الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام عَلى أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين،
أمَّا بَعد:
فهذا هو اللقاء الرَّابع والعشرون مِن لِقاءاتنا في قِراءة كِتاب "المحرر" للحافظ
ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وَكُنَّا قد أنهينا باب صلاة التَّطوع، ووقفنا عِند باب سُجُود التِّلاوة
والشُّكْر، والمراد بسُجُود التِّلاوة هو: السُجُود عِند مَواطن ذُكِرَ فِيها
السُجُود في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ، وأَمَّا سُجُود الشُّكْر فَهو سَجْدَة
مُفردة عِند تَجَدد نِعمة مِن النِّعم، وقد جاء بمشروعيته مع عَددٍ مِنَ الأَدلة
عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ولعلنا أن نَأخُذ حُكم هَاتين السَجَدَتين وَمَا
يَتَعَلق بهما مِن الأَحكام مِن صِفة وَهيئة وَمَا يُقال فيهما، وكيف يَسْجُد فيهما
-إن شاء الله تعالى.
فلعلنا نقرأ في هذا الكتاب.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلى الله وسلم على أشرف
الأنبياءِ والمُرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهُمَّ اغفر لَنا وَلِشيخنا وللمُستمعين وللمُشاهدين ولجميع المُسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (بَابُ سُجُود التِّلاوة
وَالشُّكْر
356- عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليه وسلم: «إِذا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَجْدَة [فَسَجَدَ]،
اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلِي أُمِرَ ابْنُ آدَمَ
بِالسُجُود فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنَّةُ وأُمِرْتُ بِالسُجُود فَأَبَيْتُ، فَلِيَ
النَّارُ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هَذا الحديث فِيه دَلالة على مَشروعية سُجُود التِّلاوة، وأنَّه مِن المُستحبات
التي يَتَرَتب عليها أجر عَظيم وَثواب جَزيل، وفيها أَنَّ سَجْدَة التِّلاوة تكون
بقراءة آيات السَجْدَة الواردة في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وفي هذا الحديث أيضًا فضيلة بني آدم على الشياطين حينما امتثلوا لأوامر الله
-سبحانه وتعالى، وفيه دلالة على أَنَّ السُجُود عِبادة مِنَ العِبادات لا يجوز أَن
تُصرَفَ لغير الله -سُبحانه وتعالى.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
﴿ص﴾ لَيْسَتْ مِنْ عَزائِمِ السُجُود، وَقدْ رَأَيْتُ النَّبي صَلَّى اللهُ
عليه وسلم يَسْجُد فِيهَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (لَيْسَتْ مِنْ عَزائِمِ السُجُود) يَعني لَيست
مِن الأمور المؤُكدة، والعَزيمة تُطلق في مُقابلة الرُّخصة، وفي هذا دلالة على
أَنَّ أفعال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُقتدى بها ويُسار عَليها.
وفيه دلالة على أنَّ أَفْعَال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حُجة، فإنَّ الصَّحَابة
لازالوا يَستدلون بأفعاله.
وهذا الحديث قد تَنَازع العُلماء في دلالته على مسألة سَجْدَة "ص" هل هي مِنَ
السُجُود المؤكد؟ وهل هي مما يُشرع فيها سَجْدَة التِّلاوة أو لا؟
فقهاء الشَّافعية والحنابلة يَرون أَن سُورة "ص" لا سَجْدَة فيها، حيث إِنَّ هذه
السُورة إنما جاءت ببيان توبة داود -عليه السَّلام، قال:
﴿وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: 24] وبالتَّالي هي توبة لداود -عليه
السَّلام.
وقد وَرَدَ عِند النَّسائي أَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَال:
«سَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَةً» ولكن في زيادة
«وَنَسَجَدَهَا شُكْرً»[133].
والقول الثَّاني في هَذه المَسألة هو أَن سَجْدَة "ص" مِن سَجَدَات التِّلاوة،
وأنَّه مَا دَام أَنَّ النَّبي -صَلَّى الله عليه وسلم- قد سَجَدَ عِندها، فهذا
دليل على كَونها مِن مَواطن سَجْدَة التِّلاوة.
وقد وَرَدَ عند أبي داود أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَرَأها على المنبر،
أي: قرأ سُورة "ص" فلما بلغ السَجْدَة نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاس معه،
ثُمَّ بعد ذلك قَرَأَها في يَوم آَخر فَلم يَسْجُد، فَسَأله النَّاس عَن ذلك؟ فقال:
«إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ
تَهَيَّأْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَوا مَعَهُ»[134].
وهذا الحديث فيه دلالة عَلى مَشروعية سُجُود التِّلاوة، وقد ذهب المالكية والحنفية
إلى أَن "ص" مِن سَجَدَات التِّلاوة، وَلَعَلَّ هَذا القول أرجح؛ لأنَّه فِعل
النَّبي -صلى الله عليه وسلم، والفِعل النَّبوي مُقدم على رأي ابن عَبَّاس، فإنَّ
قول: (لَيْسَتْ مِنْ عَزائِمِ
السُجُود) هو من كلام ابن عَبَّاس واجتهاد ابن عَبَّاس -رضي الله عَنه.
ثُمَّ قال: (وَقدْ رَأَيْتُ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم
يَسْجُد فِيهَ) وفعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مُقدم على رأي ابن
عَبَّاس، كيف وقد سَجَدَ عَدد مِن الصَّحابة في سُورة "ص" كعمر وابن عمر وعثُمَّان
وجماعة مِن الصَّحابة -رضوان الله عليهم.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبي
صَلَّى اللهُ عليه وسلم يقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ
﴿الم * تَنزِيلُ﴾ [السَجْدَة: 2] السَجْدَة، و﴿هَلْ
أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ﴾ [الإنسان: 1] مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ
للْبُخَارِيِّ)}.
قَوله هُنا: (كَانَ النَّبي) هذا فيه استحباب
المُدَاومة والتِّكرار في قراءة هاتين السورتين، سُورة "السَجْدَة" وسُورة
"الإنسان" في صلاة الفجر من يوم الجمعة، وأنَّ هذا مِن المُستحبات.
وقوله: (يقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ) يعني: في يوم
الجمعة (فِي صَلَاةِ الفَجْرِ ﴿الم *
تَنزِيلُ﴾ السَجْدَة) فيه دلالة على أَنَّ سُورة "السَجْدَة" فيها
سَجْدَة، وهذا محل اتفاق بين العُلماء، وفي هذه الآيات أيضًا جواز تَسمية السُورة
بأول آية منها.
{(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قالَ: قَرَأْتُ
عَلَى النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم النَّجم، فَلَمْ يَسْجُد فَيْهَا. متفقٌ
عَليْه، واللفظُ للبخاريِّ أَيض)}.
هذا الحديث لـ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ (قالَ: قَرَأْتُ عَلَى
النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم النَّجم، فَلَمْ يَسْجُد فَيْهَ) استَدَلَّ
بَعض أهل العلم بهذا الحديث على أَن سُورة "النَّجم" ليس فيها سَجْدَة تلاوة، وقد
اختلف العلماء في سَجْدَة التِّلاوة في سُورة "النَّجم" فقال أحمد وأبو حنيفة في
إحدى الروايتين عنهما: إنَّه يُشرع للإنسان أَن يَسْجُد سَجْدَة التِّلاوة في سُورة
"النَّجم" وقد استدلوا على ذلك بما وَرَدَ عن ابن عَبَّاس -رضي الله عنه- أَنَّ
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَ في سُورة النَّجم، وقد رواه الإمام البخاري.
بينما قال الإمام مالك والإمام الشَّافعي: إِنَّ سُورة النَّجم لا سَجْدَة فيها،
واستدلوا عليه بحديث زيد بن ثابت هذا، وفيه أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم
يَسْجُد فيها، وكذلك استدلوا بما وَرَدَ من حديث ابن عَبَّاس رضي الله عنه أَنَّ
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَسْجُد في شيء مِن المفصل، منذ تحول إلى المدينة،
ولكن هذا الحديث ضعيف الإسناد، أي: لم يَثبت عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم، وفيه
بعض الرواة قد تُكلم فيهم، مثل: أبو قدامة، الحارث بن عبيد، ومطر الوراق، وبالتالي
لا يَقوى على مُعارضة الأحاديث التي وَرَدَت في سَجَدَات المُفصل.
وحديث زيد بن ثابت ليس فيه دلالة على عَدم المَشروعية، ولكونه تَرَكَ السُجُود مَرة
واحدة فلا يعني عَدم المشروعية؛ لأنَّه في مرات يَترك أمورًا مستحبةً ولا يفعلها،
فلا يَدُلُّ هذا على عدم مَشروعيتها، كيف وقد ثبت أنَّه -صلى الله عليه وسلم-
سَجَدَ في سُورة "النَّجم".
وهذا الحديث، أي: حديث زيد بن ثابت فيه دلالة على أّنَّ سُجُود التِّلاوة ليس
بواجب؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- تركه، وبذلك قال الجمهور خلافًا
للحنفية، فإنَّ الحَنَفية استدلوا بالحديث السَّابق، لما قال ابن عَبَّاس:
(﴿ص﴾
لَيْسَتْ مِنْ عَزائِمِ السُجُود،) قالوا: فَدَلَّ ذلك على أنَّ غَيْرَهَا
مِن السَجَدَات مِن عَزائم السُجُود، والعَزائم تكون واجبات، وهذا فيه نظر، فإنَّ
العَزائم قَد تُطلق على الأمور المُتَأكدة ولو لم تكن واجبة.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَن
النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم سَجَدَ ب﴿النَّجم﴾
وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. رَوَاهُ
البُخَارِيُّ، وَقَالَ: كَانَ ابْنُ عُمر يَسْجُد عَلَى غَيرِ وضُوءٍ)}.
هذا الحديث فيه إثبات مَشروعية سَجْدَة سُورة "النَّجم"، وبذلك قال الإمام أحمد
وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، وخالفهم الإمام مالك والإمام الشَّافعي -رحمة
الله على الجميع.
وقوله: (كَانَ ابْنُ عُمر يَسْجُد عَلَى غَيرِ وضُوءٍ)
يعني: سُجُود التِّلاوة، وفي هذا دلالة على أنَّ سُجُود التِّلاوة ليس بصلاة، وبهذا
قال بعض التابعين وهو إحدى الروايتين عن أحمد، بينما مذاهب الأئمة الأربعة على
أَنَّ سُجُود التِّلاوة صلاة، وبالتالي يَشترطون فيه ما يَشترطون في الصَّلاة، من
الوضوء ومن استقبال القبلة ومِن سَتر العَورة.
والقول الآخر يسرد هذا الخبر، فإن حديث ابن عَبَّاس
(وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ)
فيهم المتوضأ وفيهم غير المتوضأ، فهذا دليل على عدم اشتراط الوضوء لِسُجُود
التِّلاوة، ومثله فِعل ابن عمر -رضي الله عنهما.
{(وَعَنْ خَالِد بنِ مَعْدَان أَن رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليه وسلم قَالَ:
«فُضِّلَتْ سُورة الْحَجِّ عَلَى الْقُرْآنِ بِسَجَدَتَينِ»
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "المَرَاسِيل"، وَقَالَ: وَقد أُسْنِدَ هَذَا، وَلَا
يَصِحُّ)}.
خَالِد بنِ مَعْدَان تابعي وهو مِن ثِقات الشَّام، وقد مات سنة مائة وأربع، وهذا
الحديث مُرسل؛ لأنَّ المرسل يُراد به رواية التَّابعي عن النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- بدون ذكر الصَّحابي، وقد اختلف أهل العلم في حُجية المُرسَل، وخصوصًا إذا كان
الراوي لا يُرْسِلُ إلا عَن الثِّقات ولا يُسْقِطْ إِلَّا الثِّقَات، وأهل الحديث
لا يَقبلون المَرَاسيل ويعتبرونها مِن قَبيل الضَّعيف، وأكثر الفُقَهَاء يَرون
حُجية المراسيل، والإمام الشَّافعي اشترط للمراسيل أنَّ يأتيَ مَا يُعضدها مِن
مُرسِل آخر أو من قول صحابي أو نحوه.
وقد اختلف العُلماء في سَجَدَات سُورة "الحج" هل هي مَشروعية أو ليست بمشروعة؟
فالجمهور يَرون إثبات مَشروعية السُجُود في مَوطني سُورة "الحج" الذي في أولها عِند
الثُمَّن والذي في آخرها قبل الآية الأخيرة.
وقال الإمام أبو حنيفة: إِنَّه يَسْجُد في الموضع الأول دون الموضع الثاني،
والجمهور استدلوا بعدد مِنَ الأحاديث التي وَرَدَت في هذا، وهي أحاديث يُقوي بَعضها
بَعضًا، وقد وَرَدَ مِن حَديث عُقبة بن عامر مِثل هذا اللفظ عن النَّبي -صلى الله
عليه وسلم- وقال: «وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا، فَلَا
يَقْرَأْهُمَ» ولكن بإسناده فيه ابْنُ لَهِيعَةَ وهو مُتكلم في روايته، لكن
هذه الروايات يُعضد بَعضها بعضًا.
({وَعَنْ عَطاءِ بنِ مِيناءَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَرضي الله
عنه، قَالَ: سَجَدَنا مَعَ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم فِي
﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق: 1]، و﴿اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: 1]. رَوَاهُ مُسلمٌ}).
هذا الحديث فيه إِثبات مَشروعية سَجْدَة التِّلاوة في هذين الموطنين، في سُورة
"الانشقاق" وفي سُورة "العلق" وفيه أَن هذه السور يجوز أَن تسمى بأول آية منها.
والقول بمشروعية هذا السُجُود هو مَذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى، وبعض أهل
العلم يَرى أنَّه لا يُشرع سُجُود التِّلاوة في المفصل كله، ويستدلون عليه بما
وَرَدَ عن علي -رضي الله عنه- في هذا الباب، ولعله قد ذكره المؤلف بعده، فلعلك
تقرأه.
{(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَنا أَتَعَجَّبُ
مِمَّنْ حَدَّثَنِي لَا يَسْجُد فِي المفَصَّلِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ)}.
هذا فيه الإشارة إلى هذه المسألة، إذن هذه الأحاديث تدل على مشروعية سُجُود
التِّلاوة، وتدل على مشروعية سَجْدَة سُورة "الانشقاق" وسُورة "العلق" والقول
بمشروعية هاتين السَجَدَتين هو مذهب الإمام أحمد، وهو إحدى الرِّوايتين عن الإمام
أبي حنيفة -رحمه الله، وقد خالفهم الإمامان مالك والشَّافعي، وقالوا: بعدم مَشروعية
سَجَدَتي هاتين السُّورتين.
وفي هذا الحديث دلالة –أيضًا- على أَنَّ المأموم يَسْجُد مع الإمام، وفيه دلالة على
أَنَّ الإمام إذا قرأ آية السَجْدَة، شُرِعَ له أَنَّ يَسْجُد للتِّلاوة، وأنَّ
المأموم يُتابع الإمام في سَجْدَة التِّلاوة، ويُقاس عَليه المستمع لقراءة مَن
يَقرأ بسُورة "السَجْدَة" يشرع له أَنَّ يَسْجُدَ مَعه.
وقد اختلفوا في السَّامع الذي استمع بدون أنَّ يقصد السَّماع، هل يُشرع له أَنَّ
يَسْجُد سُجُود التِّلاوة أو لا؟
ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّه يُشرع له أنَّ يَسْجُد سُجُود التِّلاوة، والجمهور
منهم مالك وأحمد قالوا: لا يُستحب للسَّامع أَنَّ يَسْجُد، وإنما تكون السَجْدَة
للقارئ والمُستمع الذي قَصَدَ السَّماع دون السَّامع.
والإمام الشَّافعي يقول بالنسبة للسامع: لا أؤكد عليه سَجْدَة التِّلاوة، وإن
سَجَدَ فحسنا، وفي هذه الأحاديث دليل على أَنَّ سَجَدَات التِّلاوة توقيفية وليست
اجتهادية.
{(وَعَنِ البَراءِ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبي
صَلَّى اللهُ عليه وسلم خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهلِ اليَمَنِ يَدْعُوهُم
إِلَى الإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ إِنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم
بَعَثَ عَليَّ بنَ أَبي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أن يُقْفِلَ خَالِداً وَمنْ كَانَ
مَعَهُ، إِلَّا رَجُلَاً مِمَّنْ كَانَ مَعَ خَالِدٍ أَحَبَّ أن يُعَقِّبَ مَعَ
عَليٍّ فَلْيُعَقِّبْ مَعَهُ، قَالَ البَرَاءُ: فَكُنْتُ مِمَّنْ عَقَّبَ مَعَهُ،
فَلَمَّا دَنَونَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا، فَصَلَّى بِنَا عَليٌّ،
وَصَفَّنَا صَفَّاً وَاحِدَاً، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَينَ أَيْدِينَا، فَقَرَأَ
عَلَيْهِم كتابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ
جَمِيعاً، فَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه
وسلم بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم
الكِتَابَ خَرَّ سَاجِدَاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:
«السَّلام عَلَى هَمْدَانَ، السَّلام عَلَى هَمْدَانَ» رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ -وَقَالَ: أخْرجَ البُخَارِيُّ صَدْرَ هَذَا الحَدِيثِ وَلم
يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، وَسُجُود الشُّكْر فِي تَمامِ الحَدِيثِ صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِهِ-)}.
هذا الحديث قد أخرجه البُخاري، أخرج أصله البخاري، وقد ذَكَرَ فيه بعض هذه الواقعة،
وليس فيه ذكر جميع الواقعة، أمَّا بالنسبة لإسناد البيهقي، ففي الرُّواة راوي يُقال
له ابن أبي السفر، وهذا الراوي ليس بالثقة، وقد ضعف في الحديث، وقال بعضهم: إنَّه
صدوق يَهم، ومثله الشيخ إبراهيم ابن يوسف.
وعلى كلٍ فسُجُود الشُّكْر، قد جاء فيه أحاديث مُتعددة، يُقوي بعضها بعضًا، ولذلك
أخذ جمهور أهل العلم مِن هذه الأحاديث مَشروعية سُجُود الشُّكْر لتضافر هذه
الأحاديث ولتقوية بعضها لبعضها الآخر.
وقد وَرَدَ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بشرني
جبريل فسَجَدَت لله شكرً»[135] وفي حديث آخر أَنَّ كعبَ بن مَالك لما جاءه
خبر توبة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليه سَجَدَ[136]، وفي ذلك أحاديث مُتعددة تَدُلُّ
على مَشروعية سُجُود الشُّكْر.
وهذه الأحاديث تَدلُّ على أَنَّ سَجْدَة الشُّكْر لا تكون للنِّعم الدائمة
المُتكررة، وإنما تكون عِند النِّعمة المُتجددة، مثلاً الشمس نعمة عظيمة ولكنها
نعمة دائمة ومتكررة، وبالتالي لا يُشرع للإنسان أنَّ يَسْجُد سُجُود الشُّكْر
عِندها، فالنِّعم المُستمرة لا يُشرع سُجُود الشُّكْر عِندها.
وهذا الأحاديث تَدُلُّ على أّنَّ سَجْدَة الشُّكْر تكون للنِّعمة العَامَّة، كهزيمة
هؤلاء، وقد تكون للنِّعمة الخاصَّة التي تختص بشخص واحد.
وأيضًا مِن الأمور المتعلقة بهذا الخبر، أَنَّ سَجْدَة الشُّكْر قد تكون لنعمة كان
الإنسان سببًا في وجودها، أي: تفضل الله بها على العبد بسبب وجوده، وظاهر هذه
الأحاديث يدل على أَنَّ سَجْدَة الشُّكْر لا يُشترط لها الطَّهارة، وبذلك قال طائفة
من السَّلف خِلافًا للمَشهور مِن مَذاهب الحنفية والشَّافعية والحنابلة.
أيضًا لم يُذكر في هذا الحديث أنَّ لسَجْدَة الشُّكْر تكبير في أوله ولا في آخره
ولا تسليم، وبالتالي فإنَّ الصَّواب عَدم مَشروعية التَّكبير في سُجُود الشُّكْر،
وأنه ليس بصلاة.
وهذا بخلاف سُجُود التِّلاوة، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَه أثناء
الصَّلاة، وكانَ مِن شَأنه أنَّه يُكبر في الصَّلاة لكل خَفض وَرفع، ولذلك قُلنا:
إنه يُستحب عند أداء سُجُود التِّلاوة في الصَّلاة أن يُكبر قبله وأن يُكبر بعده.
وجمهور أهل العلم يَرون أنَّ سُجُود الشُّكْر لا يكون داخل الصَّلاة وإنما يكون
خارجها؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَرِد عَنه أنَّه سَجَدَ للشُّكر
داخل الصَّلاة، ولم يَرِد ذِكْرٌ خاص في سُجُود الشُّكْر، وإنما يقال فيه: سبحان
ربي الأعلى؛ لأنَّه لما نزلت الآية ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1] قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم:
«اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»[137].
فهذا يشمل سُجُود الشُّكْر أيضًا، بخلاف سُجُود التِّلاوة فإنه يُسبح فيه بقول:
سبحان ربي الأعلى، لعموم الدليل الوارد في ذلك.
ووَرَدَ في حديث علي أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان
يقول في سُجُوده: «اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ
آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ
فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ»[138] وهذا الحديث قد وَرَدَ عند أهل السنن، فهذا شيء مما
يتعلق بهذه الأحاديث.
قوله هنا: (بَعَثَ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم خَالِدَ
بنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهلِ اليَمَنِ يَدْعُوهُم إِلَى الإِسْلَامِ) فيه
مشروعية الدَّعوة لدين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وترغيب النَّاس فيه بذكر محاسنه، وبيان
الأدلة الدَّالة على صِحته وصدقه، وفيه فضل خالد بن الوليد -رضي الله عنه.
وفيه أَنَّ البعوث التي تُبعث تكون في الأصالة من الإمام أو من يُنِيبُه، وفيه فضل
علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، وكون النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يبعثه.
وقوله: (وَأَمَرَهُ أن يُقْفِلَ خَالِداً وَمنْ كَانَ
مَعَهُ) أي أن يعود للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-
(إِلَّا رَجُلَاً مِمَّنْ كَانَ مَعَ خَالِدٍ أَحَبَّ أن يُعَقِّبَ مَعَ عَليٍّ)،
قال: (فَكُنْتُ مِمَّنْ عَقَّبَ مَعَهُ) يعني البراء.
قال: (فَلَمَّا دَنَونَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا،
فَصَلَّى بِنَا عَليٌّ، وَصَفَّنَا صَفَّاً وَاحِدَ) فيه مشروعية صلاة
الخوف، لأن هذه صفة من صفات هذه الصَّلاة (ثُمَّ تَقَدَّمَ
بَينَ أَيْدِينَا، فَقَرَ).
أكمل بقية الحديث.
{أحسن الله إليك.
(فَقَرَأ عَلَيْهِم كتابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه
وسلم فَأَسْلَمَتْ هَمْدَانُ جَمِيعاً، فَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم الكِتَابَ خَرَّ سَاجِدَاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
فَقَالَ: «السَّلام عَلَى هَمْدَانَ، السَّلام عَلَى
هَمْدَانَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ -وَقَالَ: أخْرجَ البُخَارِيُّ
صَدْرَ هَذَا الحَدِيثِ)}.
يعني هذا الحديث فيه الفرح بدخول الآخرين في دين الإسلام، وفيه استحباب التَّبشير
بالأخبار السَّارة وِمن ذلك دخول البعض في هذا الدين، وفيه أيضًا كتابة ولاة
الأقاليم إلى الإمام الأعظم بما يحصل عليه من الأخبار وما يَستجد عليهم مِن
الحوادث.
وفي قوله هنا: (فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليه وسلم الكِتَابَ)
الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقرأ وإنما أمر أن يقرأ عنده، ففيه دلالة على أنَّ
الفعل يجوز أن ينسب للأَمِر به ولو لم يكن فاعلاً له.
وقوله في هذا الحديث: (خَرَّ سَاجِدَ) في ظاهره أنَّ
سُجُوده من قيام، ولذلك استحب كثير مِن أهل العلم أن يكون السُجُود للشُّكر
وللتِّلاوة خُرُورًا مِن القيام، قال شكرًا لله -تعالى، وفي هذا دلالة على استحباب
شُكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نعمه التي يُنعم بها على العباد.
{(وَقَالَ: أخْرجَ البُخَارِيُّ صَدْرَ هَذَا الحَدِيثِ،
وَلم يَسُقْهُ بِتَمَامِهِ، وَسُجُود الشُّكْر فِي تَمامِ الحَدِيثِ صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِهِ.
وَعَنْ أَبي عَوْن الثَّقَفِيِّ، عَنْ رَجُلٍ لم يُسَمِّهِ: أَن أَبَا بَكْرٍ رضي
الله عنه لـمَّا أَتَاهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ سَجَدَ. رَوَاهُ أَبو بَكْرِ ابْنُ
أَبي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ "الفتُوح")}.
قوله: (وَعَنْ أَبي عَوْن الثَّقَفِيِّ) أبي عون من
التَّابعين، والرجل الذي لم يُسَمِّه يحتمل أن يكون صحابي ويحتمل أن يكون تابعي،
ولذلك تكلم في هذا الخبر.
(أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لـمَّا أَتَاهُ فَتْحُ
الْيَمَامَةِ) يعني: مقتل مُسيلمة وهزيمة المرتدين فيها
(سَجَدَ) وهذه السَجْدَة سَجْدَة الشُّكْر، وهذا من أدلة الجمهور على
مشروعية سُجُود الشُّكْر.
{أحسن الله إليك.
هل تشرع سَجْدَة الشُّكْر لدفع النِّقم في حال اندفاع النِّقم؟}
إذا كانت نعمة عظيمة، فإنه يُشرع حينئذٍ أن تدفع هذه النقمة بسُجُود فيشرع للعبد أن
يَسْجُد لله شكرًا عند اندفاع هذه النِّقمة؛ لأنَّ هذه نعمة مِن الله -جل وعلا.
{أحسن الله إليكم.
هل سُجُود الشُّكْر يحتاج إلى استقبال القبلة؟}
سُجُود الشُّكْر هل هو صلاة أو ليس بصلاة؟
هذا من مواطن الخلاف بين العلماء، فالجمهور يَرون أَنَّ سُجُود الشُّكْر صلاة،
ولذلك يوجبون له الوضوء، ولابد أن تستقبل فيه القبلة، ولابد أن تستر فيه العورة، لو
كانت امرأة في بيتها وكانت كاشفة رأسها، قالوا: لابد أن تغطي الرأس قبل أن تسَجَدَ،
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهو مذهب الحنفية والشَّافعية والحنابلة.
وهناك قول آخر يقول: إنَّ سَجْدَة الشُّكْر ليست صلاة، وبالتالي لا يُشترط لها شروط
الصَّلاة، وقد أُثر هذا عن طائفة من التَّابعين، وهو ظواهر النصوص التي وَرَدَت في
هذا، فإن من يأتيه الخبر السار يأتيه على أحوال مُتعددة، لم يُؤثر عَن أحد منهم أنه
توضأ ليَسْجُد سُجُود الشُّكْر، فالذي يظهر من أحوالهم أنهم لم يكونوا يعتبرون
سُجُود الشُّكْر من أنواع الصلوات، وبالتالي لا يشترطون له شروط الصَّلاة.
ومثل هذا ما يتعلق أيضًا بالخلاف في سُجُود التِّلاوة، ليعتبروا صلاة أو لا يعتبر
من الصَّلاة، وقد يترتب على مسألة هل سُجُود الشُّكْر صلاة، مسألة أخرى، وهي: لو
استجدت النِّعمة على الإنسان وهو في الصَّلاة، فحينئذٍ هل يجوز له أن يَسْجُد
للشُّكر أثناء الصَّلاة؟ قال بعضهم: نعم كما يَسْجُد للتِّلاوة.
الصَّواب: أنَّه لا يَسْجُد وهو المشهور مِن مَذاهب أهل العلم، وذلك لأنَّ الأصل في
الصَّلوات أن تكون توقيفية، ولم يَرِد عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سَجَدَ
للشُّكر أثناء صلاته.
{بالنسبة للاعبين الذين يَسْجُدون إذا جاءوا بالهدف، فما قولكم في هذا..؟}
هل هي نعمة مُتجددة أو نِعمة مُتكررة؟
أَن كانت نعمة متجددة، فحينئذ نقول: إنَّه يُشرع، أول شيء هل هي نعمة أو لا؟ ثُمَّ
هل هي مُتجددة أو هي نِعمة مُستمرة معتادة؟
فهذا هو المأخذ الذي ينبغي بنا أن نلتفت إليه، ولذلك قد يقع من الخلاف ما يقع بسبب
تطبيق هذين الوصفين على هذه المسألة التي ذكرتها.
ولعلنا نقف هنا ونذكر بشيء من الأحكام السَّابقة، ونشير إلى شيء مِن القواعد
المتعلقة بهذا الباب.
أول هذه القواعد أنَّ سُنَّة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مصدر من مصادر الأحكام،
وبالتَّالي لابد مِن الرجوع إليها، ولا يصح للإنسان أن يقول: إِنَّي أغتني عن
السنة، وذلك لعدد من الأمور.
أولها: أنَّ كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- أوجب على النَّاس الرجوع إلى السُّنة، في
مواطن كثيرة قال -تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، وقال:
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [آل عمران: 132] وقال:
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾
[الأحزاب: 34] آيات الله القرآن والحكمة سنة النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: هناك آيات واضحة صريحة في اتباع السنة، ومنها قوله -تعالى:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾
[الحشر: 7].
والأمر الثالث: أَن كثيرًا من آيات القرآن لا يمكن فهمها ومعرفة المراد بها إلا
بالرجوع إلى سُنة النَّبي -صلى الله عليه وسلم، فهي المفسرة لما في كتاب الله -جل
وعلا، وقد قال -تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44] فالذكر هنا
المراد به سنة النَّبي -صلى الله عليه وسلم-.
والأمر الثاني: أَن فهم السنة ليس بالأمر الاعتباطي، بل له قواعد لابد من الاستناد
إليها في فهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فهناك دلالات لألفاظ الأوامر
وألفاظ المنطوق وألفاظ المفهوم وكل منها لابد أن تُراعى شروطه وضوابطه التي لا
يُفهم النَّص إلا من خلالها، ومن جاءنا يريد أن يفهم النُّصوص بدون الرجوع إلى هذه
القواعد، كان فهمه فوضوي.
الأمر الثالث: الأحاديث النبوية لابد من الرجوع فيها إلى أهل الاختصاص لمعرفة ما
يَصح منها وما لا يَصح، حتى يُمكن أن نستند إلى مُستند صحيحٍ فيما يجوز الاعتماد
عليه مما يُنسب إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأحاديث، وعلماء السنة قد
أتعبوا أنفسهم، وقد بذلوا من أوقاتهم لمعرفة العلل التي يحكم بها على الأحاديث،
وعرفوا أحوال الرجال وعرفوا كذلك الأمور التي تعرض برواية الراوي حتى تجعل روايته
من قبيل المردود وليس من قبيل المقبول عند أهل العلم.
وقد أخذنا نماذج من الأحاديث التي قد يقع فيها شيء من رَدِّ النظر فيما يتعلق
بتصحيح الأحاديث وتضعيفها، وقد يحكم الإنسان بالحديث الواحد والخبر الواحد، ثُمَّ
بعد ذلك لا يلتفت إلى بقية الأحاديث، فيكون حكمه حكمًا غير موافق للصواب؛ لأنَّ
اعتراض الروايات ولو كانت ضعيفة يقويها ويجعلها يُسند بعضها بعضها الآخر.
ومن الأمور الأخرى التي تتعلق بهذا الباب، أنَّ الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضها
الآخر، وبالتالي ما يظن من وقوع التَّعارض بين هذه الأحاديث لابد أن يُعرض على
قواعد دفع التَّعارض بين الأحاديث، فإنَّ التعارض يشترط إليه شروطًا.
أولها: صحة الدليلين، فلا يصح أن يقابل الدليل الصحيح بما يضعف إسناده.
والأمر الثاني: أن يكون هناك تقابل في المدلول، فإذا لم يتقابلا في المدلول، فإنه
لا يعد من قبيل المتعارض.
والأمر الثالث: أن يتحدا في محل الحكم، فإنه لو كان أحد الحكمين في محل والآخر في
محل آخر، لم يكن هناك تعارض نحتاج إلى دفعه، ولا يوجد تعارض حقيقي بين النصوص،
وإنما هناك عدم فهم لبعض النصوص، وبالتالي نظن وجود التعارض بينها، وإذا وجد
التعارض، فإننا أولاً نحاول أَن نجمع بين الأحاديث بحمل بعضها على محل وبعضها الآخر
على محل آخر، لأن العمل بالدليلين خير من اطراح أحدهم.
فإذا لم نتمكن من الجمع، نظرنا إلى تواريخ هذه الأحاديث فعملنا بالمتأخر وجعلناه
ناسخاً للمتقدم، فإذا لم نتمكن من معرفة التاريخ، فإننا حينئذٍ نرجح بين هذين
الدليلين الذين نظن وجود التعارض بينهم، وطرائق الترجيح كثيرة متعددة، وأي قرينة
يمكن أن يقوى بها أحد الخبرين على الآخر فإنَّها تعتبر طريقًا صحيحًا للترجيح بين
الأحاديث التي يُظن بينها التعارض.
ومن الأمور التي نؤكد عليها في هذا الباب، أنَّ فَهْمَ النُّصوص لما كان مبنيًّا
على قواعد وضوابط لا يصح أن يَلجه كل أحد من النَّاس، وإنما يدخله مَن كان مختصًا
به عارفًا بطرائق الفَهم وقواعد الاستنباط، ومن لم يكن كذلك لم يصح له أن يدخل في
هذا الباب، حتى ولو كان عنده شهادة أو كان في منصب رسمي، أو كان النَّاس يُشيرون
إليه، أو كان له سمت حسن، أو صدر له مؤلفات، أو يأتي في برامج تلفزيونية وغيرها، كل
هذه ليست مُؤَهِلة للشَّخص ممن يحق له الاستنباط والنَّظر في النُّصوص الشَّرعية،
وإنما لابد أن يكون الإنسان عارفًا بقواعد الاستنباط قادرًا على تطبيقها وتنزيلها
في مَواطنها، حتى يكون الفَهم صادرًا من أصحاب الاختصاص المؤهلين فيه.
وكم من مرة وجدنا استنباطات مُخالفة لدلالة النَّص، فالنَّص يدل على معنى وفعل ذلك
المُستنبط بخلاف مَا دَلَّ عليه النَّص.
وهكذا أيضًا لابد أن نلاحظ في هذا الباب، أنَّ أهل الاختصاص الذين عنوا به هم أهل
العِلم الذين وَرَدَت النُّصوص بفضيلتهم ومكانتهم، وبالتالي لابد مِن تعزيز مكانتهم
ورفع منزلتهم، تَقَرُّبَا لله -عَزَّ وَجَلَّ، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد رفع
مكانتهم كما في قوله، يقول: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] وقوله:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
ومِن هَذا المنطلق ينبغي بمن يريد أن يتكلم في هذه الأبواب أن ينظر في هذه القواعد
والضَّوابط التي ذكرناها، فإذا لم يكن من أهلها ولم يكن قادرًا على إعمالها، فعليه
أن يتقي الله وأن يسكت ولا يكون سببًا من أسباب ضلال الخلق.
مَن لا يُفرق بين المنطوق والمفهوم ولا يعرف أنواع الدلالات ولا يعرف التفريق بين
دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة ودلالة الإيماء ودلالة التنبيه ودلالة الخطاب ودلالة
الاقتران، وغيرها من أنواع الدلالات، فحينئذ لا يجوز له أن يدخل في تأويل كتاب الله
-عَزَّ وَجَلَّ- وتفسيره وهو لا يعرف الطرائق الصحيحة لفهم هذه النُّصوص القرآنية
والأحاديث النَّبوية الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فحينئذٍ لابد مِن التَّميز لهذا الباب، وأن يتقي الله كل واحد مِن النَّاس، فكونه
من المثقفين أو كونه مِن الصحفيين أو ممن له عامود في الصفحة، فلا يعني أنه يجوز له
أن يَنسب إلى الله أو أن يَنسب إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحكامًا شرعيَّة وهو
لا يعرف طرائق الفَهم والاستنباط مِن النُّصوص.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلكم الله مِن الهُداة المهتدين، كما أسأله
-جل وعلا- لكل مَن شاهدنا أن يكون موفقًا في كل أموره، فاهمًا لكتاب الله عارفًا
بمراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُدركًا لمقاصد الشَّرع.
وأسأله -جَلَّ وَعَلا- لجميع المسلمين مَغفرةً لذنوبهم وَرِفعَةً لشأنهم وعُلُوًا
لدرجاتهم عند ربهم -سبحانه وتعالى- ودخولاً في جنَّات الخُلد.
كما أسأله -جَلَّ وَعَلا- لولاة أمور المسلمين، التَّوفيق لكل خَير، وأسأله أن
يجعلهم أَسباب هُدى وتقى وصلاح للعِبَاد والبلاد، كما أسأله -جَلَّ وَعَلا- أن
يُخلص نيات الجميع، فيجعل المراد إرضاء رَبِّ العِزَّة والجَلال، والحصول على الأجر
والثَّواب.
كما أسأله -جَلَّ وَعَلا- أن يَنْشر العِلم في الأمَّة، وأن يُكثِرَ العُلماء فيها،
اللَّهُمَّ أكثر علماء الشَّريعة، اللَّهُمَّ أكثر علماء الشَّريعة، اللَّهُمَّ
أكثر الشريعة.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------
[133] النَّسَائِيّ َعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص وَقَالَ: "سَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَةً،
وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا" وصححه الألباني في صحيح النسائي وصحيح الجامع.
[134] أخرج أبو دَاوُدَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ وَهُوَ
عَلَى الْمِنْبَرِ ص، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ
النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ
لِلسُّجُودِ فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ
تَهَيَّأْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ" وصححه الألباني في صحيح أبي
داود.
[135] أخرج أَحْمَدُ وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:
(خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَفَتِهِ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَخَرَّ
سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "إنَّ جِبْرِيلَ
جاء فَبَشَّرَنِي، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى
عَلَيْكَ صَلَيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْت عَلَيْهِ، فَسَجَدْت
لِلَّهِ شُكْرًا").
[136] حديث توبة كعب بن مالك أخرجه الإمام مسلم في كتاب التوبة
[137] أخرجه أحمد والترمذي، وابن ماجه، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، وحسنه
الشيخ ابن عثيمين في شرح مسلم (3/140) وفيه: لَمَّا
نَزَلَتْ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ"، فَلَمَّا نَزَلَتْ
سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ"
[138] صححه الألباني في صحيح النسائي