الدرس السابع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5659 24
الدرس السابع

المحرر في الحديث (1)

الحمد لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد.
فأرحب بكم في لقاءات علميَّة، نتدارس فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وُفِّق الإخوان لاختيار كتاب "المحرر في الحديث"، وقد وصلنا إلى باب "نَواقض الوضوء"، وكنا قد انتهينا مِن حَديث عَائشة في الخارج النجس مِن غَير السبيلين، وَذكرنا أقوال أهل العلم فيه، وننتقل اليوم إلى ناقضٍ آخرٍ، ألا وهو: "أكل لحم الجزور".
عُلماء الحنابلة يَرون أنَّ آَكِلَ لَحم الجزور يُنتَقض وُضوؤه بذلك، فلا يَصحُ له أن يُصلي إِلَّا بوضوء جديد.
وجمهور أهل العلم لا يَرونَ هَذا الحكم، ويَرون أنَّ أَكل لَحم الجزور لا يُنقض الوضوء، ولعلنا نقرأ بعض الأحاديث التي وردت في ذلك، فاقرأ مشكورًا.
{الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهمَّ اغفر لشيخنا، وللمستمعين وللمشاهدين، ولجميع المسلمين.
قَال المُصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ سَمرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّ»، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ». قَالَ أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «لَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا حديث صحيح الإسناد، أخرجه الإمام مُسلم مِن حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وهو يَتَعَلق بانتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، وظاهر هذا الخبر أنَّ الوضوء ينتقض بأكل لحم الجزور، وقد وَرَدَ حديثٌ آخر أيضًا يؤكد هذا الحديث، ولذلك قال أحمد: إنَّ الوضوء يُنتقض بأكل لحم الجزور، وذَهَب الجمهور إلى أنَّ أكل لحم الجزور لا يُنقض الوضوء، واستدلوا عليه بما وَرَدَ في الصَّحيح أنَّ آَخِرَ الأَمرين مِنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء ممَّا مَسَّت النَّار، وممَّا مَسَّت النَّارُ لحمَ الإبل، فقالوا: دلَّ هذا على أنَّ أكل لحم الجزور لا يُنقض الوضوء.
ولكن هذا الاستدلال فيه نظر؛ لأنَّه حديث عام ممَّا مَسَّت النَّار، وحديث الباب حديث خاص في لحم الإبل، والقاعدة تقول: "إِذا تَعَارض حديثان، أحدهما خاص والآخر عام، فإننا نقول بالخاص في محل الخصوص، وببقاء دلالة العام في ما عداه"، وبالتَّالي لا نَذهب إلى الترجيح حِينئذ، ومِن هُنا فَلعلَّ قَول الإمام أحمد في هذه المسألة أرجح.
وهل هذا خاصٌّ في اللحم، أو يشمل جَميع أجزاء البعير؟
هناك مَنهجان لعلماء الحنابلة، والصواب منهما: أنَّ هذا خاصٌّ باللحوم؛ لأنَّ الحديث إِنَّما وَرَدَ فيه لحوم الإبل.
فإن قال قائل: إنَّ النَّصَّ قد جاء بتحريم لحوم الخنزير، في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميِّتةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ﴾ [المائدة: 3]، ومع ذلك تقولون بتحريم جميع أجزائه!
فنقول: تحريم جميع الأجزاء في الأكل بناءً على نجاستها؛ لأنَّ المُخالط للنجاسة مع الرطوبة يُحكم بنجاسته، فحَرُم لذلك، بخلاف انتقاض الوضوء، فإنَّ انتقاض الوضوء لا ينتقل عن مكانِه، ولذا فالأظهر أنَّه لا يصحُّ هذا القياس.
وبالتَّالي نقول: إنَّ لحوم الإبل مِن نَواقض الوضوء على الصَّحيح، وفي الحديث أيضًا أنَّ لحوم الغنم لا تُنقض الوضوء.
إذن ما الذي يُستثنى ممَّا يُؤكل مِن الإبل فيقال إنَّه لا ينقض الوضوء؟
نقول: كُل مَا ليس بلحم، ولذلك:
-       فالمرقة التي تَنتج عَن طبخ لَحم الإبل لا تُنقض الوضوء.
-       الشحم -ليس لحمًا- فلا يُنتقض الوضوء به كشحم السنام.
-       العصب أيضًا لا يُنتقض به الوضوء.
يَبقى هناك أَجزاء محل تردد مثل: الطحال والكبد والأمعاء -المصران- وكذلك أيضًا ما يتعلق بمخ الرأس وهكذا القلب، والظَّاهر أنَّ هَذه ليست لحوم مجردة مطلقة، وبالتَّالي فإنَّه لا يُنتقض بها الوضوء.
عندنا مسألة، قوله هنا: (أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّ») هذا دليلٌ على أنَّه لَيس بواجب؛ لأنَّ تعليق الحُكم بالمشيئة يدل على عدم وجوبه.
ويَبقى هُنا مَا يَتَعلق بالاقتداء بمَن أَكَلَ لحمَ الجزور، فهل إذا كُنتُ أَرى أنَّ لَحم الجزور ينقض الوضوء، فهل يجوز لي أن اقتدي بإمام يُخالفني في ذلك؟ أي: وجدت شخصًا أَكَلَ لحم جزور عندي، فهل يجوز لي أن اقتدي به في الصَّلاة مع أنَّه لم يَتوضأ؟
أقول هذا على نوعين:
-       إن كان يرى أنَّ لحم الجزور لا يَنقض الوضوء، فيجوز لي أن اقتدي به، هذا من الاقتداء بالمخالف في المذهب؛ لأنَّه تَصح صلاته فجازت إمامته.
-       أَمَّا إذا كان الاختلاف في مَناط الحكم، أي: في الوصف الذي يُعلَّق عليه الحكم، مثل: رجلٌ يقول: "هذا لحم جزور"، قال الأخر: "لا ليس بلحم جزور هذا لحم بقر"
حينئذ لا يجوز لي أن اقتدي به لأنني أَرى أنَّه على غير طهارة حتى يتوضأ.
 وربط الفعل بالمشيئة في الحديث دليل على عدم وجوبه، ولهذا لما جعل الوضوء غير مُنتقضٍ عند أكل لحم الغنم، دلَّ هَذا على انتقاض الوضوء بأكل لحم الإبل.
وقوله: (قَالَ أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «نَعَمْ») استَدَلَّ به الحنابلة وَمَن وَافقهم على أنَّ الخارج مِن الحيوانات المأكول لحمها يُعدُّ طاهرًا، ولذا فيجوز الصَّلاة في مرابضها والانتفاع بها، وإنَّما نَهى عن الصَّلاة في مَبَارِك الإبل لمعنى خاص، وهو أنه خشي على المصلين مِن عَود الإبل إلى مباركها، فتؤثر عليهم أو تعتدي عليهم.
وأمَّا المسألة الأخرى فهي: تغسيل الميِّت، هل يَنتقض الوضوء بتغسيل الميِّت أو لا؟
الحنابلة يقولون بانتقاض الوضوء بتغسيل الميِّت، وغيرهم يرى خلاف ذلك، ولعلَّ قول الجمهور أقوى بأن تغسيل الميِّت لا يَنقض الوضوء، وذلك لضعف الأحاديث التي وردت في هذا الباب.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًَا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحسَّنهُ، وَلَمْ يَذْكُر ابْنُ مَاجَه الْوُضُوءَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا مَنْسُوخٌ، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمدُ: "هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبي هُرَيْرَةَ"، وَقَالَ البُخَارِيُّ: "قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وعلى هذا: لَا يَصحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ")}.
هذه المسألة -كما تقدم- في تغسيل الميِّت، هل يَنتقض الوضوء به أو لا؟ والراجح مِن قَول أهل العلم عَدم انتقاض الوضوء به، وهذا الحديث الذي ذَكره المؤلف هناك مَن قَال إنَّه ضعيف الإسناد، وهناك مَن قال إنَّه منسوخ، وهناك من قال إنَّه خطأ، والصواب أنَّه مِن قَول أبي هريرة ومذهبه، ولذا لم يعوَّل على هذا الخبر، ومن ثَمَّ لم يَقل أحدٌ بوجوب الغسل على مُغسِّل الميِّت.
{أحسن الله إليك.
(بَابُ حُكْمِ الحَدَثِ
عَنْ عَطاءِ بنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الطَّواف بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطقْ إِلَّا بِخَيرٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَسَمَّويَه -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "وَقدْ رُوِيَ عَنِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما مَوْقُوفًا، وَلَا نَعْرِفه مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عطاءٍ"، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمدُ: "عَطاءٌ ثِقَةٌ ثِقَةٌ رجلٌ صَالحٌ"، وَقَالَ ابْنُ مُعِينٍ: اخْتَلَطَ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيرُ عَطاءٍ عَنْ طَاوُسٍ فَرَفَعَهُ أَيْضًا، وَرَوَاهُ عَبدُ اللهِ بنُ طَاوُسٍ وَغَيرُه مِنَ الْأَثْبَات، عَنِ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَشبَهُ)
}.
قوله: (بَابُ حُكْمِ الحَدَثِ)، أي: ما هي الآثار المترتبة على كون المرء مُحدثًا؟
الحدث: وصفٌ حكمي -ليس وصفًا حسيًّا- يمنع الإنسان مِن بَعض الأفعال.
ما هي الأفعال التي يَمنع الحدثُ مِن مُزاولتها؟
هناك أمور كثيرة، منها:
-       الصَّلاة، لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»[24].
-        مَس المصحف عند الجمهور.
- جواز إدخال الخفين ليُمسح عليهما.
- الطَّواف بالبيت، اختلف العلماء في الطَّواف بالبيت، هل يُشترط له الوضوء أو لا؟ وللعلماء ثلاثة أقوال مشهورة:
·        قول يقول: الطَّهارة من الحدث الأصغر شرطٌ في صحة الطَّواف، فإذا طاف بدون وُضوء فإنَّ طوافه باطل. وهذا مذهب جمهور أهل العلم، ويستدلون عليه بهذا الخبر: «إِنَّ الطَّواف بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»[25]، ومن مقتضى كونه صلاةً يُشترط له الوضوء، وقد يستدلون عليه أيضًا بأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «كان قبل طوافه يغتسل»[26].
·        وذهب طائفة أخرى إلى أنَّ الطهارة في الطواف واجبة وليست بشرط، وبالتَّالي يوجبون الفدية على تارك الطَّهارة للطواف.
·        القول الثالث: هو عدم اشتراط الطَّهارة مِن الحدث للطواف بالبيت، وهذا قد قال به طائفة من الصَّحابة ومِن التَّابعين ومَن بعدهم، وقالوا عن خبر الباب إنَّه ضعيف الإسناد، فعطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره، وهناك جماعة رووا الخبر موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، وقالوا: وأمَّا حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم والذي فيه أنه اغتسل فطاف، فليس فيه دلالة على وجوب هذا الاغتسال، وإنَّما هو فعلٌ خارجَ أفعال المناسك، ولعلَّ الأظهر هو عدمُ اشتراط الطَّهارة خصوصًا أننا نعلم أنَّ الصبيان حتى مِن غَير المميزين كانوا يطوفون بالبيت ويُطاف بهم، ومع ذلك لم يُؤثَر عن أحد أنَّه أَوجب الوضوء على هؤلاء، وفي الحديث دلالة على جواز الحديث في الطَّواف، ولكن يتحرز الإنسان في هذا الكلام ولا يتكلم في الطَّواف إلا بخير.
{(وَرَوَى مَالكٌ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ أَبي بَكرٍ -وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرو بنِ حَزْم- أَنَّ فِي الكِتابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعَمْرو بنِ حزمٍ: "أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ" وَهَذَا مُرْسلٌ، وَقدْ رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد فِي "الْمَرَاسِيل" وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي بكرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرو، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّه، وَرَاوِيهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الْخَولَانِيُّ، وَقيل: الصَّحيح أَنَّهُ سُلَيْمَانُ بنُ أَرْقَم وَهُوَ مَتْرُوكٌ)}.
ذَكَرَ المؤلف هُنا مسألة مَسِّ المصحف، ببعض الألفاظ، مثل: «أن لا يمس المصحف إلا طاهر» قراءة القرآن حفظًا عن الصدر لا يُشترط لها الوضوء، وإنما يُشترط لها الاغتسال، لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ القرآن: «هكَذَا لِمَنْ لَيْسَ بِجُنُبٍ، فأمَّا الْجُنُبُ فَلَا، ولَا آيَةً»[27]، فهذا دليل على أنَّ الجنب لا يقرأ القرآن.
وبالنسبة للحدث الأصغر نقول: هو لا يَمنع مِن قراءة القرآن عن صدر. لكن هل يجوز مس المصحف أو لا؟
قال الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد: يُشترط لمسِّ المصحف الطَّهارة مِن الحدث الأصغر، وقال بعض المالكية والظَّاهرية: إنَّه لا يوجد دليل يدل على هذا الاشتراط، ولعل القول الأول أرجح؛ لأن أدلته أوضح.
{(وَفِي الصَّحيحيْنِ فِي حَدِيث هِرَقْلَ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَتبَ إِلَيْهِ: «بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عبدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، وَفِيه: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64])}.
هذا الحديث فيه دليل للظَّاهرية على أنَّ مَسَّ المصحف لا يُشترط له الطَّهارة من الحدث الأصغر، قالوا: هذه آيات من القرآن أرسلها النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فكان هرقل يمسك الكتاب، ويمسك هذه الآيات، ولم يكن مُتوضئًا. لكن هنا لا يوجد مصحف، وإنما هي قصاصة فيها آية من القرآن، فلا تدخل في ما نحن فيه، وبالتَّالي فإنَّ الأرجح هو القول بأنَّ مَسَّ المصحف يشترط له الطَّهارة من الحدث الأصغر.
وقوله هنا: (كَتبَ إِلَيْهِ: «بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ») فيه إشعار بأن الكتابات تُبدأ بالبسملة، بخلاف الخطب، فإنها تُبدأ بحمد الله تعالى.
وقوله: «مِنْ مُحَمَّدٍ عبدِ اللهِ وَرَسُولِهِ» فيه البداءة بالمرسِل، وهذا كان شأنهم في الجاهليَّة، وهذا يدل على إباحة هذا الفعل؛ لأنه من عوائدهم.
وقوله: «هِرَقْلَ» هذا اسمٌ على كل مَن مَلَكَ الروم.
قوله: «عَظِيمِ الرُّومِ»، فيه جواز وصف الكافر بأنَّه عظيم، ونسبة العظيم إلى القوم لينحصر هذا الوصف، أو لاختيار هذا الوصف من بينهم.
وقوله: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ أي: اتفاقية لمعرفة الحق، قال: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ فيه وجوب حَصر العبادة بالله -عز وجل- وأنَّه لا يصح صرف شيء مِنَ العبادات لغير الله؛ ولذا قال: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ فيه تحريم الشرك، وعِظَم إثمه، ﴿فَإِن تَوَلَّوْ﴾ أي: فلم يستجيبوا ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي: أدَّينا ما نستطيع.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَذكُرُ اللهَ عَلَى كلِّ أحْيانِهِ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا فيه دلالة على أنَّ قراءة القرآن لا يُشترط لها الوضوء مِن الحدث الأصغر، فيصح للإنسان مَادام يقرأ من صدره أو من قصاصة أو من كتاب، فيجوز له أن يقرأ القرآن ولو كان جُنُبًا، وعندنا حديث آخر في أنَّ الجنب لا يقرأ شيئًا من القرآن، تقدَّم معنا قبل قليل، رواه أبو يعلى الموصلي.
(قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَذكُرُ اللهَ عَلَى كلِّ أحْيانِهِ) معناه: أنَّ المُحدث حدثًا أصغر يجوز له الذكر، واستَدَلَّ بهذا الحديث مَن يَرى عدم وجوب الوضوء لقارئ القرآن، سواءً كان جنبًا أو كان محدثًا حدثًا أصغر أو نحو ذلك، لكن قد وردنا دليل يدل على خلاف هذه الأقوال.
{(بَابُ آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ
عَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَالنَّسَائِيُّ -وَقَالَ: هَذَا الحَدِيثُ غَيرُ مَحْفُوظٍ،- وَالْحَاكِمُ -وَقَال: عَلَى شَرطِهمَا-، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَهَذَا الحَدِيثُ مُنكرٌ، وَالوَهَم فِيهِ منْ همَّام، وَقدْ رُوِيَ منْ غيرِ طَرِيقِهِ)
}.
قوله: (كَانَ) يفيد الاستمرار.
(إِذا دَخَلَ الْخَلَاءَ) الخلاء موضع قضاء الحاجة؛ لأن الإنسان يخلو فيه عن النَّاس (وَضَعَ خَاتَمَهُ) بعض العلماء قال: لأنه يريد أن يوصل الماء إلى كل عُضو مِن أعضاء يده؛ لأنَّ الخاتم يَحصر بعض أعضاء الإنسان.
وبعضهم قال: لا، إنَّما وضعه مِن بَاب العَادة، لكن هذا الحديث ضعيف الإسناد وفيه علل، ولم يثبت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتَّالي لا نقول بشيء من أحكام هذا الحديث.
{(وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كنْتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «يَا مُغيرَةُ خُذِ الْإِدَاوَةَ» فَأَخَذْتُها، فَانْطَلقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوارَى عَنِّي فَقَضَى حَاجَتَهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: (كنْتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) فيه استحباب وجود الرُّفقة عند الأسفار؛ لأنَّ الإنسان في سفره لا يَدري مَا يَعرض له.
(فَقَالَ: «يَا مُغيرَةُ خُذِ الْإِدَاوَةَ»)، الإداوة إناء مِن أواني المشروبات.
قال: (فَأَخَذْتُها، فَانْطَلقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوارَى عَنِّي) أي: احتجب، ولم أعد أراه.
قال: (فَقَضَى حَاجَتَهُ) وفي بعض الأخبار أنَّه توضأ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم مَسَحَ على خُفيه.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَر رضي الله عنه قَالَ: أَرْدَفَنِي النَّبي صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائشُ نَخْلٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَر رضي الله عنه) هو عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، يسمون والده الطَّيَّار.
(قَالَ: أَرْدَفَنِي النَّبي صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ) أي: ركب النبي صلى الله عليه وسلم البعير وجعلني خَلفه على البعير.
(فأسرَّ إليَّ حديثً)، أي: كلمني بحديثٍ سرِّي، لا أُحدِّث به أحدًا مِن النَّاس، وفيه مشروعية كتم الأسرار.
قال: (وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائشُ نَخْلٍ)، فيه استحباب الاستتار عند قضاء الحوائج، وفيه مشروعية اتِّخاذ الحاجب الذي يحجب النَّاس مِن النَّظر إلى الإنسان حال قضائه لحاجته.
{(وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ والخَبَائِثِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ سعيدُ بنُ زيدٍ: حَدَّثنَا عبدُ الْعَزِيز: إِذا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ، وَلِسَعيدِ بنِ مَنْصُورٍ فِي "سُنَنِه" كَانَ يَقُول: «بِسمِ اللهِ»)}.
هذا الحديث في آداب الخلاء، والخلاء هو موطع قضاء الحاجة، قوله: (إِذا دَخَلَ) هنا كأنه ابتدأ الدخول، وفي بعض الألفاظ: (إذا أراد أن يدخل) إرادة الدخول هذه لها ثلاثة معانٍ:
-       عند أول وجود معنى في قلبه يحضه على ذلك الفعل، فيسمى أراد الفعل.
-       وقد يُطلق ويُراد به بداية الفعل.
-       وقد يُطلق ويُراد به توجه الفعل، إذا أراد أن يدخل، يعني: بدأ يفرغ من دخوله.
قوله: (إِذا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ») معناها: يا الله، «إِنِّي أَعوذُ بِكَ» أي: ألتجئ بك، وأحتمي بك.
«مِنَ الْخُبْثِ والخَبَائِثِ» قيل إنَّ الخبث: الرجال من الشياطين، والخبائث: نساؤهم. وفيه استحباب أن يَلتجئ الإنسان بالله -عَزَّ وجل- مِن عَدوه الشيطان الرجيم، وقد ورد عند سعيد بن المسيب أنَّه كان يقول: «بسم الله».
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاس أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله هنا: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ» على سبيل التَّثنية، أي: السببين اللذين يؤديان إلى أن يلعنكم النَّاس، وفي هذا مشروعية الأخذ بسدِّ الذَّرائع، والنَّظر في مآلات الأفعال وعواقبها، واللاعنين تثنية للَّاعن، وهو الذي يأخذ كلامًا مِن الناس.
«اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ»، أي: الذي يلعنه النَّاس، سمَّاهم لاعنين.
(قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟) فيه استفسار الإنسان عن ما يعرض له من كلام قد لا يفهمه.
(قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاس») أي: يقضي حاجته في طريق الناس، «أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» وفي هذا جواز أن يجلس الإنسان في طريق النَّاس، ولا يتخلى فيه.
{(وَعَنْ حُمَيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَهَذَا الرَّجُلَ الْمُبْهَمُ هُوَ الحكمُ بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، قَالَه ابْنُ السَّكَنْ)}.
قوله: (لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم) ورد تفسيره في بعض الروايات أن المراد به الحكم بن عمرو.
قال: (صَحِبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) يعني أنه قَدِم في السَّنة السابعة كقدوم أبي هريرة، لكن أبا هريرة تفرَّغ للحديث النَّبوي.
قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ) الامتشاط تسريح الشعر، ومنهي عن فعله في كل يوم، لئلا يكون ذلك من أسباب كبرياء صاحبه، وتموِّهِه على النَّاس.
قال: (وكذلك نهى أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ) أي: المكان الذي يجري فيه الاغتسال، وذلك لأن هذا المكان يبقى فيه شيء من البول على التراب الذي اغتسل فيه، فحينئذ نقول: إنَّه لابد أن يكون مستقرًا.
واستدلَّ بعض أهل العلم بهذا على أنَّه لا بأس أن يَبول في مُستحمِّه الذي يُعلم بزوال النَّجاسة عنه، فإنهم يقولون إنَّ النَّهي إنَّما كان في المكان الذي لا يتصرَّف فيه البول، فتنجس الأرض به.
{(وَعَنْ يَحْيَى بنِ أَبي كثيرٍ، عَنِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا تَغَوَّطَّ الرَّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَتَحَدَّثانِ عَلَى طَوْفَيْهِمَا فَإِنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ». أخرجَهُ ابْنُ السَّكَن، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمُحَمّدُ بنُ عبد الرَّحْمَن ثِقَةٌ، والطَّوْفُ: الْغَائِطُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ)}.
قال: «إِذا تَغَوَّطَّ الرَّجُلَانِ» أي: إذا ذهبا لقضاء حاجتهما بالغائط.
وقوله: «الرَّجُلَانِ» هذا ليس مرادًا، وإنما مراده المكلَّفان، سواءً كانا رجلين أو امرأتين.
قال: «فَلْيَتَوَارَ» فيه مشروعية الاستتار عند قضاء الحاجة، وخصوصًا في حالة الغائط.
قال: «فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ» أي: ليستتر كل واحد منهما عن صاحبه، وفيه أنَّ من يقضي حاجته لا يجوز له أن يشاهد شخصًا آخر يقضي حاجته.
قال: «وَلَا يَتَحَدَّثانِ عَلَى طَوْفَيْهِمَ» فيه تحريم الكلام في أثناء قضاء الحاجة.
قال: («فَإِنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ». أخرجَهُ ابْنُ السَّكَن، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَمُحَمّدُ بنُ عبد الرَّحْمَن ثِقَةٌ، والطَّوْفُ: الْغَائِطُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ).
{(وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: "مَا بَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا -مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ". رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو عَوَانَة فِي "مُسْندهِ الصَّحيح" بِهَذَا اللَّفْظِ)}.
هذا الحديث متعلق بحكم البول قائمًا، هل يجوز أو لا يجوز؟
ذهبت طائفة إلى منعه، واستدلوا عليه بمثل هذا الحديث، لكن هذا الحديث فِعل، كون النَّبي -صلى الله عليه وسلم- تركه لا يدلَّ على عدم جوازه.
قالت: ("مَا بَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا -مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ") هذا الحديث دليل للجمهور على المنع من البول قائمًا.
{(وَعندَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَه وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ نَحوُهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: "هُوَ أَحسنُ شَيْء فِي هَذَا البَاب وَأَصَحُّ")}.
هذا الحديث فيه أنَّه لا يُشرع القيام والوقوف حال قضاء الحاجة، وهناك اختلاف بين الصَّحابة، هل ثبت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالَ قائمًا أو لم يثبت؟
فعائشة تقول أبدًا -تنفي ذلك- بينما هناك مِن الصحابة مَن يُثبت كأسامة بن زيد وبن عباس وجماعات.
{(وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبُلْ قَائِمً». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّان، وَقَالَ: "أَخَافُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ نَافِعٍ هَذَا الْخَبَرَ، وَقدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا")}.
هذا الخبر أيضًا فيه ما فيه ولأهل العلم فيه كلام، والأكثر على تضعيفه، قال (وَقدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا") أي: ثبت أنَّ الصَّحيح عند المؤلف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالَ قائمًا، يعني: لم يلتزم الجلوس حال البول.
{(وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم سُباطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلَفظُهُ للْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِي مُسلمٍ: "ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ")}.
قوله: (أَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم سُباطَةَ قَوْمٍ)، السُباطَةَ المكان الذي يلقى فيه القذر والقذورات.
قال: (فَبَالَ قَائِمً)، قيل هذا دليلٌ على جواز البول قائمًا، وقيل: إنَّه -صلى الله عليه وسلم- بَالَ قائمًا؛ لأن المكان لا يتناسب أن يَبول فيه جالسًا، وقيل: إنَّ به جرح، أي: لا يستطيع معه من البول جالسًا، ولكن قد ثبت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بَالَ قائمًا في هذا الحديث، فنقول: إنَّ الأصل الجواز، والأحاديث الأخرى دلَّت على كراهته وإن لم تدلُّ على منعه.
قال: ("ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ") فيه أنَّ البول مِن نواقض الوضوء، ("فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلَفظُهُ للْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ فِي مُسلمٍ: "ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ").
({وَعَنْ عَاصِمِ بنِ بَهْدَلَةَ وَحَمَّادِ بنِ أبي سُلَيْمَانَ، عَنْ أبي وَائِل، عَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا. قَالَ حَمَّادٌ: فَفَحَّجَ رِجْلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَأعَلَّهُ أَحْمدُ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أبي وَائِل عَنْ حُذَيْفَة)}.
هذا الخبر عن أبي وائل، وهو شقيق بن سلمة، وشقيق من علماء التابعين وحماد أيضًا من علماء التابعين، وعاصم صاحب القراءة المشهورة، لكنه في رواية الأحاديث فيه ضعف؛ لأنه اشتغل بإقراء القرآن فكان هذا مِن أسباب وقوع أوهام له في الحديث فضُعِف من أجلها، وهذا الحديث يقارب حديث حذيفة الذي مرَّ معنا، قال: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ» أي: مكان قذوراتهم «فَبَالَ قَائِمً».
قَالَ حَمَّادٌ: «فَفَحَّجَ رِجْلَيْهِ» أي من أجل أن لا يصيبه رذاذ البول.
قال: (وَأعَلَّهُ أَحْمدُ بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ بن معتمر وَالْأَعْمَشِ –هو سليمان بن مهران- عَنْ أبي وَائِل عَنْ حُذَيْفَة)، فكأنه يقول أن الراوي لهذا الخبر هو حذيفة وليس المغيرة بن شعبة.
{(وَعَنْ أبي قَتَادَةَ الْأنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لفظُ مُسلمٍ)}.
قوله: «لَا يُمْسِكَنَّ» هذا نهي والأصلُ في النَّهيِ التَّحريمُ والمنعُ.
«أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ» ظاهر هذا المنع وهو منع إمساك الذَّكر باليمين حال البول.
وقد ورد في بعض الأحاديث: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ» جملة "وَهُوَ يَبُولُ" هذه صفة، ويؤخذ منها بطريق مفهوم المخالفة أنَّه لا يُمنع من الإمساك بذكره بيمينه في حالة أنَّه لا يَبول، وهي رواية صحيحة، ويمكن أن يُعمل بتقييد المطلق، وبالتَّالي نقول:
المنع من إمساك الذكر باليمين في حال كونه يبول، إذن اللفظ في هذا الخبر قال: «لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ» هناك في روايات لم تَذكر هذه الجملة «وَهُوَ يَبُولُ» فأخذنا بهذا اللفظ.
قوله: «وَهُوَ يَبُولُ» هذه عند النُّحاة حَال، وأمَّا الأصوليون فيتوسَّعون في كلمة الصفة أو النعت، فيجعلون الحال صفة، والمضاف صفة، ونحو ذلك.
قوله: «وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلَاءِ بِيَمِينِهِ» فيه المنع مِن الاستنجاء باليمين، وذلك لأن اليمين لما يُستحسن، والشِّمال لما يُستقذر.
قوله: «وَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» فيه تحريم إظهار النَّفَسِ في الإناء الذي فيه مشروب يشربه النَّاس، لئلا ينقل المرض، ولئلا يتقذر مِنه النَّاس.
{(وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قيلَ لَهُ: "قَدْ عَلَّمَكُم ْنَبِيُّكُم صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الخِرَاءَةَ! قَالَ: "فَقَالَ: أجلْ، لقدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيْعٍ أَوْ بِعَظْمٍ". رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الخبر فيه عموم أحكام الشريعة، وأن الشريعة كاملة، فلا يوجد من أفعال المكلفين شيء إلا وفي الشَّرع حكم له.
قوله: ("قَدْ عَلَّمَكُم ْنَبِيُّكُم صلى الله عليه وسلم  كُلَّ شَيْءٍ") أي: حُكم كل شيء.
قال: (حَتَّى الخِرَاءَةَ!) كأنهم يريدون الاستنقاص! فقال لهم: نعم هذا من كمال شريعتنا أنَّها علمتنا كل شيء.
قَالَ: (أجلْ) ثم ذهب يأتي بأمثلة قال: (نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ) فيه تحريم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة.
قَالَ: (أجلْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ) هنا لفظ مطلق، وبالتَّالي اليمين لا يُستنجى بها. ما معنى الاستنجاء؟ غسل موطن قضاء الحاجة –أو محل خروج الخارج من البدن- بواسطة الماء.
قَالَ: (أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ) أي نهانا. والاستنجاء: هو تنظيف محل الخارج بواسطة الحصى وما مَاثَله، قال: (أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ) أي: نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.
رأى الحنابلة أنَّ الاستنجاء بثلاثة أحجار على الوجوب، والجمهور يقولون: العبرة بالإنقاء. والحديث واضح.
قال: (أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيْعٍ أَوْ بِعَظْمٍ) الرَّجيع: هو الخارج من الحيوان. وفي هذا نهي عن الاستنجاء بهما، وفيه أنه إذا كان الاستنجاء بهما فإنه لا يصح الاستنجاء لأن النَّهي يقتضي الفساد.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضي اللهُ عَنهُما- قَالَ: "ارتَقَيْتُ فَوقَ بَيْتِ حَفْصَةَ لبَعضِ حَاجَتي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ -رَضي اللهُ عَنهُما- قَالَ: "نهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَولٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا". رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَسنٌ غَرِيبٌ"- وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عبدِ الْبَرِّ: "وَلَيْسَ حَدِيثُ جَابرٍ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ أهلِ الْعِلْم ِبِالنَّقْلِ")
}.
هذه الأحاديث في مسألة استقبال القبلة بالبول والغائط وهي من المسائل الطويلة والبحث فيها يطول، ولذلك لعلنا -إن شاء الله- نترك البحث في ذلك للمحاضرة القادمة.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا الله وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------
[24] صحيح البخاري (6954)
[25] صحيح ابن حبان (2836)، صححه ابن باز والألباني
[26] سنن الترمذي (830) وصححه الألباني، ولفظ حديث زيد بن ثابت: " أنَّهُ رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ تجرَّدَ لإِهلالِهِ واغتسلَ"
[27] مسند الإمام أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند (2/162)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك