الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44894 18
الدرس الثامن

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكم الله أيُّها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم برنامج (جادَّة المتعلم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام)، للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ-، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم ابن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ فحيَّاكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا قد وقفنا أحسن الله إليكم عند (باب الحيض).
قال الإمام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باب الحيض.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ: سَأَلَتْ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: «لَا إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي»، وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ: فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فِيهَا، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْك الدَّمَ وَصَلِّي»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فقد ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- (باب الحيض)، وهذا الباب بابٌ مُؤخر بوجه عام؛ لأنَّه مما لا يتعلق بالجنسين، يعني جميع الأبواب السابقة تتعلق بالجنسين -الذكر والأنثى- وأمَّا هذا الباب فإنَّما هو يتعلق بجنس واحد وهو النساء، وفيه دلالة على أنَّ العلماء والفقهاء بوجه عام يرعون النساء، وأنَّ قدرهن محفوظٌ عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وعند رسوله ﷺ، وعند فقهاء الملة، فقد أفردوا هذا الباب مع أنه لا متعلق للرجال في كثير منه، لكن لبيان أحكام النساء، وقد تكلَّموا فيه بكلام طويل حتى قال
الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ: "مكثت في كتاب الحيض سبع سنين"[1]، يعني: في دراسته حتى يفهمه؛ لأنَّ أحكامه عسيرة، حتى إنَّ من المسائل عندهم مسألة تسمى: "مسألة متحيرة"، قالوا: وهي التي حيرت العلماء.
لكن يقال: الأمر في ذلك أهون، فإنَّ من أحالَ فيه على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى سنة رسوله ﷺ واقتصر في أحكام الحيض على ما يستنبطه منهما، كان فيهما الكفاية والمَقنِع، فإنَّ النساء على عهد النَّبي ﷺ مِن حين ما فُرضت الصلاة قبل هجرة النَّبي ﷺ بثلاث سنوات وقد أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالطَّهارة مع الصَّلاة فلم يصلِّ النَّبي ﷺ صلاةً إلا بطهارة إلى وفاته ﷺ في السنة الحادية عشر، فهذه أربعة عشر سنة، فيها نساء كثير كنَّ يعرضنَ على النَّبي ﷺ أحكامًا كثيرةً، فما جاء عن النَّبي ﷺ من الأحاديث فإنه يكاد يستوفي أحكام الحيض، إمَّا بالدلالة الصَّريحة أو بالسكوت، أي: يسكت النَّبي ﷺ فلا يُعبر عن الحكم، فيدل على أنه يلحق بما قاربه، أو يدل على أنَّ الأصل فيه هي البراءة الأصلية، أو استصحاب الحكم الشرعي، فهذا هو أصل هذا الباب بوجه عام، وإنما قلتُ هذا المعنى؛ لأنَّ هذا الباب إذا وصلَ إليه كثير من طلبة العلم خاصَّة الرِّجال يقفون، ويحار وتشتبه عليه مسائله ولا يكاد يستطيع أن يُحيرَ فيها جوابًا!
وهذا الباب من الأبواب التي يحسن أن تتخصَّص فيه النساء، ومن أجل ذلك فإننا نرى أن جملةً من أحاديثه إنما تخصَّص بها النساء، حتى إنَّ أحاديث الباب المذكورة كلها عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، ما فيها شيء من أحاديث الرجال، أغلب أحاديث الحيض إنما تروى عن النساء، ولهذا ابن سيرين -رَحِمَهُ اللهُ- وهو من كبار علم الأمة لَمَّا سُئل عن هذا الباب، قال فيه قولًا حسنًا، قال: "النساء أعلمُ بذلك"، يعني أعلم بهذا الباب.
وبناء عليه فالمرجع في (باب الحيض) إلى النساء وإلى أعرافهن، وإلى عوائدهن، يُقال للمرأة: ما هي العادة؟ قالت: العادة كذا وكذا، هل هي العادة المطردة أو الغالبة عند النساء؟ نعم.
على سبيل المثال: في حديث حمنة النَّبي ﷺ أحالها على ماذا؟
قال: «تحَيَّضي في علمِ اللهِ ستًّا أو سبعًا كما تحيضُ النساءُ ويطهُرنَ»[2]، فتسأل غالب النساء كم تحيض؟ قالت: ستة أيام أو سبعة أيام، فأحالها النَّبي ﷺ على ذلك.
قال ﷺ في دم الحيض: «إنَّ دمَ الحيضِ أسودُ يُعرفُ»[3] أو: أسود يَعرف، يعني له رائحة، فأحال على اللون، فكثير من النساء تستطيع أن تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة، فإذًا يُرجع في ذلك للنساء.
طيب كم مدة الحيض؟ يوم ولا عشرة ولا أربعة عشر يوم ولا خمسة عشر يوم؟ يرجع في ذلك للنساء، فيقال: ربما امرأة تحيض عشرة أيام، وتتكرر عليها هذه العادة كل شهر، فيكون هذا حيضًا في حقها، وربما امرأة تحيض يومين، وهي تكرر ذلك فيكون ذلك أيضًا حيضًا في حقها، ربما امرأة تمكث شهرين ما تحيض ثم تحيض ثم تمكث شهرين كذلك، فلا تأتيها العادات الثلاث إلا بعد ستة أشهر، فيرجع فيها إلى النساء.
ويُستعان في ذلك بالطِّب أيضًا، فلا مانع أن يُستعان بالطِّب؛ لأنَّ هذا من الردِّ إلى أهل الاختصاص، وقد كانَ الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- يردُّون إلى أهل الاختصاص، عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان إذا أشكلَ عليه شيء في أمر النسب أمر بالقافة، والنَّبي ﷺ استحسَن قول مجزز المدلجي لَمَّا نظرَ إلى أقدام زيدٍ وأسامة وقد كان زيد أبيضًا وأسامة أسودًا، فنظر إلى أقدامهما وهما ملتحفان فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض، فسُرَّ النَّبي ﷺ، فدلَّ ذلك على أنه يُشرع الرد إلى أهل الاختصاص.
ومن الرَّد إلى أهل الاختصاص في مثل هذه المسائل: أن يرد في أحكام الحيض إلى الطَّبيبة المسلمة المأمونة، تسأل المرأةُ الطبيبة تقول: أنا ما عدتُّ أميز حيضي من استحاضتي! نقول لها: ما كان لك أنتِ عادة في السابق؟ قالت: ما أعرف عادتي، مرة تأتيني في أول الشهر، طبعًا شهر المرأة وليس هو الشهر الهجري، قد تكون المرأة شهرها عشرين يومًا، الشهر ثلاثين كيف يكون شهر المرأة عشرين يوم؟ شهر المرأة هو عبارة عن الجامع بين طهرها وبين حيضها.
يقال: كم حيضك؟ قالت: أنا خمسة أيام. وكم تطهرين؟ قالت: أطهر عشرين. قلنا: إذًا شهرك ينتهي خمسة وعشرين يوم.
كم تحيضين أنت؟ قالت: أنا أحيض خمسة أيام. كم تطهرين؟ قالت عشرة، نقول: شهرك أنت خمسة عشر.
كم تحيض إين أنتِ؟ أنا أحيض عشرة. وكم تطهرين؟ قالت: أطهر ثلاثيين يومًا. نقول: إذًا أنت شهرك أربعين يومًا.
فالمرأة تحال على عادتها وهي شهرها، فإذا قالت: أعرف.
نقول: تميزين؟
قالت ما أميز.
يقال لها: ارجعي إلى الطبيبة فاسأليها، ما هو الحيض وما هو الاستحاضة؟ والطبيبة تستطيع أن تميز، فإن ميزت وكانت الطبيبة مسلمة أو حتى غير مسلمة لكنها مأمونة؛ لأنَّ مثل هذا مما لا يقع فيه الكذب كثيرًا، فاعتمدي على قولها؛ لأنَّ هذا غالب الظن.
قوله ها هنا: (باب الحيض)، الحيض بوجه عام يقولون: حاضَ إذا سالَ، حاض الوادي يعني: سالَ، وإنما سمي الحيض "حيضًا"؛ لأنه يسيل من المرأة، وهو دم يخرج من قعر الرحم للمرأة إذا لم تُخصَّب تحول ذلك إلى حيض، تتحلل هذه البويضة وتكون هي الحيض، ولهذا فإنَّ الحامل على الصحيح من أقوال أهل العلم لا تحيض، ولأجل ذلك فإنَّ المرأة تُستبرَأ بالحيض إذا طُلِّقت حتى يعلم طهارة رحمها وأنها ليست بحامل، فكان مُقرَّبًا عند العلماء على الصحيح من أهل العلم أنَّ الحامل لا تحيض، وأنَّ ما يعتريها من الدم الذي قد يحصل أحيانًا من بعض النساء فإنما هو في الغالب دم استحاضة وليس دم حيض.
إذًا؛ الحيض بوجه عام إنما هو: السيلان، وهو دم يرخيه الرحم، دم طبيعة وجبلة، يُقابله دم الفساد الذي هو دم الاستحاضة، وهو دم يخرج من أدنى الرحم.
وهذا الدم -دم الفساد- يختلف عن الحيض بكل الأحوال، يختلف عنه في لونه وفي معناه وطبيعته وفي أحكامه، فإنَّ له أحكام متعلقة به ليست هي أحكام الحيض سيبينها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في حديث فاطمة بنت حُبيش -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
(عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ: سَأَلَتْ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: «لَا إنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي»).
الحيض إذا كان مستقيمًا للمرأة لم يخالطه استحاضة فإنَّ هذا من نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- على المرأة، وهذا هو الأصل، وهو أنَّ عادة المرأة مستقرَّة، لكن أحيانًا بسبب تغيُّر الجو على المرأة أو تغيُّر نفسيَّة المرأة أو بسبب ما تتعاطاه وتأكله من حبوب مثل منع الحمل أو غيره قد يكون فيه عندهم نوع مما يسمى لخبطة الهرمونات، فيحصل لها الاستحاضة وتفسد عادتها، هم يقولون: تفسد عادتها إذا لم تنتظم، أصبحت بعض الأشهر يأتيها الدم عشرة أيام وبعضها يأتيها خمسة أيام، وربما اتصل بها الدم؛ فهذه يقال فيها: قد فسدت عادتها.
فإذًا؛ إذا فسدت عادتها أو فسد حيضها فالأصل فيها أنَّ المرأة مأمورة بالعبادة، يعني لا يكون هذا مُسقِطًا للصلاة عنها ولا لسائر الأحكام، هي ينبغي لها أن تتعبَّد لله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن أيضًا مع تعبدها لله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنه لا يجوز لها أن تتعبَّد في أيام الحيض، فإنَّ الصلاة في الحيض لا تجوز ومحرمة بالإجماع، إذًا ما الذي نصنع؟
النَّبي ﷺ في حديث في فاطمة الذي يُعدُّ أصل أحاديث الحيض والاستحاضة ردَّها إلى العادة، والأحاديث الواردة عن النبي ﷺ في الحيض فقط ليست كثيرة؛ لأنَّ الحيض ليس مشكلة، فالحيض أحكامه ظاهرة، إنما يكون مشكلة إذا خالطته الاستحاضة، فإذا كان حيضًا فالحمدُ لله أحكامه واضحة، لا يجوز للمرأة أن تصلي ولا يجوز لها أن تصوم، ولا يجوز للرجل أن يُطلقها في حيضها، ولا أن يُجامعها في حيضها، ولا يجوز لها أن تقرأ القرآن على قولٍ، ولا يجوز لها أن تدخل المسجد، فهذه أحكام ظاهرة في الحيض، لكن إذا اختلطَ الحيض بالاستحاضة فهنا نحتاج إلى مثل هذه الأحاديث، فجاء حديث فاطمة بنت حبيش الذي هو أصلها وقد بيَّن النبي ﷺ في هذا الحديث أنَّ الأصل فيمن جاءتها الاستحاضة أن ترد إلى عادتها.
