{الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حيَّاكم الله أيها الإخوة المشاهدون الكرام، في برنامجكم (جادة المتعلم)، والكتاب المقروء فيه هو كتاب (عمدة الأحكام) للإمام الحافظ عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، ويصحبنا فيه فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن عبد الكريم السلوم، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{أحسن الله إليكم كنا قد وقفنا في باب الصفوف عند حديث عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
الحمد لله رب العالمين، قال الإمام عبد الغني المقدسي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد، فقد أوردَ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في باب الصفوف للدلالة على موضع أو مقام المأموم من الإمام إذا لم يكن مع الإمام إلا مأموم واحد، فإنَّ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد باتَ يومًا عند ميمونة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، وهذه البيتوتة من ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عند ميمونة قد كانت بيتوتة مدروسة، يعني: تمَّ التنسيق فيها بين العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبين زوج العباس التي هي أم الفضل لبابة -رضي الله عنها- وبين أختها ميمونة؛ لأنه لبابة بنت الحارث وميمونة بنت الحارث أخوات، فتوخوا يومًا كانت فيه ميمونة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- حائضًا، فذهب ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ليبيت مع النبي ﷺ عند خالته، وما كان غرضه البيتوتة عند النبي ﷺ لأجل المنام، وإنما كان غرضه أن يعلم صلاة النبي ﷺ في الليل، قد بعثه والده العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وأحسن العباس إذ اختار من أبنائه عبد الله، فإنَّ للعباس عشرة، عبد الله بن عباس من أصغرهم، يقول العباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
تَمّوا بِتَمّامٍ فَصَارُوا عَشَرَة ... يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَة
وكان من ضمنهم عبد الله بن عباس، فما اختار أحدًا منهم كلهم إلا عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأنه كان أنبههم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فهو تُرجمان القرآن وحبر هذه الأمة، وهو غلام مُعلَّم، قال ابن عباس: "فاضطجعت في عرضِ الوسادة -التي هي السرير- واضطجع رسول الله ﷺ وزوجه في طولها" دلالة على أنَّ بيت النبي ﷺ كان بيتًا صغيرًا، ما فيه حجرات وغرف، وإنما هي حجرة واحدة؛ بل وسرير واحد للنبي ﷺ ولميمونة، وقد كان ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على ما قيل قد اضطجع عند رِجلِ رسول الله ﷺ أو عند رأسه بالعرض، قال: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله ﷺ في طولها"، ولم ينم، وإنما كان غرضه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُراقبة فعل النبي ﷺ، فروى لنا رواية من أحسنِ الروايات في صفة صلاة النبي ﷺ في الليل، وكان منها هذا الطرف اليسير الذي ذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- حينما قال: (فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، قام إلى شنٍّ معلق -شن هو القربة- فتوضأ منها وضوءًا خفيفًا، ثم قال الميمونة: نام الغليم؟ قال: فقمت وتمطيت أُظهر للنبي ﷺ إني نائم)، وما كان نائمًا، ما يريد أن يجعل النبي ﷺ يرى أنه كان يرقبه، قال: «فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ»، مع أنَّ الحركة في الصَّلاة إمَّا مكروهة أو محرمة، ولكن الحركة للحاجة جائزة؛ فدلَّ ذلك على أنَّ مقام المأموم من الإمام إذا كان المأموم واحدًا إنما يكون عن يمين الإمام لا عن يساره، وأنه إن قام عن يساره أخذه فحوَّله، وفي بعض الروايات: «فأخَذَ بيَدِي فَجَعَلَنِي مِن شِقِّهِ الأيْمَنِ، فَجَعَلْتُ إذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بشَحْمَةِ أُذُنِي»[1]، حتى يوقظه رسول الله ﷺ.
فإذًا هذا موقف المأموم من الإمام إذا كان المأموم واحدًا، فإن كانا اثنان فعلى حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقفان خلف الإمام، فإن وقف المأمومان بين الإمام جاز ذلك، كما في حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أقام علقمة والأسود عن يمينه وعن شماله، وأخبرهم أنَّ النبي ﷺ قد فعله، لكن نقول: الأظهر من سنة النبي ﷺ ولعلَّه هو أيضًا آخر الأمرين من رسول الله ﷺ أنه إذا كان المأموم أكثر من واحدٍ فإنهما يقفان خلف الإمام، هذا هو موقفهما من الإمام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الْإِمَامَةِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ: أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟»)}.
الإمامة إنما يراد بها: الأحكام المختصَّة أو التي تجب في صلاة الجماعة أو في مُتابعة الإمام، يعني ما الذي يجب على المأموم مع إمامه؟
والإمامة بوجه عام أصل قرآني، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء: 102]، فدلَّ ذلك على أنَّ الإمامة أصلٌ قرآني مُؤصَّل، ولهذا قال النبي ﷺ: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ: أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟».
الائتمام هو: الاتباع والاقتداء، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾ [الفرقان: 74]، وقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ﴾ [الأنبياء: 73] وقال في فرعون: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ [القصص: 41]، فكل من كان متَّبَعًا أو مقتدَى به في الخير أو في الشَّر فإنه يسمى: "إمامًا".
وبناءً عليه: فالأصل بوجه عام في الإمامة أنها هي: الاتباع والاقتداء.
ومن المعلوم أنه لا يكون الاتباع ولا الاقتداء إلا حينما يكون الفعل مُتعقِّبًا لفعل المقتدَى به أو المتبَع، أمَّا حينما تنافسه فأنت لا تقتدي به ولا تأتم به، وإنما تنافسه، فمَن سابقَ الإمام أو من قارنه في أفعاله لم يكن قد جعله إمامًا، وإنما جعله قَرنًا له وجعله شبيهًا له. ونقول: إنَّ هذا يخالف مقصود الصَّلاة، ويخالف مقصود الإمامة، ولهذا قال النبي ﷺ: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ: أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟»، هذا التحويل للتحقيق عند أهل العلم تحويل حسي؛ لأنه قال: "رأس وصورة" ما قال: "يمسخه"، لو قال: "مسخه" قلنا: المسخ قد يكون مسخ في المعنى، لكن هنا قال: «يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟»، نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- قادر على ذلك.
قال بعض أهل العلم: لَمَّا شبهه النبي ﷺ بالحمار ما قال: "يجعل صورته صور الثور، أو صورة خيل" وإنما قال: "حمار" فدلَّ ذلك على البلادة؛ لأنَّ الأصل في الحمار أنه بليد، وإذا كان كذلك فإنَّ مَن سابق الإمام أو قارَنه لم يفهم معنى الإمامة، تسابق الإمامة وتقارنه إذًا ما الذي يجعلك تصلي خلفه؟ وما الذي يجعلك تقتدي به؟ إذا لم يكن الاقتداء لأجل معنى المقارنة، فإذًا هذا مما يدل على أنَّ مسابقة الإمام لا تجوز، وهذا هو القول الصحيح، ولهذا قال النبي ﷺ: «إنِّي إمَامُكُمْ، فلا تَسْبِقُونِي بالرُّكُوعِ ولَا بالسُّجُودِ، ولَا بالقِيَامِ ولَا بالانْصِرَافِ»[2]، وقال: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»، كما سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ.
{أحسن الله إليكم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ».
وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- قَالَتْ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ، صَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ: أَنْ اجْلِسُوا لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ»)}.
هذان الحديث، وهما حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- هما الأصل بوجه عام في وجوب مُتابعة الإمام، وفي أنه لا يجوز مُسابقة الإمام؛ لأنَّ معنى الإمامة إنما يتحقَّق بالمتابعة. هذا هو الأصل، ولهذا قال النبي ﷺ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»، يعني هذا هو المقصد من كون الإمام إمامًا.
قال: «فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُو»، هذا في تكبيرة الإحرام.
قال: «وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُو»، هذا في الركوع.
قال: «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ»، الفاء هنا تدل على التعقيب عند أهل العلم، ودلَّ ذلك على أنَّ المتابعة تكون بأن يأتي بالفعل عقيب فعل الإمام مباشرة، فلا يتأخَّر فيه ولا يُقارنه ولا يُسابقه، فهذه ثلاث معان مذمومة، فالمسابقة وهي محرمة على الصحيح من أقوال أهل العلم، والمقارنة وهي محرمة أيضًا على الصحيح؛ لأن من قارن الإمام لم يقتدِ به، والتأخُّر عنه، وهو أيضًا ممنوع؛ لأنَّ التأخر عن الإمام مما يخالِف هدي النبي ﷺ فإنه قال: «وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُو» والفاء تدل على التعقيب، وقد قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُبادروني بركُوعٍ ولَا سُجودٍ فإنَّه مَهمَا أسبِقُكم به، إذا ركعتُ تُدرِكوني به إذا رفعتُ إنِّي قد بدِنتُ»[3]، هذا كله مما يدلُّ على أنَّ الأصل في المتابعة إنما هي المتابعة بالأفعال؛ لأنَّ كثيرًا من الناس يتابع الإمام بالأقوال، يعني: بالتكبير "الله أكبر" نقول: التكبير إنما هو دلالة، وليس هو أصل المتابعة، أصل المتابعة إنما هو بالفعل، فلو ركعَ ولم يكبِّر وجب عليك أن تتابعه، ولو كبَّر ولم يركع لَما جاز لكَ أن تتابعه، يعني: الأصل أنَّ المتابعة تقع بالأفعال، ولهذا اختلف العلماء في تكبيرات الانتقال هل هي واجبة أو ليست بواجبة؟ لأن بعض الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- لم يكن يكبر تكبيرات الانتقال التي يراها المأموم حينما يُكبِّر للركوع، بعض الصَّحابة كما جاء عن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان لا يتمُّ التكبير، يعني لم يكن يكبر فيما يرونه، ما كان يستطيع أن يُكبِّر لكبره -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وصل ثمانين في العمر وكان يشق عليه، فكان إذا ركع فهم يرونه يركع فما كان يحتاج أن يكبر، وإذا هوى للسجود يرونه قد هوى للسجود فما يحتاج أن يكبر، وإذا قام إلى الركعة الثالثة ما يحتاج أن يكبر، فدلَّ ذلك على أنَّ المتابعة إنما تكون بالأفعال.
فإذًا انظر إلى إمامك ما الذي يفعله؟ وإنما جُعلت الأقوال للدلالة على الأفعال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ -وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ»)}.
حديث البراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقرِّر ما سبق وذكرناه، من أنَّ الأصل في المتابعة إنما هي متابعة الأفعال لا متابعة الأقوال، ومن أجل ذلك قال بعض العلماء -رَحِمَهم اللهُ: إنَّ الأصل في تكبيرات الانتقال أن تكون بمعنى الانتقال، فالانتقال من الركن إلى الركن، لكن كيفما أوقعها أجزأت إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لكن قالها هنا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، يعني: إذا رفع رأسه من الركوع. قال: «لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ»، يعني: لم يسجد. قال: «حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدً»، ما قال: "حتى يكبر النبي ﷺ للسجود" وإنما قال: «حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدً»، فدلَّ ذلك على أنَّ الانتقال والتَّحرك إنما يكون عند اكتمال فعل الإمام، فإذا اكتملَ فعل الإمام للركوع فاركع، وإذا اكتمل فعله بالسجود فاسجد، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُبادروني بركُوعٍ ولَا سُجودٍ فإنَّه مَهمَا أسبِقُكم به، إذا ركعتُ تُدرِكوني به إذا رفعتُ إنِّي قد بدِنتُ»، يعني: انتظروا حتى أسجد ثم اسجدوا بعدي؛ لأنَّ الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- كان منهم شباب، والنبي ﷺ في آخر عمره كان قد أسنَّ، فكان إذا هوى ﷺ إلى سجوده ربما تأخر شيئًا يسيرًا فسابقه الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فنهاهم، ولهذا قال البراء: «لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ».
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»).
حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هذا أيضًا من المعاني الجليلة في مُتابعة الإمام، فإنَّ النبي ﷺ كما أمر بمتابعة الإمام في أفعاله، فقد أمر أيضًا بمتابعته في أقواله، فقال: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُو»، وهذا مما يدل ويقرر -والله أعلم- أنَّ قراءة الفاتحة على المأموم فيما يجهر به إمامه ليست بواجبة؛ لأنَّ النبي ﷺ قد ندب المأموم إلى التأمين مع الإمام، وما ندب المأموم يومًا واحدًا أو في حديثٍ واحدٍ إلى أن يقرأ بعد قراءة إمامه، مع أنَّ القراءة عند مَن يقول بوجوبها خلف الإمام فيما يجهر فيه أعظم وجوبًا من التأمين، يقول: التأمين ليس بواجب وإنما هو مسنون، فدلَّ ذلك على أنَّ القراءة خلف الإمام ليست بواجبة فيما يجهر به، وأنَّ غاية المأموم أن يستمع إلى إمامه، فإذا رآه قد أمَّنَ أمَّن بعده، فهذه أيضًا متابعة، في أقوال بقوله: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُو».
قال: «فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، فيه دلالة على:
- أنه يُشرع للإمام أن يُؤمِّن، خلافًا لمن قال من العلماء إنه لا يشرع للإمام التأمين.
- مشروعية التأمين وأنه من أعظم الفضائل، ولهذا جاء عن بلال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَسْبِقْنِي "بِآمِينَ"»[4]، للندب والفضيلة في قول: "آمين".
والعجيب أنَّ بعض الناس ربما يحرص أحيانًا على إدراك التكبيرة، وهذا أمر فاضل، لكن ما جاء فيه حديث صحيح -أعني في إدراك تكبيرة الإحرام- وحديث «مَنْ صلَّى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النارِ، وبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ»، هذا ما يصح ولا يثبت عن النبي ﷺ، ولكن ربما يغفل أحيانًا عن فضل إدراك التأمين، مع مَن أدرك التكبير أدرك التأمين بكل حال، لكن أيضًا نقول: إن ادراك التأمين هو المعتبر الذي كان الصَّحابة الله عنهم يتنافسون فيه.
قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ» التأمين هو دعاء، "آمين" بمعنى: اللهم استجب، والظاهر -والله أعلم- أنَّ الملائكة تشهد الصَّلاة وتُؤمِّن، فإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة على ما هُم عليه من الإخبات لله -عَزَّ وَجَلَّ- والخشوع لله -عَزَّ وَجَلَّ- غُفر له ما تقدم من ذنبه، وهذا المعنى متقرِّر في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أو لم يقل النبي ﷺ لَمَّا توضَّأ: «مَن تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا ثُمَّ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِما نَفْسَهُ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»[5]، فإذًا هذا المعنى متقرر، وهو أن يصلي ركعتين أو يصلي أربعًا أو يصلي ثلاثًا قد صلى ركعتين، فإذا أتى بما أخبر النبي ﷺ أنه من موجبات غفران الذنوب.
فإذًا التأمين كتأمين الملائكة ليس من شرطه موافقتهم بالقول، ولكن أيضًا من شرطه الأساس هو إخبات القلب لله -عَزَّ وَجَلَّ-، والقيام بحقِّ الصَّلاة من الخشوع والإقبال لله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا هو معنى موافقة تأمين الملائكة -والله أعلم-، فالملائكة يُؤمِّنون لأنهم يشهدون الصَّلاة، كما جاء في حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وأعظم الصَّلاة التي تشهدها الملائكة هي صلاة الفجر، ولهذا لا يكاد أحدًا يشهد صلاة الفجر إلا ويوافق تأمينه تأمين الملائكة، خاصَّة مع ما يقوم دائمًا في صلاة الفجر أو غالبًا في صلاة الفجر من إخبات القلب لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وانقطاع القلب عن الأشغال والمادة وما إلى ذلك، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً﴾ [الإسراء: 78]، القرآن في الليل له معنى آخر، النهار وقت إشغال، لكن الليل له معنًى ثانٍ، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلً﴾ [المزمل: 6]، ناشئة الليل: هي آخر الليل، نشأ بالليل يعني: قام بالليل، وقوله: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئً﴾ يعني أكثر موافقة ومواطئة للقلب واللسان، وقوله: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلً﴾، يعني: أكثر استماعًا للقرآن وقيامًا بحقِّه، فإذًا مَن صلَّى صلاة الفجر فأمَّن مع المأمومين فإنه لا يكاد في الأعم الأغلب إلا يكون موافقًا لتأمين الملائكة -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فهذا أيضًا من المعاني التي ينبغي أن تستصحب فيها هذا الحديث عن رسول الله ﷺ.
{أحسن الله إليكم. قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ»)}.
أورد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الحديث كالإرشاد للأئمة، لأنه لما ذكر في الحديث السابق ما يجب على المأموم من المتابعة للإمام، ذكرَ أيضًا في هذا الحديث ما يجب على الإمام تجاه المأمومين، فإنَّ من ما يجب على الإمام تجاه المأمومين أن يُراعي أحوال المأمومين، ومراعاة أحوال المأمومين تكون بالتَّخفيف عليهم، بمعنى أن يرى من يصلي، ولهذا جاء في حديث عثمان ابن أبي العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه لَمَّا قال للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يا رسولَ اللَّهِ اجعَلْني إمامَ قَوْمي، قال: أنتَ إمامُهم، واقتَدِ بأضعَفِهم»[6]، يعني: اقدر صلاتك بقدر أضعفهم، بالصلاة التي لا تشق على الأضعف.
هذا من الأمور التي ينبغي بوجه عام للإمام أن يستصحبها، ومتى ما استصحبها الإمام بوجه عام جمع الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه قلوب المأمومين، كثير من الأئمة يشتكي من أنَّ المأمومين لا يكادون يجتمعون عليه، نقول: أنت ما قدمت لهم ما تجمعهم عليه، ما تراعيهم أنت! ما تؤدي حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم، أدِّ حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم حتى يجمع الله -عَزَّ وَجَلَّ- قلوبهم عليك، ومن أعظم أداء حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم: أن تقدر الصَّلاة بقدرهم، الإمام الذي يُصلِّي على الطرق ليس كالإمام الذي يصلي بأصحابه وبجماعته وقومه، يصلي في قرية من القرى ما معه إلا ثلاثة أو أربعة كلهم يعرفوه، وكلهم من الشباب القادرين على الإطالة، نقول: مثل هؤلاء أطل بهم ما تشاء، لكن تصلي في مساجد يجتمع فيها الناس، ويجتمع فيها كبار السن، ويجتمع فيها أصحاب الحاجة ممن هم على الطريق، ثم تطيل بهم؛ هذا مما لا شك فيه أنه خلاف سنة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ولهذا قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ»، ولا تجد أحدًا يطول ويخالف سنة النبي ﷺ في الأمر بقدر الصَّلاة بقدر الناس إلا رأيته فيما بينه وبين نفسه على خلاف ذلك، تجد أنه جيد ما شاء الله في الإطالة بالناس، لكن إذا صلَّى لنفسه رأيت صلاته صلاة خفيفة، فإذا قام في المنبر وفي المحراب استرسل بالصَّلاة وفُتح عليه، لكنه إذا صلى لنفسه لا!
نقول: بلا شك أنَّ هذا هو خلاف هدي النبي ﷺ، ولا يكاد أحد يخالف هدي النبي ﷺ إلا ويحصل له مخالفة سنة النبي ﷺ في أكثر من سنة؛ لأنَّ السنة تتبع السنة.
قال النبي ﷺ: «فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ»، ومن معلوم أنَّ النبي ﷺ قد أنكر على معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا طوَّل بأصحابه، وقال له: «يا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ»[7]، صلى مع النبي ﷺ ثم رجعَ إلى أصحابه فصلى بهم فشرع يقرأ بهم بسورة البقرة، مع أنه لَمَّا صلى مع النبي ﷺ كان يسمع صلاته، صلى بالشمس وصلى بالغاشية وصلى بسبح اسم ربك الأعلى، ولكنه صلى بهم بالبقرة، فأقبل هذا الرجل وقد جنح الليل فشقَّ عليه صلاة معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكاد أن يُفتتن الرجل حتى شكى ذلك إلى رسول الله ﷺ، فنهر النبي ﷺ معاذًا وشدد عليه، حتى قال بعض الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-: إنَّ النبي ﷺ قد غضب على معاذ، ذلك من شدة قول النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟»، فإذًا ما من شك أنَّ هذا نوع من الفتنة التي ينبغي للإنسان ألا يقع فيها، وألا الناس عن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ.
الأصل في الإمام -معاشر الإخوان والأخوات- أن يحبب المأمومين إلى صلاة الجماعة، بأن يرى الأيسر لهم وعليهم في كل شيء، يجعلهم هم المعيار، ما يجعل المعيار رغبته، قد ترغب أنت في الإطالة، وقد ترغب أنت في تقديم الصَّلاة أو تأخيرها، لكن لست أنت المعيار، المعيار أنت إذا كنت تصلي لوحدك، أما إذا كنت تصلي بالناس فالمعيار هم الجماعة، والمرجع ها هنا هم الجماعة كما أمر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّابِعُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ»)}.
هذا حديث أبي مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بمثل الحديث السابق وهو حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ)، لا نسمي فلانًا هذا؛ لأنَّ الأصل أن ما أبهمه الراوي فلا ينبغي حقيقة الكشف عنه، ثم يأتي رجل يقول: اجتهد ويقول هذا لعله فلان أو لعله فلان؛ بل نقول: أبهمه الراوي، فمن الستر عليه أن يُبهم؛ لأنَّ هذا ليس مما يُتمدَّح به ليُبحث عن صاحبه، وإنَّما هو نوع من الملاحظة على هذا الإمام، وفيه دلالة على أنه يجوز شكوى الإمام إلى الجهة المسؤولة إذا كان فيه ضرر على المأمومين؛ لأنَّ الأصل بوجه عام أن لا يُفتن الناس عن دين الله، لا تفتن الناس عن دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، المسجد ليس قاصرًا لك وعليك وإنما الأصل فيه عموم المسلمين، فلا تطول عليهم وتقرأ بهم الطوال، وهذا مما يشق عليهم، تجد أن الناس عندهم أعمالهم، أو وراءهم نوم، أو وراء الواحد منهم أعمال خاصة، الأصل في ذلك أن يُقرَّب دين الله -عز وجل- إلى الناس.
قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ)، يعني أن النبي ﷺ وعظَ أصحابه، وكان النبي ﷺ إذا وعظ أصحابه يرتفع صوته كأنه منذر جيش، لكنه ما يغضب، ولكن في هذه الموعظة غضب النبي ﷺ لأنه خشي الفتنة، فربما أقعد بعض الناس عن صلاة الجماعة لأجل بغض الإمام، وبغض الإمام ربما كان بغضًا شرعيًّا -أعني أنه ناتج عن أفعاله- تجد الإمام يُنفِّر الجماعة، يتأخر عن الصلاة ثم يقول: لا تقيمون حتى أحضر، الناس متواجدون ومتوافرون وينتظرونه خمس دقائق وعشر دقائق والإمام في حاجته، نقول: إن هذا كله من خلاف هدي النبي ﷺ، فالنبي ﷺ كان يقيس أصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فكان إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم ابطؤوا أخَّرَ، ما كان يربط أصحابه به ﷺ، وهو ﷺ الإمام الأعظم.
هل هذا يشمل السنن الواردة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟
نقول: نعم، حتى السنن الواردة عن النبي ﷺ لا تعارض بها المسلَّمات.
على سبيل المثال: لو أن إنسانًا قال: قد ثبتَ عن النبي ﷺ في حديث أبي برزة الأسلمي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كان يصلي فيقرأ ما بين الستين إلى المائة -أي عشرة أوجه- فأنا سأطبق هذه السنة عن رسول الله ﷺ.
نقول: لا، إذا كان فيه مشقَّة على المأمومين وكانوا ما يستطيعون ذلك فلا تطبقها، لأن الأولى من تطبيق السنة أن تتابع المأمومين وأن تقدرهم بحاجتهم، ولهذا قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ»[8]، فقد راعى النبي ﷺ المأمومين.
ونقول: لا بأس للإمام في بعض الأحيان أن يقرأ بالمأمومين ويطيل بهم مرة في الأسبوع أو مرتين، كما كان النبي ﷺ يقرأ أحيانًا بالسجدة والإنسان، وكما قرأ بهم ﷺ مرة سورة الأعراف في المغرب، ولكن لا تكون عادته المطَّردة، فبعض الناس الذين يصلون على كراسي قد تشق عليهم الصلاة، ولهذا قال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فأيُّكُمْ ما صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فِيهِمُ الكَبِيرَ، والضَّعِيفَ، وذَا الحَاجَةِ»[9]، فبيَّن النبي ﷺ ها هنا ثلاث أعذار: كبر السن، والضعف -وهو المرض-، وفي بعض الأحاديث «والصَّغيرَ»، وذا الحاجة، فقد ما يكون لا كبير ولا صغير ولا مريض، لكن تكون له حاجة كما في قصة الرجل الأنصاري الذي صلى مع معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقد كان صاحب حاجة ويريد أن ينام، وهذه من الحاجات التي يحتاج إليها الإنسان.
إذًا هذه كلها من الأمور التي ينبغي أن يُراعيها الإمام مع المأمومين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ. اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»)}.
عقد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- هذا الباب الجليل الذي هو أجل أبواب الصَّلاة، وهو باب صفة صلاة النبي ﷺ، كل ما قبل هذا الباب إنما هو وسائل ومكملات لهذا الباب الجليل، ولهذا فإنَّ هذا الباب بوجه عام يعد من أعظم وأكثر أبواب الفقه، لو أردنا أن نقسِّم كتب الفقه سنجد أنَّ كتاب الصَّلاة هو أوسعها، ولو أتينا إلى كتاب الصَّلاة سنجد أنَّ باب صفة الصَّلاة ﷺ هو أوسعها، لكن ربما جاء بعض الناس إلى باب صفة النبي ﷺ فقسمه إلى أقسام، كما يصنع مثلًا الإمام البخاري وغيره.
فإذًا صفة صلاة النبي ﷺ هي من أعظم ما يقصد إليه، وقد ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا الاستفتاح، لأنه هو من أول ما يكون في الصَّلاة، مع أن مما يسبق الاستفتاح التكبير، التكبير سابق الذي هو تكبيرة الإحرام، وسيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد قليل في حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، لكنه مما تفرَّد بروايته الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ.
مما يقال في هذا الباب: حديث عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي ﷺ قال: «تحريمها التكبير»، الذي هو تكبيرة الإحرام، فإذًا تكبيرة الإحرام هي أول ما يكون في الصَّلاة، وهي ركن في الصَّلاة عند جماهير العلماء -رَحِمَهم اللهُ-، وبعض العلماء -رَحِمَهم اللهُ- قال: إنها ليست بركن ولكنهم عدوها من أشبه ما يكون بالشرط كما هو قول الحنفية، لكن صحيح من أقوال أهل العلم أنها من أركان الصَّلاة.
ثم ذكر المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- ها هنا ما يتعقَّب تكبيرة الإحرام من الذكر، فالصَّلاة بوجه عام إنما هي أفعال وأقوال، والسهو دائمًا إنما يقع في الأفعال ما يتناول السهو في الأقوال، ذكر المصنف ها هنا حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الاستفتاح وهو أصح ما جاء عن النبي ﷺ من الاستفتاحات، فإنه مما اتَّفق على إخراجه الإمام البخاري ومسلم، وفيه أن أبا هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قد كان يتتبع فعل النبي ﷺ في سكوته كما يتتبعه في نطقه، وفي هذا دلالة -يا إخوان ويا أخوات- على أن الترك قد يكون سنة، ولهذا لما ترك النبي ﷺ ما تكلَّم، قال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ: مَا تَقُولُ؟)، علم أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بما أودع الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه من الفهم والفقه وبما علمه من سنة النبي ﷺ أنَّ الصَّلاة لا سكوتَ فيها، ما رأى أنه سكوت فقط، وإنما سأله ما الذي تقول فيه؟ فدلَّ على أن الأصل في الصَّلاة أنه لا سكوت فيها، كل الصَّلاة إنما هي أقوال وعبادات، ما تسكت في شيء منها.
قال: (أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ)، التكبير الذي هو تكبيرة الإحرام، والقراءة التي هي قراءة الفاتحة.
قال: (مَا تَقُولُ؟ قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»)، فيه دعاء من النبي ﷺ بأن يباعد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بينه وبين الذنوب، وإذا باعد بينه وبين الذنوب باعد بينه وبين أسباب الذنوب.
قال: «كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ»، فيه دلالة على طلب المغفرة من الذنوب التي يقع فيها.
قال: «اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»، في دعاء النبي ﷺ بالتنقية من الذنوب دلالة على أنه كلما كان الإنسان أنقى من ذنوبه كان أخشع لصلاته، وهذا معنى ينبغي أن يُستحضر، فالإنسان يكبر وسيقدم على الصَّلاة وسيخشع فيها، فأول ما يستحضره في الصَّلاة هو أن يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يطهره من هذه الذنوب التي تحول بينه وبين الخشوع في الصَّلاة، فدعا به النبي ﷺ، وهذا من أدعية الاستفتاح، ودعاء الاستفتاح عند جماهير العلماء سنة من السنن التي كان النبي ﷺ يصنعها، وقد كان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يستفتح بدعاء «سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمدِكَ، وتَبارَكَ اسمُكَ، وتَعالى جَدُّكَ، ولا إلهَ غَيرُكَ»[10]، ويرفع به صوته ويعلمه من وراءه من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فدلَّ على أنه يُشرع الاستفتاح بهذا الدعاء، وكذلك يُشرَع بكل ما جاء عن النبي ﷺ من نحو «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ»[11]، وما جاء في حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وغيره، فهذه كلها من الاستفتاحات المشروعة عن النبي ﷺ.
ويُقال بوجه عام: الأصل في الاستفتاح أن يستفتح الإنسان مرة بهذا ومرة بهذا، وأمَّا الجمع بينهم فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ في حديثٍ صحيح، قد روى الحاكم وغيره أن النبي ﷺ قد جمع بين هذا الدعاء وبين حديث عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمدِكَ، وتَبارَكَ اسمُكَ، وتَعالى جَدُّكَ، ولا إلهَ غَيرُكَ»، ولكن هذا الحديث لم يثبت عن النبي ﷺ بوجهٍ صحيح.
والأصل أنَّ الصلاة لا تتسع لذلك، وإنما تتسع لها صلاة الليل، فأمَّا الصلوات المكتوبة فلا تكاد تتسع لها، وهذا مما يدل -والله أعلم- على أن دعاء الاستفتاح مما يشرع للمأموم مع الإمام؛ لأنَّ النبي ﷺ لَمَّا سأله أبو هريرة أخبره، وما قال له: "هذا الدعاء خاص بالإمام" وإنما نقله النبي ﷺ إلى أبي هريرة وهو يعلم أن أبا هريرة سيستفتح به، ولو كانت قراءة الفاتحة بمثل هذا الأمر وبمثل هذا الوجوب لأخبر بها النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا– قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ»)}.
الحديث مما تفرد بإخراجه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو من رواية أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي عن عائشة، وأوس لم يسمع من عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، فهو أحد الأحاديث المنتقدَة على صحيح الإمام مسلم، وقد سها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ، ليُعلم أن الكمال لله عَزَّ وَجَلَّ-، فقد سها المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- فأوردَ هذا الحديث ظنًّا منه أنَّ هذا الحديث مما اتُّفق على إخراجه، والحقيقة أنَّ هذا حديث مما تفرَّد بإخراجه مسلم، وليته سها فأورد حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي ﷺ؛ لأنَّ حديث أبي حميد الساعدي يعد من عُمَد الأحاديث في صفة الصَّلاة، لكن حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- يُعد بمنزلة ثانية بعد حديث أبي حميد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]».
أمَّا التكبير ها هنا فإنه تكبيرة الإحرام، وأمَّا القراءة بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ففيه دلالة على وجوب قراءة الفاتحة، ووجوب قراءة الفاتحة إجماعٌ عند العلماء -رَحِمَهم اللهُ-، فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ»، كما في حديث عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وسيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ.
ولم يذكر ها هنا الاستفتاح، وهذا مما استدل به مالك -رَحِمَهُ اللهُ- على مذهبه، فإنَّ مالكًا -رَحِمَهُ اللهُ- لا يرى مشروعية الاستفتاح، وهذا قول مرجوح، ولا يرى مشروعية التَّعوذ، قال: لأن عائشة قالت: «يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾»، ما ذكرت لا تعوذًا ولا استفتاحًا ولا بسملةً.
فنقول: إن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- والله أعلم إنما ذكرت ما ترى أنه من الأفعال الواجبة عن رسول الله ﷺ ولم تستوعب السنن، ولم يورد أحد من الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- صفة صلاة النبي ﷺ بتمام سننها وواجباتها وأركانها، فكل مَن أورد من الصَّحابة يفوته شيء من سنن الصَّلاة عن رسول الله ﷺ لأن سنن الصَّلاة كثيرة، تتكلم عن سنن قولية وسنن فعلية، فهذه ما يصعب استيفاؤها، و أكثر الصَّحابة وهو أبو حميد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما أوردَ فاته أيضًا جزء من السنن عن رسول الله ﷺ، ما ذكر دعاء مثلا أبو حميد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولا ذكر التَّعوذ.
قالت: «وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ»، يعني لم ينزل رأسه ولم يرفعه، وإنما جعل رأسه مستويًا مع ظهره، وهذه من السنن عن رسول الله ﷺ، فمن سنن الركوع أن يسوي الإنسان بين رأسه وظهره، فيجعل الرأس على مستوى الظهر، لا يخفضه ولا يرفعه.
ومن السنن أيضًا: أن يسوي ظهره، فكان النبي ﷺ إذا ركع سوى ظهره حتى لو صُبَّ عليه ماء لاستقر، من شدة تسوية ظهر النبي ﷺ، فهذه من سنن الأفعال أيضًا عن رسول الله ﷺ.
قالت: «وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمً»، وجاء في حديث أبي حميد: «كان ﷺ يأخذ بركبتيه إذا ركع يأخذ بركبتيه إذا ركع ﷺ يقبض عليهما بيديه»، فهذا أيضًا من سنن الركوع، فهذه ثلاث سنن عن النبي ﷺ في الركوع:
- السنة الأولى: القبض على الركبتين.
- السنة الثانية: التسوية بين الرأس والظهر.
- السنة الثالثة: اعتدال الظهر.
قالت: «وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدً»، بمعنى أنه يستوي ﷺ، وفي حديث أبي حميد الساعدي: «إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ»[12]، يعني يستوي ويعتدل اعتدالًا تامًّا، ﷺ كما كان في حال القيام، فإذًا ما يفعله بعض الناس من الرفع من الركوع ثم يهبط مباشرة من غير أن يستقر قائمًا؛ نقول: إنَّ هذا خلاف سنة النبي ﷺ.
قالت: «وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ»، فيه أنَّ النبي ﷺ كان إذا سجدَ استقرَّ، ووجَّه أصابعه إلى القبلة كما في حديث أبي حميد الساعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سَجَدَ بيْنَ كَفَّيْهِ»[13]، يعني: وضع الرأس بين الكفين، كما في حديث البراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هذه كلها من السنن عن رسول الله ﷺ، و «كانَ إذا سجدَ جافَى يديهِ فلوْ أنَّ بُهْمَةً أرادتْ أنْ تمرَّ بينَ يديهِ لمرَّتْ»[14]، كما في حديث سلمة من الأكوع -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
هذه كلها من السنن الواردة عن رسول الله ﷺ في السجود، كلها سنن ثابتة عن النبي ﷺ في السجود.
قالت: «وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ: لَمْ يَسْجُدْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدً»، هذه من السنن التي ذكرتها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- في الجلسة بين السجدتين، وهو أنه ﷺ إذا رفع رأسه من السجدة اعتدلَ حتى يستوي قاعدًا.
قالت: «وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ»، هذا مما استدل به بعض العلماء على أنَّ الصَّلاة إذا كانت رباعية فإنه لابدَّ أن يفصل فيها كل ركعتين، لأنه قد جاء أن النبي ﷺ كان يصلي أربعًا قبل العصر، كما في حديث ابن عمر: «رَحِمَ اللهُ امرأ صَلَّى قبلَ العَصِر أربعً» على القول بصحته، وأنه ﷺ كان يصلي أربعًا قبل الظهر، وقد جاء هذا في حديث أم حبيبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا.
فقال بعض العلماء: يجوز أن يصلي الإنسان أربعًا بسلام واحد وتشهُّد واحد.
وقال بعض: لابد من التشهدين.
قلنا لهم من أين؟
قالوا: من حديث عائشة: «وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ».
ولكن يقال: إن هذا إنما هو من قول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- في صفة الصَّلاة المكتوبة، فإن النبي ﷺ إذا صلَّاها قالَ التَّحية في كل ركعتين، وهذا ما يسمى عندنا بالتَّشهد الأول أو التَّشهد الأوسط، يسمى بالتشهد الأول لأنه أول التشهدات، والأوسط لأنه يقع في وسط الصَّلاة.
قالت: «وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ» التي هي: التحيات لله والصلوات والطيبات.
قالت: «وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى»، هذا ما يسمى عند العلماء بالافتراش.
والجلوس في الصَّلاة بوجه عام على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: جلسة الافتراش، وهي أكثر الجلسات التي تكون في الصَّلاة، أن يفرش رجله اليسرى فيقعد عليها وينصب اليمنى، وهذه تكون بالإجماع عند العلماء -رَحِمَهم اللهُ- في الجلسة التي تكون بين السجدتين، وفي جلسة التشهد الأول عند جماهير العلماء، ثم اختلفوا في التشهد الأخير، كما سأذكره بعد قليل إن شاء الله.
النوع الثاني: الجلسة الثانية، جلسة التورك، وهو أن يجعل رجله اليسرى جهة اليمنى، وينصب اليمنى ويقعد على مقعدته، وهذه إنما جاءت عن النبي ﷺ في التشهد الأخير.
ثم اختلف العلماء -رَحِمَهم اللهُ-، في الضَّابط في التَّورك: هل هو التشهد الذي يعقبه السلام؟ أو أنه التشهد الثاني؟ ما الفرق بينهما؟
الفرق بينهما يتجلى في الوتر-لأنه ركعة- أو في صلاة الفجر -لأنها ركعتان- هل يتورك أو يفترش؟
إذا قلنا: إنَّ التورك إنما يكون في التَّشهد الثاني كما هو قول الحنابلة، يقولون: ما يتورك ها هنا وإنما يفترش.
وإذا قلنا: إنَّ التورك إنما يكون في كل جلوس يعقبه سلام، قالوا: ها هنا يتورك. وهذا هو القول الصحيح، أنَّ التورك إنما يكون في كل جلوسٍ يعقبه سلام.
فإن قيل: من أين؟
قلنا: لمعانٍ كثيرة، لكن أهمها معنيان:
المعنى الأول: حديث أبي حميد الساعدي في سنن أبي داود: «حَتَّى إِذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ» فقيَّد الجلوس بما يعقبه السلام.
المعنى الثاني: أن هذه الجلسة عند العلماء سواء كلهم الحنابلة وغيرهم؛ إذا قيل: لماذا شُرع التورك في التشهد الثاني؟ قالوا: لأنه جلسة لا يعقبها قيام. قلنا: فقد تحقَّق هذا في التَّشهد الأخير ولو لم يكن فيه إلا تشهد واحد، يتحقق عليه في صلاة الفجر لأنه جلسة ما يعقبها قيام، فهي جلسة استقرار، أما الافتراش فهو جلسة تدل على أن الإنسان متحفِّز، ولهذا أنت لو ترى واحدًا جالس أمامك جلسة فراش علمت أنه على وشك القيام، لكن حينما ترى أنه قد تورَّك تعلم أنه مستقر، فهي جلسة تشابه جلسة التربُّع، فهذه هي الجلسة الثانية.
والقول الصحيح من أهل العلم -رَحِمَهم اللهُ: أن يقال إن الجلستان في الصَّلاة مشروعة، فيشرع في الصَّلاة التَّورك والافتراش، وهذا هو قول الشافعي وأحمد، فأما الافتراش فإنما يكون في التشهد الأول، أو في كل تشهد لا يعقبه سلام، وفي كل جلوس في الصَّلاة عدا التَّشهد الذي يعقبه السلام، التَّشهد الذي يعقبه السلام يشرع فيه التورك، هذا هو تحقيق الخلاف إن شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مسائل التَّورك.
النوع الثالث من الجلوس: وهو جلسة التربع، وقد ثبت أن النبي ﷺ صلَّى متربِّعًا، وهذا إنما يكون للمريض، المريض يصلي متربعًا.
قالت: «وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ»، عقبة الشيطان جلسة مختلف فيها بين العلماء -رَحِمَهم اللهُ-، لكن الظاهر -والله أعلم- فيها أن يُباعد بين رجليه ويجلس على مقعدته، وهي الجلسة التي تُسمَّى عندنا "جلسة الصبيان"، ولهذا ينبغي أن يُعلَّم الأولاد على ترك هذه الجلسة؛ لأنه ربما يجلسها أمام الناس ثم يتعود حتى ينقلها إلى الصلاة.
قالت: «يَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ»، أي: في سجوده، إذا سجدَ سجدَ بذراعيه؛ لأنَّ الأصل أنك إذا سجدت أن تضع كفيك وترفع مرفقيك، فأمَّا إذا وضع كفيه ومرفقيه على الأرض فقد شابه انبساط الكلب، ولهذا قال النبي ﷺ: «اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ، ولا يَبْسُطْ ذِراعَيْهِ كالكَلْبِ»[15].
قالت: «وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ»، وهذا هو ختام هذه الحلقة أيضًا، والله تبارك وتعالى أعلم.
{شكر الله لكم صاحب الفضيلة، والشكر موصول لكم أيها الإخوة المشاهدون الكرام، نلقاكم بإذن الله -عز وجل- في حلقة أخرى من هذا البرنامج، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين}.
-----------------------------------
[1] أخرجه البخاري (6316)، ومسلم (763).
[2] صحيح مسلم (426).
[3] أخرجه أبو داود (619)، وابن ماجه (963)، وأحمد (16838).
[4] أخرجه أبو داود (937)، وأحمد (23883).
[5] صحيح مسلم (226).
[6] أخرجه أبو داود (531)، والنسائي (672)، وأحمد (16270) واللفظ لهم، وابن ماجه (714).
[7] أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465).
[8] صحيح البخاري (868).
[9] أخرجه البخاري (7159)، ومسلم (466).
[10] أخرجه أبو داود (776) واللفظ له، والترمذي (243)، وابن ماجه (806).
[11] صحيح مسلم (770).
[12] صحيح البخاري (828).
[13] صحيح مسلم (401).
[14] صحيح ابن ماجه (727). وأصله في صحيح مسلم.
[15] أخرجه البخاري (532)، ومسلم (493).