الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

44803 18
الدرس التاسع

عمدة الأحكام 1

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام في برنامجكم (جادة المتعلم) والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
يصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ حيَّاكم الله}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{كنا يا شيخنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند كتاب الصَّلاة.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (كِتَابُ الصَّلَاةِ: بَابُ الْمَوَاقِيتِ.
 عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ إيَاسٍ - قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»)
}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد؛ لَمَّا فرغ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من كتاب الطهارة ثنَّى بكتاب الصَّلاة، ومِن المعلوم أن الصَّلاة هي أوَّل فروض العملية الإسلام، فليس شيء بعد الشَّهادتين أولى من الصَّلاة، ولكن إنما قُدم عليها الطَّهارة؛ لأنها مفتاحها، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في الصلاة: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»[1]، ولكن هذا الحديث ليس على شرط البخاري ولا على شرط الإمام مسلم، فلهذا لم يخرجه الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ- في عمدة الأحكام.
لَمَّا فرغ -رَحِمَهُ اللهُ- من كتاب الطهارة التي هي المقدمة للصلاة ثنَّى بكتاب الصَّلاة، والصَّلاة بوجه عام هي أهم الفروض العملية، ولهذا لم يقع الكلام في تكفير مَن ترك عملًا من الأعمال إلَّا في الصلاة، فإنَّ العلماء -رحمهم الله- أعني بهم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كالمُجمِعين على أنه ليس شيء من الأعمال تركه كفر إلا الصَّلاة، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «بَيْن الرَّجُل وَبَيْن الشِّرْك وَالْكُفْر تَرْكُ الصَّلَاة»[2]، كما في حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه الإمام مسلم، وأخرج أصحاب السنن أيضًا من حديث عبد الله بن بريدة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عن بريدة بن حصيب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[3].
والصلاة بوجه عام في اللغة: هي الدعاء، فإذا قيل: "صلَّى عليك" بمعنى دعا لك، وهذا عُرف عند العرب، وتقرَّر عندهم أنهم إذا قالوا: "صليت عليك" أنَّ ذلك بمعنى دعوت.
وهي في الشرع مستصحب فيها هذا المعنى، فإنَّ أصل الصَّلاة إنما هي الدعاء، ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيني وَبَينَ عَبدِي نِصفَيْنِ ولهُ مَا سَألَ، فإذا قال العبدُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: حمِدَنِي عَبدي»[4]، فدلَّ ذلك على أنَّ أصل الصَّلاة هو الدعاء، والدعاء بوجه عام قد يُراد به دعاء المسألة وهو الذي يفهمه كثير من الناس، وهو أن يرفع الإنسان يديه إلى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- فيسأله إمَّا من خير الدنيا وإمَّا من خير الآخرة، وهذا دعاء المسألة وهو في منزلةٍ ثانيةٍ، وقبل ذلك دعاء العبادة، ودعاء العبادة: هو كل توجه بقلبك أو بعملك إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولو لم يتضمَّن ذلك التَّصريح بالسؤال، وهذا أعظم وأبلغ.
بمعنى: عبادة الإنسان، صلاته وزكاته وصومه، هذه كلها من دعاء العبادة؛ لأنه لابد فيها من نيَّة «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ»، ولو تجرَّدت عن النية لَمَا كانت عملًا صالحًا يُبتغَى به وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلمَّا اقترنت بالنيَّة دلَّ ذلك على قصد العبادة، وعلى قصد الدعاء.
فإن قال قائل: فمن أين؟
قلنا: ليس أحد يعبد الله -جَلَّ وَعَلَا- إلا وهو يعبده راغبًا أو راهبًا، فهو قاصدٌ لله -عَزَّ وَجَلَّ- وإن لم يسأله بلسانه صريحًا إلا أنَّ قلبه مفتقر لله -عز وجل-، ويتحقق فيمن يتعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ- بدعاء العبادة قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان:
أَأَذكُرُ حاجَتي أَم قَد كَفاني ... حَياؤُكَ إِنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ
إِذا أَثنى عَلَيكَ المَــــرءُ يَـومــــــًا ... كَفــــاهُ مِــــن تَعَرُّضِــــهِ الثَنــــاءُ
وهذا أبلغ ما يكون مع الكريم، الكريم ليس بحاجة إلى أن تفصح أنت عن حاجتك بلسانك -وإن كان ليس فيها بأس- وإنما تتعرَّض له، فتعرُّض الإنسان لربه -عَزَّ وَجَلَّ- بصلاته وصومه وزكاته وحجه ولو لم يضمِّنها سؤالًا صريحًا -عَزَّ وَجَلَّ- هو كلها من دعاء العبادة، فإذًا كانت الصلاة هي أعظم الأدعية التي يُتقرب بها إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهذا مما يحقِّق أنَّ الدعاء هو العبادة، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر:60]، فجعل الدعاء هو العبادة كلها.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَة»[5]، فاختصَّت الصلاة باسمه، وليس شيءٌ من الأعمال مضمَّن معنى الدعاء إلا الصلاة، أعني في اشتقاق اسمه، فالصَّوم من الإمساك، والزَّكاة من الزَّكاء، والحج من القصد، بخلاف الصلاة، ولهذا شُرعت في اليوم خمس مرات.
إذًا الصلاة بوجه عام هي ركن الدين الأعظم بعد الشهادتين، وقد تتابع على وجوبها وأنها من متطلبات الإيمان، ليست شرط كمال البتة، بل هي شرط وجوب في الإيمان، فلا يصح إيمان عبد لم يأتِ بما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به من الصلاة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا بعث مَن بعث من رسله إلى المشركين قال لهم: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ- فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»، وكان الأعرابي إذا قدم إلى النبي ﷺ فسأله عن شيء؛ كان أوَّل ما يجيبه رسول الله ﷺ بالشهادتين، ثم يُثني بالصلاة، وما يعرف أبدًا في نصوص الشرع أن النبي ﷺ قد قدم شيئًا على الصلاة، قد يحصل في بعض نصوص الشَّرع تقديم الحج على الصيام أو تأخير الصيام على الحج كما في حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لكن الصلاة هي الشَّرط الثَّاني دائمًا بعد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
فهذا المعنى ينبغي أن يقرر، وهذا مما يعظِّم من شأن الصلاة، ويعظِّم من شأن تركها، ويعلم تاركها أنه على خطر عظيم، ولهذا قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو في آخر حياته: "لَا حَظَّ فِي الإِسْلامِ لِمَن تَرَكَ الصَّلاة".
قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيمن يتخلف عن صلاة الجماعة -وليس الصلاة بأصلها: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".
يقول عبد الله بن شقيق العقلي-رَحِمَهُ اللهُ: "لم يكن أصحاب محمد ﷺ يرون شرك شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة"، هذا فيما بمعناها في اللغة.
وأمَّا معناها في الشرع: فهي أفعال مخصوصة لا تخفى بوجه عام.
وبناء عليه؛ فالتعريف بالتعريفات الحادثة والحدود مستدرك في كل الأحوال.
ولكن يُقال: الصلاة معروفة، فمن شهد أن لا إله إلا الله فإنه يعرف الصلاة، وقد كان الرجل من الصحابة يقدم إلى النبي ﷺ فيصلي معه صلاة واحدة فيعرفها من النبي ﷺ.
قال: (كِتَابُ الصَّلاة)، ثم ذكر أول ما ذكر من أبواب الصلاة: باب المواقيت. وإنما ذكر باب المواقيت لأنها هي المقدمة للصلاة، فإن الصلاة إنما تجب بدخول وقتها، ولهذا أجمعت الأمة على أنَّ مَن صلى الصلاة قبل دخول وقتها لم تقع مجزأة، وأجمعت الأمة على أنَّ من صلى الصلاة بعد خروج وقتها لغير عذر كان آثمًا، على خلاف بين العلماء -رحمهم الله- في نوع هذا الإثم، هل هو كفر أو كبيرة من الكبائر، وهل يُقبل منه بعد ذلك أداؤها أو لا؟
هذه كلها إجماعات قد قررناها.
ثم اعلم أنَّ المواقيت يُرادُ بها الأوقات، أو الشيء المؤقت، والشيء إذا وُقِّتَ دلَّ على أهميته؛ لأنَّ العبادات على نوعين:
- عبادات مطلقة.
- وعبادات مؤقتة.
فكل عبادة ترى فيها زيادةَ مكانٍ أو زيادة زمانٍ فاعلم أن الشَّرع يعتني بها أكثر من غيرها، ولهذا كانت الصَّلوات المكتوبة هي المقدَّمة على كل شيء لأنها صلوات مؤقَّتة، وكانت السنن المؤقتة -السنن الراتبة- أو السنن المؤقتة بوقت كسنة صلاة الليل مثلًا أو صلاة الضحى أولى من غيرها من السنن المطلقة، فدلَّ على أن التوقيت يدل على مزيد مزية للعبادة، وعلى أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقصد للتوقيت ويريده.
والمواقيت بوجه عام من أصل قرآني، والأصول على ثلاث منازل:
- أصول قرآنية: وهذه هي أجل الأصول، مثل: مواقيت الصلاة الزمنية، ومواقيت الحج الزمانية ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197] هذه أصول قرآنية، الوضوء أصل قرآني، وكذلك التيمم أصل قرآني، وكذلك إزالة النجاسة أصل قرآني.
- ثم أصول نبوية: وهذه في منزلة ثانية، ولا نعني دائمًا بالأصول أن تكون واجبة، بل قد يكون الأصل مسنونًا، فمِن الأصول النبوية: السواك، لم يرد ذكره في القرآن، ولكنه أصل نبوي مع أنه مسنون.
- ثم أصول شرعية عامة: بمعنى أنها قد لا تكون منصوص عليها في الكتاب ولا في السنة ولكنها مما قال بها العلماء بعد ذلك.
فهذه هي الأصول الثلاثة، وكلما كان الأصل قرآنيًا كان في المنزلة العليا.
فإذًا المواقيت بوجه عام أصل قرآني، يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتً﴾ [النساء:103].
قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ: "قال غيره" يقصد قال غير ابن عباس، وهو أبو عبيدة معمر بن مثنى -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "موقوتًا: مؤقتًا، وقَّته عليهم في الأوقات"، وقال ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "موقوتًا: يعني مفروضًا"، لكنه مفروض في الوقت أيضًا، فإني إذا قلت لك "وقَّتُّ لك" لا يعني أني فرضته عليك فحسب، بل يعني أني فرضته عليك محدودًا بوقت، وهذا أبلغ في الفرض، وأبلغ في الفضيلة، وأبلغ في مراعاة الوقت.
فإذا كان الأمر كذلك فإن أول شروط الصلاة وأساسها: هو الوقت؛ لأنه هو الذي بدخوله تجب عليك الصلاة، وهو الذي بدخوله تكون مطالبًا بالإتيان بالعبادة.
قال: (باب المواقيت)، ثم سيذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد قليل حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمَّا سأل النبي ﷺ: «أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِه»[6]، وهذا الحديث هو أصح وأعلى ما جاء عن النبي ﷺ في فضل أداء الصَّلاة على وقتها.
فإن قلنا: "أصح" من أين جاءت؟
قلنا: من حيث أنه أصل قد أخرجه الإمام البخاري ومسلم، بل قد اتَّفق على إخراجه أغلب أصحاب السنن والمسانيد، فحديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في فضل الصلاة هو من أصول السنن بلا شك.
وأمَّا الدلالة فيه على فضل المواقيت: فهو أنَّ النبي ﷺ لَمَّا سئل عن أحب الأعمال إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقد سأله رجل فقيه قد لَقِن الشريعة وهو ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّ ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من فقهاء الصحابة ومن علية أصحاب النبي ﷺ، فقد علم أصحاب محمد ﷺ أن ابن مسعود من أعلاهم قدرًا وأفقههم منزلة، ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سأل النبي ﷺ: (أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَ»)، فأخبر النبي ﷺ أنَّ أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، وقد قدَّمه المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ليكون كالمرغِّب فيما بعده، فإذا عرف طالب العلم، أو المتفقِّه، فضل الصلاة، وأنَّ أداء الصلاة ليس مُطلق وإنما أداؤها على وقتها، هو أحب العمل إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ففي هذا الحديث ما قال: "الصلاة" لا، بل قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَ»؛ لأنَّ الصَّلاة خارج وقتها وإن كانت محبوبة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلا أنها ليست من أفضل الأعمال، بل إن صاحبها على خطر، ولهذا جاء في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾ [مريم: 59]، وفي قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5]، قال ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "هم الذين لا يحفظون حدودها ولا أوقاتها، أما أنهم لو تركوها لكفروا"، يعني التضييع إنما وقع في الحدود والأوقات فحسب، وقد وصفهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الصفة وتوعَّدهم بالغي الذي هو وادٍ في جهنم على ما قال بعض العلماء -رحمهم الله- فدل ذلك على أن أداء الصلاة على وقتها من أعظم بل هو أعظم ما يتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعد الشهادتين.
فإذا عُلم ذلك وتقرَّر ذلك لطالب العلم التفت طالبُ العلم يبحث عن ما هي أوقات الصلاة، حتى أوقع الصلاة في وقتها، ونالَ بذلك فضيلة أكمل العمل الذي يتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: («الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي).
هنا رتَّب العمل الصَّالح على ثلاث منازل:
- الصلاة.
- ثم جعل بعده بر الوالدين.
- ثم ثلَّث بالجهاد في سبيل الله.
وقد جاء في حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي أخرجه أيضًا الإمام البخاري ومسلم أنه سأل النبي ﷺ عن أحب العمل إلى الله، فقال: «إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ»[7]، فاختلف الترتيب بين حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة، ويقال: لا اختلاف؛ لأنَّ أصل هذه الشرائع بوجه عام هو الإيمان بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، وإيمان العبد لا يتحقَّق إلا بالصَّلاة، فقول النبي ﷺ في حديث أبي هريرة: «إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ» يقال: لا يكون الرجل مؤمنًا بالله ولا برسوله ﷺ حتى يأتي بالصلاة على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يرون أنَّ الإيمان قول وعمل، وأنَّ أعمال الجوارح داخلة في الإيمان، وأنه لا يكون العبد مؤمنًا ما لم يأتِ بأعمال الجوارح التي من أعظمها الصلاة، فإذًا لا تعارض بين حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبين حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ».
المروط: أكسية معلمة تكون من خزٍّ وتكون من صوف.
ومتلفعات: ملتحفات.
والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل)
}.
لَمَّا ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- الحديث الذي يُبين فضل أداء الصلاة على وقتها، وأنها هي أحب العمل الذي يُتقرب به إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، عقَّب ذلك بحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهو بيان وقت صلاة الفجر، والعلماء بوجه عام إذا أرادوا أن يرتِّبوا الصلوات فإنهم يرتبونها بأحد ترتيبين:
- إمَّا أن يبدؤوا بصلاة الفجر من جهة أنها هي أوَّل الصلوات التي تُؤدَّى في اليوم.
- أو يبدؤوا بصلاة الظهر، وعلى هذا عامتهم، وقالوا: في حديث جبريل أنه ابتدأ بصلاة الظهر، وفي حديث بريدة وأبي موسى أنه ابتدأ أيضًا بصلاة الظهر، وفي حديث أبي المنهال كان يُصلي الهاجرة، قالوا وصلاة الظهر تسمى عندهم في الزمان الأول بالصلاة الأولى؛ لأنَّها هي أول صلاة صلاها النبي ﷺ.
وبكل وجه؛ فالأمر في ذلك يسير، سواء ابتدأ الإنسان بذكر بيان مواقيت صلاة الفجر أو مواقيت صلاة الظُّهر، والأمر في ذلك واسع.
والمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- قدَّم ها هنا بيان ميقات صلاة الفجر، وأراد بذلك الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية ويقصد به أيضًا الرد على بعض المذاهب، فإن المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر فيه حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ». الغلس هو الظلمة المشوبة بشيء من النور.
ولهذا قال: «مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ»، يعني لم ينتشر النور حتى يعرف الرجل وجه صاحبه، قالوا: فدل ذلك على أنَّ الأصل في صلاة الفجر أن تؤدَّى في هذا الوقت، وإذا كان كذلك فإنَّ وقت ابتداء صلاة الفجر مجمع عليه، فانعقد الإجماع على أن وقت صلاة الفجر يبدأ من طلوع الفجر، والفجر ها هنا المراد به الفجر الصَّادق، والفجر الصادق هو الذي ينتشر في الأفق هكذا، وليس الذي يذهب هكذا، فالفجر فجران:
- الفجر الذي ينتشر من الشرق إلى الغرب، فهذا هو الفجر الصادق.
- والفجر الذي يذهب طولًا في السماء، هذا هو الفجر الكاذب، الفجر الكاذب شبهه النبي ﷺ بذنب السرحان، والسرحان هو الذئب أو الثعلب، وذنبه مستطيل وطويل هكذا، فهذا هو ذنب السرحان، يذهب هكذا في الأفق، وإذا نظرتَ بينك وبين الأرض رأيتَ الظلمة، ثم إنه يعقبه ظلام، ولهذا سُمي بفجرٍ كاذبٍ.
وأمَّا الفجر الصادق فهو الذي يذهب مستطيرا في الأفق وينتشر، فهذا لا يعقبه الظلمة، فمن حين ما يطلع الفجر الصادق وتراه العين المجردة، وقد وصفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأنه خيط، فهذا إشارة إلى أنه متى ما رآه حديدُ البصر فإنه يقع ويعد فجرًا، وبناءً عليه فمتى ما رآه أحد أصبح فجرًا، كون الإنسان يقول: لا يصبح فجرًا حتى ينتشر! نقول: ليس بكل حال، وإنما أخبر النبي ﷺ أنَّ الفجر الصادق هو الذي ينتشر؛ لأنَّ هذا هو حاله، لكن متى ما رأيته ولو خيطًا يسيرًا فقد رأيت الفجر الذي يجب به الإمساك للصائم وتحل به الصَّلاة للمصلي، فهذا قد انعقد الإجماع عليه، وهو أنه متى ما طلع الفجر الصادق فقد دخل وقت صلاة الفجر، ومتى ما طلعت الشمس فقد انقضى وقت صلاة الفجر، هذا أمر مجمع عليه، وصلاة الفجر هي من الأوقات اليسيرة المجمع على وقت دخولها وقت خروجها، وسنرى بعد قليل أنَّ غيرها من أوقات الصلوات وقع في خلاف بين العلماء -رحمهم الله- متى يخرج وقتها؛ إلا صلاة الفجر، لكن الخلاف ليس في الابتداء والانتهاء، وإنما الخلاف في الأفضل.
الآن تبين لنا وقت صلاة الفجر ابتداؤه وانتهاؤه، لكن لسائل أن يسأل: في أي أوقاته أوقعه؟
نقول: في حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال النبي ﷺ: «الصَّلاةُ علَى وقْتِه»[8]، وإذا قيل: "على وقتها" فهذا يشمل ما بين الابتداء إلى الانتهاء.
وقد جاء في بعض السُّنن قال: «الصَّلاةِ أوَّلَ وَقتِه»[9]، ولكن هذه اللفظة لفظة منكرة:
- من جهة إسنادها: فإنها قد تفرد بها من لا يُحتجُّ به.
- ومن جهة متنها: فإنَّ متنها منكر من حيث أنَّ بعض الأوقات مجمعٌ على أنَّ الأفضل فيها ليس التَّعجيل وإنما التأخير، كما هو حال صلاة العشاء، وكما هو حال الظهر في وقت الإبراد وشدة الحر، فإنَّ جماعة من العلماء يرون مشروعية الإبراد بها -وهو تأخيرها.
فإذًا هذا اللفظ غير صحيح لا سندًا ولا متنًا، وإذا كان كذلك فمن أين نأخذ الوقت الفاضل في الصلاة؟
نقول: نأخذ الفاضل في الصَّلاة من فعل النبي ﷺ الغالب، نرى أفعال النبي ﷺ وما الذي كان يصنعه ﷺ في الصلاة، فذكر المصنف حديث عائشة ليبين الوقت الفاضل لصلاة الفجر وأنه هو وقت التغليس.
وصلاة الفجر لها مرحلتان:
- مرحلة التغليس.
- ومرحلة الإسفار.
مرحلة التغليس: أن تصلي بغَلَس، يعني ما لو لم يكن ثم نور من نور الصناعي هذا ما رأيت وجه صاحبك، هذا يسمى تغليس، ولهذا قالت (مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ).
مرحلة الإسفار: وهو أن ترى وجه صاحبك وقد ظهر النور لكن لم تطلع الشمس، فجمهور العلماء حاشا الحنفية يرون أنَّ الأفضل هو التغليس، وقالوا: هي سنة النبي ﷺ، وأعظم ما استدلوا عليه في هذا المعنى حديث عائشة «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ»، و"كان" تدل على التكرار.
قالت: «فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ»، فدلَّ على أنَّ النبي ﷺ كان يُغلِّس، وهذا هو ما ستدل عليه الأحاديث التي سيسوقها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- من حديث جابر وحديث أبي برزة ومن حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة، ومن حديث أبي موسى الأشعري؛ كلها تدل على أن الأصل في صلاة الفجر هو التغليس.
وأمَّا ما جاء في حديث رافع بن خديج: «أَسْفِروا بالفَجرِ فإنَّه أعظَمُ للأجرِ»[10]، فإنَّ هذا الحديث وإن كان حديثا صحيحًا إلا أنه محمول عندهم على مدِّ الصلاة، يعني: تبدأ بالصَّلاة وأنت مُغلِّس ثم تطيل بها، ومما يدلُّ عليه حديث أبي برزة الذي سيأتي بعد قليل، قال: «وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ» أي: ما بين الستين آية إلى المائة آية، يعني ما بين ستة أوجه إلى عشرة وذلك في الركعتين جميعًا.
قال: «وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ»، فأحيانًا يسفر بها، فإذا أسفر بها كان أعظم للأجر، ولهذا قرأ الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يومًا بأصحابه سورة البقرة فأتمها، وهذا يدل على أنه قد كبَّرَ مغلِّسًا؛ لأنه لو كبَّر مُسفرًا ما يستطيع يقرأ سورة البقرة التي هي ثمانية وأربعين وجهًا في هذه المدة اليسيرة.
فكبَّر بهم أبو بكر مغلِّسًا ثم أسفرَ بهم، حتى قال عمر: "يا خليفة رسول إن كادت الشمس لتطلع"، قال: لو طلعت ما وجدتنا غافلين.
ثم جاء عمر فصنعَ كما صنع الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولما سُئل أجاب بنفس جواب الصديق له -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فدلَّ ذلك بوجه عام على أنَّ الأصل في الفضيلة في صلاة الفجر: أن يُسفَر بها، ولهذا فإن ما يصنعه بعض أئمَّة المساجد من مباعدة ما بين الأذان والإقامة ومدها إلى خمسين دقيقة وخمسة وخمسين دقيقة؛ نقول: هو مما لا شك فيه أنه خلاف السنة، وأنَّ سنة النبي ﷺ أنه كان إذا تحقق من دخول الفجر صلَّى ركعتين خفيفتين ثم جاءه بلال فآذنه بالصلاة، فصلى بها مُغلِّسًا، هذه هي سنة النبي ﷺ التي أخبرتنا بها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قالت: «فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ»، التَّلفُّع هو التَّلفُّف بوجه عام أو الالتحاف، وهذا مما يستدل به على مشروعية تغطية الوجه للمرأة، لأنَّ التَّلفُّع هنا يعني: التَّلحُّف.
قالت: (ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، مِنْ الْغَلَسِ»، يعني لا زال هناك ظلمة لم تنكشف بها الوجوه).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ. وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ»)}.
حديث جابر وحديث أبي برزه بن نيار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هما أصح ما في الباب في المواقيت، وهذا حقيقة مما يدل على شرف هذا الكتاب -أعني كتاب عمدة الأحكام.
يقول طالب العلم: من أين أعرف شرفه؟
أقول: يُعرف شرفه من جهة أنَّ الأدلَّة التي فيه هي أصول الأحكام وهي أصح ما في الباب، ومن ثَم فإذا جاء طالب العلم يستدل على مسألة فمن الأولى به أن يستدل عليها بما صح عنده، وإذا استدلَّ بما صحَّ فمِن الأولى أن يرتِّب الصِّحَّة كما كان السلف يصنعون ذلك، فإن أبا داود -رَحِمَهُ اللهُ- كان إذا أراد أن يستدلَّ وبوَّبَ يبدأ بما صحَّ عنده، فإذا كانت الأحاديث كلها صحيحة يبدأ بأصحِّها، وكذلك مسلم -رَحِمَهُ اللهُ- إذا بدأ في الباب يبدأ بأصحِّ ما في الباب من الأسانيد، مع أن مسلم صحيح، لكن يبدأ بالأصح، وهذا منهج شرعي، وهو أن يبدأ الإنسان بالأفضل ثم يأتي بما بعده.
قال: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ»).
بدأ بصلاة الظهر كما سبق وأسلفنا، وإنما بدأوا بصلاة الظهر؛ لأنَّ جبريل -عليه السلام- لَمَّا نزل على رسول الله ﷺ يعلِّمه المواقيت كان أول ما بدأ به صلاة الظهر، فمن ثَم درج العلماء بوجه عام ومنهم الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على أنهم إذا سُئلوا عن المواقيت ذكروا الظُّهر مع أنَّ هذا النَّص ليس نصًّا قوليًّا من النبي ﷺ وإنما هو نصٌّ فعلي من الصحابة، وهم ينقلون فعل النبي ﷺ.
قال: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ»، صلاة الظهر هي التي تدعى "الأولى" وهم يدعونها في الزمن الأول بالهجير، فكانوا يسمونها بالهجير؛ لأنها تكون في شدَّة الحر، ولهذا جاء في حديث خباب: «أَتَيْنَا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَشَكَوْنَا إلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَ»[11].
قوله: «يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ» هذه هي أول الصلوات، وصلاة الظهر عند العلماء بالإجماع أنها من حين زوال الشمس، لأن صلاة الظهر مما يدل عليها القرآن، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: 78]، الآية هنا تستوفي أربعة أوقات:
- دلوك الشمس: يعني زوالها كما قال ابن مسعود وابن عباس، وقال: "دَلَكَت: زالت"، والدَّلْكُ بوجه عام هو الإزالة.
فقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ﴾ أي: لزوالها عن كبد السماء.
- غسق الليل: تستوفي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وغسق الليل: هو أول الظلمة، إذا أظلمَ الليل سُمي غَسَقًا، وأول ما يقع الغسق بعد غيوب الشفق وليس بعد غيوب الشمس، الذي هو وقت صلاة العشاء. هذه أربعة أوقات متصلة بعضها ببعض.
ثم قال: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ ؛ لأنَّ وقت الفجر وقت منفصل.
فإذًا وقت الظهر بالإجماع عند العلماء -رحمهم الله- يبدأ من الزوال.
لكن متى ينتهي؟
هذه المسألة مما وقع فيها الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- والمشهور في ذلك: أنَّ وقت الظهر ينتهي بمصير ظلِّ الشَّيء مثله، بعدَ الفيءِ الذي زالت عليه الشمس، فإذا صار ظل الشيء كطوله انتهى وقت صلاة الظهر، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وحديث جابر -يا إخوان ويا أخوات- ليس لبيان الأوقات، وإنما هو لبيان أفضل الأوقات، وأمَّا حديث أبي برزة الذي سيأتي بعد قليل لبيان الأوقات، ولهذا كان من الأولى أن يُقدَّم حديث أبي برزة، حتى إذا عرفنا متى تبدأ الصلاة ومتى تخرج؛ ننتقل إلى المسألة الثانية وهي ما هو أفضلها.
قال: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ»، ما بيَّن ها هنا متى البدء ولا متى النهاية؛ لكن أراد أن يبين فعل النبي ﷺ الغالب، ففعله ﷺ الغالب في صلاة الظهر أنه ﷺ كان يصليها في أول وقتها، إلا في شدة الحر.
فإن قال قائل: الهاجرة ما يدل على شدة الحر؟
نقول: لا، بلا شك أن الهاجرة -أو الهجير- يدل على الحر، لكنه ليس هو أقصى الحر، فإن الحر درجات، وإلا فإن فصول السنة بوجه عام في جزيرة العرب لما كانت على عهد النبي ﷺ أغلبها شدَّة حرٍّ في الظهر، ما فيه إلا ثلاث أو أربعة أشهر فقط هي المستثناة من هذه القاعدة، وبقيتها حارَّة وتسمَّى هجير.
قوله: «وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ»، يعني ويُصلي ﷺ صلاة العصر والشمس نقية، ونقاء الشمس هي شدة حرارتها، لأنه إذا دخل وقت العصر بعد مصير ظل الشيء مثله تبقى الشمس حارَّة نقيَّة.
ومعنى «نَقِيَّةٌ» أي: لم تخالطها حُمرة الغروب والصفرة التي في الغروب، فهي لازالت بحرارتها وبوضعها التي كانت عليه وقت الظهر.
إذًا؛ صلاة العصر مما ينبغي التعجيل بها، ولهذا جاء في حديث بريدة: «بَكِّرُوا بالصَّلَاةِ، فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: مَن تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ»[12].
قال: «وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ»، يعني ويصلي ﷺ صلاة المغرب إذا وجبت الشمس، يعني: إذا سقطت، ووجوبها سقوطها، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَ﴾ [الحج: 36]، أي وقعت وسقطت.
وقوله: «وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ»، يعني أنَّ النبي ﷺ كان يصلي المغرب عند غروب الشمس، وهذا بالإجماع عند العلماء، ووقتُ العصر فيه خلاف سنذكره، فإنَّ الأحناف يرون مشروعية تأخير العصر إلى أن يكون ظل الشيء مثليه، وهذا بلا شك خلاف السنة، صلاة المغرب بالإجماع عند العلماء الأفضل فيها تعجيلها، حتى إنَّ طائفة من العلماء كمالك والشَّافعي يقولون: المغرب أصلًا ما لها إلا وقت واحد، من حين ما تغرب تصلِّي، حتى إنَّ مالكًا قال: أنا أرخِّص للمسافر إذا دخل وقت المغرب أن يمشي مقدار ميل ثم يصلي.
والمشي مقدار ميل يوازي خمس دقائق أو سبع دقائق، وهذا فيه دلالة على أنها معجَّلة، وهذا إجماع، فأولى الصلوات بالتَّعجيل صلاة المغرب؛ لأنه لا خلاف فيها، وإذا رأينا أنَّ النبي ﷺ في كثير من الأحيان يصلِّي أحيانًا المغرب -مع أنه يعلِّم- فيصلي أحيانًا المغرب في الوقتين في وقت واحد، فالنبي ﷺ كان يأتيه الرجل فيسأله عن الصلاة، فيقول له: «صَلِّ معنَا هَذَيْنِ»[13]، يَعْنِي اليَومَيْنِ، ثم يعلمه التعليم أو التربية العملية، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في اليوم الأول في أول وقتها، ثم يصليها من اليوم الثاني في آخر وقتها، فإذا نظرنا إلى الوقت بين الظهر في اليوم الأول والوقت في الظهر في اليوم الآخر وجدنا أن بينهما زمنًا، إلا المغرب، فإنه كان ربما في بعض الأحاديث صلَّاها في اليوم الأول وفي اليوم الثاني في وقت واحد، فدل ذلك على أنَّ المعنى متقرر، وأنَّ صلاة المغرب الأصل فيها التَّعجيل.
قال: «وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ. وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ»، وقت فضيلة صلاة العشاء على نوعين:
- لمن يصلي وحده لعذر كمسافر، والمسافر قد سقطت عنه صلاة الجماعة حتى لو أقام، يعني حتى لو مكث في المدينة ولم يقم إقامة مطلقة لكنه جالس في المدينة أو استأجر له فندقًا؛ نقول: سقطت عنك صلاة الجماعة؛ ففي مثل هذه الصورة ينبغي له أن يؤخرها قولًا واحدًا.
-وصلاة المرء مع غيره سواء كان هذا الغير مأمومين أو إمام، فالأولى به مراعاة عموم المسلمين ممن يصلي معه جماعة.
وكثير من الأئمة للأسف يسوق الناس على رغبته ويعسفهم عليها، فترى مثلا أنه إذا كان يرغب في أن يطيل وقت صلاة الفجر أطالها خمسين دقيقة، وإذا أراد أن يطيل أوقات بعض الصلوات أطالها، بدل ما هي عشرين يمدها ثلاثين؛ لأنه ينظر إلى حظ نفسه، ونقول: إن هذا هو الخلاف الصريح لسنة النبي ﷺ.
فالأصل بوجه عام: إنما هو النظر لعموم مصالح المسلمين، ولعموم مَن يصلي معك، ولهذا قال النبي ﷺ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ»، يعني يراعيهم. قال: «إنَّ منهمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ، وإذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شَاءَ»[14]، ولا ترى أحدا يراعي نفسه في مثل هذا المعنى إلا وجدته مقصرًا فيما بينه وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا عام وغالب؛ لأنَّه إذا ما كان عمل هدي النبي ﷺ لعموم المسلمين فهو في نفسه أبعد!
فإذًا الأصل بوجه عام: أن يراعي الإنسان حال المأمومين، وكذلك المأموم يراعي حال الجماعة، ما يأتي يقول يا أخي جماعة المسجد هداهم الله يصلون صلاة العشاء في أول وقتها، والسنة في ذلك تأخيرها، فتعزيرًا لهم وردعًا لهم أنا سأصلي لوحدي متأخر! نقول: لا، إذا كان الإمام وهو الإمام مأمور بأن يراعي الجماعة وهو الذي يكبِّر ويقودهم مأمور بأن يقدم الصلاة لغرض أن يصلي هؤلاء وراءه فأنت من باب أولى، أنت أيها المأموم من باب أولى أن تصلي مع الجماعة، وحفظ صلاة الجماعة ومراعاتها أولى من مراعاة فضيلة التَّقدُّم أو التأخر في الوقت ما لم يخرج عن الوقت الواجب،
فإذًا الأصل بوجه عام في صلاة العشاء التأخير، لكن إذا كان هذا مما يشقُّ على الجماعة فإن الأصل فيها مراعاتهم، هذا أمر.
الأمر الثاني مما ينبغي أن يقال أو يقرر في مثل هذه المسألة: مما ينبغي للإمام بوجه عام أن يراعي الأغلب في الجماعة، يعني لو اختلفوا عليه، بعض الناس يقول: هذا أمر لا دليل عليه، وهو مراعاة الأغلب، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 116]، نقول: لا، هذا بلا شك مقررة في مسائل كثيرة، لكن كان النبي ﷺ يستشير ويرجِّح رأي الأغلب، كما أشاروا عليه ﷺ في أُحد، وكما كان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يستشير الناس، نعم يجوز لإمام المسلمين بوجه عام إذا أشار عليه الأغلب وخالفهم بعضهم، ورأى أن المصلحة في رأي الأقلية أن يسلكه، هذا أمر للإمام الأعظم، لكن مَن دونه ينبغي له أن يراعي عموم المسلمين، وأن يراعي الأكثر.
ولهذا قال ها هنا: «إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ»، مع أنهم ما اجتمعوا كلهم وإنما يجتمع أغلبهم.
قال: «وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ»، مع أنهم ما يبطئون كلهم وإنما يبطئ أغلبهم؛ فدلَّ ذلك على أيضًا أنه ينبغي مراعاة الأكثر في جماعة المسجد، وفي كل شيء يُراعى الأغلب، يُقال: من الذي ترونه؟ قالوا والله نريد أنك تجعل المسجد بارد، أو حار، تقدِّم الصلاة، تؤخرها؛ فيراعي المسلمين ما لم يكن ذلك على يكون المسجد على طريق أو نحو ذلك، فإنه ينبغي ها هنا مراعاة العرف العام، لأنَّه مما يشق على الناس، فالمساجد التي على الطرق سواء على طرق السفر أو على الطرق السريعة، مثل الطريق الدائري وغيره، يأتي الإنسان فيصلِّي إلى بعض المساجد فتجد أن الإمام يؤخر الصلاة أربعين دقيقة وهذا الرجل عابر سبيل!
نقول: الأصل أنه إنما وقف يصلي في هذا المسجد لأجل أنه يظن أنه سيصلي كما يصلي غيره، فنقول: بلا شك أنه ينبغي أيضًا مراعاة هؤلاء؛ لأنَّ هذا مما لا يشق عليهم ولا يشق على جماعة المسجد، هذا هو الأصل الذي ينبغي مراعاته.
قال: «وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ»، ها هنا قد تتابع الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على أنَّ الأفضل في صلاة الصُّبح هو التَّغليس، وبناء عليه فإنه لا ينبغي التشبث بالنصوص التي تُتأوَّل، وينبغي لمن بلغه سنة النبي ﷺ أن يقول: سمعنا وأطعنا، وأن لا يحاول ضرب النصوص والانتصار بها لمذهب، اتباع النبي ﷺ والاحتياط لدينك أولى من نصرة مذهبك، وأولى من متابعة فلان من العلماء الذي لو تبيَّن له الدليل لما تردَّد لحظةً، والذي إنما شرَّفه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وجعلك أنت من أتباعه بالدليل، وإلا لو لم يكن متبعًا لسنة النبي ﷺ، ما اتبعتَه، فمن العجب أن تجعله هو المرجع إليك في تقرير السنة! فإذا رأيت أنَّ السنة قد ثبتت عن النبي ﷺ بخلاف ذلك فلا يسعك إلا أن تتبعها وأن تترحم على هذا الإمام، وتقول: رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رحم الله فلانًا من الناس لو كان يعلم ذلك لَما توقَّف عن اتباعه، هذا هو العمل بالدليل مع التَّأدُّب مع العلماء -رحمهم الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ قَالَ «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ -الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى- حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ. وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا. وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ»)}.
هذا حديث سيار بن سلامة الذي يرويه عن أبي برزة الأسلمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، وفيه أنه سأل أبا برزة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كيف كان النبي ﷺ يصلي المكتوبة؟
قال: (كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ -الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى- حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ)، بيَّنَ هنا ميقات صلاة الظهر. وقوله (تَدْحَضُ الشَّمْسُ) يعني تزول، ومنه قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 16]، داحضة: يعني زائلة.
(تَدْحَضُ الشَّمْسُ): أي تزول الشمس، هذا هو وقت بدء صلاة الظهر.
وذكرنا أنَّ انتهاءها لم يُبيَّن في هذه الأحاديث، وإنَّما قد جاء بيانه في غيرها، كما في حديث أبي موسى الأشعري وفي حديث بريدة؛ أن انتهاء وقت صلاة الظهر إذا صارَ ظل الرجل كمثله، ثم يدخل من ذلك الحين وقت صلاة العصر، فوقت صلاة العصر مرتبط بوقت صلاة الظهر، ولهذا هما من صلوات الجمع، فالرَّجل المسافر والمريض المرض الذي يشق عليه أن يفرقهما له الجمع، والجمع الصوري بوجه عام يجوز، بمعنى أن يؤخر الإنسان وقت صلاة الظهر إلى آخر وقتها ثم يصلي في أول وقتها، والحائض والنفساء إذا طهرتا عند بعض أهل العلم في وقت صلاة العصر صلَّت معها صلاة الظهر، قالوا: لأنهما صلاة جمع، يعني يجمعان ووقتهما يكون وقتًا واحدًا للمضطر والمحتاج.
فإذًا وقتهما مرتبط، يبدأ وقت صلاة العصر بانتهاء وقت صلاة الظهر، وليس بينهما فاصل على الصحيح، إذا انتهى وقت الظهر دخل وقت العصر مباشرة، ثم يستمر وقت العصر اضطرارًا إلى غروب الشمس بالإجماع، واختيارًا على خلاف بين العلماء، هل هو إلى مصير ظل الرجل مثليه أو أنه إلى اصفرار الشمس؟ هذا محل خلاف بين العلماء -رحمهم الله.
وأصح الأقوال في ذلك أنه إلى اصفرار الشمس، إذا اصفرت الشمس أصبح الوقت الآن وقت اضطرار، يعني لا يجوز للإنسان أن يوقع صلاة في هذا الوقت إلا إذا كان مضطرًّا.
قال: «وَيُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ»، هذا يحقق ما ذكرناه، من أن الأصل في صلاة العصر أن تُعجَّل، وأنه لا يجوز تأخيرها إلى أن تصفر الشمس لأنه قال: «وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ»، وما دامت الشمس حية معناها أنها لم تدخل بالصفرة، هذا هو الأصل في وقت صلاة العصر.
قال: «وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ»، وقد ذكرنا أنَّ وقت صلاة المغرب يدخل إذا وجبت الشمس، وأنَّ النبي ﷺ كان يصلي المغرب إذا وجبت، يعني: إذا غربت الشمس.
وأمَّا متى ينتهي وقت المغرب؛ فعلى أصح الأقوال أنه ينتهي عند غياب الشفق، الأحمر.
قال: «وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ»، ووقت صلاة العشاء يبدأ عند العلماء من مغيب الشفق الأحمر، ثم يستمر إلى منتصف الليل اختيارًا، وإلى صلاة الفجر اضطرارًا.
قال: «وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا،»، أي: يكره النوم قبل صلاة العشاء؛ لأنهم كانوا في الزمن الأول يقوم الرجل من صلاة الفجر، فلا يأتي وقت صلاة المغرب إلا وقد أُرهق وأعيي فينام، فإذا نام ضاعت عليه الصلاة، فنهى النبي ﷺ وكره النَّوم قبلها، إلا إذا كان من يوقظه، وقد كان ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ينام إذا كان له مَن يوقظه من أهله.
قال: «وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَ»، أي: الحديث الذي هو في أمور الدنيا ونحو ذلك، أو الحديث الذي ليس منه فائدة، هذا مكروه؛ لأنه يُشغل عن صلاة الفجر.
قال: «وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ». لعلنا نتوقف هنا، ونكمل إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- في المجلس القادم.
{أحسن الله إليك فضيلة الشيخ وشكر الله لكم، الشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدون الكرام، نراكم بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275)، وأحمد (1006).
[2] صحيح مسلم (82).
[3] أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (22987).
[4] صحيح مسلم (395).
[5] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجة (3828).
[6] صحيح البخاري (527).
[7] صحيح البخاري (26).
[8] صحيح البخاري (527).
[9] السلسلة الضعيفة للألباني (1832).
[10] أخرجه الترمذي (154)، والنسائي (548)، وأحمد (17318)، صححه الألباني.
[11] صحيح مسلم (619).
[12] صحيح البخاري (553).
[13] صحيح مسلم (613).
[14] صحيح البخاري (703).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك