: إنما هذا لأجل أنهم لم يكونوا يجدون، فغير الواجد ما يدخل في هذه المسألة، وإنما مسألتنا فيمن وجد هذا.
ونقول: إن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد نقل أنَّ النبي ﷺ قال: «إنْ كانَ واسِعًا فَالْتَحِفْ به، وإنْ كانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بهِ»[7]، قالوا: فقول النبي ﷺ: «إنْ كانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بهِ» يدل على جواز تعرية العاتقين، وقوله: «إنْ كانَ واسِعًا فَالْتَحِفْ به» يدل على مشروعية الالتحاف -الذي هو الاشتمال- به.
والإزار بوجه عام على نوعين:
- إمَّا أن يكون إزارًا ضيقًا فهذا ما يستطيع إلا أن يلفه عليه، ويتَّزر به اتِّزارًا.
- أو إزارًا واسعًا، بمعنى أنه لو وضعه على كتفه لغطى ركبه، فيقال في مثل هذا: يُشرع له أن يشتمل به أو أن يلتحف به.
فهذه المسألة -كما ذكرنا وقررنا- أنها من المسائل التي اختلف فيها العلماء -رحمهم الله، والظاهر والله أعلم أنها مثلا مما يُخفف فيها، ويقال والله أعلم: إنَّ قول النبي ﷺ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» محمول على الأولى والأكمل؛ لأنَّ هذا هو الحال الأكمل في الصلاة، فأما أن يقال: إنه محمول على التحريم أو أنه يؤدي إلى إبطال صلاة من صلى واجدًا ما يستر عاتقيه ولم يفعل؛ فالحقيقة أن هذا والله أعلم بعيد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا. فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا. وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ. وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ. فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ. فَقَالَ: قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أَصْحَابِي. فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا. قَالَ: كُلْ. فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي».
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ: عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسَانُ»)}.
هذان الحديثان عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- مما يدل على أن هذا الدين قد جاء بمكارم الأخلاق، قد جاء بمراعاة والعناية بحسن المظهر في كل شيء، وقد قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في كتابه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31] فقد أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بأخذ الزينة عند القدوم إلى المساجد، وكل مسجد ليس المراد به المسجد المبني، بل المراد به كل صلاة، وهذا مما استدل به جماعة من العلماء كأبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره على أنه يشرع للإنسان التزين في عموم الصلوات، بعض الناس ما يفهم التزين في الصلاة إلا إذا كان يقدم إلى المسجد، فأما لو صلى في بيته إما أن يكون مسافرًا أو تكون قد فاتته الصلاة أو يكون صلى نفل، تجد أنه ربما صلى بثياب البذلة! نقول: لا؛ هذه من مخالفة هدي النبي ﷺ، فإنَّ النبي ﷺ قد كان يحسن اللباس، وكذلك أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، كان أبو الدرداء له حُلة بألف دينار، لا يلبسها إلا إذا قام لصلاة الليل؛ لأنه يقابل ربه -عَزَّ وَجلَّ-، فهذه من المعاني التي تدل على تعظيم مقام الله -عَزَّ وَجلَّ-، وعلى أن تحسين الإنسان للباسه حينما يقدم إلى المساجد ليس لذات الناس، وإنما هو لرب الناس سبحانه وبحمده، ولهذا يحسنها في كل حال، لأنك حينما تكبر تكشف الحجاب الذي بينك وبين الله -عَزَّ وَجلَّ-، سواء كان هذا في المسجد أو كان في بيتك، خاصة إذا كانت الصلاة مما تشرع في البيوت مثل صلوات النوافل وصلاة الليل ونحوها من الصلوات.
فإذًا نقول: إن الشريعة قد جاءت بمكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، وقد جاءت بالزينة والأمر بأخذ الزينة سواء كان في اللباس أو حتى في الرائحة، وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس، ما تجد أن الإنسان يعتني برائحته! ونقول: إنَّ النبي ﷺ لم يكن شيء أشد عليه من أن توجد منه الريح ﷺ مع أنه هو الطيب المطيَّب، ولهذا لَمَّا تشاور عليه نساؤه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُن- قلن: "يا رسول الله نجد منك ريح مغافير"، فاشتد ذلك على رسول الله ﷺ، وتقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "لبس النبي ﷺ جبة صوف فلما عرق فيها وجد ريحها، ريح الصوف فخلعها ثم لم يعد يلبسها ﷺ"، كل هذا من النبي ﷺ دلالة على أنه ﷺ كان يحب حسن الرائحة بكل الأحوال، ولهذا كان ﷺ يتمسَّك كثيرًا -أي يستعمل المسك- ولم يكن يرده ﷺ، وما كان ﷺ أيضًا يستكثر البذلَ فيه، وقد قال عليه الصلاة: «حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ»[8]، فجعله النبي ﷺ عِدلًا للنساء، وكانت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «طَيَّبْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أحْرَمَ»[9]، مع أنَّ الإحرام كما يفهم كثير من الناس موطن للشعث، ومع ذلك تقول: «كَأَنِّي أنْظُرُ إلى وبِيصِ الطِّيبِ في مَفَارِقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُحْرِمٌ»[10]، من شدة ما كان النبي ﷺ يتضمَّخ بالطيب، فهذه معاني جليلة ينبغي للإنسان أن يستحضرها إذا ذهب إلى المسجد، أو حتى بوجه عام في ذهابه وإيابه وحتى مخالطته لأهله، ينبغي للإنسان أن يعتني بذلك، كثير من الناس ما يعتني برائحته، سواء برائحة الجسد، أو حتى برائحة الفم، ونقول: إن النبي ﷺ قد كان يراعيهما أشد المراعاة، أو لم يكن النبي ﷺ أكثر الناس استياكًا؟ حتى قال ﷺ: «وإنِّي لأستاكُ حتَّى خشيتُ أن أُحْفيَ مقادمَ فَمي»[11]، كان يستاك في مواضع كثيرة ﷺ، وكان يحب الاستياك ﷺ عند في المواطن التي يتصور فيها تغيُّر رائحة الفم، أولم يقل حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا قامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ»[12]، ولَمَّا نقل لنا ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قصة صلاة النبي ﷺ كما في صحيح الإمام مسلم من حديث حبيب بن أبي ثابت لَمَّا بات ابن عباس عند رسول الله ﷺ «فاستيقظَ من الليلِ فأخذ سواكَهُ فاستاك بهِ ثم توضأَ وهو يقولُ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ حتى قرأ هذهِ الآياتِ وانتهى عند آخرِ السورةِ ثم صلَّى ركعتينِ فأطال فيهما القيامَ والركوعَ والسجودَ ثم انصرفَ حتى سمعتُ نفخَ النومِ ثم استيقظَ فاستاك وتوضأَ وهو يقولُ حتى فعل ذلك ثلاثَ مراتٍ»[13]، كل ذلك يستاك ويتوضأ، فدلَّ على أنَّ النبي ﷺ كان يعتني به.
حتى في مرض موته ﷺ لَمَّا دخلَ عليه ابن أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أبَّده النبي ﷺ بصره كما جاء في الحديث الذي مضى معنا، دلالة على أنَّ النبي ﷺ كان يعتني بالرائحة الحسنة، رائحة الفم التي يغفل كثير من الناس عنها، وقد فتح للناس الآن في أمور دنياهم الكثير فيما يعين على هذه الرائحة، ونقول: إن الاستعانة على ذلك مما يتعبد به لله -عَزَّ وَجلَّ-، ترى حتى أكل العلك أو استخدام فرشاة الأسنان، قد يؤجر الإنسان عليها وتعد نوعًا من السواك -خاصة الفرشاة- إذا كان يقصد بها النية الصالحة، ويقصد بها أن تكون رائحة فمه رائحة طيبة، حتى إذا قابل أحدًا من المسلمين ما يتأذى بريحه، إذا قابل أهله وخالطهم وكلمهم ما يتأذى أحد بريحه، إذا ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- ذكره وهو حسن الرائحة، فإنَّ الملائكة تضع أفواهها في فيِّ قارئ القرآن، فلا ينبغي للإنسان أن يعرض عن هذا المعنى الذي كان النبي ﷺ يراعيه.
ومنه أيضًا معنى مراعاة النبي ﷺ له في جسده، فقد كان ﷺ لا يكاد يأكل البصل والثوم والكرات أبدًا، وقال ﷺ لَمَّا قدَّمها بعضُ أصحابه وهي مطبوخة بقدر فيه خضرات من بقول قال: «كُلْ. فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي»، لأن النبي ﷺ ما كان يريد الرائحة هذه البتة، ولا الرائحة التي تنعكس أحيانًا على أكلها فربما خرجت مع الجسد، ما كان النبي ﷺ يحبها أبدًا، فإذا كان منهج الإنسان ذلك، ويقول: أنا سأبعد عن كل ما يثير الرائحة من الأطعمة والأشربة، لم يكن في ذلك مخالفة لهدي النبي ﷺ، بل يقال: إن هذا هو هدي النبي ﷺ.
فإن قائل: قول النبي ﷺ: «كُلْ؛ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي»؟
قلنا: إن النبي ﷺ قد قاله لبعض أصحابه لأنه رأى حاجته من الطعام، فرخَّص لهم ﷺ في الأكل، كما رخص لهم ﷺ لَمَّا وقعوا بزراعة البصل فأكلوا منها فما أنكر عليهم النبي ﷺ، وكما رخَّص النبي ﷺ للمغيرة بن شعبة، فإن المغيرة بن شعبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد جاء إلى النبي ﷺ يحدِّثه فوجدَ منه النبي ﷺ ريح بصل، فأنكر عليه النبي ﷺ، فقال يا رسول الله: أعطني يدك حتى وضع يد النبي ﷺ على بطن المغيرة فإذا هو قد شدَّ بطنه من شدة الجوع، فلم يعتب عليه النبي ﷺ، وجاءه مرة أخرى فقال له النبي ﷺ: «إني أرى ريح خلوفك شديدً»، فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أكلت منذ ثلاث، فدلَّ ذلك على تقرير هذا المعنى، وهو أن النبي ﷺ كان يراعي خلوف الفم -وهو رائحة الفم- يعالجها بما يستطيع ﷺ مع أنه الطيب المطيب، وكان ينكرها إذا رآها من أصحابه -رضوان الله عَزَّ وَجلَّ عليهم-.
ولَمَّا قامَ ﷺ في الجمعة قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وكانت الناس مهلت أنفسهم، أي: هم الذين يخدمون أنفسهم. قالت: «كانَ النَّاسُ يَنْتابُونَ يَومَ الجُمُعَةِ مِن مَنازِلِهِمْ والعَوالِيِّ، فَيَأْتُونَ في الغُبارِ يُصِيبُهُمُ الغُبارُ والعَرَقُ، فَيَخْرُجُ منهمُ العَرَقُ، فأتَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنْسانٌ منهمْ وهو عِندِي، فقالَ النبيُّ ﷺ: لو أنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَومِكُمْ هذ»[14]، هذه كلها معاني جليلة وعظيمة تقرر مبدأ العناية بالرائحة الحسنة، وتقرر مبدأ أن التَّطيب ليس فيه سرف، تقرر مبدأ أن استخدام ما يعين على إزالة هذه الرائحة، أو تجنُّب ما يبعث هذه الرائحة كلها من هدي النبي ﷺ، ومن طريقته ﷺ، ولهذا قال ﷺ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسَانُ»؛ فتقرر أن من كان به رائحة شديدة من نحو الثوم والبصل والكراث أو ما هو شرٌّ من ذلك -لأن هذه كلها مباحات- أو من الدخان الذي يتأذى منه الناس، فيقال له: ما يجوز للإنسان دخول المسجد به، وعلى الصحيح أنه محرم؛ لأنه فيه أذية للملائكة، وأذية الملائكة محرمة، وفيه أذية للمؤمنين، وأذية المؤمنين محرمة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينً﴾ [الأحزاب:58]، فما من شك أنَّ أذية المؤمنين محرمة، وأذية الملائكة محرمة، فإذا كان المؤمنون يتأذون من البصل والكراث والدخان وغيرها؛ فالأصل أن يقال: إن هذه كلها روائح يمنع صاحبها من دخول المسجد، ويقال له: إذا كانت موجودة معك فصلِّ في بيتك، إذا كنت أنت تريد أن تأكل كراثًا أو تأكل بصلًا أو تأكل ثومًا اضطررت إليه واحتجت إليه أو شهيته فصلِّ في بيتك، حتى من كان له عادة فيصلي في بيته بكل الأحوال، لكن يُنظر: هل صلاتك في بيتك مما تعذر فيه أو لا؟ ولا تأتِ إلى المسجد ومعك هذه الرائحة البتة.
كذلك أيضًا الروائح السيئة التي أحيانًا قد تخرج من الإنسان كالعرق ونحوه، يقال للإنسان: ويجب عليك أن تتعاهد ذلك إذا ذهبت إلى المسجد، فإن كنت تعلم من نفسك ذلك فاستعمل ما يقطع هذه الرائحة، ولا تؤذي عباد الله، لأن كثيرًا من هذه الروائح قد تكون أشد على الناس من روائح البصل والثوم أو الكراث ونحو ذلك، فإذا هذا المعنى أيضًا مما ينبغي أن يقرر، ويدل على أنه من مكارم الأخلاق.
قال: «وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ. فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ. فَقَالَ: قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أَصْحَابِي. فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا. قَالَ: كُلْ. فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي»، فيه أن النبي ﷺ قد يكره الطعام الذي له رائحة غير حسنة، وكان يسأل ﷺ عن الطعام ما هو؛ حتى يعرف ما الذي وضع فيه، فمَن سأل مثل هذا السؤال لم يُعَب عليه، الذي يعاب على الإنسان أن يعيب الطعام، لكن أن يسأل قبل أن يأكل فلا بأس، فلما قُدِّمَ للنبي ﷺ الضب، فلما استخبر النبي ﷺ فأُخبر أنه ضب رفع النبي ﷺ يده فلم يأكل منه ﷺ.
وفي الحديث الآخر قال: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ» قوله: «الكُرَّاث» هذه الزيادة تدل على أن كل ما كان من هذا الجنس فإنه ملحق به، كل ما كان مما يتأذى منه الناس ومما لا يُستحسن فالعبرة فيه هو القياس، فيقال: الشيء الذي إذا أكلته وقيل لك الآن لديك مقابلة مع مديرك أو مع مسؤول؛ لم تقدم عليه لأنك تخشى من صدور الرائحة السيئة فامتنع عنه في المساجد، يشمل هذا الدخان ويشمل هذا كثير من الأطعمة التي لها روائح سيئة، مثل مثلا أطعمة الحلبة وغير ذلك من الأطعمة التي قد يكون لها روائح يتأذَّى منها الناس، هذه كلها مما ينبغي اجتنابه؛ لأنَّ الناس يتأذون منها.
قال: «فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا. فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسَانُ»، وقد ثبت للنبي ﷺ في حديث أبي سعيد لَمَّا وقع الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- في الزُّرَّاعة فأكلوا من البصل فقرَّب النبي ﷺ مَن لم يأكل وباعد من أكل -يعني في المجلس- فيجوز للإنسان إذا كان في مجلس علم -لأن مجلس العلم مكان نزول الملائكة والملائكة تتأذى بهذا- فمن كان أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا في مجلس العلم ينبغي له أن تجتنب بذلك؛ لأنه ستتأذى الملائكة من هذا الطعام الذي قد أكلته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ التَّشَهُّدِ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ– قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ التَّشَهُّدَ -كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ- كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَفِي لَفْظٍ: «إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» وَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: «فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» وَفِيهِ: «فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ»)}.
ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- باب التشهد، والمراد بالتشهد ها هنا: هو التحيات، وإنما سميت التحيات بالتشهد؛ لأنه هو جوهرها، فهو أعظم ما فيها، فإنَّ فيها الشهادتان "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، كان الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يسمونه بالتشهد وربما سموها بالتحية أو التحيات، كما قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ»[15] فهذا معنى التشهد.
والتشهد بوجه عام عند العلماء رحمهم الله واجب.
ومما يدل على وجوبه: أنَّ النبي ﷺ لَمَّا أسقطه ساهيًا جبره بسجود السهو، ومن المتقرر أنَّ السنن لا تُجبر بسجود السهو، لأنه قد سبقَ أننا لو قلنا بجبر السنن بسجود السهو لكثُر ولم يصلِّ إنسان صلاة إلا وأسقط منها سنة، وأمَّا التشهد الأخير فإنه ركن عند العلماء -رحمهم الله- سواء كان هذا التشهد مسبوقًا بتشهد أوسط أو لم يكن مسبوقًا بتشهد أوسط كما هو في حال مثلا صلاة الفجر ونحوها.
والعمدة في هذا الباب: هو حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هذا هو أصح ما ثبت عن النبي ﷺ في التشهد، قد جاء في الصحيح من حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذكر التشهد، وقد جاء أيضًا فيه من حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في السنن، وكلُّ صحابي كان يروي عن النبي ﷺ لفظًا في التشهد، لكن أصحها هو حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو الذي عمل به جماعة العلماء -رحمهم الله- كالإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- وأهل الحديث، لكن مع ذلك كان الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- يقول: "لا بأس أن يأخذ الإنسان أحيانًا بتشهد ابن عباس عنه "، وهو: «التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ»[16]، أو بتشهد عمر «التَّحيَّاتُ الصَّلواتُ الزَّاكياتُ للهِ»[17] يعني لو أن الإنسان عمل بهذا أو هذا لم يكن به بأس، لكن لو قال الإنسان ما الذي اعتمده لأعلم التلاميذ طلبة العلم المبتدئين، وأجعله هو الأساس الذي يبنى عليه؟
نقول: تشهد ابن مسعود بلا نزاع.
فإن قيل: من أين؟
قلنا: من جهة أنه مما اتفق على إخراجه أصحاب الكتب الستة كلهم، بل لا يكاد يوجد شيء من الكتب المصنفة في الفقه -أعني فقه الحديث- إلا ويذكر فيها حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في التشهد، هذا واحد.
الأمر الثاني: من جهة أن الصحابي ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من فقهاء الصحابة ومقدميهم.
الأمر الثالث: من جهة صيغة تعليم النبي ﷺ، فإنه ﷺ علمه ابن مسعود بنوعٍ من العناية، قال: «كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ»، وقوله: «كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ» يدل على أنَّ الأصل في الأدعية التعبد بألفاظها، ومن المعلوم أن السنة ليست واجبة النقل باللفظ وإنما تجوز بالمعنى، ولولا المعنى لهلك الناس، من ذا الذي يستطيع أن ينقل سنة النبي عليه الصلاة بلفظها؟! لكن الأدعية والأذكار نقول: الأصل فيها الالتزام باللفظ، منها قول ابن مسعود: «كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ»، ما يجوز رواية القرآن بالمعنى، فكذلك أيضًا هذه الأدعية، ولهذا فإن النبي ﷺ في حديث البراء بن عازب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا علمه الدعاء قبل النوم، قال: «فَرَدَّدْتُهَا علَى النبيِّ ﷺ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، قُلتُ: ورَسولِكَ، قالَ: لَا، ونَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ»[18]،
يعني: التزم بالنص في الدعاء؛ لأنَّ الأصل في الأدعية أنها تعبدية لله -عَزَّ وَجلَّ-، ولهذا حقيقة مما يفقد الدعاء قدره أن يدعو الإنسان الدعاء بالمعنى، وكثير من الناس ابتُلي بالتشقيق في الدعاء، الذي المبالغة فيه والسجع فيه والإكثار والتطويل، وربما أخذ ورقة فأخذ يقرأ! هذا كله خلاف سنة النبي ﷺ، وخلاف ما جاء في كتاب الله، اقرأ كتاب الله من الجلدة إلى الجلدة وانظر الأدعية التي دعا بها خير الخلق الذين هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تجد أنها أدعية مختصرة، دعاء الأبوين: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:23]، أدعية موسى ﷺ: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص:21]، ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص:22]، ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص:24]، أدعية يسيرة، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] ؛ هذا هو الأصل في الدعاء، الأصل في الدعاء اليسر وأن تجمع عليه قلبك، أما الدعاء الطويل الذي كأنما تقرأ أنت متنًا، أو كأنما تقرأ كتابًا فهذا ليس من سنة النبي ﷺ، من أشهر الأدعية ومن أطولها التي دعا بها النبي ﷺ، دعاء عمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، «اللَّهمَّ بعِلمِكَ الغيبَ وقدرتِكَ على الخلقِ»[19]، ومع ذلك فإنه ما يعد دعاءً طويلًا أيضًا، ومن أشهر الأدعية وأكثرها دعاء رفاعة، الزرقي الذي دعا به النبي ﷺ: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابضَ لِمَا بسطتَ...» ، ومع ذلك فإنه أيضًا يبقى دعاء يسيرًا، وهي أيضًا في الصحة دون غيرها، يعني أنزل مرتبة من الأدعية الثابتة عن النبي ﷺ التي كان النبي ﷺ يدعو بها، حتى أن النبي ﷺ لَمَّا علمنا سيد الاستغفار، فبحثنا عنه فوجدناه دعاء أيضًا يسيرًا، فدلَّ ذلك على أن الأصل في الدعاء بوجه عام هو اليسر والاختصار، وهذا المعنى هو المعنى الذي مَن لَقِنه وفهمه تيسر عليه الدعاء وفُتح عليه واغتنم منه ساعته،
كثير من الناس يقول الساعة آخر يوم الجمعة، وهي ساعة فضيلة وشريفة وهي ما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، وقد جاء عن بعض التابعين كسعيد بن جبير وطاووس وغيره أنهم كانوا إذا صلوا العصر جلس في مصلاه حتى تغرب الشمس، لكن هل هذا هو هدي النبي ﷺ؟
نقول: لا؛ ما هو هدي النبي ﷺ، بل إنَّ النبي ﷺ قال: «فِي يَومِ الجُمُعَةِ ساعَةٌ، لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ، وهو قائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إلَّا أعْطاهُ»[21]، فمجرد السؤال اليسير والدعاء اليسير يكفي في هذه الساعة، ويحقق الإنسان به مقصده، نبحث عن سنة النبي عليه الصلاة على مدار عشر سنوات في المدينة هل ذهب النبي ﷺ إلى المسجد قبل أن تغرب الشمس بساعة أو ساعة وربع فجلس فأخذ يدعو؟
نقول: لا، ليس موجودًا، والصحابة أغلبهم ما ينقل عنهم ذلك، وإنما نُقل عن فاطمة الزهراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها كانت إذا قاربت الشمس أن تغيب يوم الجمعة دعت الله -عَزَّ وَجلَّ-، وهذا شيء يسير، يعني: ربما يدعو الإنسان أحيانًا خمس دقائق أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك، وابن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو الذي روى حديث دعاء الصائم عند فطره، كان إذا دعاه في هذا الموطن قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أنْ تَغْفِرَ لِي»[22].
وكذلك الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، جاء عن بعض السلف -رحمهم الله- أنه كان يقول: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".
أدعية يسيرة يستحضرها يجمع عليها قلبه ربما يفتح الله -عَزَّ وَجلَّ- عليه فيها، ما يُنهى الإنسان البتة عن أن يدعو أحيانًا، لكن يقال: لا يكون هذا مما يؤدي إلى انقطاع الإنسان، فإن بعض الناس إذا علم أن الدعاء يحتاج إلى أنه يرفع يديه ثم يدعو دعاء طويلًا خاصة بين الأذان والإقامة شقَّ عليه ذلك، نقول: لا، يكفي أن ترفع أصبعك فتدعو بدعوة واحدة من الدعوات التي كان يدعو بها أنبياء الله -عَزَّ وَجلَّ-، فتوافق من الله -عَزَّ وَجلَّ- موضع إجابة، قد كان هذا هو هدي النبي ﷺ في دعواته، كانت دعواته يسيرات مباركات، أطول ما دعا النبي ﷺ في موطن من المواطن في يوم عرفة، ولم يخله الصحابة من أن ينقلوه، موطن واحد وموضع واحد نقلوه، ونقلوا دعاءه عند الجمرات، وإطالته ﷺ، ونقلوا إطالته ﷺ عند الصفا وعند المروة، لكن ما نقلوا لنا إطالته ﷺ في الدعاء عند الفطر من الصيام، ولا بين الأذان والإقامة، ولا آخر ساعة من يوم الجمعة، ولا حتى بين أن يقوم الإمام حتى تقضى الصلاة، كلها ما نقلوها الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-؛ فدلَّ ذلك -والله أعلم- على أنها سويعات لطيفات ودعوات يسيرات يتوجَّه بها الإنسان إلى ربه -عَزَّ وَجلَّ.
فإذا كان كذلك؛ فإن ما يعين على أداء هذا المعنى الالتزام بالنَّص، والالتزام بما جاء في كتاب الله وفي سنة النبي ﷺ، لن تدعو الله -عَزَّ وَجلَّ- بأعظم مما دعا به رسول الله ﷺ، لا في خير الدنيا ولا في خير الآخرة مهما فُتح عليك، إن ظننت أنه سيفتح عليك بما لم يفتح به على محمد ﷺ فقد أخطأت، دعوات النبي ﷺ هي الدَّعوات التي يعلم الإنسان أنه ليس فيها تعدٍّ، وأنها هي التي فيها حسن الأدب مع الله -عز وجل- وحسن التَّأدُّب بين يدي الله -عز وجل- ورعاية الحكمة، أحيانًا قد يدعو الإنسان دعوات ويطلب لنفسه من الدنيا الشيء العظيم، ثم لا يستشعر أن هذا ربما لو سيق إليه لأهلكه، لكن لو أنه دعا بمثل دعوات النبي ﷺ التي فيها الجمع بين خير الدنيا وخير الآخرة لكان خيرًا له.
إذًا؛ هذا المعنى كله مما يقرره حديث ابن مسعود -رضي الله عنه.
قوله: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ»، ثم ذكر التشهد، هذا هو التشهد المحفوظ عن النبي ﷺ وهو أصح التشهدات -كما ذكرنا- وهو التشهد الذي عمل به الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- ورخَّص في غيره.
ونقول: إن هذا التشهد: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» هو القدر الواجب في التشهد، سواء كان هذا في التشهد الأول أو في التشهد الأخير على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا علمه لابن مسعود قال: «إذا قَعَدَ أحدكم فليقل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ...»؛ دلَّ على أنَّ هذا هو الواجب، سواء كان هذا في التشهد الأول أو التشهد الأخير.
وبناء عليه؛ فإنَّ الزيادة من الصلاة على النبي ﷺ والتبريك عليه على الصحيح من أقوال أهل العلم أنها مسنونة وليست بواجبة، فضلًا عن أن تكون ركنًا كما يقوله بعض العلماء، ولهذا لم يقل أحد من العلماء بوجوبها قبل الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ.
وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- من حديث ابن إسحاق، وفيه أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَا صَلَّى الله عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْبَبْنَا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَسْأَلْهُ، فَقَالَ: إِذَا أَنْتُمْ صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فَقُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ»[23]، فقالوا: إن قوله: «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَ» يدل على وجوب الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة.
ونقول: إن هذه اللفظة لفظة مُنكَرَة ما تصح ولا تثبت، وقد جاء الحديث من دونها في البخاري ومسلم، وهما مقدمان على غيرهما. هذا أمر.
الأمر الآخر: أنه لا يدل على الوجوب، وإنما قد يدل على السُّنية، فتكون من باب الأذكار المسنونة في الصلاة.
فإذًا نقول: إنَّ التشهد هو الواجب، وإن ما زاد عليه ليس بواجب، سواء كان ما زاد عليه من التعوذات، أو من الصلاة على النبي ﷺ.
قال: «إذا قَعَدَ أحدكم فليقل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ...»، وهذا يدل على أن كل قعود في الصلاة -ليس القعود الذي بين السجدتين- تقال فيه التحيات، ولهذا جاء في حديث العباس -وإن كان فيه ضعف- لَمَّا سُئل عن الصلاة قال: الصَّلاةُ مثنى مثنى وتشهَّدُ في كلِّ ركعتينِ»[24]، فمثنى: يصلي الإنسان ركعتين ثم يتشهد ثم يصلي ركعتين كما هو الحال في صلاة الظهر، حتى لو صلَّى أربعًا متنفلًا يقال له: أن تجلس فتتشهد تشهدين في الصلاة.
قال: «فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، لهذا الحديث مناسبة، وهي أن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد كانوا يقولون إذا قعدوا: "السلام على الله من عباده، السلام على فلان وعلى فلان" ويسمون من شاؤوا، فقال النبي ﷺ: «إنَّ اللهَ هو السَّلامُ فإذا جلَس أحدُكم في الصَّلاةِ فليكُنْ مِن أوَّلِ قولِه: التَّحيَّاتُ للهِ والصَّلواتُ والطَّيِّباتُ السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه السَّلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصَّالحينَ - فإذا قالها أصابت كلَّ عبدٍ صالحٍ»، وفي هذا معنى جليل، وهو: أنه لا يشرع للإنسان أن يسمي في صلاته، قد جاءني بالدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان يقول: "إني لاسمي في صلاتي ثلاثمائة من إخواني"، فيقال: قول النبي ﷺ أبلغ، أي البحث عن الدعاء العام، والدعاء الشامل الذي يشمل عموم المسلمين، ولهذا فإن النبي ﷺ ما كان يخص أحدًا من أصحابه بالدعاء إلا المستضعفين من المؤمنين وفي فترة يسيرة، لَمَّا دعا: «اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَةَ بنَ هِشامٍ، اللَّهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ»[25]، فسماهم بأسمائهم، وأمَّا من سوى ذلك؛ فإنه لم يُعهد أن النبي ﷺ كان يصلي فإذا دعا دعا لفلان وفلان وفلان من الناس، وهكذا لَمَّا كان الصحابة يسلِّمون على من أرادوا من أصحابهم، قال النبي ﷺ: «فَإِذَا جَلَسَ أحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، والصَّلَوَاتُ، والطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فإنَّه إذَا قالَ ذلكَ أصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأرْضِ»، فعلمهم النبي ﷺ ما يسمى عند العلماء -رحمهم الله- بجوامع الدعاء.
وجوامع الدعاء: أن يدعو الإنسان دعاء عامًّا، وإن أراد الإنسان أن يخصَّ فأولى مَن يُخص الوالدين، كما خصهم الله -عَزَّ وَجلَّ- بدعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارً﴾ [نوح:28]، ما سمى أصحابه وإنما عمَّ، فهذا هو الأصل في الدعاء بوجه عام، وهو ن يكون الدعاء دعاء عامًّا.
قال: «وَفِيهِ: فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» هذا من أعظم مواطن الدعاء التي يغفل عنها كثير من الناس، وهو الدعاء بعد الفراغ من التشهد.
وقوله: «فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» مما استدل به بعض العلماء على عدم وجوب الصلاة على النبي ﷺ؛ لأنَّ هذا عام في التشهد، وفي بعض الروايات أنه قال: «فإذا فرغ أحدكم فليقم إن شاء»؛ فدل على ذلك على فراغ الصلاة وما عاد بقي إلا التسليم، وعلى أنَّ الصلاة على النبي ﷺ ليست بواجبة.
فإذًا من المواطن التي يُلتمَس فيها الدعاء وهي من المواطن الجليلة: الدعاء بعد الفراغ من التشهد سواء كان هذا من الأول أو من التشهد الآخر، لكنه في التشهد الآخر آكد؛ لأنَّ النبي ﷺ قد علَّم جماعة من أصحابه رضوان الله -عَزَّ وَجلَّ- عليهم الدعاء في هذا الموضع، مثل التَّعوذات «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهِ مِن أَرْبَعٍ: مِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»[26]، علمهم النبي ﷺ هذه التعوذات المباركات بعد هذا التشهد.
ومما يقال في التشهد الأول: إن التشهد الأول النبي ﷺ قد أمرَ فيه بالتَّخفيف، فدلَّ ذلك على أنه إذا تخير من الدعاء ما شاء أنَّ الدعاء الذي يكون بعده يكون دعاء يسيرًا، يقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخر حسنة وقنا عذاب النار"، المهم أن لا يطيل، لأنه إذا أطالَ قد خالفَ هدي النبي ﷺ في تقصير التشهد، بخلاف التشهد الآخر، فإن التشهد الآخر قد كان النبي ﷺ يطيله حتى يكون قريبًا من القيام، يكون مكان للدعاء، والحقيقة أنه من أعظم مواطن الدعاء، لأنه يكون بعد الفراغ من الثناء على الله -عَزَّ وَجلَّ- والصلاة على رسوله ﷺ وقبل السَّلام وانقضاء الصلاة، فهذا الموطن آكد من الموطن الذي يصنعه بعض الناس إذا فرغ وسلم أخذ يرفع يديه بالدعاء، نقول: قد انقضى الآن موطن الدعاء، وإنما هو الآن موطن ذكر واستغفار، كما هو هدي النبي ﷺ.
لعلنا نكتفي بذلك.
{أحسن الله إليكم.
شكر الله لكم صاحب الفضيلة، والشكر موصول لكم أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله -عَزَّ وَجلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين}.
----------------------------
[1] أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411).
[2] أخرجه الترمذي (3790) واللفظ له، والنسائي في (السنن الكبرى) (8242).
[3] أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة والطبراني وهو صحيح.
[4] تخريج شرح السنة (3/381).
[5] أخرجه البخاري (6113)، ومسلم (781).
[6] صحيح مسلم (516).
[7] صحيح البخاري (361).
[8] أخرجه النسائي (3939)، وأحمد (14069).
[9] أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189).
[10] أخرجه البخاري (5918)، ومسلم (1190).
[11] أخرجه ابن ماجه (289)، والطبراني (8/262) (7876) باختلاف يسير.
[12] صحيح البخاري (889)، صحيح مسلم (255).
[13] أخرجه أبو داود (58)، وأحمد (3541) واللفظ له.
[14] أخرجه البخاري (902)، ومسلم (847).
[15] صحيح أبي داود (783).
[16] صحيح مسلم (403).
[17] سنن أبي داود (971).
[18] أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).
[19] صحيح النسائي (1304).
[20] صحيح الأدب المفرد (538).
[21] صحيح البخاري (6400).
[22] أخرجه ابن ماجه (1/557) [برقم (1753)]، وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار، انظر: شرح الأذكار (4/342).
[23] رواه أحمد (17072)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (672).
[24] أخرجه الترمذي (385)، وأحمد (1799)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (615).
[25] صحيح البخاري (6940)، صحيح مسلم (675).
[26] صحيح مسلم (588).