المرأة بوجهٍ عام عندهم على قسمين:
الأول: إمَّا أن تكون امرأة معتادة.
الثاني: امرأة مبتدأة.
المبتدأة: هي الجارية الصغيرة التي جاء حيضها توًّا، وهذه لها أحكامها، وقليل ما يختلط فيها الاستحاضة والحيض.
والمرأة المعتادة: هي المرأة التي سبق لها أن حاضت، ثم اختلطَ عليها الأمر فيما بعد. فيُقال لها: هل كان لكِ عادة سابقة؟ قالت: نعم. قلنا: كم؟ قالت: كنت أحيض خمسة أيام أو ستة أيام. كم تطهرين بعدها؟ قالت: أطهر بعد الستة أيام أربعة وعشرين يومًا. نقول: الحمد لله أمسكي، عدي من نهاية السادس أربعة وعشرين يومًا هذه كلها أنت طاهرة فيها، حتى لو نزل معكِ الدم، فإذا انتهت هذه الأربعة وعشرين يومًا فعدي ستة أيام، ثم هكذا، شهركِ عبارة عن ثلاثين يومًا.
سألنا الثانية فقالت: أنا كان حيضي خمسة أيام، وبعدها خمسة عشر يومًا طهر، والآن جاوزتُ عشرة أيام وأنا معي الدم.
نقول: من اليوم السادس هذا كله في حقكِ استحاضة، إلى أن تكملي خمسة عشرة يومًا التي هي أيام طهركِ، ثم ترجع الكرة من جديد، ما دام أن الدم مستمر.
إذًا؛ الأصل أن العادة مقدَّمة في كل شيء، وهذا هو القول الصحيح وهو قول الإمام أحمد وقول مالك -رَحِمَهُما اللهُ.
فإذا قالت: أنا لم يكن لي عادة، مثل ما هو حال كثير من النساء في هذا الزمن.
معنى أنها ليس لها عادة: أنها يتقدم بها أو يتأخر، فتقول: أنا ما لي عادة أعتمد عليها، مرة يكون سبعة أيام ومرة خمسة أيام قبل أن تأتيني الاستحاضة.
نقول: أنتِ تنتقلين إلى التمييز باللون. هل يتميَّز؟ لأنَّ الأصل في دم الاستحاضة أنه خفيف لأنه كثير، وأحيانًا يضرب إلى لون الحمرة الخفيفة وأحيانًا يميل إلى الصفرة.
تقول عائشة: "اعتكفت إحدى نساء النبي ﷺ وهي مستحاضة والطست تحتها وهي ترى الحمرة والصفرة"، أي: الحمرة الخفيفة التي تعلو الطست والصفرة الخفيفة، فهذا دم استحاضة، أمَّا الدم الثقيل فهو دم الحيض.
فإذا قالت المرأة: ما عندي هذا ولا هذا ولا أعرف أميز، وسألت الطبيبة فقالت ما أميز شيء منها.
فيقال في مثل هذا: حديث حمنة «تحيضِي في علمِ اللهِ»، كم كانت عادتك؟ ستة أيام أو سبعة أيام؟ فأمسكي ستة أيام أو سبعة أيام اختاريها من الشهر كله، ثم عُدي بعد ذلك نفسك طاهرة.
النَّبي ﷺ قال: «دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَ»، ما قال: "دعي الصلاة الأيام التي كنت تحضين فيها"؛ لأنها هي ما تعلم، لكن قال: «قَدْرَ».
يُقال لها: كم كنت تحيضين؟ قالت: كنت أحيض سبعة أيام. نقول: إذًا دعي الصلاة في هذه الأيام السبعة.
قوله: «ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي»، هذا المعنى من أحسن المعاني الواردة في الحيض والاستحاضة، فإنَّ النَّبي ﷺ قد أمرها عند طهرها بغسل واحد الذي هو غسل المحيض، فدلَّ ذلك على أنَّ غسل المحيض مجزئ، وأنها متى ما اغتسلت من المحيض فإنها قد انتقلت إلى أن تكون في مرحلة الطاهرات، وبناءً عليه فلا يَرفع عنها اسم الطهر إلا حدث آخر، وبناء عليه فإنَّ هذا يقوي قول مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في أنَّ المستحاضة لا يجب عليها الوضوء لكل صلاة؛ لأنَّ النَّبي ﷺ قال: «ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي»، وما أمرها وما قال لها: "توضئي لكل صلاة" لأن هذه الزيادة في كل الأحاديث مدرجة من الرواة، ما أمرها النَّبي ﷺ وإنما قال هذا عروة -رَحِمَهُ اللهُ-، وإنما أمرها باغتسال ثم الصلاة، فتغتسل وتصلي، ثم أنتِ حدثك دائم، على أي شيء تتوضئين عند كل صلاة؟! إذا توضأتِ عند كل صلاة فحدثك سيخرج بعد قليل! فإن كان ناقضًا لم ينفعك شيء، ما نفعك وضوءك الذي كان قبل قليل.
ولأجل ذلك فإن مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "إن الاستحاضة في حقها ليست ناقضًا؛ لأنها لو كانت ناقض لبقيت على غير طهارة أبدًا"، وكذلك من سلس البول فهذا حكمه على الصحيح، يقال: ما دام أن بك سلس البول فسلس البول يرفع عنك اسم ناقض الوضوء، ما ينتقض وضوءك بسلس البول، حتى تحدث حدثا آخر، تبول أو تتغوط أو تحدث، ذاك الوقت توضأ، لأننا لو قلنا بوضوئك من سلس البول لتوضأت ثم رجع فيك.
فإذًا هذا ليس بحدث، على الصحيح من أقوال أهل العلم وهو قول مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو القول الذي يدل عليه قول بعض الصحابة -رضوان الله عَزَّ وَجَلَّ- عليهم، وإن كانت هذه المسألة من المسائل التي تنازع فيها العلماء -رَحِمَهُم اللهُ.
وجمهور العلماء على أن المرأة يُشرع لها أن تتوضأ لكل صلاة، لكن ذكرنا قبل قليل أنَّ قول مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا مُقدَّم، وهو أنَّ المرأة متى ما اغتسلت تبقى طاهرًا ولا يخرجها عن مسمى طهارتها إلا أحد الأحداث التي تُخرج الطاهر عن مسمى الطهارة من غير الحدث الذي يخرج منها؛ لأنَّ هذا الذي يخرج منها على الصحيح ليس بحدث في حقها.
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اُسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ»)}.
أم حبيبة هذه هي زوجة عبد الرحمن بن عوف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهي أم حبيبة بنت جحش، وبنات جحش كثير منهن مستحاض، أم حبيبة وحمنة مستحاضة، وزينب قد اختلف فيها، زينب هي التي زوج النَّبي ﷺ قد اختلف فيها، فهذا بلاء ابتلى به النساء وقد كانت هند الفراسية-رحمها الله- امرأة صالحة من كبار التابعيات فكان تستحاض فتدع الصلاة، وكانت تبكي؛ لأنَّها لا تصلي؛ لأنه لم يبلغها النَّص عن رسول الله ﷺ، وقد قال النَّبي ﷺ لما سألته عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عن امرأة استحاضته فتركت الصلاة، قال: «ذَلِكَ مِن الشَّيْطَانِ»[4]، وقاله النَّبي ﷺ في بعض الروايات لفاطمة بنت أبي حبيش.
ومعناه -والله أعلم: أنه قد يكون للشيطان تسلُّط على المرأة في هذه الاستحاضة ليمنعها من صلاتها ويمنعها من الطهارة، فتجد أنَّ بعض النساء إذا استحاضت اختلط عليها الأمر وربما تركت الصلاة، ولهذا لا يُستعان على رفع الاستحاضة بشيء أكثر من تعاهد العبادة، إذا تعاهدت المرأة العبادة يأس الشيطان منها. هذا أمر.
الأمر الآخر، وهو أمر أنبه إليه النساء؛ لأنه أمر ملحوظ: إن للشيطان تسلط في أمر استحاضة النساء خاصة فيما يتعلق بالعين ونحوها، فالشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم، وله تعلق بالمخارج والمداخل من ابن ادم كما سبق وذكرنا، فإذا نُظِر إلى المرأة نظرة إعجاب من قراباتها أو من بعض مَن يحبها أو من بعض مَن يكرهها، نُظر إليها هذه النظرة تسلَّط عليها الشَّيطان في هذا المعنى، فأفسد عليها دينها؛ لأنَّ هذا نوع من البلاء، والمرأة تعاني، وإذا استحاضت تعب جسدها، فإذًا مما يعين على تجنُّب الاستحاضة المحافظة أيضًا على الأذكار وتعاهدها، ومحافظة المرأة على سترها هذا أيضًا مما يعين هذا المعنى؛ لأنَّ النَّبي ﷺ قد نصَّ في الحديث قال: «أنَّ ذَلِكَ مِن الشَّيْطَانِ»[5]، وقال: «إنَّما هيَ رَكْضةٌ من الشَّيطانِ» ، نصٌّ صريح من النَّبي ﷺ أنها ركضة، عرق يحركه الشيطان، يبتلى به الإنسان، كما يبتلى بنوع من المس إما سحر الصرف أو سحر العطف، فإنَّ ذلك أيضًا مما يُبتلى به، ولا يعني هذا أن كل الاستحاضة ناتجة عن ركضة الشيطان، لا، إنما قد تكون بعض الأمور جوانب صحيَّة وجوانب طبيَّة وما إلى ذلك، لكن المعنى الكبير فيه يتعلَّق بالشَّيطان، فإذا كانت المرأة ممن يؤمن بالله -جَلَّ وَعَلَا- ويؤمن بكلام رسوله ﷺ، وترى أنَّ فيهما الشِّفاء والكفاية فعليها أن تحصِّن نفسها، وتتعاهد الأذكار، وتتعاهد الستر، وبإذن الله لن تصاب، وإن أصيبت فسيرفع ذلك عنها إن شاء الله.
قالت: (فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ).
النَّبي ﷺ إنما أمرها بالغسل مرة واحدة عند طهرها من محيضها، كما أمر فاطمة بنت أبي حبيش، ولكنها هي أخذت العزيمة فكانت تغتسل عند كل صلاة مبالغة في الطهر، وكان يشقُّ ذلك عليها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فالغسل عند كل صلاة في وقت الليالي الشاتية مما يشق على الإنسان، لكن هي أخذت عزائم الأمور، وقد أرشد النَّبي ﷺ حمنة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إلى أمر بين ذلك، يعني فيما يتعلَّق بعمل المرأة مع الاستحاضة، نقول: هي منازل، إن أرادت أن تغتسل لكل صلاة جاز، وإن أرادت أن تجمع بين الصلاتين جمعا صوريًّا وليس جمعا تامًّا، بمعنى أن تؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها، وقبل أن يخرج وقتها تصليها وتعجل العصر إلى أول وقتها وتغتسل لهما غسلًا واحدًا، وللمغرب والعشاء كذلك، وللفجر غسلًا وحدًا، فإن هذه ثلاثة أغسال جاز لها.
وإن أرادت أن تغتسل في اليوم غسلًا واحدًا وتتوضأ لكل صلاة جاز لها، فقد جاء عن بعض السلف كعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "من ظهر إلى ظهر"، وفي بعض الروايات أنه قال: "من طهر إلى طهر".
وإن أرادت أن تتوضأ لكل صلاة جاز لها، وإن أرادت أن تكتفي بغسلها ولا تتوضأ إلا من حدث آخر غير الاستحاضة فعلى الصَّحيح من أقوال أهل العلم جاز لها ذلك، لكن الأحسن أن تلتزم بالمرتبة الرابعة، أعني: أن تتوضأ لكل صلاة؛ لأنَّ في هذا خروج من الخلاف، والوضوء زيادة نقاء وزيادة طهارة، وإلا فالقول الصحيح هو ما قدَّمناه قبل قليل، لو المرأة قالت: يشق عليَّ أن أتوضأ عند كل صلاة. نقول: ما في بأس أنك تصلين ما دام أنك لم تحدثي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ. وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ. وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ»)}.
حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- في اغتسالها مع النَّبي ﷺ «مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ»، فيه دلالة على معانٍ؛ منها:
- أنَّ المسلم طاهر بكلِّ حالٍ، فإن النَّبي ﷺ قد اغتسل مع عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فدلَّ على طهارتها، وطهارة فضل مائها، لأنَّه إذا اغتسل معها فقد يصيبه من مائها وقد يصيبها من مائه -أعني ماء الغسل- فدل ذلك على طهارته، ودلَّ ذلك على أنه يجوز للرجل والمرأة أن يشتركا في الإناء الواحد يغتسلان منه جميعًا، فإنَّ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ».
وقد جاء عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْه- وعن أم صبية الجهنية -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وعن جماعة من الصَّحابة أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون في زمن رسول الله ﷺ من إناءٍ واحد، فالأمر في ذلك واسع، وإنما تكلم العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- عن مسألة واحدة وهي مسألة الوضوء بفضل المرأة، لو أنَّ المرأة توضأت من إناء ثم ذهبت عنه، ثم جاء الرجل فتوضأ بعدها، فهل يجوز أو لا؟
بعض العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- كالإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- قال: لا يشرع؛ لأنه قد جاء النهي عن فضل الوضوء بالمرأة، لكن قد جاء عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صحيح الإمام مسلم أنَّ النَّبي ﷺ توضأ بفضل ميمونة، وقال: «إنَّ الماءَ لا ينجُسُ»[6]، وهذا الحديث الظاهر -والله أعلم- أنه حديث قاطع أو قاضٍ على حديث الحَكَمِ الغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فإذًا؛ الصحيح بوجه عام: جواز وضوء المرأة بفضل الرجل ووضوء الرجل بفضل المرأة واغتسالهما من إناء واحد، وأن ما يَنضح أو ما يخرج من الماء إلى الغير طاهر أيضًا، ما ينجسه ولا يؤثر عليه.
قالت: «وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ»، هذا الحديث فيه إشارة إلى مسألة جليلة من المسائل التي اختصَّت بها هذه الشَّريعة عن شريعة بني إسرائيل، فإنَّ شريعة بني إسرائيل كانت المرأة إذا حاضت تُخرَج من البيت، ولهذا جاء أن أسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر جاء إلى النَّبي ﷺ، فأخبروه أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلونها ولم يشاربوها ولم يجامعوها، ويخرجوها من البيت، فقال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ»[7]، يعني: المرأة تبقى طاهرة، ليس فيها شيء نجس ولا تنجس، وقد كان النَّبي ﷺ يأمر عائشة فتتزر فيباشرها، يعني: يباشرها بجسده ﷺ، وليس المراد به الجماع، وإنما المراد به إلصاق الجسد بالجسد، كان يأمرها فتتزر، وقد جاء في حديث ميمونة «إزارٌ إلى أنصافِ الفخذَينِ»[8]، وإنما ذلك لستر موضع الدم حتى لا يتطرَّق الرجل منه إلى ما حرم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كانَتْ إحْدَانَا إذَا كَانَتْ حَائِضًا، فأرَادَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبَاشِرَهَا أمَرَهَا أنْ تَتَّزِرَ في فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، قالَتْ: وأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ، كما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ»[9]، فكان القول الصحيح من أقوال أهل العلم: أنَّ المرأة إذا حاضت جاز للرجل أن يباشرها في كل شيء إلا في موضع الدم له، هذا هو القول الصحيح.
ولهذا قال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكَاحَ»، فرخَّص النَّبي ﷺ في كل شيء.
قالت عائشة: «وَكَانَ يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ»، فدل ذلك على مشروعية مباشرة المرأة، وعلى أنَّ هذا من السنة، وقد جاء في صحيح الإمام البخاري ومسلم عن أم سلمة قالت: «بيْنَما أنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخَمِيلَةِ، إذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فأخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَقَالَ: ما لَكِ؟ أنَفِسْتِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فَدَخَلْتُ معهُ في الخَمِيلَةِ»[10]، فدل ذلك على أن المرأة إذا حاضت فإنها لا تنجس، ويجوز للرجل معاشرتها إلا الجماع، فإن وقع الجماع فإن ذلك عدَّه العلماء من الأمور المحرمة، وقد حكاه بعض العلماء أنه من الكبائر، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222]، فدلَّ ذلك بوجه عام على أنه لا يجوز للرجل قربان المرأة في موضع الأذى، وأنه إن فعل ذلك فإنه قد واقع محرمًا، وهذا المحرم مختلف فيه هل هو كبيرة أو صغيرة، وجماعة من العماء قد عدُّوه من الكبائر.
وقد جاء فيما رواه الحكم عن مِقسَم عن ابن عباس -رضي الله عنه- «أن النبي ﷺ أمر في الَّذي يأتي امرأتَهُ وهي حائضٌ قال: يتصدَّقُ بدِينارٍ، أو بنِصْفِ دِينارٍ»[11]، هذه كفارة على التخيير.
الدينار: خمسة وثمانين جرام. والجرام الآن قيمته مائتين وعشرين ريالًا، فيُضرب خمسة وثمانين في المائتين وعشرين ويُنظر ما الذي يخرج منه، هذا هو كفارة الوقاع في الحيض، فدلَّ ذلك بوجه عام على أنه محرم، قد انعقد الإجماع بين العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- على تحريمه، حتى أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير لَمَّا أخبرهم النَّبي ﷺ بحال اليهود، قالوا يا رسول الله أفلا ننكحهن؟ فتمعَّر النَّبي ﷺ لأنه أذى وأمر مستقبح، وهذا من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالمرأة، فإنَّ المرأة في مثل هذا الحال لا تكون لها رغبة في المعاشرة، فرحمها الله -جَلَّ وَعَلَا- بأن نهى الرجل عن قربانها، ولهذا يجوز للمرأة أن تمتنع وما تكون آثمة، النَّبي ﷺ قال في الحديث الصحيح: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِرَاشِهِ فأبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حتَّى تُصْبِحَ»[12]، لكن قال العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- بالإجماع: إن هذا الحديث بحال الحيض، وبحال الإحرام، وبحال صوم الفرض، فإنه لا يجب عليها الإجابة، وبحال ما إذا كانت مريضة ويتعبها هذا؛ فلا يجب عليه الإجابة، فهذا كله من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالمرأة.
والنَّبي ﷺ قد باشر الحائض ولم ينهَ المستحاضة عن شيء من ذلك، بل إنه ﷺ قد رخَّص لها في أعظم أمر وهو الصلاة والصوم، فدلَّ ذلك على أنَّ حال المستحاضة ليست كحال الحائض، يعني يجوز لزوجها أن يباشرها وأن يجامعها، وقد كانت أم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف، مستحاضة سبع سنين وكان يعاشرها، وكانت أيضًا حمنة تحت طلحة بن عبيد الله وكان أيضًا يعاشرها، وكانت بعض أزواج النَّبي ﷺ قد استحيضت، ولم يثبت أن النَّبي ﷺ لم يعاشرها أو لم يجامعها، فدلَّ ذلك على جوازه في الاستحاضة، وعلى هذا جمهور العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- إلا رواية واحدة عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، وليست هي الرواية الراجحة، فالرواية الراجحة عنه أنه كان يرى جواز ذلك.
قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ».
النَّبي ﷺ كان يعتكف في رمضان، وما يُحفظ عن النَّبي ﷺ أنه اعتكف في غير رمضان إلا مرة واحدة، فإنه اعتكف في شوال، لما ترك الاعتكاف في رمضان اعتكف عشرًا من شوال، وإلا في الأصل في الاعتكاف أن يكون في رمضان، مع أنه يجوز في غير رمضان، لِما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "نذرت أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»".
فكان إذا اعتكف النَّبي ﷺ وطالَ به المكث في المسجد يخرج رأسه إلى عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فيضعه في بيت عائشة، وبيت عائشة ملاصقًا للمسجد، فتغسله عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فدلَّ ذلك على معانٍ، منها:
- أنَّ الحائض ممنوعة من دخول المسجد، فإنه لو جاز لها دخول المسجد لأمرها النَّبي ﷺ أن تخرج إليه؛ لأنَّ النبي ما كان معه أحد ﷺ، أو تدخل في قبته ﷺ، فدلَّ ذلك على أنَّ الحائض ممنوعة، وهذا فهمته عائشة، فلما قال لها: «ناوِلِينِي الخُمْرَةَ» وهو معتكف، الخمرة هي: السجادة، قالت: "إني حائض"، قال: «إنَّ حَيْضَتَكِ ليسَتْ في يَدِكِ»[13]، ما قال لها: ومن قال لك أن الحيض يحرم عليها دخول المسجد؟! بل وافقها، فدلَّ على أن إدخال اليد ما فيه بأس، لكن دخول الحائض بتمامها منهي عنه.
- أنها طاهر، طاهر حتى في حجرها، ما دام أنه لم يباشر موضع الأذى، ولهذا كان النَّبي ﷺ يضع رأسه في حجرها فترجِّله -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
فإذًا، لا يكره للمرأة أن تخدم الرجل أو أن تخدم زوجها بشيء إذا كانت حائضًا، والتنزُّه عن ذلك ليس من فعل أهل الإسلام، وإنما هو مما نما وسرى إلى هذه الأمة من عوائد اليهود وغيرهم.
قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ».
هذه هي نهاية ثلاث مسائل ذكرها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- في حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَأَنَا حَائِضٌ»)}.
عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا ذكرت الحديث السَّابق وقالت فيه: كان النبي ﷺ «يُخْرِجُ رَأْسَهُ إلَيَّ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ» أرادت -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أن تبين أيضًا معنًى آخر، وهو أن النَّبي ﷺ كان يتكئ في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، فدلَّ ذلك على أنَّها ليست بأذى -أعني المرأة بذاتها- وإنما هو الحيض، واتكاؤه ﷺ وقراءته للقرآن في حجرها دليل على جواز استماع الحائض للقرآن، ولكنه قد يدلُّ بوجه آخر مِن بعيدٍ على أنه لا يشرع للحائض قراءة القرآن؛ لأنَّ عائشة كأنما أرادت أن تبين هذا الحكم، ولو كانَ يجوز للحائض قراءة القرآن لما احتاجت عائشة إلى أن تقول: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ»؛ لأنها إذا كانت هي تقرأ القرآن فمن باب أولى أن يجوز للنبي ﷺ قراءة القرآن في حجرها، فهذا من المعاني التي قد يستدل بها -ولكن من وجه بعيد- على أنَّ الحائض ممنوعة من قراءة القرآن. هذا قول.
لكن العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- ومنهم المالكية قالوا: إذا كانت المرأة حافظة للقرآن أو كانت متعلمة وعندها حضور وانصراف وغياب وما إلى ذلك؛ فيجوز لها قراءة القرآن ولكن بحائل.
وقالوا: وليست كالجنب؛ لأنَّ الجنب إنما مُنع من قراءة القرآن على قول جماهير العلماء -رَحِمَهُم اللهُ-؛ لأنه يستطيع أن يرفع جنابته، فنقول: اغتسل واقرأ القرآن، لكن الحائض لا تستطيع، ثم إن الحائض يطول بها الزمان، تمكث سبعة أيام وستة أيام أو عشرة أيام، فربما ضاع عليها شيءٌ من حفظها، ولهذا رخَّصَ العلماء -رَحِمَهُم اللهُ- في قراءتها.
قالوا: إن النبي ﷺ قد قرأ القرآن في حجرها، فدل ذلك على أن قراءة القرآن في حجرها ليس فيه إهانة، وليس فيه انتقاص لكتاب الله -جَلَّ وَعَلَا-، فكذلك قراءتها هي، وهذا مما استدل به بعض المالكية -رَحِمَهُم اللهُ- على هذه المسألة.
والأولى أن يُقال فيها ما سبق مما ذكرنا، فيُقال: الأصل في قراء القرآن بوجه عام للمرأة أن المرأة لا تقرأ القرآن ما دام أنها حائض، ولكنها تكتفي بالسماع، وقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تسمع القرآن من النبي ﷺ، إذا كانت تخشى على ضياع حفظها تسمع، فإن كانت حافظ وتريد أن تنتظم ببرنامج وتخشى أن يفوت عليها فلا بأس، لكن تحرص أن لا تباشر القرآن بيدها، كما هو حال الجنب.
- ومن المعاني الجليلة التربوية في هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يُسمع أهله كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- كثير من النساء ربما لم تسمع صوت زوجها البتة، وربما كان زوجها من أحسن الناس قراءة لكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكنه ما يقرأ عليها، وهذا نوع من التقصير في رعاية حق، هو غير مقصر عليهم فيما يتعلق بالطعام والشراب والكساء ونحو ذلك، ولكنه مقصرٌ في حقهم غاية التَّقصير فيما يتعلق بتعليم كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
فإذًا قراءة كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورفع الصوت بالقرآن، وجمع الأهل على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ومن أعظم ما يتبارك به المكان، ومِن سنته ﷺ أنه كان يقرأ ﷺ في حِجر عائشة ويجمع أهله ﷺ فيقرأ عليهم، فكان النَّبي ﷺ قد اتكأ في حجرها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وقرأ عليها، وعن ابن مسعود قال: «قالَ لي النبيُّ ﷺ: اقْرَأْ عَلَيَّ قُلتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قالَ: إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمعهُ مِن غيرِي»، فسماع القرآن من الغير أيضًا له معنى، وربما كان له من الأثر في تربية الأبناء ما ليس في غيره، فإن الابن والبنت تأخذ أو تلقن من والدها ما لا تلقن من غيره، ربما يسمعون للقراء، لكن ما يستطيعون يجارونهم ولا يحاكونهم، فإذا سمعوه من والدهم كان في اللقاء المباشر الأثر العظيم. هذا أمر.
الأمر الآخر: أن في قراءة كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي الجهر به في البيوت بركة جليلة ولهذا النَّبي ﷺ قد ندب إلى تُجعل النَّوافل في البيت، قال: «إنَّ اللَّهَ جاعِلٌ في بَيْتِهِ مِن صَلاتِهِ خَيْرً»[14]، وأمر النَّبي ﷺ بقراءة البقرة وآل عمران في بيوت، وبيَّن النَّبي ﷺ من البيت الذي تقرأ فيه لا يقربه الشيطان ثلاثة أيام؛ هذه كلها من بركات القرآن.
ومما ينبغي أن يلتفت إليه أيضًا وينبه عليه: أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن على كل حال، حتى يصبح هو ديدنه وهجيراه، حتى النَّبي ﷺ وهو راقد في حجر عائشة يقرأ القرآن، فإذا كان كذلك فكيف سيكون حال النَّبي ﷺ وهو جالس؟!
إذًا، إن لم تكن أنت في حديث مع أهلك من أمور دينكم، أو حتى من أمور الدنيا إذا كان مع الأهل فهو عبادة إذا احتسبه الإنسان، أو لم تكن في أمر تربية أو لم تكن في مهنة أهلك؛ فاشتغل بقراءة كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وارفع صوتك به فإنَّ في ذلك تأديب لأولادك، فيعلمون أن والدهم إذا انشغل بشيء فإنَّما ينشغل بذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإنَّما ينشغل بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، يعمُر وقته بالذكر والطاعة، وكثير من الأوقات إنما تهدر بالصمت، والصَّمت حسن لكنه كفاف لا لك ولا عليك، وشرٌّ منه أنت تُمضَى الأوقات وأن تُعمر الأوقات بالكلام الفارغ، والحديث العام الذي هو ربما مما يقطع به الركب، يعني حديث مكرر، يكرره الإنسان مرة بعد مرة فقط ليقطع الطريق، لكن لو أن إنسانا قال أو لو أن الرجل إذا كان الأمر كذلك قال لنقرأ جزءًا من كتاب الله -عز وجل- ثم تعاونوا على ذلك، كما كان النبي ﷺ يصنعه مع عائشة -رضي الله عنها- وكان عليه كان ﷺ يصلي، فإذا جاء إلى الوتر قالت عائشة -رضي الله عنها: "أيقظني فوترت".
ويتلمَّس الإنسان أيضًا اليسر على أهله، ما يعامل أهله كما يعامل نفسه، ربما الإنسان يستطيع أن يحمل نفسه على مكارم الأمور ومعاليها وعلى صعاب الأمور، وأهله ليسوا كذلك، فينزل الناس منازلهم كما كان النبي ﷺ ينزلهم.
هذه معانٍ نقرأها أحيانًا في أحاديث والحيض وأحاديث النفاس ثم نغفل عن المراد الأدبي منها، ولهذا من فقه الحديث: أن يتلمس فيه الإنسان فيه مواضع التربية، وكيف كان النبي ﷺ يربي أهله، وكيف أوصل النبي ﷺ هذا المعنى إلى عائشة حتى كانت بعد ﷺ صاحبة عبادة، فعائشة في زمن النبي ﷺ لم تكن صاحبة عبادة كثيرة، وهذا مما يعز في النساء، كانت امرأة تأتي بما أوجب الله -عز وجل- عليها، لكنها صغيرة، تقول: "فإذا أراد أن يوتر ايقظني فوترت"، وتنقل عن النبي ﷺ ما الذي كان يصنعه؛ لأنَّ الإنسان في صباه ما يجدُّ في الطاعة، لكن انظر إلى أثر التربية العملية التي رباها رسول الله ﷺ- حتى كانت بعد ذلك أكثر الناس عبادة -رضي الله عنها- فكانت أكثر الناس تلاوة لكتاب الله -عز وجل- كانت تتلو كتاب الله -عز وجل- قائمة وقاعدة، حتى أنها -رضي الله عنها- كانت ربما مكثت ليلة بتمامها في تكرار آية من كتاب الله -عز وجل- تدبرًا، فكانت كثيرة الصلاة -رضي الله عنها- وكثيرة الصيام -رضي الله عنها- هذه كلها من التربية العمليَّة لرسول الله ﷺ- التي رباها النبي ﷺ لما كان يتكئ في حجرها فيقرأ القرآن، فتقول: هذا رسول الله ﷺ- قد غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه تأخَّر يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويتَّكئ في حجري فيقرأ كتاب الله -عز وجل- ويقرأ كتاب الله -عز وجل- قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، فكان النبي ﷺ إذا استيقظ من نومه قرأ العشرة الآيات الخواتيم من سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، الآيات، للدلالة على أن الإنسان ينبغي له أن يعمر وقته بالقراءة، إذا فرغ من وقتك شيء استغله بقراءة شيء من كتاب الله -عز وجل- وليس من شرط قراءة كتاب الله -عز وجل- أن تقرأ الطوال، إذا ما كنتَ تحفظ فاقرأ ما تيسَّر من كتاب الله -عز وجل- اقرأ قصار السور وكررها، دخل النبي ﷺ على بلال -رضي الله عنه- وهو يقرأ من سورة كذا ومن سورة كذا ومن سورة كذا. فقال له النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يا بلال رأيتك البارحة تقرأ من سورة كذا ومن سورة كذ». قال: يا رسول الله كله طيب وكله من عند الله. هذا كتاب الله -عز وجل- أينما أتيته ستجد فيه البركة.
فإذًا هذا هو هدي عائشة -رضي الله عنها- وهذا هو هدي رسول الله ﷺ- الذي ربَّاها عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ «سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ»)}.
هذا حديث وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- هو الأصل في مشروعية قضاء المرأة الحائض للصوم، وهو الأصل في أنَّ المرأة الحائض لا تقضي الصلاة، وهو الأصل في أنَّ المرأة الحائض تدع الصوم والصلاة.
فأمَّا كون المرأة الحائض تدع الصوم والصلاة فإجماع، وأمَّا كونها تقضي الصوم فإجماع، وأمَّا كونها لا تقضي الصلاة فقد حصلَ فيه خلاف في الزَّمن الأول عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- ولكنه انقرض وانتهى وقطعته عائشة -رضي الله عنها- فإنَّ عائشة هي المرجع في هذا الأمر، ونساء النبي ﷺ هنَّ المرجع، تُسأل نساء النبي ﷺ ما الذي كنتم تصنعونه؟ قلنَ: نصنع كذا وكذا؛ فهذا إقرار من النبي ﷺ لهن.
الخوارج بوجه عام -وهم الحرورية- إنما سُموا الحرورية؛ لأنه كان أول خروجهم من حروراء، وهذه في العراق قريبًا من البصرة، الخوارج من المعلوم أنهم قوم متنطِّعون، فأصل دين الخوارج بوجه عام يقوم على الشِّدَّة، ولهذا فهو مذهب غير قابل للانتشار بسبب شدته، تكذب؛ تكفر بالله -عز وجل- تسرق؛ أنت كافر. تظلم؛ أنت كافر، كل ما تقع فيه من الكبائر أنت كافر، هذا دين ما يتفق مع ما أنزل الله -عز وجل- على رسوله ﷺ مما تستقيم به حياة الناس.
ولهذا بدأ مذهب الخوارج يتهذب ويتهذَّب حتى وصل إلى الإباضية، فالإباضية قالوا: هلكنا، كفرنا أنفسنا وكفرنا خلق الله -عز وجل- ما عاد نستطيع أن نتزوج من أحد، ولا عاد نستطيع أن نؤاكل أحد ولا نشارب أحد بسبب أننا غير معصومين من الخطايا! قالوا: نصل إلى مرحلة سواء، مَن وقعَ في الكبيرة فإنما هو كافرٌ فيما بينه وبين الله، وأمَّا في الظَّاهر فهو مسلم، لكن في يوم القيامة خالد مخلد في النار، يعني: هم استمتعوا بمذهبهم في الحياة الدنيا.
قول عائشة: «أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟»، فيه دلالة على أن بعض المسائل قد تُستنكَر.
قالت: (فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ)، وإنما قالت ذلك لها لأن معاذة كانت من أهل العراق، وأهل العراق كان يكثر فيهم السؤال أحيانا عن بعض البدع فلأجل ذلك أنكرت عليها.
قالت: «كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ»، وفي بعض الروايات: «على عهد النَّبي ﷺ- فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ»، والأصل في الصحابي أنه إذا قال «نُؤْمَرُ» أن يكون محمولًا على أمر النَّبي ﷺ، أو أمر الصديق والفاروق، وأمرهما -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ومن السنن، لماذا؟ ليس لأجل فضل الصديق والفاروق فحسب، فإن عثمان وعلي أيَضًا مثلهما ومقاربان لهما في الفضل، لكن لأجل أن الصديق والفاروق كان الأمر الذي يصدر منهما يصدر بملأ من المسلمين، فيكون إجماعًا.
فإذًا قولها: «فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» دلالة على أنَّ هذا هو النَّبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
إذًا، المرأة الحائض تترك الصلاة ولا تؤمر بقضائها، وتترك الصوم وتؤمر بقضائه، كما جاء عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلَّا في شَعْبَانَ؛ الشُّغْلُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ"[15].
{أحسن الله إليكم، شكر الله إليكم صاحب الفضيلة، كما نشكركم أيها الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------------
[1] حاشية الروض المربع لابن القاسم (1/369).
[2] خلاصة البدر المنير (1/77).
[3] أخرجه أبو داود (304)، والنسائي (1/123)، وابن حبان (4/180).
[4] ميزان الاعتدال للذهبي (4/605).
[5] صحيح الترمذي (128).
[6] أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (325)، وابن ماجه (370) بنحوه، وأحمد (3120).
[7] صحيح مسلم (302).
[8] صحيح أبي داود (267).
[9] أخرجه البخاري (302)، ومسلم (293).
[10] صحيح البخاري (1929).
[11] أخرجه ابن ماجه (640) واللفظ له، والنسائي (289)، وأحمد (2032).
[12] صحيح البخاري (3237).
[13] صحيح مسلم (298).
[14]  صحيح مسلم (778).
[15] رواه مسلم.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك