الدرس الأول

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5656 24
الدرس الأول

المحرر في الحديث (1)

{أهلًا ومرحبًا بكم في برنامج البناء العلمي، مع معالي الشيخ سعد بن ناصر الشثري، أهلًا ومرحبًا بك شيخنا الكريم}.
الله يحيك، وأرحب بك، وأرحب بإخواني وأبنائي ممن يدرسون في هذا المحفل العلمي، بارك الله فيهم، وتقبل الله مِنَّا ومنهم.
{اللهم آمين. اليوم هو أول حلقاتنا، في شرح كتاب "المحرر في الحديث" لابن عبد الهادي رحمه الله؛ فنبدأ يا شيخ على بركة الله}.
تفضل.

{كتاب الطهارة.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والنسائي، والترمذي، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن عبد البر، وغيرهم، وقال الحاكم: هو أصل صدَّر به مالك كتاب "الموطأ"، وتداوله الفقهاء، فقهاء الإسلام مِن عصره إلى وقتنا هذا}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد.
فإنَّ علماء الإسلام قد اعتنوا بجمع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنها مَصدر مِن مَصادر التَّشريع، ويدل على ذلك مَا وَرد مِن النصوص القرآنية المؤكدة على طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم، ووجوب الأخذ بما جاء به، كما قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ [الحشر: 7]، وكما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينً﴾ [الأحزاب: 36].
ومِن هُنا اعتنى العلماء بجمع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم، فقام العلماء الأوائل بتدوين الدواوين العظيمة، التي اشتملت على سنته -صلى الله عليه وسلم، سواءً ما اقتصر على الصحيح، كالصحيحين أي: صحيحي البخاري ومسلم، أو ما عُني بجمع جميع الأحاديث، سواءً كانت صحيحة أو ضعيفة، وقد كتب العلماء في ذلك المؤلفات الكثيرة.
ولما كان مِن شُروط الاجتهاد معرفة الأحاديث المشتملة على الأحكام؛ اعتنى العلماء بتأليف مؤلفات تشتمل على أحاديث الأحكام فقط، وذلك برفع أحاديث القصص، وأحاديث المواعظ، وأحاديث وصف الجنة والنار، التي لا يؤخذ منها حكم فقهي.
وقد اعتنى العلماء بالتأليف في هذا الباب، كان من أوائلهم "ابن دقيق العيد" في كتاب "الإلمام"، ثم اشُتهر عدد من الكتب في هذا الباب، منها: "كتاب عمدة الأحكام"، للحافظ عبد الغني المقدسي، الذي اقتصر على الأحاديث المتفق عليها.
ومن أشهر الكتب في هذا الباب: كتاب "بلوغ المرام" للحافظ "ابن حجر العسقلاني"، المتوفى سنة ثمانمائة واثنين وخمسين.
و"بلوغ المرام" لم يُقتصر فيه على الأحاديث الصحيحة، وإنما اعتنى فيها بجمع الأحاديث التي يَستدل بها الفقهاء سواء كانت أحاديث صحيحة، أو لم تكن.
وكان من المؤلفات التي أُلِّفت في هذا الباب، كتاب "المحرر" الذي بين أيدينا، وهو للحافظ "محمد بن أحمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي"، وهو من علماء الإسلام الكبار، الذين لهم جُهد في أبواب متعددة، وخصوصًا في ما يتعلق ببابي: "السنة النبوية، وباب المعتقد"، وقد أَلَّفَ مُؤلفات كثيرة.
وابن عبد الهادي ولد سنة سبعمائة وخمسة، وتوفي سنة سبعمائة وأربعة وأربعين، معناه توفي وهو ابن "أربعين سنة"، رحمه الله تعالى، وقد أَلَّفَ مُؤلفات كثيرة، كما ذكرنا آنفًا.
وهذا الكتاب، أي: "المحرر"، قد اقتصر فيه المؤلف على أحاديث الأحكام كما تقدم، ومِن ميزة هذا الكتاب أنه يُسند الأحاديث الموجودة فيه إلى الكتب التي خرَّجته، ويتوسع في ذلك، ويَذكر أقوال أهل العلم بتصحيح الخبر أو تضعيفه، وقد يتكلم على بعض الرواة الذين رووا الخبر وتَوَقَفَ تصحيحُ الخبر وتضعيفه عليهم.
وابتدأ المؤلف بـ "كتاب الطهارة"، الذي هو أوائل الكتب الفقهية عادةً، والسبب في ذلك: أنَّ أول أركان الإسلام العملية الصلاة، والصلاة من شرطها الذي يتقدَّم عليها الطهارة؛ ولذلك اعتنى العلماء بتقديم كتاب الطهارة.
وقد أورد المؤلف في أوائل هذا الكتاب حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، وأبو هريرة من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أكثروا مِن الأحاديث، وهو من أوعية العلم، ومِن حُفاظ الحديث النبوي، ولذلك لازال أهل العلم يتداولون ما رواه مِنَ الأحاديث، ويشرحونها ويبينون أحكامها.
قال: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ
لاحظ أننا نعتني في هذا الشرح بتعويد طالب العلم على كيفية استخراج الأحكام مِن الأدلة، بتطبيق القواعد الأصولية على ألفاظ الحديث الذي نستخرج منه الأحكام.
قوله هنا: "سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟"
إذن الحديث كان نتيجة سؤال سُئل، قال: "إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْر؟".
هنا الحديث ورد على سبب خاص، ثم جاء اللفظ بلفظ عام، قال: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فهل العبرة بخصوص السبب أو العبرة بعموم اللفظ؟
فقوله: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»، يشمل جميع مياه البحار، سواءً كان الإنسان محتاجًا لاستعمالها أو لم يكن، والسؤال كان خاصًا في حالة ما إذا ركبوا البحر، ولم يكن معهم إلا القليل من الماء.
ومسألة هل العبرة بخصوص السبب أو بعموم اللفظ؟
يُلاحظ فيها أنَّ السبب قد يكون على ناحيتين قد يكون شخصيًّا، متعلقًا بشخص، كما في آية الظهار، نزلت في قضية خاصة، شخصية، فلان وفلانة، ومثله أيضًا في آيات قذف الزوجة في بداية سورة النور، هنا السبب شخصي، أي: متعلق بشخص.
وقد اتفق العلماء على أن ما كان سببه شخصيًّا، وكان الحكم فيه عامًا، فالعبرة بعموم اللفظ، لكن إذا كان السبب نوعيًّا، واللفظ عامًا، فهل نقول حينئذ إنَّ العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟
هنا ليس السبب شخصيًّا متعلق بشخص معين، وإنما متعلق بنوع، حالة عامة، وهي ما إذا لم يكن معهم إلا ماء قليل، فهل نقول: لا يحل استعمال الماء إلا في هذا النوع من الحوادث عندما يقل الماء؟ أو نقول بأنه يستعمل الماء ماء البحر في الطهارة عمومًا سواءً عند قلة الماء أو عند كثرته.
الصواب: أنَّ العبرة بعموم اللفظ؛ لأننا متعبدون بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد أَمرنا الله -عز وجل- بالأخذ بما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فالصَّواب كما هو قول جماهير أهل العلم: أنه يُعتمد على عموم اللفظ بتعميم الحكم على جميع الأفراد والأشخاص، سواءً في الحالة التي ذُكرت في الخبر في السؤال، أو في غيرها.
فقوله هناك: «هُوَ»، هذا ضمير يعود على ماء البحر.
قوله: «الطَّهُورُ»، تلاحظ أنها بفتح الطاء؛ لأن ضم الطاء "الطُهور" هذا فعل المكلف عن التطهر، أمَّا "الطَهور" بفتح الطاء، المراد به الماء الذي يتطهر به.
وقوله: «مَاؤُهُ»، هنا "ماء" اسم جنس، يطلق على القليل والكثير، وقد أضيف إلى معرفة، وهو الضمير في قوله الهاء، واسم الجنس متى كان مضافًا إلى معرفة، فإنه يُفيد العموم، فيشمل جميع مياه البحر، سواءً كان من وسط البحر أو من أطرافه، سواءً كان شديد الملوحة، أو كان خفيف الملوحة، فالجميع يصدق عليه ذلك.
وقوله هنا في السؤال: " بِمَاءِ الْبَحْرِ "، الأصل في لفظة البحر أن تُطلق على الماء الكثير الذي يوجد على ظهر الأرض، وبعض الناس يخصه بالماء المالح، ولكن في أساس اللغة يُطلق لفظ البحر على الكميات الكثيرة التي تكون على الأرض، وتكون باقية؛ لأنه متى كان الماء نتيجة المطر، هذا لا يُقال له بحر عندهم، وإنما يقال له مُستنقع، ويقال له حِياض، وفِياض، ونحو ذلك، وأما لفظة البحر، فهي للماء الباقي، وبالتالي ما يُسمى "بُحيرة" فإنه يَدخل في هذا النَّص، أي: البحر، فالجميع يجوز الوُضوء به والطهارة.
وقوله: «هُوَ الطَّهُورُ» أي: مُطهر لغيره، وبهذا اللفظ أخذ طائفة مِن علماء الإسلام بتقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام:
ماء طَهور، يُطهِّر غيره.
ماء طاهر يجوز استعماله، لكن لا يمكن أن يُتطهر به.
ماء نجس، وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
وهناك رواية عن أحمد، وقول للإمام مالك، بأنَّ المياه إنما تنقسم إلى قسمين:
ماء طهور طاهر مطهر لغيره، وماء نجس.
وقالوا: إنَّ ما يَعدونه مِن قسم الطاهر هذا على قسمين: إما أنه زال عنه اسم الماء بالإطلاق، وبالتالي لا يدخل معنا في التقسيم، ومن أمثلته:
ماء الباقلاء، ونحوه، فهذا لا يعد ماءً بإطلاق.
وأما الماء المطلق فإنه إمَّا أن يكون طهورًا مطهِّرًا لغيره، وإمَّا أن يكون نجسًا.
وهناك أنواع من المياه مُنع من استعمالها لسبب خاص، فحينئذ هذا السبب الذي تعلق بهذه المياه ننظر فيه، فإن كان متعلقًا بأشخاص، وليس على العموم، فإنه باق على طهوريته، وأمَّا إن كان حكمه متعلقًا بالعموم، فهذا لا يُسلبه ذلك النهي من حكم الطهورية، ولعل تفاصيله تأتي.
وقوله: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»
" الْحِلُّ " يعني جائز الأكل، وهنا ما يُسمَّى عند العلماء بـ "دلالة الاقتضاء"، فقد حُذِفَ بعض اللفظ في هذا الخبر، وذلك أنَّ "الحِل"، وجميع الأحكام التكليفية لابد أن تتعلق بفعل مِن أفعال المكَلفين، والميتة هنا ليست مِن أفعال المكلفين، ومن ثَمَّ لابد من تقدير حتى يصح الكلام، وهذا يُسمَّى دلالة الاقتضاء.
قوله: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» "دلالة اقتضاء"، والعلماء لهم مناهج أشهرها منهجان في تقدير الفعل، فمنهم من يقول:
نقدِّره بالفعل الأشهر، بحسب العادة والعرف، أي: العرف الشرعي، أو العرف الاستعمالي.
والعرف هنا يكون في الأكل؛ لأنه قال: الذي يحل أكله من الميتات.
وبعض العلماء قال: إننا نحمله على جميع الألفاظ أو جميع الأفعال الممكنة، وهذا هو أرجح الأقوال في هذه المسألة، ومن ثَمَّ يدل الخبر على جواز استعمال ميتات البحر بأي نوع من أنواع الاستعمال، سواءً كان في صنع الثياب، أو في صنع الأواني، أو في غير ذلك ممَّا يحل الانتفاع به، ولا نمنع من استعمال هذا المُستخرج من ميتات البحر، بأي نوعٍ من أنواع الاستعمال.
و"الحِل" يُراد به الجواز، والإباحة.
وقوله: «مَيْتَتُهُ»، الميتة: هي ما مات حَتفَ أَنفه، بحيث يُعَدُّ قد خرجت منه الحياة بدون تذكية ولا نحر، وميتة البحر هنا عامة؛ لأن "ميتة" من أسماء الأجناس الصادقة على القليل والكثير، وقد أضيفت إلى معرفة، فتفيد العموم.
لكن ما هي ميتة البحر؟
هل المراد به الحيوانات التي ماتت وكانت تعيش في الماء؟ أو الحيوانات التي ماتت وكانت لا تعيش إلا في الماء؟
إذن هناك نوعان من أنواع حيوانات البحر:
نوع يعيش في الماء وخارج الماء.
ونوع لا يعيش إلا في الماء، هذا الثاني هو الأرجح في تفسير الخبر، فحيوانات البحر هي التي لا تعيش إلا في الماء، بحيث لو خرجت من الماء لماتت.
وحيوانات البحر التي تحل ميتتها ظاهر اللفظ عموم في جميع حيوانات البحر.
وهناك من استثنى بعض أنواع ميتات البحر، فبعضهم استثنى الطافي على الماء، وبعضهم استثنى ما يماثله حيوان بري مُحرم ككلب الماء وخنزير الماء ونحو ذلك، والأظهر أن عموم الحديث باقي؛ لأنه متى تعارض عندنا عمومان فإننا نقدم أقوى العموميين، فهذه الحيوانات التي ذُكر فيها نصان متعارضان، نص يدل على تحريم الميتة، ونص يدل على إباحة ميتة البحر، فالثاني لم يرد فيه استثناءات، فيكون عمومه أقوى، فنرجح ذلك العموم على العموم الأول.
وقد أورد المؤلف مَنْ أَخرَجَ الخَبَرَ ثم بَعد ذلك بَيّن مَن حَكَمَ على الخبر بالصحة، وهذا منهجه -رحمه الله تعالى- في تأليف هذا الكتاب.
{(وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وفي لفظ لأحمد وأبي داود والدارقطني: يُطرح فيها مَحَايض النساء ولحم الكلام وعذر الناس، وفي إسناد هذا الحديث اختلاف لكن صححه أحمد، وَرُوي مِن حديث أبي هريرة وسهل بن سعد وجابر)}.
أورد المؤلف هذا الخبر من حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله، هذا سؤال مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنتوضأ، وفي لفظ أتتوضأ، خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم.
"من بئر بضاعة": بئر بضاعة بئر في المدينة، وهذه البئر قد اختلف في مقدارها، وقد قال الإمام الشافعي: إنها ماء كثير وإنها واسعة، وأنَّ ما يُلقى فيها مِن النجاسات لم يغير شيئًا من صفات الماء.
قال: وهي بئر يُلقى فيها الحيض، يعني: القطن والخِرق التي تنظف النساء بها قُبُلهن بعد الحيض.
وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن، يعني: النجاسات، ولحوم الكلاب، وفي بعض الألفاظ قال: عُذر الناس، يعني: ما يخرجونه مِن النجاسات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، الماء هنا: اسم جنس معرف بالألف واللام الاستغراقية؛ فيفيد العموم.
وقوله: «طَهُورٌ» أي: هو مُطهر لغيره.
و«لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» يعني: مَا لم يَغلب على شيء مِن صفاته؛ فإنه قد وقع الإجماع على أنَّ الماء إذا تغير بالنَّجاسة؛ فإنه يكون نجسًا لا يجوز استعماله في الطهارة.
فهذا من باب تخصيص عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العلماء.
وقوله: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ» حمله بعض العلماء على الماء الكثير، جمعًا بينه وبين حديث القلتين، فقالوا: إنَّ حديث القلتين والذي فيه أنَّ الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل النجس، فقالوا: إنَّ هذا الحديث نفسره بالحديث الآخر، خصوصًا أنَّ مفهوم الحديث الآخر أن الماء إذا كان أقل من قلتين فإنه يكون حاملاً للنجاسة، ولا يُراد بهذا المتغير، فإنَّ المتغير سواء كان كثيرًا أو كان قليلاً فإنه ينجس.
وقوله «لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، كلمة "شيء" نكرة في سياق النفي؛ فتكون عامة بجميع الأشياء، لكن خصصه الإجماع الوارد في هذا الباب الذي يقول بأنه إذا تغير الماء فإنه لا يبقى على طهوريته، وإنما يكون ماء نجسًا.
والمسألة السابقة في: "الماء القليل إذا خالطته النجاسة ولم تغيره"، جماهير أهل العلم قالوا؛ إنَّه ينجس، أخذًا مِن حديث القُلَّتين، وهذا مشهور مذهب أبي حنيفة ومذهب الشَّافعي وأحمد، وإن كان الحنفية لا يُفرقون بين القليل والكثير بالقلتين، وإنما يفسرونه بتفسير آخر لعله يأتي الكلام فيه.
بينما مذهب الإمام مالك رحمه الله أنه لا يكون الماء نجسًا عندما تلاقيه النجاسة ولا يتغير بها، سواء كان كثيرا أو كان قليلا.
وقد أورد المؤلف مَن أخرج هذا الخبر وبيّن أنَّ الترمذي حسنه، وبيّن اللفظ الآخر، وقال: إن هذا الحديث في إسناده اختلاف، يعني: أن الرواة الذين رووه وقع بينهم اختلاف في بعض ألفاظه، وبالتالي إذا كان هناك اختلاف مِن الرواة فإنَّ الخبر يُعد مضطربًا، وهذا من أسباب تضعيف الأخبار.
ولكن عندما يكون هناك رواية راجحة، ورواية مرجوحة؛ فإنه لا يصح أن تُعارَض الرواية الراجحة بالرواية المرجوحة، بل تعد الرواية المرجوحة إمَّا شاذة أو منكرة، بالتالي لا يعارض بها المحفوظ، ومن ثم هذا الاضطراب والاختلاف لا يؤثر في تصحيح الخبر.
وقد أشار المؤلف إلى أنَّه قد ورد الخبر مِن طُرق أخرى، منها حديث أبي هريرة، وهو حديث ضعيف فيه عبد الرحمن بن زيد، وحديث سهل بن سعد عند الدارقطني، وحديث جابر عند ابن ماجه، لكن هذه الأحاديث فيها أسباب جعلت أهل العلم يحكمون عليها بالضَّعف، والمعول عليه حديث أبي سعيد فإنه قد ورد بإسناد جيد حسنه الترمذي، وقواه طائفة من أهل العلم.
{أحسن الله إليك..
(وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وفي لفظ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ». رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، وغير واحد من الأئمة، وتكلم فيه ابن عبد البر وغيره، وقيل: الصواب وقفه، وقال الحاكم: هو صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بجميع رواته، ولم يخرجاه، وأظنهما والله أعلم لم يخرجاه لخلاف فيه على أبي أسامة عن الوليد بن كثير)}
هذا الخبر أشار المؤلف إلى علة موجودة فيه، وهو أنَّ أبا أسامة حماد بن أسامة قد رواه مَرة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومرة يرويه عن محمد بن جعفر، ومرة يرويه عن محمد بن عباد بن جعفر، ولا يمتنع أن يكون الخبر واردًا من الطريقين، وبالتالي هذا الذي تُكلم في الخبر بسببه لا محل له، وكلا الراويين ثقة ومن ثم فتقبل روايته.
وهذا الحديث يُقال له حديث القلتين، وقال فيه: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء، وما ينوبه، أي: ما يأتي عليه من الدواب والسباع، فإنه قد ينزل شيء مِن بَولها وعذرتها في هذه المياه، وقد استدل طائفة مِن أهل العلم على أنَّ ما يخرج مِن الحيوان نجس، من العذرة والبول.
وعلماء الحنابلة يُفرقون بين الحيوان الذي يؤكل لحمه وبين الحيوان الذي لا يؤكل لحمه.
فيعدون الخارج من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه نجسًا، بينما الخارج من الحيوان الذي يؤكل لحمه، فيحكمون بطهارته، ويستدلون على ذلك بعدد من الأحاديث الواردة في استعمال الخارج من الحيوان المأكول، ومن أمثلة ذلك حديث الْعُرَنِيِّينَ عندما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشربوا من أبوال الإبل.
ومن المعلوم أنه إذا تعارض خبر عام كحديث الباب "الدواب والسباع"؛ لأنها أسماء جمع معرفة بـ "ال"، مع حديث خاص، فإنه يعمل بالحديث الخاص في محل الخصوص، ويعمل بالحديث العام فيما عداه من المواطن.
قوله: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ» القلة الجرة العظيمة، وقد ورد تفسيرها في بعض الأحاديث، والعلماء قد قدروا هذه القلة بتقديرات متعددة مختلفة، منهم من يقدره بالرطل، لكن الأظهر فيما كان بمثابة هذا الخبر أن يقدر بحجمه، وقد قدره بعض أهل العلم بأنه: "ذراع وربع في ذراع وربع في ذراع وربع، طولا وعرضا وارتفاعا".
وقوله: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» فسره اللفظ الآخر، «لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ»، واستدل بهذا على أنَّ الماء إذا كان أكثر من قلتين، فإنه لا ينجس بما خالطه مِنَ النَّجاسة التي لم تغيره، أما لو تغير الماء الكثير بالنجاسة فإنه يحكم بنجاسته بإجماع أهل العلم كما تقدم.
ومن مخصصات العموم الإجماع، وأمَّا إذا كان الماء أقل من القلتين فقد وقع فيه من الخلاف على ما ذكرناه في شرح الحديث السابق.
واستدل الشافعية والحنابلة بهذا الخبر على التفريق بين القليل والكثير بالقلتين، خلافا للإمام أبي حنيفة الذي فرق بينهما، فقال:
الماء الكثير ما إذا حُرك طرفه لم يصل إلى طرفه الآخر، وقد قدروه بتقديرات متعددة.
ومن هذا المنطلق نعرف الخلاف الوارد في هذا الخبر.
بعض أهل العلم قال: هذا الخبر إنما يستدل به في مسألة القليل من باب المفهوم، مفهوم المخالفة؛ لأنه ذكر ما تجاوز القلتين، ولم يتكلم عمَّا قلَّ عن القلتين.
وقال: إن الخبر الأول منطوق، والمنطوق يقدم على المفهوم، لكن من القواعد المقررة عند أهل العلم: أن من مخصصات العموم المفهوم، فبالتالي لا بأس أن نخصص عموم الحديث الأول بمفهوم هذا الخبر.
{(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيه»، وَقال مُسْلِم: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» متفق عليه)}
هذا حديث قد أخرجه الشيخان وبالتالي لا إشكال في صحته.
قوله: «لَا يَبُولَنَّ» هذا نهي، والنَّهي يدل على عدد من الأحكام، منها: التحريم.
فالبول في الماء الدائم غير الجاري محرم، يأثم صاحبه، ويأثم مَنْ فَعَلَه.
ولكن هل يدل على الفساد؛ لأنَّ مِن مدلولات النَّهي أن يدل على الفساد، ومن مقتضى الفساد أن يحكم على ذلك الماء بنجاسته، فإذا كان عندنا ماء قليل ووجد فيه بول فهل يحكم بنجاسته أو لا يحكم بنجاسته؟
هذا الحديث مما استدل به الجمهور على نجاسة الماء القليل إذا خالطته النَّجاسة ولو لم تُغيره.
واستدل به الحنابلة أيضًا على أنَّ الماء الكثير إذا وقع فيه عذرة أو بول فإنه يحكم بنجاسته، قالوا: لعموم اللفظ في قوله: «الْمَاءِ الدَّائِمِ» فإنَّ كلمة الماء اسم جنس مُعرف بـ "ال" الاستغراقية فيفيد العموم، حتى في الكثير.
وجمهور الشافعية وغيرهم يخصصون هذا الخبر بحديث القلتين، وهذا المنهج أحسن؛ لأن حديث القلتين خاص، والخاص يقدم في محل الخصوص على اللفظ العام.
واستدلوا به على أنَّ الماء القليل إذا خالطته النجاسة حكم بنجاسته ولو لم يتغير كما هو مذهب الجمهور فيما تقدم، وخالفهم الإمام مالك، فإنه لا يرى الحكم بنجاسة الماء إلا إذا تغير شيء من صفاته بالنجاسة.
وقوله «ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيه» فيه دلالة على النهي عن الاغتسال في الماء الذي فيه البول، مما يدل على أنه لا يصح الاغتسال فيه.
فهذا شيء مما يتعلق بهذا الخبر.
{أحسن الله إليك، وجزاك الله خير شيخنا الكريم، ورفع الله قدرك، ونشكرك على قدمت.}
بارك الله فيك، وبارك الله فيمن يستمع إلينا، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد.
{نشكركم متابعينا الكرام على حسن الاستماع، وجزاكم الله خير وكتب الله أجركم، وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك