الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما
بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة
المهتدين.
وبعد، فهذا لقاء جديد نتدارس فيه شيئًا مِن أحاديثِ كتاب المحرر للحافظ ابن عبد
الهادي -رحمه الله تعالى- وكنا قد أخذنا شيئًا من أحاديث باب آداب قضاء الحاجة،
وتوقفنا عند حديث سَلمان الفارسي، الذي فيه "نهانا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن
نستقبل القبلة ببول أو غائط"، فهذا الحديث ظاهره المنع مِن استقبال القبلة بالبول
أو بالغائط، وهو حديث صحيح، والأصل أنَّ النَّهي يدلُّ على التَّحريم، وممَّا يَأثم
الإنسان بفعله، ولكن ورد في أحاديث ما يقابل هذا النَّهي ومنها الحديث الذي رواه
ابن عمر بعده، اقرأ.
{الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين وللمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ
رَضي اللهُ عَنهُما قَالَ: ارتَقَيْتُ فَوقَ بَيْتِ حَفْصَةَ لبَعضِ حَاجَتي
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ
الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
حديث ابن عمر ظاهره إباحة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة.
{(وَعَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضي اللهُ عَنهُما قَالَ:
نهَى نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَولٍ،
فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَسنٌ غَرِيبٌ"-
وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحهُ البُخَارِيُّ،
وَقَالَ ابْنُ عبدِ الْبَرِّ: "وَلَيْسَ حَدِيثُ جَابرٍ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ
عِنْدَ أهلِ الْعِلْم بِالنَّقْلِ")}.
ظاهرُ هذا الحديث جواز استقبال القبلة عند قضاء الحاجة وإن كان ابن عبد البر ضعَّف
هذا الخبر وبيَّن أنَّه لا يصح الاستدلال به، فهذه الأحاديث ظاهرها الجواز والحديث
الأول ظاهره المنع، وللعلماء طرائق للجمع بين هذين الدليلين:
- منهم مَن يقول: إنَّ حديث ابن عمر متأخر،
قبل وفاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعام، فيكون ناسخًا.
- ومنهم من يقول: إنَّ هذا في الاستدبار،
فَيُستثنى.
- ومنهم من يقول: إنَّه في البول.
والصواب أنَّ هذه الأحاديث المجيزة إنما هي عند البنيان، ففي البينيان يجوز لوجود
الحائل، وأمَّا عند الفضاء وكون الإنسان في البرية فحينئذ يُمنع من استقبال القبلة
واستدبارها حال قضاء الحاجة.
{(وَعَنْ أبي بُرْدةَ قَالَ: حَدَّثتنِي عَائِشَةُ رَضِيَ
اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا خَرَجَ مِنَ
الْغَائِطِ قَالَ:
«غُفْرَانَكَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّان وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ:
حَدِيثٌ حسنٌ غَرِيبٌ, وَعِنْدهُ: إِذا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ- وَالْحَاكِمُ
–وَصَحَّحَهُ-، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: «هُوَ أَصحُّ حَدِيثٍ
فِي هَذَا الْبَابِ»)}.
هذا في مشروعية هذا الذكر، أن يقول "غفرانك" عند الخروج من مكان قضاء الحاجة، وورد
في حديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن يقال:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي»[28]،
لكنه حديث ضعيف الإسناد، وبالتَّالي لا يصح أن يُعول عليه.
وقال بعض أهل العلم: إنَّ قوله: «غُفْرَانَكَ» لأنَّه
لما تخفَّف من الغائط والبول الذي كان في بدنه تذكر التخفُّف من الذُّنوب بواسطة
الاستغفار، فقال هذه الكلمة.
{(بَابُ الإِسْتِنْجَاءِ والاسْتِجْمَارِ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه
وسلم الغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ
حَجَرَيْنِ، والتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً
فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الحَجَرَينِ وَألقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ:
«هَذَا رِكْسٌ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ –وَعلَّلَهُ ثُمَّ
قَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ"-، وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَفِي آخِرِهِ: «ائْتِنِي بِحَجَرٍ»،
وَفِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ: «ائْتِنِي بِغَيْرِهَ»)}.
قوله: (بَابُ الاسْتِجْمَارِ): المراد به تنظيف محل
الخارج مِن السَّبيلين بواسطة الحجارة ومَا مَاثلها.
وأمَّا الاستنجاء؟ فهو تنظيفه بواسطة الماء.
وقد اختلف العلماء في المجزئ منهما، والأفضل هو أن يجمع بينهما، -الاستنجاء
والاستجمار- والاكتفاء بأحدهما جائز، إن اكتفى بالاستجمار جاز ولو كان عنده ماء،
مثلًا: عنده مناديل فنظف نفسه تنظيفًا كاملًا بالمناديل فإنَّه يجزئه، وهكذا لو
اقتصر على استعمال الماء الذي هو الاستنجاء، فإنَّه يجزئه، وسيأتي -إن شاء الله-
لذلك ذكر.
قوله في حديث بن مسعود: " أَتَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الغَائِطَ". الغائط في
أصل اللغة: المكان المنخفض، ولما كان الغالب قضاء الحاجة في ذلك المنخفض قيل عن
مكان قضاء الحاجة غائط، ثم قيل للخارج النَّجس من السبيلين غائط.
قال: (فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ)
استدلَّ به الحنابلة على أنه لابدَّ من ثلاثة أحجار، وبعض أهل العلم قال: لابد أن
يكون وِترًا، فالحنابلة يقولون بإجزاء الأربعة، ولكن بعض أهل الحديث قال: لا،
لابدَّ من وترٍ، لقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم «وَمَنْ
اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ»[29] حمله الحنابلة على أنَّ المراد به ثلاثة، وقال
الجمهور: إنَّ المراد الإنقاء، فمتى حصل الإنقاء فإنَّه حينئذٍ قد أدَّى الواجب
الذي عليه.
قوله: (فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ): فيه أن الحجارة تُجزئ
في الاستجمار، وأنَّه لا يتعيَّن أي نوعٍ من أنواع الحجارة، فالحجارة أنواع وألوان،
فأيُّها استُعمل في الاستجمار أَجزئ.
قال: (والتَمَسْتُ الثَّالِثَ) أي: الحجر الثالث
(فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً) الروثة: هو الرجيع الخارج من بهيمة
الأنعام.
قال: (فَأَتَيْتُهُ بِهَ) أي: أتيت بها للنبي صلى
الله عليه وسلم
قال: (فَأَخَذَ الحَجَرَينِ) لأنَّه يجوز الاستجمار
بهما (وَألقَى الرَّوْثَةَ)
لأنَّ الروثة لا يجوز الاستجمار بها، وقد ورد معنا في حديث سلمان أنَّه نهى عن
الاستجمار بالرَّجيع، (وَقَالَ:
«هَذَا رِكْسٌ»)، ثم ذكر المؤلف البحث في إسناد هذا الخبر.
{أحسن الله إليكم، سؤال: بالنَّسبة للقول الذي يَرى وُجوب الاستجمار بثلاثة أحجار،
هل إذا استخدم حجر ذي ثلاثِ شعب. يُجزئه ذلك؟}.
المراد أن يستجمر ثلاثًا، فإذا كان هناك حجر كبير له ثلاث شعب، فإنَّه حينئذ قد
استجمر ثلاث مرات، وبالتَّالي يُجزئه.
{(وَعَنْ يَعْقُوب بنِ كاسِبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بنِ رَجَاء،
عَنِ الْحسنِ بنِ فُراتٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبي حَازِم، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهَى أَنْ يُسْتَنْجى بِعَظْمٍ
أَوْ رَوْثٍ، وَقَالَ:
«إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» رَوَاهُ أَبُو أَحْمدَ
بنُ عديٍّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: "إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ"، وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ: "لَا أعلمُ [مَنْ] رَوَاهُ عَنْ فُراتٍ القَزَّازِ غَيرَ ابْنهِ الْحسن،
وَعَنِ الْحسنِ سَلَمَةَ بن رَجَاءٍ، وَعَنْ سَلَمَةَ ابنُ كاسِبٍ، وَسَلَمَةُ
أَحَادِيثُه أَفْرَادٌ وغرائبٌ، وَيُحدِّثُ عَنْ قَوْمٍ بِأَحَادِيثَ لَا يُتَابعُ
عَلَيْهَا")}.
هذا الخبر قد رواه ابن عدي بإسناد غريب فريد، ولذلك لم يقبله بعضُ أهل العلم.
قوله: (نهَى أَنْ يُسْتَنْجى بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثٍ)،
تقدَّم معنا أنَّه لا يصح الاستنجاء بالروث ومثله العظم، وقد ورد في ذلك أحاديث
يُقوي بعضها بعضًا، وقد ورد أنَّ العظام مُنع من الاستنجاء بها لأنَّ الجنَّ تعود
لهم تلك العظام لحمًا أوفر ما كانت، فنهى عنه؛ لأنه طعام إخواننا من الجن، فدلَّ
هذا على أنَّ طعام الإنس أيضًا يُمنع من الاستنجاء به.
{إذا تبقى لنا بعض عظام من الشَّاة التي ذبحناها، هل لنا أن نضعها في مكان نتصدق
بها على إخواننا من الجن؟}.
وضع العظام في المكان العام المفتوح لا بأس به، ولا حرج على الإنسان فيه.
{(وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أبي مُعَاذٍ -واسْمُهُ عَطاءُ بنُ
أَبي مَيْمُونَةَ- قَالَ: سَمِعتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ رضي الله عنه يَقُول: كَانَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنا وَغُلَامٌ
نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث فيه جواز الاكتفاء في الاستنجاء بالماء، وهناك قولٌ عن الإمام مالك
بأنَّ هذا لا يجزئ، ولكن ظاهر هذا الخبر إجزاؤه، وفيه خدمة صاحب الفضل والمكانة،
كخدمة أنس -والغلام الذي يماثله- للنبي صلى الله عليه وسلم.
والعَنَزَة: عصا في طرفها مثل الرمح، وكان يضعها بين يديه في الصَّلاة، لتكون سُترة
له.
{(بَابُ أَسبَابِ الغُسْلِ
عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ إِلَى قُبَاءٍ، حَتَّى إِذا كُنَّا فِي
بَنِي سَالِمٍ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَابِ عِتْبَانَ
فَصَرَخَ بِهِ، فَخَرَجَ يَجُرُّ إزَارَهُ، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ»، فَقَالَ عِتْبَانُ: يَا
رَسُولَ اللهِ, أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُعْجَلُ عَنِ امْرَأَتِهِ وَلم يُمْنِ مَاذَا
عَلَيْهِ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ»، وَفِي لَفظٍ آخر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ،
فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ: «لَعَلَّنَا
أَعْجَلْنَاكَ؟» قَالَ: نَعَم يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
«إِذا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ لم يَذْكُرِ البُخَارِيُّ قَوْلَه:
«إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ»، وَلَا قَالَ:
«فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ»)}.
المراد بالغسل: تعميمُ جميع أجزاء البدن بالماء. وسيأتي معنا صفة الغسل، لكن الآن
نتحدث عن الأسباب التي تقتضي الغسل، وتوجبه.
قد ذكر المؤلف هنا حديثَ أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، فقال:
(خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ إِلَى
قُبَاءٍ) قباء في أطراف المدينة في ذلك الزمان، وهي أول ما قدم عليه
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال: (حَتَّى إِذا كُنَّا فِي بَنِي سَالِمٍ)، بني
سالم: هم قبيلة من الأنصار، ولهم حي ينفردون به عن بقية أهل المدينة يجدون فيه
الماء، ويزرعون فيه.
قال: (وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَابِ
عِتْبَانَ) عتبان هو أحد الصحابة.
قال: (فَصَرَخَ بِهِ) أي ناداه رافعًا صوته، فيه جواز
رفع الصوت بالنداء.
قال: (فَخَرَجَ يَجُرُّ إزَارَهُ) أي: من الاستعجال
لإجابة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد استدلَّ به بعضهم على أنَّ الإزار الذي
كانوا يستعملونه فوق الكعبين، إذ لو كان الإزار فوق ذلك بكثير، وخرج جارًا إزاره
لانكشفت عورته، وأخذ بعضهم من هذا: أنه يجوز لغير المتكبر جرَّ الإزار، لكن جرَّ
الإزار هنا ليس أمرًا معتادًا، إنَّما فعله لعجلة أمره، فكأنه جر الإزار بدون قصدٍ
لذلك.
(فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«أَعْجَلْنَا الرَّجُلَ») أي: جعلناه يَستعجل، كأنه قد جَامع زوجته
ولم يفرغ.
فقال عتبان: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ)
أي: أعطني الحكم في الرجل
(يُعْجَلُ عَنِ امْرَأَتِهِ وَلم يُمْنِ) أي: قد
جامعها وأدخل فرجه في فرجها، ولكنه لم ينزل المني بعد.
(فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ»)، "إنَّما" أداء حصر، "الماء" يعني:
إنَّما وجوب الاغتسال بالماء "من الماء"، يعني من إنزال المني الذي هو الماء.
فهذا الحديث ظاهره أنَّ مَن احتلم وجب عليه الغسل، ومن ذلك مَن جامع فأنزل، لكن من
جامع ولم يُنزل، ما حكمه؟
ظاهر الحديث أنَّه لا يجب عليه الاغتسال، وبذا قال طائفة مِن الظَّاهرية، والجمهور
على أنَّه يجبُ الاغتسال في هذه الحال، واستدلوا على ذلك بما ورد في الحديث
الصَّحيح أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا
جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ
الْغُسْلُ»[30]، وفي لفظ عند مسلم: «وَإِنْ لَمْ
يُنْزِلْ»[31]. وقد جاء في الحديث: «وَمَسَّ
الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»[32]، ولذا إذا غَيَّبَ
حَشفته في فرجها، وجب حينئذٍ الغُسل.
ومِن ثَمَّ فدلالةُ الحديث هنا دلالةُ حصرٍ بـ"إنَّما"، والحديث الآخر دلالته صريحة
بإيجاب الغُسل عليه، وبالتَّالي يُقدَّم الصَّريح على غيره، وبالتَّالي نقول: يجب
الغسل على مَن جامع ولو لم يُنزل على الصَّحيح.
قال: (وَفِي لَفظٍ آخر: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه
وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) يعني: طلب
مِن أحد أصحابه أن يستدعيه.
قال: (فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ) أي: قد اغتسل.
قال: (فَقَالَ: «لَعَلَّنَا
أَعْجَلْنَاكَ؟») أي: يمكن أن نكون قد استدعيناك قبل أن تقضي حاجتك؟
فقال الرجل: (نَعَم يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
«إِذا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ») فظاهر هذا
أنَّه لا يجبُ الغسل عليه، قال:
(«وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ) ولكن البخاري لم يذكر قوله:
«فَلَا غُسْلَ عَلَيْكَ». فهذا من أدلَّة الظَّاهرية ومن ماثلهم في القول
بعدم وجوب الغسل بتغييب الحشفة، أو الجماع بدون إنزال، والآخرون استدلوا بحديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
وقد جاء في الحديث: أنَّ الصَّحابة اختلفوا في هذه المسألة، فأرسلوا إلى عائشة رضي
الله عنها يسألونها عن هذه المسألة، فأخبرتهم بالحديث الذي فيه وجوب الاغتسال من
الجماع ولو لم يكن هناك إنزال، فأخذ الصَّحابة بقولها رضي الله عنها.
{(وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ
سُلَيْمٍ حَدَّثَتْ: أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ النَّبيّ صلى الله
عليه وسلم: «إِذا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ»،
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَهلْ يَكُونُ
هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ
الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبيضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصفرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا
عَلا أَوْ سَبَقَ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث يتكلم عن مسألة الاحتلام، فمَن احتلم وجب عليه الغسل.
متى يعد محتلمًا؟ برؤية الماء، فإذا رأى أثر الماء على ثيابه، أو بدنه، وجب عليه
الاغتسال، حتى ولو لم يرَ شيئًا في منامه.
أمَّا مَن لم يرَ ماءً ولا أثرًا للاحتلام في ثيابه ولا في بدنه، فإنَّه لا يجب
عليه الغسل، ولو كان قد رأى في منامه جماعًا.
ولهذا لما جاءت أم سليم -وهي أم أنس- (أَنَّهَا سَأَلَتْ
نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى
الرَّجُلُ) أي: من كونها تُجامَع، (فَقَالَ النَّبيّ
صلى الله عليه وسلم: «إِذا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ
فَلْتَغْتَسِلْ») يعني: إذا رأت الماء،
«فَلْتَغْتَسِلْ»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر يدلُّ على الوجوب.
قوله: (فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ
ذَلِكَ) أي: أن يُنسب إلى النِّساء مثل هذا الحديث، فقالت أم سلمة:
(وَهلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«نَعَمْ») يعني: يكون من المرأة الماء، ثم قال:
«فَمِنْ أَيْنَ يَكونُ الشَّبَهُ؟» يعني: بعض الأولاد يشبهون أمهاتهم، وبعض
الأولاد يشبهون أباءهم، فلماذا حصل الشَّبه بالأم؟ أو بقرابتها؟ لكونه يخرج منها
الماء.
قال: «إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبيضُ» هذه
صفته «وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصفرُ، فَمِنْ
أَيِّهِمَا عَلا أَوْ سَبَقَ، يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ».
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا جَلَسَ بَينَ شُعَبِهَا
الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، زَاد مُسلمٌ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ»)}.
هذا الحديث فيه: أنَّ مَن جامع ولم يُنزل وجب عليه الاغتسال، وهذا هو قول جمهور أهل
العلم، وهذا الذي عورض به الحديث السابق «إِنَّمَا المَاءُ
مِنَ المَاءِ».
«شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ» أي: أطراف بدنها.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمر، عَنْ سعيدِ بنِ أَبي سَعيدٍ
المقْبُريِّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ ثُمَامَةَ بنَ أُثَالٍ
أَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبُوا
بِهِ إِلَى حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ، فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ». رَوَاهُ
أَحْمدُ. وَعبدُ الله بنُ عُمر الْعُمَرِيُّ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ،
وَقدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عبدِ الرَّزاقِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ
وَعبدِ اللهِ ابْني عُمَر، عَنْ سَعِيْدٍ المقْبُريِّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ،
وَفِيهِ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فَاغْتَسَلَ، وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: "هَذَا
الحَدِيثُ عِنْدَ سُفْيَانَ، عَنْ عبدِ اللهِ وَعُبيدِ اللهِ"، وَرَوَاهُ ابْنُ
خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحهِ"، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ اغْتَسَلَ، وَلَيْسَ
فِيهِ أَمْرُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِذلِكَ)}.
مسألة: هل الدخول في الإسلام من موجبات الغسل؟ أو ليس من موجبات الغسل؟
والعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال مشهورة:
قال مالك وأحمد: الدخول في الإسلام مِن موجبات الغسل، فمَن أسلم وجب عليه أن يغتسل،
وكان مِن ضمن ما استدلُّوا به هذا الخبر.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ الدخول في الإسلام ليس من موجبات الغسل.
والقول الثالث: إن كان عند الكافر –حال كفره- سبب يقتضي الغسل مِن الجماع أو
الاحتلام أو نحو ذلك ولم يغتسل، فإذا أسلم وَجَبَ عليه أن يغتسل، وإلا لم يجب عليه.
وقالوا عن حديث الباب إنَّه خبر آحاد، فيما تعمُّ به البلوى، فلا يُقبل تبليغ واحد،
مع أنَّ الحاجة له عامَّة.
وقيل: إذا صحَّ الخبرُ وجب العمل به، ولو كان فيما تعمُّ به البلوى؛ لأنَّ بقيَّة
الرواة قد يكتفون بنقل الواحد، فقد يكون سمع ذلك عشرة أو عشرون، ثم يرون أحدهم قد
نقل الخبر، ومِن ثَمَّ يكتفون بنقله.
والحديث الذي أورده المؤلف هو مِن رواية "عبد الله بن عمر العمري"، وله أخٌ اسمه
"عبيد الله".
"عبد الله" ضعيف من قِبَل حفظه، و "عبيد الله" ثِقة، ومن رواة الصحيحين، ولذلك
الرِّواية الأولى عند أحمد من رواية "عبد الله"، والرواية الثَّانية من رواية عبد
الرزاق، عن "عبيد الله" و "عبد الله"، "عبيد الله" ثقة، لذلك يصحُّ هذا الخبر.
وأصلُ الخبرِ في الصَّحيح، لكن ليس فيه: «وَأَمَرَهُ أَنْ
يَغْتَسِلَ»، وإنَّما الذي فيه: "أن ثمامة اغتسل"، ولم يُذكر أَمْرُ
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك.
والأظهر: وجوب الاغتسال على من دخل في الإسلام، بهذه الأخبار، وثُمَامَةَ بنَ
أثَالٍ من رؤساء أهل اليمامة، وله قصَّة مشهورة، فإنَّه قد أخذ بعض أصحاب النَّبيِّ
صلى الله عليه وسلم فقتلهم، ثم إنَّه ذهب للعمرة ولم يكن مُسلمًا، فلقيَه بعضُ
أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذوه وأسروه، وأتوا به للنَّبيِّ صلى الله
عليه وسلم، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَا ثُمَامُ،
مَا تَظُنُّ أَنِّي فَاعِلٌ بِكَ؟»[33]، بعد أن رُبِطَ في المسجد، فقال: "إن
تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم"، أي: سبق أن قتلت بعض أصحابك. فتركه
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، كل يوم يعرض عليه مثل هذه المقالة، بعد
اليوم الثالث أطلقه وتركه قبل أن يُسلم، فلما أطلقه ورأى إحسان النَّبيِّ صلى الله
عليه وسلم، وأنَّه ليس من شأنه الانتقام، بل ليس عنده إلا حسن الخلق، وحسن
التَّعامل، دخل في دين الله فأسلم، فهذه قصَّة إسلام ثمامة.
ولما أسلم استأذن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في العمرة، فلما ذهب للعمرة تعرض
لشيء من الأذى من أهل مكة، فمنع الميرة عنهم -لأنَّ القمح كان يأتي من اليمامة
لمكة- فطلب المشركون من أهل مكَّة مِن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم عند
ثمامة من أجل أن يعيد لهم الميرة، فشفع لهم عنده فأعاد لهم ذلك، فهذه قصَّة إسلامه.
{(وَعَنْ أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ الْحسنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ،
وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسنٌ، وَرَوَى بَعضُهم عَنْ
قَتَادَة، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الحَدِيثَ
مُرْسَلًا. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه
وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا
لَفظُهُ- وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ-وَلَفظُهُ-: قَالَ صلى الله
عليه وسلم:
«يُغْتَسَلُ مِنْ أَربَعٍ»، وَقَالَ البَيْهَقِيُّ:
رُوَاةُ هَذَا الحَدِيثِ كلُّهم ثِقَات، وَتَرَكَهُ مُسلِمٌ فَلَم يُخَرِّجْهُ،
وَلَا أرَاهُ تَركهُ إِلَّا لِطَعْنِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ فِيهِ، وَقَالَ الإِمَامُ
أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ مُصعبِ بنِ شَيْبَةَ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ)}.
هذه الأحاديث في مسألة غسل يوم الجمعة، هل هو واجب أو ليس بواجب؟
ذهب بعضُ أهل العلم إلى وجوبِ غسل الجمعة، واستدلَّوا عليه بحديث أبي سعيد وهو
متفقٌ عليه، «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ
مُحْتَلِمٍ» المحتلم: هو الذي بلغ. وظاهر قوله:
«غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» يدل على أنَّه يتعلق باليوم، فلو اغتسل في ليلة
الجمعة لم يُجزئ.
قوله: «وَاجِبٌ» أصحاب هذا القول يقولون: إنَّ كلمة
"واجب" في الاصطلاح المتأخر تَعني أنَّ مَن تركه يأثم. ولكن الجمهور على عدم وجوب
غسل الجمعة، واستدلوا على ذلك بما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنَّ
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أَثنى على من توضأ يوم الجمعة، واستدلوا عليه أيضًا
بحديث سمرة «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا
وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ» وإن كان هذا الخبر لأهل
العلم فيه كلام، فمنهم من قال: إنَّه مرسل، حيث إنَّ الحسن يرويه مرة مرفوعًا بدون
ذكر سمرة، وفي سماع الحسن من سمرة كلام لأهل العلم، ومما استدلوا به بعض الأخبار
الواردة في هذا.
وعلى كلٍّ فالجمهور -كما تقدم- يرون أنَّ غسل يوم الجمعة من المستحبَّات.
هناك قول ثالث يقول: إن أهل الشُّغل والعمل الذين يحتاجون إلى الاغتسال يجب عليهم
غسل يوم الجمعة، فقد ورد في الحديث الصَّحيح أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما
رأى بعض من يسكن حول المدينة قد أتى يوم الجمعة وعليهم روائح، أمرهم أن
يغتسلوا[34]، قالوا: فمَن كان مثل هؤلاء فهو الذي يلزمه الاغتسال.
وقد روى المؤلف هنا مِن حديث (عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ)
هذا فعل، والفعل لا يدلُّ على الوجوب وإنِّما يدلُّ على المشروعيَّة.
كان يغتسل (مِنَ الْجَنَابَة) وقد تقدم معنا أنَّ هذا
الغسل من الواجبات.
قوله: (وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ) هذا قد ورد فيه الخلاف
الذي ذكرتُ.
قوله: (وَمِنَ الْحِجَامَةِ) يقول الجمهور من أهل
العلم: إنَّ الحجامة ليست من موجبات الاغتسال وإنَّما هي من مستحباته.
وأما تغسيل الميت فقد تقدَّم معنا البحث فيه، وبعض العلماء قال: إنَّه من نواقض
الوضوء، قد ورد عن بعض الصَّحابة والتَّابعين أنَّه موجب للاغتسال.
فهذا خلاصة ما في هذا الباب -باب الغسل- من موجبات الغسل، قد تقدم معنا أن من
موجبات الغسل:
- إنزال المني دفقا بلذة.
- ومن موجباته تغييب الحشفة في الفرج الآدمي.
- ومن موجباته الدخول في دين الإسلام.
- ومن موجباته الاحتلام وهو داخل في المني.
- ومن موجباته أيضًا الحيض والنفاس، لقوله
-تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ [البقرة: 222] يعني اغتسلن
﴿فَأْتُوهُنَّ﴾ [البقرة: 222] الآية.
{(بَابُ أَحْكَامِ الحَدَثِ الأَكْبَرِ
عَنِ عبدِ اللهِ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ رضي الله عنه: أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الخَلَاءِ فَيُقْرِئُنا
القُرْآنَ، وَيَأْكُلُ مَعَنا اللَّحْمَ، وَلم يَكُنْ يَحْجُبُهُ -أَوْ قَالَ:
يَحْجُزُهُ- عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو
دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ، وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ
–وَلَفظُهُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنا الْقُرْآنَ [عَلَى
كُلِّ حَالٍ] مَالم يَكُنْ جُنُبًا، وَقَالَ: «حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّان، وَالحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ-،
وَذكرَ الـخَطَّابِيُّ أَنَّ أَحْمدَ كَانَ يُوهِنُ حَدِيثَ عَليٍّ هَذَا،
ويُضَعِّفُ أَمْرَ عبدِ اللهِ بنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ شُعْبَةُ بنُ الْحَجَّاج: مَا
أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَحْسَنَ مِنْهُ.
وَعَنِ ابْنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: «لَا تَقْرَأُ الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا
مِنَ الْقُرْآنِ»
رَوَاهُ ابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ
حَدِيثِ إِسْمَاعِيل بنِ عَيَّاش"، وَقدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ منْ غَيرِ
طَرِيقهِ، وَضَعَّفَهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيرُهمَا، وَصَوَّبَ
أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ عُمرَ قَوْلَه)}.
قول المؤلف (أَحْكَامِ الحَدَثِ الأَكْبَرِ) الحدث:
تقدَّم معنا أنَّه وصفٌ حُكمي.
وقوله (الأَكْبَرِ) يعني الذي يوجب الغسل.
قوله (أَحْكَامِ الحَدَثِ الأَكْبَرِ) أي: الآثار
الشَّرعيَّة المترتِّبة على كونِ الإنسان محدثًا حدثًا أكبرًا، ماذا يترتب عليه؟
وما الذي يجب عليه؟
من المعلوم أنَّ مِن آثاره:
- المنع من الصَّلاة.
- والمنع من اللبث في المسجد، وقد قال الله
-جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلاة وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُو﴾
[النساء: 43].
- ومن أحكام الحدث الأكبر أيضًا: أنَّ
المُحدِث حدثًا أكبرًا لا يجوز له أن يطوف بالبيت، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه
وسلم للحائض: «افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ
أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[35].
- ويبقى عندنا مسألة قراءة القرآن، هل المحدث
حدثًا أكبرًا يقرأ القرآن؟ وهل ممنوع من مَس المصحف؟ يعني هل يقرأه على صدره أو لا؟
الجمهور من الأئمة الأربعة يقولون: المحدث حدثًا أكبر لا يقرأ القرآن حتى ولو كان
حفظًا مِن صدره، واستدلوا عليه بحديث علي –هذا- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
«كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الخَلَاءِ فَيُقْرِئُنا القُرْآنَ»
هذا محدث حدث أصغر ومع ذلك قرأ القرآن «وَيَأْكُلُ مَعَنا
اللَّحْمَ» يعني وهو محدث حدثًا أصغر «وَلم يَكُنْ
يَحْجُبُهُ -أَوْ يَحْجُزُهُ- عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ»
وفي هذا دليل على أن الجنب لا يقرأ القرآن، وقد ورد في مسند أبي يعلى، أنَّ
النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ شيئًا من القرآن، وقال: «
هكَذَا لِمَنْ لَيْسَ بِجُنُبٍ، فأمَّا الْجُنُبُ فَلَا، ولَا آيَةً »[36].
فدلت هذه الأحاديث على أنَّ الجنب يُمنع من قراءة القرآن، وذهب الظاهرية وطائفة إلى
أن الجُنب لا يُمنع، واستدلوا على ذلك بأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى
هرقل بالكتاب، وكتب فيه: ﴿يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن
دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 64]
والأول قالوا: لم يكتبها على أنَّها آية، وإنَّما كتبها على أنَّها إقامة حجة
عليهم، ولذا كان رأي الجمهور في هذا أرجح.
ويبقى عندنا مسألة المرأة الحائض، فقد قال الإمام مالك: إنَّ المرأة الحائض تقرأ،
وخصوصًا إذا خشيت نسيانه؛ لأنَّ المرأة الحائض لا تستطيع رفع حيضتها، بخلاف الجنب
يستطيع رفع الجنابة بالاغتسال، وخصوصًا أنه قال: قد تنسى المرأة القرآن، والجمهور
استدلوا بما ورد في السنن أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«لَا تَقْرَأْ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ»[37]،
وهذا قد وقع فيه الاختلاف؛ لأنَّه من رواية إسماعيل بن عياش، إسماعيل بن عياش إذا
روى عن أهل بلده من الشام، قُبلت روايته، وإذا روى عن غيرهم، لم تقبل روايته، وكذلك
قُدح فيه بأن بعض الرواة وَقَفَه على ابن عمر، أي: من كلام ابن عمر، ولا يمتنع أن
يكون الصحابي مرة يروي الحكم عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لكونه سمعه منه، ومرة
يتكلم به بدون أن يسنده للنبي صلى الله عليه وسلم على جهة الفتوى والتعليم.
وكان من أدلة الجمهور -أيضًا- ما ورد في الحديث: عن عائشة -رضي الله عنها:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي
وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ»[38]، قالوا: هذا يدل على أنَّ
مِن المستقر عندهم، أنَّ حال الحيض يخالف حال قراءة القرآن.
وهذه منشأ الخلاف في هذه المسألة، والأولى أن تقتصر المرأة الحائض على سماع القرآن،
واليوم من فضل الله -عز وجل- بهذه الإذاعات والتسجيلات، تتمكن من سماعه مما يثبِّت
حفظها.
{(وَعَنْ أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا أَتَى أَحَدُكُمْ
أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعاوِدَ، فَلْيَتَوَضَّأ بَيْنَهُمَا وُضُوءً»
رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَدْ أُعِلَّ، وَزَادَ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ:
«فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ»، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "قَدْ رُوِيَ
فِيهِ حَدِيثٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ"، وَأَرَادَ حَدِيثَ
أَبي سَعيدٍ هَذَا، وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ ابْنِ عمرَ
فِي ذَلِكَ)}.
هذه المسألة في من جامع، هل يجوز له أن يجامع مرة أخرى؟
الظاهر أنَّه يجوز له أن يجامع، حتى ولو لم يغتسل بعد، ولكن يُستحب له أن يتوضأ
بينهما، وذلك ليكون أنشط له، وهناك عدد من الأفعال التي قد يقع فيها الاختلاف، هل
يجوز للجنب أن يفعلها أو لا يجوز.
إذن هذه المسألة في هذا الحديث، في مسألة معاودة الجماع مرة أخرى، وهذا لأنه قد
أجنب، والصواب أنه يجوز له ذلك، إلا أنَّه يُستحب له أن يتوضأ بينهما، فإنه أنشط
للعود.
وفي هذا دلالة على جواز تناول المغذيات التي تقوي الإنسان في هذا الباب؛ لأنه جعل
أو رغَّب في الوضوء لكونه أنشط للعود.
أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم الهداة المهتدين،
كما أسأله -جل وعلا- أن يصلح أحوال الأُمَّة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، هذا
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------
[28] عن أبي ذر الغفاري وضعفه النووي في المجموع.
[29] البخاري كتاب الوضوء
[30] رواه البخاري (291) ومسلم
(525) .عن أبي هريرة، وقوله: ث"ُمَّ جَهَدَهَا" كناية عن إدخال الذكر في
الفرج. قاله الحافظ في "الفتح"
[31] صحيح مسلم
[32] رواه مسلم (349) .
[33] صحيح مسلم 3413
[34] البخاري (902) عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج
النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم قالت: كان الناس يَنتابُون يومَ الجمعة من مَنازِلهم
والعَوالِي، فيأتون في الغبار يُصِيبهم الغبار والعَرَق فيخرج منهم العرق، فأتى
رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي صلَّى الله
عليْه وسلَّم: "لو أنَّكم تطهَّرتم ليومكم هذا"
[35] البخاري
[36] مسند أبي يعلى
[37] الحديث عن عبدالله بن عمر وضعفه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري
[38] البخاري: 293