الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءٍ والمرسلين،
أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم إخواني الأعزَّاء في لقاءنا الذي نتدارس فيه كتاب "المحرر" للحافظ ابن
عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى- وهذا هو اللِّقاء الحادي والعشرون.
كنَّا قد ابتدأنا بباب سجودِ السَّهوِ، وتدارسنا سويًّا حديثَ أبي هريرة رضي الله
عنه.
ونبتدئُ اليومَ في الحديث الثَّاني في هذا الباب، وهو حديث عمران بن حصين رضي الله
عنه.
فلعلنا نستمع لقراءة هذا الحديث.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا
محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وسلِّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ
حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ
فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ: الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُوْلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى
إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «أَصَدَقَ هَذَا؟» قَالُوا:
نَعَم، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّم، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّم.
رَوَاهُ مُسلم)}.
ذكرَ المؤلِّف هاهنا حديثَ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ (أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ) صلاة العصر من أربعِ
ركعاتٍ (فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ) أي: أنَّه
بعد الثَّالثة جلس للتَّشهُّد، ثمَّ سلَّمَ (ثُمَّ دَخَلَ
مَنْزِلَهُ) أي: بعدَ أن سلَّم من الثَّلاث (فَقَامَ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُوْلٌ).
حديثُ أبي هريرة السَّابق أنَّه سلَّم من ركعتين، وكانت إحدى صلاتي العشيِّ،
والرَّاجح أنَّها صلاة الظُّهر، وقد وقع اختلاف بين علماء الحديث وشُرَّاحه في هذين
الحديثين، هل يتكلَّمان عن واقعة واحدة، أم هما واقعتان؟ وعلى كلٍّ فلا يختلف الحكم
في كل منهما.
وقوله هنا: (وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُوْلٌ) فيه جواز
ذكر الإنسان بالصِّفةِ البدنيَّةِ التي يتميَّز بها عن غيره، ولو كانت صفةً غيرَ
معهودةٍ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَكَرَ لَهُ
صَنِيعَهُ) أي: أنَّه بقي عليه ركعة من صلاة العصر، فخرج صلى الله عليه وسلم
غضبانًا، أي: متأثرًا.
(يَجُرُّ رِدَاءَهُ) أي أنَّ طرف الرِّداء يتساقط على
الأرض، أو أنَّ المراد به أنَّه يُمسك رداءه بيده؛ لأنَّه من عجلته لم ينتظر أن
يربط الرِّداء.
هناك مَن قال: (يَجُرُّ رِدَاءَهُ) يراد به أنَّه
يمسكه بيده؛ لأنَّه من عجلته لم ينتظر أن يربط الرداء، والمعروف أنَّ المراد
بالرِّداء ما كان على أعلى البدن، وحينئذٍ كأنَّ هذه اللفظة تُشير إلى سرعته
وعجلته، قال: (حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ) أي:
وصَلَ إلى المصلِّين، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَصَدَقَ
هَذَا؟»
فيه أنَّه لا يُكتفَى بخبرِ الواحدِ فيما يتعلَّق بالتَّنبيهِ في أمرِ الصَّلاةِ
إلَّا أن يَتأكَّد خبره بخبرِ غيره، قيل: لأنَّه لا يُعرف صِدقه وضَبطه، وقيل:
لأنَّه يُخالف ما لديه وما وقع في نفسه، فطلب شاهدًا آخرًا.
(قَالُوا: نَعَم) أي: صَدَقَ، وفيه أنَّ تَكلُّم
الإنسانِ لمصلحة الصَّلاةِ إذا ظنَّ أنَّها قد كمُلَت وهي لم تَكمُل؛ لا يُؤثِّر
على صحَّةِ الصَّلاةِ.
قال: (فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّم، ثُمَّ سَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّم)
فيه دلالة على أنَّه إذا وقع أكثر من سهوٍ، فإنَّه يُكتفى بسجدتين فقط، ولا يسجد
لكلِّ سهوٍ، فإنَّه زاد تشهدًا، وزاد سلامًا، وتحرَّك في أثناء صلاته.
وفيه دلالة على أنَّ مَن سلَّم أثناء الصَّلاة، فإنَّه يسجدُ للسَّهو بعد السَّلام،
وهذا هو مذهب أحمد وجماعة، وقال مالك: إنَّ كلَّ زيادةٍ يُشرَع لها السُّجود بعدَ
السَّلام، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستدلالَ بهذا الحديثِ إنَّما هو استدلالٌ بفعلٍ
نبويٍّ، والفعلُ النَّبويُّ يُحمل على أقلِّ أحوالِه، وبالتَّالي لا يُحمل على كلِّ
زيادةٍ وإنَّما يُحمَل على الزِّيادةِ المخصوصةِ وهي وقوعِ السَّهوِ أثناء
الصَّلاةِ.
{(وَعَنْ أَشْعَثَ بنِ عبدِ الـمَلِك، عَنِ ابْنِ سِيرِين،
عَنْ خَالِد الْحذَّاء، عَنْ أَبي قِلَابَة، عَنْ أَبي الـمُهَلَّبِ، عَنْ عِمرَانَ
بنِ حُصَيْن رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهِم
فَسَهَا، فَسَجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ –وَحسَّنه، وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرطِهِمَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "تَفَرَّدَ بِهَذَا الحَدِيثِ أَشْعَثُ الحُمْرَاني"،
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَخَطَّأَهُ)}.
هذا الحديث فيه مخالفةٌ لبقيَّة الرُّواةِ الذين رَووا اللَّفظَ السَّابق؛ لأنَّ
اللَّفظَ السَّابق لم يُذكر فيه التَّشهُّد، وهذا ذُكِر فيه التَّشهُّد بعد
السَّلام، فكأنَّه هنا تشهَّد مرَّتين، مرةً قبلَ السَّلامِ الأوَّلِ ومرةً بعدَ
السَّلامِ الأوَّلِ وقبلَ السَّلامِ الثَّاني، ولذلك قيلَ: إنَّ هذه الرِّواية
مخالِفة لرواية بقيَّة الرُّواة.
وقد اختلف أهلُ العلم فيما إذا كان السُّجود للسَّهو بعدَ السَّلام، هل يجلسُ معه
للتَّشهُّد وهل يتشهد؟ فقال أحمد: يُشرع له أن يتشهَّد، وقال الجمهور: لا يُشرع له
التَّشهَّد، واستدل أحمد بحديثِ الباب، وحديثُ الباب -كما تقدَّم- فيه مخالفة من
أشعث بن عبد الملك، وحاله لا تحتمل أن يخالف مَن هو أوثق منه.
وقوله: (صَلَّى بهِم فَسَهَا، فَسَجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ
تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ) فظاهره أنَّه يتشهَّد مرةً أخرى، وهذا -كما
تقدَّم- يخالف رواية أكثر الرُّواة، ومِن ثمَّ فالصَّواب أنَّه لا يتشهَّد بعد
سجدتي السَّهو، وإنَّما يُسلِّم بعدها مباشرة.
(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا شَكَّ أَحَدُكُم فِي
صَلَاتِه فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطَّرَحِ
الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ
أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ
كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ»
رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا حديثٌ فيه مسائلَ الشَّكِّ؛ لأنَّ أسبابَ سجودِ السَّهو ثلاثة، وهي:
"الزِّيادةُ - النَّقصُ – الشَّكُّ".
وهذا الحديث يتحدَّث عن الشَّكِّ، والشَّكُّ على نوعين:
الأوَّل: الشَّكُّ الذي تتساوى فيه الأطراف والاحتمالات، حينئذٍ يَبني على الأقل،
لتساوي الاحتمالات عنده.
الثَّاني: أن يَتَرَجَّح أحد الاحتمالين، فإذا ترجح أحد الاحتمالين فللعلماء فيه
ثلاثة أقوال:
القولُ الأوَّل: يُعمل بالرَّاجح مِن هذه الاحتمالات، وهو مذهب الإمام مالك،
ولعلَّه أرجح الأقوال لحديث ابن مسعود الذي سيأتي معنا.
القولُ الثَّاني: يُعمل باليقين الذي هو الأقل لظاهر حديث الباب، فإنَّهم قالوا:
إذا ترجح عند أحدٍ الاحتمالين، فإنَّه يدخل في الشَّكِّ وبالتَّالي يعمل باليقين
الذي هو الأقل.
القولُ الثَّالث: الإمامُ يَعمل بغالب ظنِّه، وأمَّا المنفرد فإنَّه يعمل باليقين،
وهذا هو مذهب الإمام أحمد، ولعلَّ مذهب الإمام مالك في هذا أرجح لظاهر حديث ابن
مسعود، وحديث الباب هذا في الشَّكِّ، والشَّكُّ في اللُّغة هو ما إذا تساوت
الاحتمالات عند صاحبه، ولذا قال: «فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى
ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعً».
وقوله: «إِذا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلَاتِه فَلَمْ يَدْرِ
كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ» يعني الرَّكعة
الرَّابعة هذه مشكوك فيها
(وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ) وهو الأقل،
فيعتبر نفسه أنه لم يصلِّ إلا ثلاثَ ركعاتٍ (ثُمَّ يَسْجُدُ
سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ) وهذا فيه أنَّ مَن شكَّ فيعمل باليقين
الذي هو الأقل، فإنَّه يُشرع أن يكون سجوده للسَّهوِ قبل السَّلام.
(فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ)
لأنَّها صلاة شفعٍ. أي: رباعيَّة.
(وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ) يعني إن
كان سبق أن أتمَّ الأربع، فكانت الرَّكعة الجديدة هي خامسة، كانت سجدة السَّهو
«تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».
ومثلُ هذا فيما يتعلَّق بالشَّكِّ في تركِ ركنٍ من أركان الصَّلاة، فما دام قد شكَّ
أثناء الصَّلاة هل سجد أم لم يسجد، فحينئذٍ نقول: إذا تساوت الاحتمالات عمل باليقين
وهو أنَّه لم يفعل ذلك الفِعل، فكأنَّه لم يسجد.
إذا شَكَّ هل جلس أو لا؟
حينئذٍ مَا دَام في الصَّلاة فإنَّه يَعمل باليقين، وأمَّا إذا فَرغ مِن الصَّلاة
وانتهى منها، وكان غالب ظنِّه تمامُ الصَّلاة في أثنائها ثم بعد السَّلام منها طرأ
عليه الشَّكُّ، فحينئذٍ لا يلتفتُ إلى هذا الشَّكِّ الطَّارئ ويعتبره مِن أنواع
الوساوس.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى سَجْدَتَي السَّهْوِ
«المُرْغِمَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَة وَابْنُ
حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ-، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ)}.
على العموم هذا فيه إثبات لمشروعيَّة سجود السَّهو وأنَّه سجدتان، وأنَّه يقع
تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، وقد أشار المؤلِّف إلى وجود الضَّعف في إسنادِه.
{(وَعَنْ إِبْرَاهِيم، عَنْ عَلْقَمَة، عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ
رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم -قَالَ إِبْرَاهِيمُ:
زَادَ أَو نَقَصَ- فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدَثَ فِي
الصَّلَاة شَيْءٌ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاك»؟ قَالُوا:
صلَّيتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ واسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ،
فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجْهِهِ
فَقَالَ: «إِنَّه لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ
لأَنْبَأْتُكُم بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَونَ،
فَإِذا نَسِيْتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلَاتِهِ
فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَلْيُتِمَّ
عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»، وَفِي لفظٍ
لمسْلمٍ: «فَإِذا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ
سَجْدَتَيْنِ» وَله عَنْ عبدِ اللهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالكَلَامِ)}.
إبراهيم هو النَّخعي، إمامٌ من علماء الفقه، وعَلقمة هكذا إمامٌ وهو مِن أخصِّ
تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (صَلَّى
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم -قَالَ إِبْرَاهِيمُ: زَادَ أَو نَقَصَ)
أي: أنَّه تردَّد فيما هو السَّهو الذي وُجِدَ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(فَلَمَّا سَلَّمَ) أي: فرغ من الصَّلاة حسبَ ظنِّه
(قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاة شَيْءٌ؟) يعني أنَّ
صلاتَك قد خالفت طريقتك في الصَّلاة في بقيَّة أيامك،
(قَالَ:
«وَمَا ذَاك»؟ قَالُوا: صلَّيتَ كَذَا وَكَذَ)
كأنَّه نقصَ في عدد الرَّكعات أو زاد (قَالَ: فَثَنَى
رِجْلَيْهِ واسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ)
ظاهرُ هذا أنَّه زادَ.
وقد وَرَدَ أنَّه صلى خامسةً، وأخذ مالك من هذا الحديث: أنَّ مَن زاد في الصَّلاة
شُرع أن يكون سجوده للسَّهو بعد السَّلام؛ لأنَّه زادَ ركعةً فسجدَ للسَّهو بعدَ
السَّلام.
قال الإمام أحمد والجمهور: إنَّه لا يُشرع لمن زاد ركعةً أن يكون سجوده بعد
السَّلام، بل المشروع أن يكون قبل السَّلام، وذلك للأحاديث الواردة في هذا، ومنها
حديث أبي سعيد المتقدِّم، حيث جعل السُّجود قبل السَّلام، قالوا: وهذا الحديث الذي
فيه أن سجود السَّهو بعد السَّلام إنِّما هو فعل نبويٌّ كريم، ويحتمل أنَّ السَّبب
في ذلك أنَّه لم يعرف بوجودِ الزِّيادة إلا بعدَ أن سلَّم، فكيف يسجد للسَّهوِ قبلَ
السَّلام وهو لم يعلم بعدُ بوجود الزيادة؟ ومِن ثَمَّ يقال هذا الحديث فيمن نسي
سجود السَّهو قبل السَّلام، فإنَّه يُشرع له أن يسجده بعد السَّلام.
قال: (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيْنا بِوَجْهِهِ)
فيه مشروعيَّة إقبال الإمام على المأمومين بعد الفراغ من الصَّلاة
(فَقَالَ:
«إِنَّه لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ»)
يعني لو حدث تشريعٌ جديدٌ يخالف ما اعتدتم عليه
«لأَنْبَأْتُكُم بِهِ» أي: أخبرتكم به «وَلَكِنْ
إِنَّمَا أَنا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَونَ» وفيه جواز النِّسيان على
الأنبياء -عليهم السَّلام- وفيه أن نسيانه لحكمةٍ، وهي أنَّه يُقتدى به فيما
يتعلَّق بأحكامِ النِّسيان، وتُعرف هذه الأحكام.
قال: «فَإِذا نَسِيْتُ فَذَكِّرُونِي» فيه مشروعيَّة
تنبيه الإمام على ما يقع في صلاتِه من الخطأ، ومن ذلك ما لو زاد ركعةً في
الصَّلاةِ.
قال: «وَإِذا شَكَّ أَحَدُكُم فِي صَلَاتِهِ» كما
تقدَّم أنَّ الشَّكَّ هو: التَّردُّد بين أمرين، وقوله: «فِي
صَلَاتِهِ» يعني: تردَّد هل هي ثلاث ركعات أو أربع.
قوله: «فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ» أي: ليجتهد وليعمل
بغالب ظنِّه.
«فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ» شكَّ ثلاثًا أو أربعًا، شكَّ
اثنتين أو ثلاثًا، وغالب ظنِّه أنَّها ثلاثٌ؛ جعلها ثلاثًا وبقي عليه ركعة.
قال: «فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»
في هذا دلالة على أنَّ مَن عمِلَ بغالبِ ظنِّه، فإنَّه يَسجد للسَّهو بعد السَّلام،
وحينئذٍ مَن كان عندَه شكٌّ فماذا يعمل؟
تقدَّم معنا أنَّ العلماء لهم ثلاثة أقوال:
المالكيَّة قالوا: يتحرَّى الصَّواب مُطلقًا، يعمل بغالب ظنِّه مُطلقًا لهذا
الحديث.
والحنابلة قالوا: الإمامُ يعمل بغالب ظنِّه، والمنفردُ يعمل باليقين.
هنا قول ثالث يقول: نرجح أحاديثَ العمل باليقين مُطلقًا للإمام والمأموم والمنفرد،
ولكن حديث ابن مسعود حديث ثابت وصحيح، لكن لمَّا قال:
«فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ»
دلَّ هذا على أنَّ هذا الحديث فيما إذا كان عند المصلِّي غالبُ ظنٍّ، وحديث أبي
سعيد إذا لم يكن عنده غالبُ ظنٍّ، فهذا يُرجِّح مذهب الإمام مالك في هذا.
وأمَّا مَن قال بالتَّرجيح ورجَّح حديثَ أبي سعيد مُطلقًا، فهذا خلاف المقتضى
الأصولي؛ لأنَّ القاعدة تقول: إنَّه لا يُصار إلى التَّرجيح إلا عند العجزِ عن
الجمع بين الأدلَّة التي يُظنُّ فيها التَّعارض، والجمع ممكنٌ هنا، وبذلك نكون قد
أعملنا الدَّليلين معًا.
قوله: «فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ» أي: فليُكمل على غالب
ظنِّه «ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» فيه مشروعيَّة
سجدتي السَّهو وأنَّ الزِّيادة يُشرَع لها سجود السَّهو، وأنَّ عمل الإنسان بناءً
على غالب ظنِّه يُشرع له سجود السَّهو، لقوله:
«ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»
قال وَفِي لفظٍ للْبُخَارِيِّ:
«فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ» أي: ليبني باقي الصلاة على غالب ظنه
«ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» وفي هذا دلالة على أنَّ
مَن عمل بغالب ظنِّه فإنَّه يسجد للسَّهو بعد السَّلام.
قال الإمام مالك: إنَّه إنَّما فعلَ ذلك لكونِه زادَ في الصَّلاة. وهذا فيه نظر،
فإنَّ هذه زيادةٌ خاصَّة، والقاعدةُ: إنَّ الفعلَ يُحمل على أقلِّ أحوالِه.
(وَفِي لفظٍ لمسْلمٍ: قال صلى الله عليه وسلم:
«فَإِذا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»)
فيه أن مِن أنواع السَّهو الذي تُشرع له سجدتا السَّهو: الزِّيادةُ والنُّقصانُ
والشَّكُّ -كما في أوَّلِ الخبر- وفيه أنَّ السَّهو يُشرع له سجدتان.
قال: (وَله) يعني: لمسلم
(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ بَعْدَ
السَّلَامِ وَالكَلَامِ) وذلك في حالٍ مخصوصةٍ، ومِن هنا نعرف أنَّ الأصلَ
في السُّجودِ أن يكون قبل السَّلام، ويُستثنى مِن ذلك ثلاثةُ أحوالٍ:
الحال الأوَّل: إذا سلَّم أثناءِ صلاتِه.
والحال الثَّاني: إذا شكَّ في الصَّلاة وكانَ عنده غالبُ ظنٍّ فعملَ بغالبِ ظنِّه.
والحال الثَّالثة: إذا نسي سجودَ السَّهو قبل السَّلام؛ شُرع له أن يسجد بعد
السَّلام.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيهِ جُلُوسٌ،
فَلَمَّا أَتمَّ صَلَاتَهُ، سجدَ سَجْدَتَيْنِ -يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ
وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا
نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال: (قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ) المراد بذلك:
القيام مِن الرَّكعة الثَّانية إلى الرَّكعة الثَّالثة
(قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيهِ جُلُوسٌ) الذي هو التَّشهد الأوَّل
(فَلَمَّا أَتمَّ صَلَاتَهُ، سجدَ سَجْدَتَيْنِ) معناه: أنَّ مَن نَسيَ
التَّشهد الأوَّل فإنَّه لا يَرجع إليه ولا يَعود له.
قال الجمهور: هذا دليلٌ على أنَّ التَّشهد الأوَّل سُنَّة مُستحبَّة وليس من
الواجبات، بدلالة أنَّه لم يَعد مِن أجل فِعله.
وقال الإمام أحمد: إنَّه دليل على أنَّه من الواجبات وليس من الأركان والفروض.
فالأركان والفروض لا تصحُّ الصَّلاة إلا بها، إلا للعاجز، وأمَّا الواجبات فإنَّ
مَن تركها نسيانًا شُرع له أن يَسجد للسَّهو، وقول أحمد أرجح؛ لأنَّ سجود السَّهو
لا يكون إلا للواجب، وأمَّا السُّنن فإنَّ مَن تركها لا يُشرع له أن يَسجد سجود
السَّهو.
وقوله: (فَلَمَّا أَتمَّ صَلَاتَهُ) أي: أكمل
الرَّكعة الرَّابعة
قوله: (سجدَ سَجْدَتَيْنِ -يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ
وَهُوَ جَالِسٌ) فيه مشروعيَّة التَّكبير لسجود السَّهو، وظاهره أنَّه قبل
السُّجود وبعده.
وفيه دلالة على أنَّه عند سجود السَّهو لا يَرفع يَديه حَذو منكبيه، إذ لو فُعِلَ
لنُقِلَ.
وفيه أنَّ سجودَ السَّهوِ يُفعل والإنسان جالس، بخلافِ سجود التِّلاوة فيُستحب فيه
أن يسجد مِن قيام.
وقوله: (قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ)،
(سجدَ سَجْدَتَيْنِ -يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ
يُسَلِّمَ) فيه أنَّ مَن ترك التَّشهد الأوَّل فإنَّه يُشرع أن يكون سجودُه
للسَّهو قبل السَّلام، كما هو ظاهر حديث الباب.
(وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ) فيه أنَّ المأمومين مطالبون
بمتابعة الإمام في سجود السَّهو، وليس على المأموم سجود سهوٍ وحدَه.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيْلَ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟
فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا.
فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَلم يقُل مُسلمٌ:
بَعْدَ مَا سَلَّمَ)}.
في هذا الحديث قال: (صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسً) فهنا
زيادةٌ في الصَّلاة (فَقِيْلَ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟
فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسً)
فيه تنبيهُ الإمام لِما يقع مِن خطأ في الصَّلاة، وفيه أدبُ الصَّحابة -رضوان الله
عليهم- مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال: (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ) أخذَ
من هذا المالكيَّة أنَّ كلَّ زيادةٍ في الصَّلاة يُشرع أن يكون سجود السَّهو فيها
بعد السَّلام، ولكنَّ الحديثَ ليس فيه أنَّه تعمَّد ذلك، ولم يعلم بوجود الزِّيادةِ
إلا بعدَ السَّلامِ، وبالتَّالي يُمكن أن يُستدلَّ به على أنَّ مَن نسي سجودَ
السَّهو قبل السَّلام؛ شُرع له أن يَسجدَ بعدَ السَّلامِ، وليس معناهُ أنَّ كلَّ
زيادةٍ يُشرع أن يكون سجود السَّهو لها بعد السَّلام.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ،
فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي "صَحِيحه"منْ رِوَايَة مُصْعَبِ بنِ
شَيْبَةَ -وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ وَقَدْ رَوَى لَهُ مُسلمٌ. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادُ هَذَا الحَدِيثِ لَا بَأْسَ بِهِ)}.
هذا اللَّفظ من الحديث ظاهره أنَّ سجودَ السَّهوِ في مسائل الشَّكِّ كلِّها يكون
بعد السَّلام، وتقدَّم أنَّ أهل العلم لهم ثلاثة أقوالٍ في ذلك:
مالك قال: بظاهر هذا الخبر؛ لأنَّه زَادَ في صلاته، فشُرع أن يكون سُجوده للسَّهو
بعد السَّلام.
وأحمد فرَّق بين الإمام والمنفرد، فقال بالخبرِ في الإمامِ دون المنفرد.
وآخرون قالوا: إنَّه يقتصر على جعلِ سجودِ السَّهوِ بعدَ السَّلامِ في المواطنِ
الواردة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وما عداها يبقى على الأصلِ من كونِ سجودِ
السَّهوِ قبل السَّلام.
{(بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ
القُنُوتِ» رَوَاهُ مُسلمٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وأَبي دَاوُد، مِنْ
رِوَايَةِ عبدِ اللهِ بنِ حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ:
«طُولُ القِيامِ»)}.
صلاةُ التَّطوع المراد بها: الصَّلاة المُستحبَّة التي يُتقرَّب بها لله -عز وجل-
مع أنَّها ليست من الواجبات، وصلاة التَّطوع لها تقسيماتٌ متعددةٌ:
- فهناك سننٌ رواتب وهناك نفلٌ مطلق، والسُّنن
الرَّواتب يُشرع قضاؤها إذا فات وقتها.
- وهناك تطوُّعاتٌ مقدَّرة في الوقت: مثل:
صلاة اللَّيل مقدَّرٌ وقتها.
- وهناك تطوُّعاتٌ غيرُ مقدَّرٍ لوقتها.
- وهناك نفل مُطلق ليس مُرتبط بسبب.
- وهناك نفلٌ له أسباب، مثل: تحيَّةِ المسجد
وسنَّةِ الطَّهارةِ، ونحوِ ذلك.
وهكذا هناك من التَّطوعاتِ ما يكون مُقيَّدًا بوقتٍ مثل: صلاة الضُّحى، وصلاة
الليل. وهناك ما لا يتقيَّد بوقتٍ.
فهذه تقسيمات لصلاة التَّطوع، ولا شكَّ أنَّ الفرائض يُتطوَّع بها لله -عز وجل-
ولكن صلاة النَّافلة أظهر في معنى التَّطوع؛ لأنَّ فيها زيادة طاعة.
وقد اختلف العلماء في أيِّ الأفضل: طول القراءة أو كثرة السُّجود؟
فقال طائفة: إنَّ طول القراءة أرجح وأقوى، واستدلُّوا عليه بهذا الحديث
(قد سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفضَلُ؟) أي: أكثر فضلًا
وثوابًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «طُولُ القُنُوتِ».
فظاهره أنَّه فضَّل النَّافلة بكثرةِ القيامِ، وقد ورد في لفظٍ
«طُولُ القِيامِ»
وهذا مثل قوله تعالى:﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
[البقرة: 238].
بينما رأى آخرون تفضيلَ كثرةِ السُّجود، واستدلُّوا على ذلك بالحديث جاء فيه، قال:
يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنَّة، فقال صلى الله عليه وسلم:
«فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»[113] فجعل كثرة السُّجود
مِن أَسباب مُرافقة المُصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، فهذا هو موطنُ الخلافِ
بين العلماءِ في هذه المسألة، والخلاف إنَّما هو على الفضيلة والاستحباب، وليس في
الوجوب.
{(وَعَنْ رَبِيعَةَ بنِ كَعْبِ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه،
قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ
بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: «سَلْ»،
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الـجَنَّـةِ، فَقَالَ:
«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ:
«فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)
يَبدو أنَّه كانَ صغيرَ سنٍّ، وبالتَّالي كان يَدخل في مَواطنَ لا يَدخلها غيره مِن
بيوتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه استخدام الصِّبيان فيما لا يؤثِّر عليهم
أو يضرُّ بهم.
قوله: (فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ) "الوضوء" بفتح
الواو: الماء الذي يُتوضَّأ به، وفيه خدمة الرَّجل الكبير والقيام على حوائجه.
قال: (وَحَاجَتِهِ) كأنَّه مَا يَحتاج إليه مِن أمورٍ
مُتعلِّقة بالوضوء أو بالصَّلاة، من مثل سواكه، ومن مثل الخمرة التي كان يسجد
عليها، أو عَنَزَته التي كان يركزها أمامه لتكون سترة له.
فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لربيعة: «سَلْ»
أي: ماذا تطلب مني حتى أعطيكه في مقابل ما كنت تخدمني؟
فقال ربيعة: (أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الـجَنَّـةِ)
فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَ غَيْرَ
ذَلِكَ؟» أي: هل تطلبُ شيئًا مغايرًا لهذا الأمر؟
فقال ربيعة: (هُوَ ذَاكَ) أي: يقتصر طلبي على هذا
الأمر، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»، «أَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ» أي: استَجِب لتوجيهي بأن تجعل بدنك يؤدِّي هذه الوصيَّة
وهي: كثرة السُّجود، ولا تجعل للشَّيطان سبيلًا على نفسِك عندما يثبطك عن
الطَّاعات.
وقوله: «بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» ظاهره أنَّ كثرةَ
السُّجود من أسبابِ إقدام الإنسان على الطَّاعاتِ، وبالتَّالي ترتفعُ درجته عند
الله -جلَّ وعلا.
{(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:
حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ
قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ
فِي بَيتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعدَ الْعِشَاءِ فِي بَيتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ
صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَت سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم فِيهَا. حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّهُ كَانَ إِذا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ،
وطَلَعَ الفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ
البُخَارِيِّ، وَفِي روايةٍ لمسْلمٍ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَينِ، وَفِي
رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ)}.
حديث ابن عمر هذا في السُّننِ الرَّواتب، وهي التي تكون مرتبطة بالصَّلوات الفرائض،
ومِن خاصيتها أنَّها عندما تفوتُ يُشرع قضائها، فقد قضاها النَّبيُّ صلى الله عليه
وسلم.
وحديث ابن عمر ظاهره أنَّ السُّنن الرَّواتب عشر ركعاتٍ، خمس تسليمات، قد ورد من
حديث عائشة أنَّها ثنتي عشرة ركعة، وقد ورد في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه
وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ
يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي
الْجَنَّةِ»[114] ولذلك رجَّح كثيرٌ من أهلِ العلمِ ما وردَ في حديثِ عائشة
من إثباتِ ثنتي عشرة ركعة من السُّننِ الرَّواتب.
قوله: (رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ) فيه أنَّ مِن
السُّنن الرَّواتب أداء ركعتين قبل صلاة الظُّهر، وقد ورد في حديث أمِّ سلمة وأمِّ
حبيبة وعائشة أنَّها أربع ركعات، وزيادة الثِّقة مقبولة، وبذلك نكون قد وافقنا َما
ورد في الحديث من كون صلاة السُّنن الرَّواتب ثنتي عشرة ركعة.
وقوله: (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَ) أي: هناك سنَّة
مُستحبَّة بعد صلاة الظُّهر، وعددُ ركعاتها: ركعتان.
قال: (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيتِهِ)
لم يذكر للعصر سنَّة راتبة، وقد ورد حديث «رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعً»[115] وهذا الحديث لبعضِ أهلِ
العلمِ فيه كلام من جهةِ إسناده، ولهم فيه كلامٌ من جهةِ متنِه، لكنَّه حديث حسنُ
الإسنادِ على الصحيح، وهذه الصَّلاة ليست من السُّنن الرَّواتب التي تُقضى بفواتِ
وقتها، وبالتَّالي لا إشكال فيها، وكونها لم تُذكر في أحاديث السُّننِ الرَّواتب.
قال: (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيتِهِ)
قبل المغرب هناك سنَّة مطلقة وقد يكون هناك تحيَّة مسجد، لحديث
«صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ:
لِمَنْ شَاءَ»[116]
قال: (وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيتِهِ)
فظاهره أنَّ هذه السُّنن الرَّواتب يُستحب أن تكون في البيت، قد ورد أنَّ
«أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ»[117].
قال: (وَرَكْعَتَيْنِ بعدَ الْعِشَاءِ فِي بَيتِهِ)
فيه استحبابُ ركعتي سنَّة العشاء وتكون بعد الفريضة، قال:
(وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) فيه مشروعيَّة سنَّة الفجرِ،
وأنَّها مِن السُّنن الرَّواتب.
قال ابن عمر: (وَكَانَت) تلك السَّاعة التي هي قبل
الفجر (وَكَانَت سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فِيهَ) لأنَّ الله -عز وجل- قد أمرَ بالاستئذانِ فيها، فقد
جعل له ثلاثة أوقاتٍ للاستئذان، منها قبل الفجر.
قال ابن عمر: (حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ) أي: بنتُ عمر،
أختُ عبد الله بن عمر وهي أمُّ المؤمنين وزوجةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قالت: (كَانَ إِذا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ) أي: لصلاة
الفجر (وطَلَعَ الفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) هذه
سنَّة الفجر (مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ البُخَارِيِّ،
وَفِي روايةٍ لمسْلمٍ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا طَلَعَ
الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَينِ) فيه مشروعيَّة
سنَّة الفجر الرَّاتبة قبل الفريضة، وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يحافظُ
عليها، وظاهرُ هذا الخبر أنَّ وقت صلاة الفجر يبتدئ من بِدء طلوع الفجر، مِن أوَّل
بُزوغٍ للفجر، وأنَّه لا يشترط الانتشار أو الإسفار.
قال: (إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إِلَّا
رَكْعَتَيْنِ) فيه أنَّ وقت النَّهي يَبتدئ من طُلوع الفجر، أي: من أذان
الفجر، وإلا لَما امتنع مِن أن يُصلي غيرهما.
ومن أمثلة هذا: مَن جاء إلى المسجدِ في صلاة الفجرِ، وهو لم يصلِّ سنَّة الفجرِ
الرَّاتبة، فحينئذٍ إذا دخل المسجد نقول له: صلِّ ركعتين وانوِ أنَّهما تحيَّة
المسجد وسنَّة الفجر، فلو قال: سأصلي ركعتين تحيَّة المسجد، ثمَّ أصلي ركعتين سنَّة
الفجر؛ قلنا: لا يجوز لك ذلك على الصَّحيحِ من قولِ أهلِ العلم؛ لأنَّ وقت النَّهي
قد ابتدأ، وبالتَّالي يتقيَّد بركعتين فقط تجزئه عن تحيَّة المسجد.
وفي هذا الحديث أنَّ سنَّة الفجرِ تكونُ بركعتين، وأنَّه يُستحبُّ تَخفيف سنَّة
الفجرِ، وفي هذا الحديث أنَّ السُّنَّة الرَّاتبة بعدَ الجمعة لمَن صلَّى في بيته
أن يُصلي ركعتين، وقد وردَ أنَّه يُصلي في المسجد أربعًا بعدَ الجمعة، فقالت طائفة:
يجمعُ بينهما، فيصلي أربعًا في المسجد ويصلي ثنتين في البيت، وقال بعضهم: يكتفى
بإحداهما عن الأخرى، وهذا شيء من أحكام هذا الحديث.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ
قَبْلَ الْغَدَاةِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
هذا فيه ذكرُ شيءٍ من السُّننِ الرَّواتب، وقد تقدَّم أنَّ حديثَ ابن عمر فيه ذكر
ثنتين قبل الظُّهر، وحديثَ عائشة أربعًا، وقد وافقها حديثُ أمِّ حبيبة وأمِّ سلمة،
وبالتَّالي قلنا: إنَّه يُشرع أن تكون السنَّةُ الرَّاتبةُ أربعَ ركعاتٍ قبلَ
الظُّهرِ ويُفصل بينهما.
قوله: (وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ) المراد
بالغداة: صلاة الفجر، فيه التَّأكيد على سنَّة الفجر، وفيه أنَّ الإنسان لا يتركها
مطلقًا ويحافظُ عليها.
لعلَّنا نقفُ على هذا، باركَ الله فيكم، ووفَّقكم الله للخيرِ، وبارك الله فيكم
أيُّها المشاهدون الكرام، ووفقكم الله للخير.
أسأله -جل وعلا- لإخواني ممَّن رتَّب هذا اللِّقاء التَّوفيق لكلِّ خيرٍ، كما أسأله
-جلَّ وعلا- أن يجعلَ الأمَّة محافظين على الفرائض، ملازمين للنَّوافل.
هذا -والله أعلم- وصلَى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلَّم
تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
---------------------
[113] أخرجه مسلم (489) عن رَبِيعَة بْن كَعْبٍ
الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه قَالَ: " كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي:
سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ
السُّجُودِ".
[114] صحيح مسلم (1205).
[115] مسند أحمد (5815)، أبو داود
(1080)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
[116] مسند أحمد (20058)، أبو داود
(1090)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(233).
[117] صحيح البخاري (692).