الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44890 18
الدرس الأول

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام من برنامج جادة المتعلم، يصحبكم فيه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا ومرحبا، حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{معنا في هذا الدرس كتاب عمدة الأحكام للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي-رَحِمَهُ اللهُ تعالى- المتوفى عام ستمائة من الهجرة.
وسنشرع بإذن الله مع شيخنا في شرح هذا الكتاب، بداية لو تحدثونا يا شيخنا الكريم عن هذا الكتاب، ومنهج المؤلف، وما مكانته بين الكتب؟، تفضل فضيلة الشيخ}.
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى أله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد،
فإنَّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو نوع من أنواع التأليف الذي شرع فيها بعض أهل العلم -رحمهم الله- بعد انتهاء العصور الثلاثة المفضلة من بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان التأليف أول الأمر تأليفًا مُسندًا كما كان حال صحيح البخاري، وكما كان حال صحيح مسلم، هذه كُلها مؤلفات مُسندة، أي: تكون بالأسانيد، واستمر على هذا حال السلف -رضوان الله عزَّ وجلَّ عليهم- حتى ثقلت الأساليب وطالت، وحفظ العلم في الكتب، فلمَّا حُفِظَ العلم في الكتب اتجه السلف -رحمهم الله- إلى تجريد الكتب بوجه عام عن الأسانيد، ثم تفننوا في ذلك، فمنهم من يُجردها من الأسانيد ويخرجها مُسندة، وأعني بالمسندة أنها مُصنفة على الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وهذا قليل، ومنهم من كان يجردها عن الأسانيد ويخرجها مُرتبة على أحاديث الأحكام، وقد صنع ذلك الإمام عبد الحق الإشبيلي، فكان هو ممن فتح هذا الباب للعلماء بوجه عام، والإمام عبد الحق الإشبيلي في أحكامه سواء الكبرى أو الوسطى أو الصغرى، ربما يذكرها أحيانًا بأسانيدها وربما يجردها، حتى جاء الإمام عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، وهذا الإمام إمام جليل حافظ للحديث، رفيع المقام والمنزلة عند أهل العلم في العلم بالحديث، حتى إنه لم يكن في عصره من العلماء من يجُاريه في علم الحديث، فإنه كان أعلم أهل زمانه بسنة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فهو حافظ الحنابلة بلا مُنازع، وهو أيضًا حافظ الأمة بلا مُنازع، ولهذا لَمَّا وصفه الإمام الذهبي -رَحِمَهُ اللهُ- وصفه بأنه حافظ زمانه، وأنه كان فقيه الحفاظ -رَحِمَهُ اللهُ- فعمد إلى هذا الكتاب الذي هو كتاب عمدة الأحكام، فجرَّده من الأسانيد كحال من قبله، وَقَرَّبَه إلى طلبة العلم، وأراد بذلك أن يجمع أصحَّ ما ثبت عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنَّ الأمة بوجه عام مُتفقة على أنَّ أَصَحَّ ما في بُطون الكتب هو ما اتفق عليه الشيخان -الإمام البخاري ومسلم- وهذا قد حُكِيَ الإجماع عليه من طوائف من العلماء، أنَّ كل حديث خرجه الإمام البخاري ومسلم فقد بلغ الغاية في الصحة، ولهذا فإنَّ عامَّة الأحاديث التي قد تُنتَقد في البخاري أو في مسلم ليس منها شيء يُنتقد مما اتفق عليه الشيخان فهو في المنزلة العلية، ولهذا إذا جاءوا يُصنفون منازل الحديث قالوا: أعلاها منزلة هو ما اتفق عليه الإمام البخاري ومسلم. فهذا أمر.
الإمام عبد الغني المقدسي-رَحِمَهُ اللهُ- عَمَدَ إلى ما اتفق عليه الشيخان، فجعله شرطا لهذا الكتاب.
أمر آخر، أنه اختصر ممَّا أخرجه الشيخان على أحاديث الأحكام، وتجنب ما سواها من أحاديث الفضائل، أو ما قد تدل على الأحكام بوجه ليس بظاهر، مثل: قصة حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الرجل الذي من بني إسرائيل استسلف من رجلٍ ألف دينار، هذا الحديث يدخل في أبواب من أبواب الفقه، ولكنه ليس أصلاً فيها، بمعنى أنه لا يُستدل بهذا الحديث عليها مباشرة، مع أنَّ الإمام البخاري-رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا فرقه في صحيحه استدل به في سبعة مواضع أو ثمانية مواضع أغلبها أحكام فقهية، لكن هذا يُعد عند العلماء من دقائق الاستنباط أو من خفايا الاستنباط. أمَّا الإمام عبد الغني المقدسي فلا. حيث ذهب إلى أحد الأحكام الصريحة التي تتابع الأئمة على ذكرها في كتب الفقه فأدرجها في كتابه، ثم إنه -رَحِمَهُ اللهُ- عَمَدَ أيضًا إلى أصول هذه الأحاديث، ولأجل ذلك فإنه يقال: إنَّ أصول الأحكام بوجه عام قد أخرجها الإمام البخاري ومسلم.
وإذا قلنا: أصول الأحكام فلا نريد بذلك الأحكام التي هي الأركان أو الأحكام التي هي الواجبات، بل إنَّ هذا يشمل حتى السنن، يقول الإنسان: كيف سنة وهو أصل؟ نقول: نعم دعاء الاستفتاح في الصلاة ألا يعد أصلا بوجه عام سواء كان واجبًا أو ركنًا أو سنة؟ نعم يعد أصلاً، وهذا الأصل الإمام البخاري ومسلم لابد أن يخرجه في كل أصل من أصول الشريعة شيئا يدل عليه، فاذا رأيت ما تظنه أصلا من أصول الشريعة لم يُخَرِّج فيه الإمام البخاري ولا مسلم فاعلم أنَّ هذا ليس بأصل متفق عليه.
إذا أتينا مثلا إلى الصلاة، سنجد أنَّ من الأمور المقررة في الصلاة الاستفتاح، الإمام البخاري ومسلم أخرجا فيه.
ومن الأصول المقررة في الصلاة قراءة الفاتحة، ولذا نجد أنَّ الإمام البخاري ومسلم قد أخرجا فيه.
ومن الأصول المقررة في الصلاة قراءة ما زاد على قراءة الفاتحة وهي السورة، ونجد أن الإمام البخاري ومسلم أخرجا فيه.
من أصول الصلاة الذكر والدعاء مطلقًا في الركوع وفي السجود، نجد أنَّ الإمام البخاري ومسلم قد أخرجا فيه.
ننتقل إلى مرحلة أخرى، ونقول: من أصول الصلاة أو من أبواب الصلاة صلاة الوتر، قد أخرج فيها الإمام البخاري.
من أصول الصلاة صلاة الضحى، قد أخرج فيها الإمام البخاري ومسلم، وهكذا.
فهذا هو المراد من أن الإمام البخاري ومسلم قد استوعبا أصول الدين بوجه عام ولم يتركا منه شيئًا.
ثُمَّ جاء الإمام عبد الغني المقدسي فجمعها في هذا الكتاب، الذي هو كتاب عمدة الأحكام، فكان هذا الكتاب بالنسبة للسنة أصلا لا يُستغنى عنه البتة، بمعنى أنَّ الإنسان لو أراد أن يجمع أُصول السنة التي يُستند عليها في الأحكام سيجدها مختصرة في هذا الكتاب، وذلك حتى لا يُطيل البحث وربما عجز في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، جاء الإمام عبد الغني -رَحِمَهُ اللهُ- فجمعها في هذا الكتاب الحسن الماتع الذي هو بين أيدينا، وهو ما بين أربعمائة وثلاثين حديثًا أو ما يُقاربها حسب اختلاف كل عد، جمعها الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الكتاب ثم بوبها على تبويبات الفقهاء رحمهم الله، فلم يلتزم بتبويب البخاري ولا بتوبيب مسلم -رَحِمَهُما اللهُ- وإنما بوبها بتبويب ارتضاه هو، وهو أقرب ما يكون إلى تبويبات الحنابلة والشافعية، فهذا هو الكتاب بوجه عام، وهذا هو منهجه باختصار، وإلا فالكلام حقيقة على عمدة الأحكام وعلى أثر عمدة الأحكام فيمن بعده كلام يطول؛ لأنَّ هذا الكتاب لَمَّا صنفه الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ- نستطيع أن نقول: إنه أسس لمرحلة بعد هذا الكتاب، مرحلة اعتمدت على مَا صَحَّ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأحاديث، ومرحلة جعلت كثيرًا من الأئمة مهما تقدم بهم العلم يرون أنَّ هذا الكتاب سيكون مرجعًا لهم، ولهذا كان العلماء من حين ما يبتدئون، يبتدئون بتحفيظ الصغار لهذا الكتاب الذي هو كتاب عمدة الأحكام.
وتعددت شروحه ومن أوسعها كتاب الإعلام لابن الملقن -رَحِمَهُ اللهُ- وهو مطبوع في عدة مجلدات، وهذا من أوسع شروحه.
ومن شروحه الحسنة شرح ابن دقيق العيد على هذا الكتاب، فهذه جملة أو هذا كلام يسير عن كتاب عمدة الأحكام يُمَهَّدُ له حتى يتيقظ طالب العلم بما سنعرضه -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- في هذا الكتاب من أحكام، وبالله التوفيق.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ وبارك الله فيكم.
نبدأ في قراءة الكتاب}.
نعم أسأل الله يبارك فيك.
{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمسلمين.
قال الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي-رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (الحَمْدُ لِلَّهِ المَلِكِ الجَبَّارِ، الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ المُصْطَفَى المُخْتَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيَارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ بَعْضَ إِخْوَانِي سَأَلَنِي اخْتِصَارَ جُمْلَةٍ فِي أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ، مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الإِمَامَانِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-، فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ رَجَاءَ المَنْفَعَةِ بِهِ.
وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهِ، وَمَنْ كَتَبَهُ، أَوْ سَمِعَهُ، أَوْ حَفِظَهُ، أَوْ نَظَرَ فِيهِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، مُوجِباً لِلْفَوْزِ لَدَيْهِ؛ فَإِنَّهُ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ.

كِتَابُ الطَّهَارَةِ

١ - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
٢ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»
٣ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».
٤ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلَاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ».
وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ».
٥ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ».
٦ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْع».
وَلِمُسْلِمٍ: «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ».
٧ - عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: «أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثاً، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
٨ - عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنه عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثاً بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ».
التَّوْرُ: شِبْهُ الطَّسْتِ.
٩ - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ».
١٠ - عَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوءِ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ»)
)}.
الحديث الأول، وهو حديث عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهذا الحديث فيه معانٍ، أولها أنَّ هذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد جعله الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- يدخل في سبعينَ بابًا من أبواب الشريعة، وقد عَدَّه جماعة من العلماء -رحمهم الله-  كالإمام الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد وأبو داود وغيرهم ثُلُثَ الدين، بمعنى أنَّ ثُلُثَ أحكام الدين تدور على هذا الحديث، وقد عَدَّه بعضهم نصف الدين، قالوا لإنَّ الدين بوجه عام ينقسم إلى قسمين: إلى إخلاص وإلى متابعة، فإنه ليس من عمل من الأعمال إلا ويشترط له هذين الشرطين جميعًا، وأولهما الإخلاص، وقد جاء فيه هذا الحديث، والآخر منهم المتابعة، قد جاء فيه حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم، «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ»[1]، هذا أحد المعاني.
والمعنى الآخر أنَّ هذا الحديث أصلٌ في قبول خبر الأحاد، ونعني بأحاديث الأحاد ما لم يبلغ حَدَّ التواتر، والأصل بوجه عام أنَّ الأخبار سواء كانت آحادًا أو مُتواترة كانت مقبولة عند السلف، وإنَّما يتوقف قبولها على صدق وعدالة ناقليها، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: 6]، فقد أمر الله غز وجل بقبول الأخبار بعد التبين، والنبأ هو الخبر، وهذا النبأ والخبر يصدق على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه فإنَّ كل الأحاديث سواء كانت متواترة أو أحادًا متى ما يحت أسانيدُها وجب قبولها، ومن ثمَّ فإنه لم يعرض للأمة التفريق بين المتواتر والأحاد إلا لَمَّا دَخَل في الأمة عِلم المنطق والكلام، وأصبحوا يصطدمون بأحاديث في الصفات لا توافق مذهبهم، ففرقوا بين المتواتر والأحاد،
وقالوا: لا نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه هكذا تلقاءً، ولو رددناه لتغيرت نفوس الناس والعامة علينا وقالوا: كيف تردون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذن نفرق بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجعلها على قسمين، حديث متواتر ونشترط فيه شروطًا لا تكاد تتحقق في حديث، فاشترطوا أن يرويه جمعٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب في العادة في كل طبقة من طبقات الإسناد، وأن يُسندوه إلى شيء محسوس، وهذا في الحقيقة ممَّا يتعذر، حتى إنَّ ما يذكره بعض العلماء من أنَّ حديث «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[2] حديث متواتر بهذا المعنى ما يصح، ولهذا اعترضوا، وبناءً عليه قالوا: إنَّ الأحاديث التي تأتينا من النبي صلى الله عليه وسلم نعرضها على مرحلتين، فالأولى منها هل هي متواترة أو لا؟ فإن كانت من أحاديث الأحاد، فأحاديث الأحاد ظنية، والظنَّي لا يجوز أن نتعبد لله عزَّ وجلَّ به!
وهذا مما لا شكَّ فيه خلاف لمنهج الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولهذا جعل الإمام البخاري رحمه الله كتابًا كاملاً في صحيحه باسم "كتاب أخبار الأحاد" حتى يُبين أنَّ منهج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم قبول أخبار الأحاد واعتماد العمل بها إذا صَحَّتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث قد أجمعت الأمة على قبوله مع أنه مَسوق بإسناد أحاد، فإنَّ هذا الحديث يسمى عند علماء الحديث بالحديث الغريب، لماذا؟ لأنه مروي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة أبو وقاص عن عمر بن الخطاب، ولم يرويه عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رجل إلا عمر، ولم يرويه عن عمر إلا علقمة ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم ولا عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد، ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد، فهو حديث مما تحققت فيه معنى الأحاد، ومع ذلك فإنَّ الأمة قد أجمعت على قبول هذا الحديث وعلى العمل به، فدلَّ على أنَّ الأصل هو قبول أحاديث وأخبار الأحاد متى ما صحت عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنها تفيد العلم، أي: تفيد العلم متى ما نقلت بأساليب صحيحة.
ولا نمانع أن نقول: إنَّ كل ما في "عمدة الأحكام" مما يفيد العلم اليقيني؛ لأنها كلها أخبار متفق عليها ومجمع عليها وعلى قبولها بين الأمة. هذا أصل ثاني.
والأصل الثالث: أنَّ قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في هذا الحديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» يفيد أن العمل لا يكون مقبولا إلا إذا اقترنت به النية، ويفيد أيضًا فائدة أخرى: أنَّ الأعمال تتفاضل بالنيات، فكما أنَّ العمل لا يُقبل ألا بنية، فإنَّ النية أيضًا منازل بعضها فوق بعض، حتى لو كانت النية كلها خالصة، لكن خلوص النية أيضًا كالإيمان، فإنَّ الإنسان قد يكون مُؤمنًا وبجواره رجل مؤمن لكن إيمانهما يتفاضل تفاضلا عظيمًا، فكذلك أيضًا النيات تتفاضل تفاضلاً عظيمًا، ربما اقترن بنية الإنسان من صدق اللجأ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- والإخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ- وإخلاص العمل بتمامه لله -عَزَّ وَجَلَّ- ما لم يقع بقلبِ من بجواره، ولهذا إنما تفاضل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بهذا المعنى، فهم ما تفاضلوا بكثرة الأعمال وإنما تفاضلوا بحسن النيات.
وقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في هذا الحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
يشمل الأعمال سواء كانت أعمالا عبادية أو أعمالاً عادية، والأعمال العبادية هي التي تشترط فيها النية ابتداءً كالطهور والصلاة والزكاة، هذه كلها لو أنَّ الإنسان عملها بلا نية كانت هباءً منثورًا.
والأعمال العادية هي التي تقع مجزئة حتى وإن لم تقترن بها النية، مثل:
نفقة الإنسان على أهله، فلو أنَّ إنسانًا أنفق على أهله وقعت هذه النفقة على الإنسان مجزئة، ويكون قد أدى الواجب؛ لأنَّ هذه النفقة واجبة عليه، لكنه لا يُؤجرُ عند الله عز وجل إلا إذا اقترنت به النية.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: "رب عمل قليل تكفره النية".
العمل قد يكون يسيرًا ولكن يقترن به من حسن النية وسلامة القصد ما يجعله كبيرًا عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، "رب عمل كبير تقلله النية" يكون مقبولاً لكنه يكون قليلاً، لماذا؟ لأنَّ نية صاحبه قد شابها ما شابها، فهذا أصل ينبغي أن يُنظر إليه وأن يُلتفت إليه.
قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في المعنى الأخر: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» يُفيد أيضًا أنَّ العباد يتفاضلون بالنيات، كما أنَّ الطاعات تتفاضل بالنيات، فتكون عبادة فلان أو صلاته أعظم قدرًا من صلاة من بجواره مع أنَّ كليهما مُصَلٍّ لله -عَزَّ وَجَلَّ- ومخلص لله -عَزَّ وَجَلَّ- لكن بينهما في الإخلاص منازل، فكذلك أيضًا «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» إنما يتفاضل بالنيات، فيرتفع قَدْرَ بعضهما عن بعض، ولهذا رُوي في بعض الآثار كما رواه ابن الديلمي ولا يصح مرفوعا إلى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وإنما الأصح فيه أنه موقوف أنه قال: «نِيَّةُ المؤمنِ خيرٌ مِنْ عَمَلِه»[3]، معنى ذلك أنَّ الإنسان قد يقترن بقلبه من النية الصادقة لله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يَقصر عنه عمله؛ فتبلِّغه نيته المنزلة الرفيعة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا لَمَّا غزا النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- "غزوة العسرة" أي: "غزوة تبوك" وقد مكث بالصحابة أيامًا متطاولة في تبوك ينتظر الروم، ثم رجع النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بهم وقد أتعبهم السفر، ومع ذلك فإنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال لهم معنى جليلا، قال: «إنَّ بالمدينةِ لَرِجالًا ما سِرتُمْ مَسيرًا، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلاَّ كانُوا معكُم، حبَسهُمُ العُذْرُ»[4]، وهم الذين قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ [التوبة:92]، فكان ما اقترن بقلوبهم من النية مُغنٍ لهم عن العمل؛ لأنهم قد عجزوا عنه.
وفي المقابل أعمال المنافقين كلها هباء، يعملون ويتقربون لكن نياتهم لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا العمل بوجه عام على ثلاث منازل:
إمَّا أن تقترن به النية الخالصة لله -عَزَّ وَجَلَّ- فهذا عمل مقبول، وإمَّا أن يتجرد العمل عن النية، فهذا العمل إن كان من العبادات أو من الأمور التي يُتقرب فيها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عمل مردود، كما لو صلى ولكنه ما نوى، أو توضأ ولكنه ما نوى وإنما كان ينوي التبرد مثلا، وهذا لا يكون وضوءًا مجزئا، وهذا هو معنى قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أي: إنما تخرج العادة عن كونها عادة إلى كونها عبادة بالنية، فتتوضأ أنت ويتوضأ من بجوارك من المجوس والهندوس وربما قلدك في وضوئه، فيكون وضوءك لأنك قد أقرنت به نية وضوء، وخلاه هو عن النية، فاصبح وضوءه مردودًا.
وحتى المسلم لو توضأ وضوءًا يتبرد به، واغتسل غسل نظافة ولم يقصد به غسل الطهارة؛ فانه لا يكون وضوءا مجزئًا، وهذا قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
الأمر الثالث: أن تقترن به نية لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ، وهذا هو الكارثة وهو الشرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ، أن كان مما يقصد به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ في أمور العبادات تجده يصلي لكنه ما نوى الله، يصلي صلاة يتقرب فيها في ظاهره لكنه إنما كان ينوي بها الرياء، فهذا بلا شك أنه هو الشرك الذي سماه النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الشرك الخفي، الذي هو الرياء.
وقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» هذا من النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بيان لقوله: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، فالهجرة عمل جليل من الأعمال الفاضلة التي يُتقرب بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة على من عجز عن إظهار دينه في بلد الكفر، فيجب عليه أن يُهاجر إلى بلد إسلام يقيم فيه دينه، وهذا عمل جليل ومن الأعمال الشاقة، بل من أشق الأعمال، ولهذا قرنه الله -عَزَّ وَجَلَّ- كثيرًا بالجهاد، وقرنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجهاد؛ لأنه عمل شاق، وعمل فيه مفارقة الأهل والأوطان إلى ديار أخرى فيها غربة، ومع ذلك فإنه لابد فيه أيضًا من النية، فمن كانت نيته إلى الله ورسوله فإنَّ عمله متقبل، ولهذا قال: «إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فأثنى عليه بهجرته إلى الله ورسوله، «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَ» مع أنه في ظاهره عمل صالح، لكنه لم يقصد به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ.
«أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أشار إليه بالضمير تحقيرًا له، ولم يقل: فهجرته إلى الدنيا التي يصيبها أو المرأة التي يتزوجها، وإنما قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» إشارة إلى أنها من عرض الدنيا وحطام الدنيا الذي لا يذكر. فهذا أيضًا معنى ينبغي أن يلتفت فيه.
ومن الأمور التي ينبغي أيضًا أن يشار إليها في هذا الحديث، وهي من معاني هذا الحديث الجليل، أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وفي لفظ «بالنية» والنية هي القصد، ومحلها القلب، يعني لا يفصح عنها باللسان، والإفصاح باللسان هو تعبير فقط عمَّا في القلب، وإلا فهو ليس بنية، فالنية مكانها القلب.
قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في هذا الحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ذكرها بالجمع، وفي لفظ «بالنية»، قال العلماء: فيه دلالة على جواز تعدد النية في العمل الصالح الوحد الذي يتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وما نقصد بذلك أن ينوي العمل لله ولغير الله، ولكن إذا ذهب إلى المسجد نوى بذهابه أن يقيم الصلاة التي أمره الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها، ونوى بذهابه أن يكَثِّرَ جماعة المسلمين، ونوى بذهابه أن يُسلم على من يلقاه من المسلمين، فهذه كلها نيات تجتمع للمؤمن وللعبد الصالح، ولهذا كان عمل العلماء بالله -عَزَّ وَجَلَّ- عملهم النوايا، ينوون فيكفر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم الأعمال، ومما يغفل عنه كثير من الناس أنه ربما انفق النفقات العظيمة على أهله وعلى قرابته، ولكنه يغفل فيها عن النية الصادقة مع أنه قد ثبت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نفقَةً يحتَسبُها فَهِي لَهُ صدقَةٌ»[5]، فاشترط النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في قبول العمل الصالح أو في قبول هذا العمل بوجه عام أن يكون محتسبًا له لله -عَزَّ وَجَلَّ، فهذا مما ينبغي أن يُلحظ أن الأعمال العادية حتى ذهاب الإنسان إلى عمله أو ذهابه إلى أصدقائه أو اجتماعاته بالناس، ينبغي له أن يستصحب فيها النية الصالحة حتى تكون من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-. ولهذا أعلم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بالحلال والحرام معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي قال فيه عمر: "من أراد القرآن فليذهب إلى أُبي بن كعب، ومن أراد المال فليأتني، ومن أراد العلم بالحلال والحرام فليذهب إلى معاذ"، معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هذا الصحابي الجليل لَمَّا قال معاذ يا أبا موسى كيف تقرأ القرآن؟ قال: "أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا"[6]، يعني: أقرأه قراءة كثيرة، قال: إني لأقرأه "قَائِمًا وقَاعِدًا وعلَى رَاحِلَتِي". فقال له معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أمَّا أنَا فأنَامُ وأَقُومُ، فأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي"
كم من الناس ينام الساعات الطويلة -سبع ساعات- فلا تسجل عليه لا في رصيده سيئة ولا في رصيده حسنة، ولكنه بالنية التي قال فيها النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أو «بالنية»، ربما يجعل هذا النوم نومًا صالحًا يتقرب فيه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بنيته. إذا احتسبها لله -عَزَّ وَجَلَّ- احتسبها حتى يقوم نشيطًا إلى طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يقوم نشيطَ العبادة، ويقوم نشيطًا إلى العمل الشرعي والعمل العادي الذي يتكسب منه رزقه ورزق عياله، كما قال سفيان الثوري -رَحِمَهُ اللهُ: "عليك بعمل الأبطال"، ما هو عمل الأبطال؟ قال: "كسب الحلال والإنفاق على العيال" هذا هو عمل الأبطال لكن ينبغي أن يقترن به النية الصالحة، ولهذا لَمَّا سُئِل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عن أعظم النفقة، قال: «دينارٌ أنفقْتَهُ في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقَبَةٍ، و دينارٌ تصدقْتَ بِهِ على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ، أعظمُهما أجرًا الذي أنفقْتَهُ على أهلِكَ»[7]، فأعظم ما يكون من النفقة بالدرهم والدينار على الأهل، ولكن متى؟ إذا احتسبها الإنسان، وإنما يغفل الناس عن احتساب هذه الأعمال؛ لأنها قد جرت بها عاداتهم، وإلا فإنها ربما فاقت النفقة في وجوه الخير، والنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «دينارٌ أنفقْتَهُ في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقَبَةٍ، ودينارٌ تصدقْتَ بِهِ على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ، أعظمُهما أجرًا الذي أنفقْتَهُ على أهلِكَ»، ولَمَّا قال له رجل: يا رسول الله معي دينار، قال: «أَنْفِقْه عَلَى نَفْسِك» فنفقتك أيضًا على نفسك مما ينبغي أن يحتسب فيها العمل لله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا معنى.
ومن أجل ذلك فإنَّ هذا الحديث يدخل في كل أبواب الدين، فإذا أتى الإنسان إلى باب البيوع يجعل بيعه وشراءه مما يريد به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، واذا استصحب هذا المعنى كَفَّ بذلك عن كثير من الحرام، بل انقطع الحرام؛ لأنك إذا كنت تعمل الآن -تبيع وتشتري- لأجل الله، ولأجل أن تنفع أهلك وقرابتك، ولأجل أن تكف وجهك عن الناس، فلن تدخل الربا في هذا العمل الصالح الذي تتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ، ولن تدخل فيه الغش، ولن تدخل فيه الغرر ولا الميسر، فمن أجل ذلك كان استصحاب النية في هذه الأعمال الصالحة مما يتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
ومن المعاني في هذا الحديث، أنَّ هذا الحديث مما يغلق أبواب الحيل؛ لأنَّ الحيل إنما مكانها القلب، فاذا كنت تريد بهذا العمل التحايل على الشريعة كما صنع أصحاب السبت حينما تحايلوا على شريعتهم، فإنَّ عملك مردود عليك، والله -عَزَّ وَجَلَّ- مُطلع على ما في القلوب.
ومن المعاني المقررة في هذا الحديث، أنَّ المقاصد والمعاني مُقدمة على الألفاظ والمباني، فاذا تلفظ الإنسان بلفظ وكان يقصد به في ظاهره معنى، مثلاً قال: "لله عليَّ أن أصوم" وكان يقصد أن يصوم الأسبوع بتمامه، قيل له: يجب عليك أن تصوم.
قال: "لله عليَّ عهد أن أصوم ثلاثين يومًا" ثم جاء يسأل هل أصومها متتابعة أو متفرقة؟ نقول له: حينما نذرت هذا النذر، ما الذي كان في قلبك؟ قال: كان في قلبه تتابع، قلنا: (الأعمال بالنيات). قال طيب، قولي: "لله عليَّ أن أصوم ثلاثين يومًا" لا يفيد التتابع؛ لأنه مُطلق، نقول: حتى لو كان، ما دام أن عندك نية قد اقترنت بهذا اللفظ فأنت مردك إلى النية، وإنما يكون الرجوع للفظ عند الاختلاف والتنازع عند القضاة.
مثال: لو أنَّ إنسانًا قال: "طالق" ثم قال: أنا أقصد من وثاق، فتنازعوا عند القاضي، فربما يقال: لا، الظاهر أنَّا نعمل بماذا؟ نعمل بما صدر منك. فأمَّا نيتك فبينك وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ هذا شيء يتعلق به حق الغير، فهذه من المعاني التي ينظر إليها في هذا الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو حديث جليل كثير معاني لكن نكتفي بهذا القدر.
الحديث الثاني وهو حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ» هذا الحديث أصل في الطهارة من الأحداث، وقد قَدَّمَه المصنف-رَحِمَهُ اللهُ- لأننا الآن ندرس كتاب الطهارة، والطهارة إنما هي طهارة من ماذا؟ هي طهارة من الحدث، هذا هو الأصل في الطهارة، فمن أجل ذلك قَدَّمَه المصنف رحمه الله، وهذا الحديث -كما ذكرنا- أصلٌ في الطهارة من الأحداث؛ لأنَّ قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ»، قوله: «إِذَا أَحْدَثَ» شامل لكل الأحداث، سواء كانت أحداثًا صغرى كالبول والغائط وخروج الريح أو النوم الذي اعتبره الشرع حدثًا أو الأحداث الكبرى التي هي الجنابة والحيض والنفاس، فقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ» فيه دلالة على أنَّ الأحداث تنقض الوضوء، وأنه لا يجوز أن يتقرب العبد إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصلاة إلا للطاهر، والطاهر هو من تطهر الطهارتين الصغرى والكبرى، أي: كان طاهرًا من الأحداث الصغرى التي ذكرناها ومن الأحداث الكبرى، هذا بوجه عام.
فاذًا الأصل بوجه عام أنه لا صلاة إلا بطهارة؛ لقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»، هذا هو الأصل بوجه عام إلا لفاقد الطهورين، فإنَّ الإنسان إذا فقد الطهورين -الوضوء أو التيمم- جاز له أن يُصلي على حاله، فأما من كان واردًا للطهور -الماء أو التيمم- فإنه يجب عليه استخدام الماء، فإن عدم استخدم التيمم هذا أمر.
الأمر الثاني: فيه دلالة على أنَّ التيمم إذا حصل فإنه تقع به الطهارة؛ لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»، ومن المعلوم أنَّ التيمم يقوم مقام الوضوء.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَتَّى يَتَوَضَّ» ما هو الوضوء؟
هذا هو ما سيذكره المصنف-رَحِمَهُ اللهُ-فيما بعد من الأحاديث لَمَّا يأتي فيعرض إلى حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإلى حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
قد أجمعت الأمة بوجه عام على تحريم الصلاة للمحدث، وعلى أنه لا يجوز للإنسان أن يدخل إلى صلاته وهو محدث، وأنَّ من دخل إلى صلاته وهو محدث كان كمن لم يُؤدها، بل إنَّ بعض العلماء رحمهم الله عدَّه من الكبائر، يعني: أن يتعمد أداء الصلاة وهو محدث؛ لأنه نوع من الاستهزاء بدين الله -عَزَّ وَجَلَّ، وهذه من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، أعني: وجوب التطهر قبل الدخول في الصلاة.
قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ» الوضوء بوجه عام هو غسل الأعضاء الأربعة المخصوصة التي ذكرها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في آية المائدة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ فهذه هي أعضاء الوضوء الأربعة: (الوجه واليدين والرأس والرجلين).
أمَّا كيفية غسلها فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بَيَّن في هذا الحديث بيانًا مجملا، فقال: «حَتَّى يَتَوَضَّ»
ما هو الوضوء؟ سنذكره إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيما بعد.
هذا الحديث أيضًا مما استدل به بعض العلماء على اشتراط الطهارة للطواف، لكن هذا المعنى ليس هو الذي نقصده الآن؛ لأننا سنتكلم عنه إن شاء الله إذا أتينا إلى كتاب الحج أو يسره الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
قال في الحديث الثالث: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ») هذا الحديث أصل في الأمر بإسباغ الوضوء، وينبغي أن يُنبه أنَّ حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لم يخرجه الإمام البخاري، وإنما خرجه مسلم رحمه الله، هذا أمر.
الأمر الثاني: ذكرنا أنَّ هذا الحديث أصل في إسباغ الوضوء، من جهة ماذا؟ من جهة أنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد تَوعد الأعقاب بالنار، والأعقاب هي مؤخر القدم أو العراقيب، هذه هي الأعقاب مع أنها مما يغفل عنه كثير من الناس، فاذا كان هذا في حق الرِّجل التي هي آخر أعضاء الجسد، فكيف الشأن بما سواها من أعضاء الوضوء؟
ومن أجل ذلك فإنَّ هذا الحديث وهو قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيْلٌ» الويل هو الوعيد، وقيل: إنه وادٍ في جهنم.
وقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في هذا الحديث: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» دائمًا ما يقترن بجملة قبله وهي: "أسبغ الوضوء"، ولكن لماذا لم يذكرها الإمام عبد الغني -رَحِمَهُ اللهُ- مع أنها أدل على المراد من قوله: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»؟
لم يذكرها المصنف-رَحِمَهُ اللهُ- لأنَّ العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا في إدراجها في حديث أبي هريرة، والمدرج هو الذي يقوله الراوي من لفظه، فيظنه بعض الناس من الحديث.
أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ على قوم كما رواه محمد بن زياد -هذا الحديث عند البخاري ومسلم- أنَّ أبا هريرة مَرَّ على قوم وهم على مِطْهَرَة فقال لهم: "أسبغوا الوضوء فاني سمعت أبا القاسم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» فظنَّ بعضُ العلماء أنَّ قوله: "أسبغوا الوضوء" هو من قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فرووه مُدرجًا في الحديث.
وكذلك أيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- ورواه أيضًا الإمام مسلم رحمه الله، وفي بعضها: "أسبغ الوضوء" فظنَّ بعض العلماء أنه مدرج، لكن الصحيح أنه ليس مُدرجًا في حديث عبد الله بن عمرو، وإنما هو مدرج من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
من المعاني في هذا الحديث: الإسباغ هو استيفاء الشيء، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لداود -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ ما هي السابغات؟ هي الدرع، وإنما سُميت سابغات؛ لأنها تغطي الجسد بتمامه، فهي درع وافية، وهي مُتقاربة مع الصبغ، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾، وأولت على أنها فطرة الله، والصبغ هو تعميم الشيء، فكذلك أيضًا معنى السبغ يدل على التعميم فـ "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار" دلالة على الأمر بتعميم العضو بالغسل، كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ يعني: شملكم بها، وكذلك أيضًا شأن الوضوء، ولذا ينبغي أن يكون وضوءًا سابغًا.
ما هو الوضوء السابغ؟ هو الوضوء الشامل المستوفي للأعضاء.
طيب وإذا كان المعنى كذلك فهل يكون الوضوء وضوءا سابغًا ولو لم يكن مثلثا، يعني ثلاثية؟
نقول: نعم؛ لأنه ليس من شرط الإسباغ أن تُثلث، يعني: أن تتوضأ وضوءًا مثلثًا، بل شرط الإسباغ أن تستوعب العضو في الغسل، هذا هو شرط الإسباغ الذي أمر به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقد جاء هذا الحديث على معنى وهو أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مر بهم في غزاة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: ونحن نتوضأ ونحن عجال، فجعلنا نتوضأ فمر النبي عليه الصلاة والسلام فرأى قومًا تلوح أعقابهم -يعني لم يصبها الماء، أي: فيها بياض- ومن المعلوم أنَّ الماء إذا أتى على العضو أذهب ما به من الشهوبة ونحو ذلك، وأصبح للعضو لمعة، لكن هذه لا زالت بيضاء، فقال لهم النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». فدلَّ ذلك على أنَّ الأصل في الوضوء بوجه عام أن تستوعب فيه الأعضاء، وهذا مما استدل به من قال: إنَّ الرأس يجب إذا مُسح أن يُستوعب، ومن قال بوجوب إجراء الماء على الأعضاء.
أمَّا التمسح الذي هو مسح على الأعضاء، فإنه لا يقع مجزئًا، وليس هو من إسباغ الوضوء، لكن لابد من أن يجري الماء على العضو، سواء كان هذا الجريان بصنبور أو أن يأخذه بيده ثم يدلك به عضوه، والدلك بوجه عام ليس شرطا من شروط الوضوء، والدلك هو مباشرة اليد للعضو، وإنما يُستحسن أو يُسنُّ لأجل التحقق من إيصال الماء إلى العضو، ولأجل ألا يستهلك الإنسان من الماء أكثر من المقدار الشرعي، هذا هو الأصل في المباشرة والدلك.
لكن لو أنَّ الإنسان استوعب هذه الأعضاء من غير أن يدلكها كان وضوءًا صحيحًا مُجزئًا على الصحيح من أقوال أهل العلم رحمهم الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلَاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ».
وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ».
هذا الحديث هو أصل في الاستنثار؛ لأنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ» وهو أصح ما جاء عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في وجوب الاستنثار، وهو أحد ما استدل به الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- على مذهبه الراجح في وجوب الاستنثار؛ لأنَّ العلماء رحمهم الله قد اختلفوا في الاستنشاق والاستنثار هل هو واجب أو لا؟
وأصح الأقوال في ذلك أنَّ الاستنشاق والاستنثار واجب؛ لقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في حديث أبي هريرة: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ» والأصل في الأمر أنه للوجوب، وفي الحديث الآخر: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ» فهذا دلالة أيضًا على المبالغة في الاستنشاق.
وقوله: «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ» فيه دلالة على المبالغة فيه، والاستنشاق هو جذب الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار هو إخراجه، فقول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في هذا «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ المَاءِ» وفي قوله: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ» فيه دلالة على الوجوب، وفيه دلالة أيضًا على مشروعية المبالغة، ولهذا أوصى النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لقيط بن صبرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: «وَبَالِغْ فِي اَلِاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمً»[8] فاذًا المبالغة في الاستنشاق من السنن، ولهذا النبي عليه والسلام في حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «اسْتَنْثِروا مرتينِ بالِغَتينِ أو ثلاثً»[9]، ومرتين بالغتين يعني: مبالغ فيهما، فدلَّ ذلك على وجوب الاستنشاق، وإنما أمر به النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الوضوء؛ لأنه قال ها هنا: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ»، ففي هذا ما يدل على المذهب الراجح، وهو أنَّ الغسل لا يُشترط فيه الاستنشاق، لماذا؟ لأنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قد قال لأسماء بنت يزيد: «إنَّما يَكْفِيكِ أنْ تَحْثِي علَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ المَاءَ فَتَطْهُرِينَ»[10]، وقد جاء أيضًا في حديث جبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فدلَّ على أنَّ الغسل إنما يحصل بتعميم الجسد، وما أمر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الغسل بالاستنشاق. نعم هو من سنته لكنه ليس أمرا واجبا.
قال: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ» ذكره المصنف هنا -رَحِمَهُ اللهُ- للدلالة على وجوب الاستنشاق في الوضوء، وسيذكر المصنف بعد قليل تفاصيل الوضوء، لكن هذه جملة أو حكم شرعي نستفيده من هذا الحديث، وهو أننا خرجنا الآن من خلاف العلماء بالتمسك بهذا الأصل عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجوب الاستنشاق، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يُفرط في الاستنشاق بوجه من الوجوه، وأنه ينبغي له أيضًا إذا استنشق أن يُبالغ فيه؛ لأنها من سنته -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ألا أن يكون صائمًا.
ثم قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» الاستجمار هو استعمال الجمار، الجمار هي ماذا؟ هي الحجارة الصغيرة، واستعمالها هنا ليس لرمي الجمار، وإنما للاستطابة، أي: استعمالها لإزالة الخبث سواء كان بولاً أو غائطًا، وهو الأصل في استطابة العرب، العرب كانوا يستطيبون الشيء -وهذا في باب الاستطابة بعد قليل إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ.
كانوا يستطيبون لأنهم ما كانوا يعرفون الماء، الماء عندهم لم يكن متوفرًا، وما كانوا يعرفون إلا الاستجمار، ولهذا الأحاديث التي جاءت عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في أنه كان يُزيل البول أو الغائط بالماء قليلة جدًا، يعني: ما ورد في الصحيح إلا حديث أو حديثين، حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا سيذكره المصنف رحمه الله، وإلا فالأصل عند العرب أنهم كانوا يستجمرون، أي: يستخدمون الجمار، ولهذا جاء عن بعض علماء الصحابة أنهم ما كانوا يعرفون الماء أصلا، فقد جاء عن حذيفة وعبد الله بن الزبير أنهم كانوا إذا ذكروا الماء قالوا: أف، إذًا لا يزال في يدي نتن. يقول: كيف أباشر الخبث بالماء وهذا يستلزم إزالته بيدي؟!
لكن إذا استخدم الإنسان الأحجار لم يُضطر إلى أن يُباشر الحدث، أو ما اضطر إلى أن يباشر الخبث أو النجس بوجه عام.
فاذًا الأصل عند العرب هو الاستجمار، لكن جاءت السنة أيضًا بتقدير الاستطابة بالماء.
قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» فيه دلالة على أنه ينبغي أن يقطعه على وتر، وسيذكره المصنف إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- في باب الاستطابة، يعني: إذا استجمر فينبغي أن يكون استجماره ثلاثًا فما فوق، (ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو ما زاد) يعني: إذا لم يكتف بثلاثة أحجار واحتاج إلى زيادة، ولكنه لَمَّا استخدم الرابع طهر، فنقول: ينبغي ويسن أن يستخدم حجرًا خامسًا.
أمَّا إذا استخدم الخامس والسادس ولم يطهر أو طهر نقول: استخدم السابع أيضًا واقطع على وتر، هذا هو قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ».
ثم قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في الحكم الثالث في هذا الحديث: «وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الإِنَاءِ ثَلَاثاً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» هذا أيضًا حكم من الأحكام التي هي مشتهرة عند العلماء -رحمهم الله- والتي يغفل عنها كثير من الناس، وهو أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أرشد كل قائم من نوم إلى أن يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلها في الإناء، وهذا النوم مُطلق، يعني: كان نوم ليل أو نوم نهار على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأنَّ النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال ها هنا: «وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ»، وبعض العلماء قال هو مقيد بنوم الليل، لماذا؟
لأن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال في هذا الحديث: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» قالوا: والبيات لا يكون إلا في الليل، لكن قد جاء في السنة من حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يدل على العموم، وأن هذا الحكم حكم عام في كل نوم، فاذا استيقظ الإنسان من نومه فليغسل يديه ثلاثًا -هذا محل خلاف بين العلماء- وأصح الأقوال في ذلك: أنه على الوجوب، أي: يجب على الإنسان أن يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلهما في الإناء، ويجب عليه أيضًا أن يغسل ثلاثا قبل أن يشرع في غسل أعضاء وضوئه.
الآن ما عاد عندنا آنية في الأعمِّ الأغلب، وإنما عندنا هذه المغاسل والصنابير، فإذا استيقظت من النوم غسلت يدين ثلاثًا قبل أن تشرع في الوضوء.
فاذًا غَسْل اليدين ثلاثًا على منزلتين: منزلة السنية وهذه غسلهما ثلاثًا في الأحوال العادية، فإذا أراد أن يتوضأ وهو مستيقظ من النوم من فترة، لكن مثلا أكل أو طعم ثم أراد أن يتوضأ نقول في هذه يُشرع لك ويُسن لك أن تغسلهما ثلاثًا.
استيقظ ثم أراد أن يتوضأ نقول له ها هنا: يجب على القول الصحيح أن تغسلهما، وقد علل النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهذا من الأحكام المعللة، والأحكام المعللة في الشرع ليست كثيرة.
الأصل في الشرع أنه يعطي الحكم ثم يخلي بينك وبين علته، فمثلا السفر ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ الأصل في السفر أنه يُقْصَر، لكن ما العلة في القصر في السفر؟ هل العلة هي السفر؟ هل هي المشقة؟ هذه مما يستنبطها العلماء بوجه عام، لكن العلة بوجه عام في الشريعة ليست بعيدة، سواء أفصح عنها الشارع أو لم يفصح فإنها تلتمس قريبًا؛ لأن الشرع قائم على ما يوافق العقول، والشرع يأتي "بمحارات العقول لا بمحالات العقول" يعني: لا يأتي بشيء مستحيل.
فاذًا قوله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» تعليل لهذا الحكم؛ لأنَّ اليد والإنسان نائم قد يُدخلها الإنسان في بعض عورته فتصيب شيئًا نجسًا، فأمر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بأن يغسلها قبل أن يُدخلها في الإناء ثلاثًا.
قوله: «ثلاث» هذه أيضًا من الزيادات التي قد صحت عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه في بعض الأحاديث من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بغير ذكر الثلاث، أي أنَّ هذه الزيادة الثلاثة لم يذكرها البخاري -رَحِمَهُ اللهُ- وإنما ذكرها مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- لكنها زيادة صحيحة.
فاذًا أن تغسل اليدين قبل ذلك ثلاثًا، وهذا ذكرنا أنه على الوجوب عند العلماء رحمهم الله على الصحيح أنه على الوجوب.
لعلنا نتوقف هنا والله أعلم.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ وبارك الله في علمكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين، ونلقاكم بإذن الله في حلقة أخرى متجددة من هذا البرنامج جادة المتعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 -------------------------
[1] متفق عليه
[2] صحيح البخاري
[3] السلسلة الضعيفة.
[4] صحيح مسلم.
[5] متفق عليه.
[6] صحيح البخاري.
[7] صحيح مسلم.
[8] أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَة.
[9] أخرجه أبو داود (141)، وابن ماجه (408)، وأحمد (2011)، وصححه الألباني.
[10] صحيح ابن حبان.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك