الدرس الخامس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5598 24
الدرس الخامس

المحرر في الحديث (1)

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد: فأرحب بكم إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير.
هذا هو اللقاء الخامس مِن لقاءاتنا في قراءة كتاب "المحرر" للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا قد توقَّفنا عند بابِ صفةِ الوضوءِ وفروضِه وسننِه، وقرأنا عددًا من الأحاديث -قرابة اثني عشر حديثًا مِن مقدِّمة هذا الباب- وهذه الأحاديثُ هي أحاديثٌ متعلِّقة بوصف وضوء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ووضوءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي نُقل إلينا قد اختلف العلماءُ فيه، هل الأصل أنَّ كلَّ فعلٍ نُقل عنه في الوضوء يكون على الوجوب؟ أو يكون على الندب؟
هذا خلافٌ أصولي، فأفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم على أنواع:
-       الأول: ما كان مختصًا به، كزواجه بالتِّسع.
-       الثاني: ما كان من أفعالِ العادةِ والجبلَّة، فهذا لا يُشرع التَّقرب لله به، وإنما يكون على الإباحة.
-       الثالث: أفعالُه التي فعلها بيانًا لحكمٍ مُتَقَّرر في الشَّرع، فتأخذ حكم ذلك الفعل.
-       الرابع: أفعالُه على جهة القُربةِ والعبادةِ التي ليست بيانًا لحكمٍ سابقٍ، فهذه اختلف العلماء فيها:
§      قالت طائفة: هي على الوجوب؛ لقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، قالوا: هنا أمر، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، ونحو ذلك من النُّصوص الآمرة باتِّباع النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذا القول يقول به كثيرٌ من الحنفيَّة والمالكيَّة.
§      والقول الثاني: إنَّ أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم التي كان يَفعلها على سبيل القُربة والعبادة تُحمل على الاستحباب، لا على الوجوب، وهذا هو مَذهب الإمام أحمد، وأحد القولين عند الشافعيَّة.
ولعلَّ هذا القول أرجح –فتُحمل على الاستحباب- لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ أصحابه على ترك بعض أفعاله التي فعلها للقُربة والعبادة، فإقراره للصَّحابة على تركها دليلٌ على أنَّ هذه الأفعال ليست على الوجوب وإنَّما هي على الاستحباب.
وإذا تقرر هذا، فعندنا آية قرآنية تتعلق بفروض الوضوء، وجاءت بالأمر به، وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]، فهذه الآية فيها فروض الوضوء، وهي محلُّ اتِّفاقٍ في الجملة، فهناك اتِّفاقٌ بين العلماء على أنَّ غَسل الوجه وغَسل اليدين ومَسح الرأس وغَسل القدمين مِن فُروض الوضوء، فهذا محلُّ اتِّفاقٍ في الجملة، وهو غالب هيئة الوضوء.
-       الخامس: أفعال مُتمِّمات، وهذه وقع التنازع في حكمها.
لعلنا نأخذ هذه الأحاديث التي جاءت في وصف وُضوء النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأولها: حديث عثمان رضي الله عنه أنَّه (دَعَا بِوَضُوءٍ)، "وَضُوء" بفتح الواو، أي: الماء الذي يُتوضأ به، والحديث فيه دلالة على جواز الاستعانة بالغير في الوضوء، وفي إحضار الماء.
قال: (فَتَوَضَّأَ، فَغسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، هذا الغَسل قبل الوضوء، ولم يُذكر غسل الكفِّين في الآية، والجمهور على أنَّه مِن المستحبَّات.
وهنا لم تُذكر النِّيَّة، وقد جاء في أحاديث أخرى ذكر النِّيَّة، كقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»[19]، فالحنفيَّة يستدلون بحديث «دَعَا بِوَضُوءٍ» على صحَّة الوضوء بدون النِّيَّة، ولكن بما أنَّه دعا بوضوء فهذا يعني أنَّه كان ناويًا، وبالتَّالي لا يصحُّ الاستدلال بهذا الخبر.
قال: (فَغسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) فيه استحباب غَسل الكفَّين ثلاثَ مراتٍ قبل الوضوء، وهذا خاصٌّ بالكفين، ليس لجميع الذِّراع والسَّاعد، فالذِّراع والسَّاعدُ لا يدخلان في هذا الحكم.
قال: (ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ) فيه مشروعيَّة المضمضة والاستنثار، والحنابلة يرون أنَّها على الوجوب، وجاء في الحديث: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ»[20]، وأمَّا بالنَّسبة لمنشأ الخلاف في هذه المسألة: فهو الخلاف في الفم والأنف. هل هما مِن ظاهر البدن، وتحصل بهما المواجهة؟ أو هما من داخل البدن –أي: باطنه؟
والأظهر أنَّهما مِن الخارج، ولذلك لو وضع الإنسان ماءً في فمه وهو صائم لم يُفطر بذلك، ولذا فإنَّ الأظهر هو وجوب المضمضة والاستنثار في الوضوء.
قال: (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) الوجه هو: ما تحصل به المواجهة. فكل ما تحصل به المواجهة كالخدين، والجبين، والأنف، والشفاة، والذقن، وهكذا اللحية؛ كلها تدخل في هذا اللفظ.
وقوله: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، كونها ثلاث مرات لا يدل على الوجوب، وقد وقع الاتِّفاقُ على أنَّ الواجبَ غسلةٌ واحدةٌ، وأنَّ ما زادَ عليها فهو مستحبٌّ، وفيه إشارة إلى عدم استحباب ما زاد عَن الثَّلاث، أي أن الغسلة الرابعة غير مستحبَّة.
قوله: (ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى) فيه استحباب البداءة باليد اليمنى قبل اليد اليسرى، والجمهور على أنَّ هذا من المستحبَّات، وأنَّ التَّرتيب بين اليدين ليس بواجب، إنَّما هو مستحب.
قوله: (إِلَى المِرْفَقِ)، "إلى" حرف غاية، وحرف الغاية جعل المرفق هو الغاية، والمرفق هو: المفصل الذي يكون بين العضد وبين الساعد. هذا المرفق هل يجب غسله أو لا يجب؟
الآية فيها: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ هناك اختلاف: هل الغاية هو المرفق هنا؟ يعني هل يدخل في المُغيَّا أو لا؟
جاءنا في حديثٍ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «كان يغسل مرفقيه ويدير الماء عليهم»[21]، فدلَّ هذا على مشروعيَّة غَسل المرفقين، والأظهر وجوبه؛ لأنَّه الذي لازمه النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُسْرَى مِثلَ ذَلِك، ثمَّ مَسحَ رَأسَهُ) ظاهر الحديث أنَّ المسح للرأس يكون مرة واحدة كما قال الجمهور، وقال الإمام الشافعيُّ: يمسح ثلاث مرات؛ لحديث: «توضأ ثلاثًا ثلاثً»[22]، لكن القاعدة: إذا ورد لفظٌ خاصٌّ، كلفظ "الرأس" هنا، وورد لفظ عام، كقوله: «توضأ ثلاثًا ثلاثً»، فإننا نعمل بالخاصِّ في محلِّ الخصوص، ونعمل بالعام فيما عدا ذلك، ولهذا فإنَّ قول الجمهور أرجح في هذه المسألة.
قال: (ثمَّ غسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى إِلَى الكَعْبَيْنِ) الكعب: هو العظم الذي يكون بين القدم وبين السَّاق.
وقوله هنا: (إِلَى الكَعْبَيْنِ) دليلٌ على أنَّ المراد به العظم الناتئ الذي يكون في أسفل السَّاق، ويكون هناك عظمان ناتئان؛ لأن بعض النَّاس يظن أنَّ المراد بالكعب المفصلُ الذي يكون في مقدِّمة الرِّجل وفي أعلى القدم. وهذا فهم خاطئ!
لذلك قال: (إِلَى الكَعْبَيْنِ) فدلَّ هذا على أنَّ كلَّ رِجْلٍ فيها كعبان، وبالتَّالي فهذا دليلٌ على وجوب غسل القدمين، وأنَّه لا يُجزئ المسح فيهما، وأنه فِعْلُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تُفسَّر به الآية، وتكون كلمة "الأرجل" في قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ معطوفة على غَسْلِ الوجه واليدين.
قوله: (ثمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) يعني إلى الكعبين، وأنه غسلهما ثلاثًا. هل يدخل الكعبان في الغسل؟
نقول: الأظهر هو دخول الكعبين في ذلك.
 (ثمَّ قَالَ عثمان رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَ) فيه دلالة على أنَّ الصحابة كانوا حريصين على نقل أحوال النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ -أي: شبيهًا- وُضُوئِي هَذَا، ثمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ» أي: لا يفكر بأمور خارجة عن الصَّلاة.
قال: «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وفي هذا فضيلةُ إحضارِ القلبِ في الصَّلاة.
قال: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يتَوَضَّأُ بِهِ أحدٌ للصَّلَاةِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلمٍ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: ثمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ).
الرواية الأولى ليس فيها "استنشق"، لكن لا يمكن أن يكون هناك استنثار -وهو إخراج الماء- إِلَّا إِذا سَبقه استنشاق، فالاستنشاق: هو إدخال الماء في الأنف، والاستنثار إخراجه.
قال: (وَعَنْ فِطْرٍ، عَن أبي فَرْوَةَ، عَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبي لَيْلَى، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً -فيه التَّصريح بأنها واحدة- ثمَّ قَالَ: هَكَذَا تَوضَّأَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ زِيَادِ بنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ مُوسَى، عَنْ فِطْرٍ، وَرُوَاتُه صَادِقُونَ مُخَرَّجٌ لَهُم فِي الصَّحِيح، وَأَبُو فَرْوَةَ: اسْمُهُ مُسْلِمُ بن سَالم الجُهَنِيُّ).
ثم أوردَ المؤلف مِن حديث عمرو بن يحيى المازني، قال: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى المازِنيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرو بنَ أبي حَسَنٍ، سَأَلَ عبدَ الله بنَ زيدٍ-وهو من الصحابة- عَنْ وُضُوءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم؟) فيه مشروعية السؤال عن أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم للاقتداء به فيها.
قال: (فَدَعَا بِتَوْرٍ) التَّور: هو إناء من نحاس (مِنْ مَاءٍ) يعني: فيه ماء.
قوله: (فَتَوَضَّأَ لَهُم فَكَفَأَهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُما ثَلَاثً) فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء.
قال: (ثمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ) فيه أنَّ الغَرفة الواحدة تكفي للمضمضة والاستنشاق، وورد أنَّه فعل ذلك ثلاث مراتٍ بغَرفةٍ واحدةٍ، وورد بأنها بستِّ غَرَفَاتٍ، لكن تلك الرواية فيها كلامٌ لبعض أهل العلم.
قال: (ثمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا, ثمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ  فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَينِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) لم يَذكر هنا غَسل الوجه، وكأنَّه قد فُهم الغَسل من السَّياق.
وقوله: (فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَينِ مَرَّتَيْنِ) فيه جواز التَّنويع في عدد غسلات الوضوء، فيغسل بعض الأعضاء بعدد، وبعضها بعدد آخر؛ لأن الواجب غسلة واحدة، وقد حصلت.
قال: (ثمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَ) إذن مسحُ الرأس يكون مرة واحدة.
قوله: (فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَ) أقبل: أي جاء مُقبلًا على وجهه. وأدبر: أي جاء وقد وضع دبره تجاهه، وقد جاء تفسيره بأنه يبتدئ مِن مُقدمة الرأس، وينتهي بمؤخرة الرأس ثم يعود مرة أخرى، والواجبُ مسحةٌ واحدةٌ بالذِّهاب، أمَّا الإيابُ فمستحبٌّ وليس بواجبٍ.
قال: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ، فَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ)، هذا يعني جواز أن تكون الغسلات الثلاث للمضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة.
قال: (وَفِي رِوَايَةٍ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُما إِلَى المكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ).
الحديث الآخر، قال: (وَعَنْ حِبَّان بنِ وَاسِعٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عبدَ الله بنَ زيدِ بنِ عَاصِمٍ يَذْكُرُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِيْهِ) لما غسل اليدين أخذ ماءً جديدًا ليمسح رأسَه، قال: (وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقاهُما. رَوَاهُ مُسلمٌ).
هناك رواية أنَّه أخذ ماءً جديدًا لأذنيه، فكأنَّه مسح الرأس بماءٍ، ثم أخذ ماءً جديدًا ومسح أذنيه بذلك الماء، لكن تلك الرواية وَهْم من الراوي، وصواب الرواية: أنَّه أخذ ماءً جديدًا لمسح رأسه، لا لمسح أذنيه.
ثم أورد المؤلِّفُ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. فعمرو بن شعيب يروي حديثًا عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وشعيب هذا يروي عن جدِّه.
قوله هنا: "عَن جده"، يعني عن جدِّ شعيب، أم عن جد عمرو؟
نقول عن جد شعيب. فعمرٌو يروي عن أبيه شعيب، وشعيبٌ يروي عن جدِّه عبد الله بن عمرو بن العاص، وبالتَّالي يكون الإسناد متصلًا، وشعيبٌ صدوقٌ، ولذلك فهذا إسناد حسن.
قال: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيفَ الطُّهُورِ؟ أي: كيف أتطهر؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ -لم يذكر ثلاثًا- وَأدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ، وبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ)، هذا يُفسِّر لنا كيفيَّة مسح الأذن، يضع السبَّاحتين في أذنيه، في فتحة الأذن، ثم يضع الإبهام خلف فروع الأذن، ثم يقوم بتحريك أصبعيه -أي: السبَّاحة يحركها في مكانها، والإبهام يحركها خلف الأذن- أمَّا فروع الأذن فإنه لم يرد أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يمسحهما، وفي الحديث لم يذكر أنه أخذ ماءً جديدًا في مسحه لأذنيه.
قال: (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا الوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَ)، لا يجوز أن تغسل أعضاء أخرى غير هذه الأعضاء، ولذلك لما قال بعض الفقهاء كبعض الشافعيَّة بأن يزيد في غسل عضديه، نقول: هذا خلاف السُّنة، فالسُّنة أن نقتدي بأفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم، فمن زاد أو كانت الزيادة في العدد -كأن يزيد أربعة وخمسَ مرات- فقد خالف السُّنة. ولذلك ليعلم أولئك الذين لديهم وسوسة في غسلات الوضوء، فيغسلون مرات كثيرة، أنهم قد أساءوا، وأنهم قد خالفوا، وأنهم لم يسيروا على سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَإِسْنَادُهُ ثَابتٌ إِلَى عَمْرو -يعني عمرو بن شعيب- فَمنِ احْتجَّ بِنُسْخَتِهِ عَنْ أَبِيه عَنْ جَدِّهِ فَهُوَ عِنْدهُ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمدَ وَالنَّسَائِيِّ: فَأرَاهُ الوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: هَذَا الوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وتَعَدَّى وظَلَم، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أحَدٍ مِنْهُم: أَو نَقَصَ)، كلمة "نقص" هذه لم ترد في رواية أحمد والنسائي، ولا ابن ماجة، إنما وردت في رواية أبي داود، وقد تكلم في رواية "أو نقص" مسلم وغيره؛ لأن في الحديث أنه غسل ثلاثًا، فمن غسل واحدة أو اثنتين لم يلحقه مأثم؛ لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت أنه توضأ واحدة واحدة، والآية ليس فيها ذكر عدد.
ثم أوردَ المؤلف حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَ لِيَنْثُرْ»)، هذا الحديث لفظي وليس فعلي، وقوله: «لِيَنْثُرْ» فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، فيكون على الوجوب. ومثله في قوله: «فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً». وهذا الخبر من أدلة الإمام أحمد، ومن وافقه على وجوب الاستنثار والاستنشاق في الوضوء.
ثم أورد من حديث أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ») قوله: «فَلْيَسْتَنْثِرْ»، هذا للوجوب؛ لأنه فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، قال: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يبِيْتُ عَلَى خَياشِيْمِهِ» استدل بهذا بعض الفقهاء الذين قالوا بأن الاستنثار يجب على من قام من نومة الليل، أما من عداه فلا يجب عليه، والقول الأول أظهر؛ لأن الحديث: «إذا توضأ أحدكم»، فهو عامٌ في جميع الوضوء، سواءً كان بعد نوم أو لم يكن.
ثم أورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ») "لا" هنا للنَّهي، والنَّهيُ يفيد التحريم.
قال: «فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثً»، إذا كان عندك إناء، وأنت مستيقظ من النوم، فلا تغمس يدك أو تضعها في الإناء، إنما تجافي الإناء فتغسل يديك أولًا، ولذلك قال أحمد: "غمسُ اليد في الإناء حرام"، بل ذهب إلى أنَّه إذا غمس القائم من نوم الليل يده في الإناء، فإن الإناء لا يُتوضأ بما فيه، أخذًا من قاعدة أنَّ النهي يقتضي الفساد.
قال: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ باتَتْ يَدُهُ»، قوله "باتت" يُطلق على نوم الليل فقط، لأنه هو الذي يُقال له بيتوتة، أمَّا نوم النَّهار فلا يُطلق عليه هذا الاسم.
قال: (وَعندَ البُخَارِيِّ: «وَإِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فَلْيَغْسِلْ –هذا أمر- يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوْءِهِ» بفتح الواو، يعني الماء الذي يُتوضأ به.
قال: («فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحهُ: «إِذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُم مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ») صرَّح بأنه نوم الليل، والمطلق يُحمَل على المقيَّد. قال: «فَلَا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يُفْرِغَ عَلَيْهِا مرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثً».
ثم أورد من حديث لَقِيطِ بنِ صَبِرَةَ رضي الله عنه، قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الوُضُوء؟) أي: كيف أفعل في وضوئي؟.
(قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَسْبِغِ الوُضُوءَ») الإسباغ: إيصال الماء لكل جزء من أجزاء العضو الذي يُغسل في الوضوء. هل الإسباغ واجب؟
نقول: ظاهر الحديث أنه واجب؛ لأنه أمر، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، ولكن بعض العلماء فسَّر الإسباغ بمعنًى آخرٍ، وهو: أن يكون هناك ماءٌ كثيفٌ على العضو، ولكن هذا ليس من الواجبات.
قال: «وخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ» أي: تفَقَّد ما بين الأصابع بإدخال الأصابع الأخرى.
ورأى الجمهور أنَّ تخليل الأصابع ليس بواجب، ورأى الإمام مالك وجوب تخليل الأصابع وخصوصًا القدمين.
وقال الجمهور: صحيحٌ أنَّ الفعل هنا فعلُ أمرٍ، لكن الأوامر التي وردت هنا ليست على الوجوب، فإن المبالغة في الاستنشاق ليس بواجب، والواجب هو الاستنشاق، وقالوا كذلك الأوامر المعطوفة عليه، ويدلُّ على هذا عدم فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم له، وعدم نقله عنه، فليس كلُّ مَن روى الأحاديث في الوضوء نقلَ تخليلَ الأصابعِ.
قال: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ»، الاستنشاق: هو إدارة الماء في الأنف وسحبه بقوة، حتى يصل إلى أعلى الأنف، والمبالغة فيه تكون بالتَّحقق من وصول الماء إلى كل جزء من أجزاء الأنف.
قال: «إِلَّا أَنْ تَكونَ صَائِمً» فإن الصَّائمَ يتحرَّزُ على صومه، وقوله: «إِلَّا أَنْ تَكونَ صَائِمً» دليلٌ على أنَّ المبالغة في الاستنشاق ليست واجبة، وإلا لأَمر بها حتى مع الصَّوم.
في قوله: «إِلَّا أَنْ تَكونَ صَائِمً» دليل على أنَّ ما دخل في الأنف من الأطعمة للصَّائم فإنَّه يُؤثِّر على صومه، وإلا لَمَا نهى الصَّائمَ عن المبالغة في الاستنشاق، وفيه دلالة على أنَّ المُفطِّرات لا تقتصر على إدخال الأشياء من الفم، بل إدخالها من الأنف يُؤثر على الصَّوم.
قال: (رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ، وَصَحَّحهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالحَاكِمُ وَغَيرُهُم.
وَزَاد أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: «إِذا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ»)
استدل أحمد بهذا الحديث على وجوب المضمضة في الوضوء، وأخذ منه وجوب المضمضة والاستنشاق في الاغتسال.
قال: (وَرَوَاهُ الدُّولابيُّ فِيمَا جَمَعَهُ مِنْ حَدِيِثِ الثَّوْريِّ، وَلَفظُهُ: «إِذا تَوَضَّأْتَ فَبَالِغ فِي المضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ مَا لمْ تَكُنْ صَائِمً»، وَصَحَّحهُ ابْنُ القَطَّانِ).
قال المؤلف: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضي اللهُ عُنهُما قَالَ: تَوَضَّأَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مَرَّةً مَرَّةً)، هذا حديث فعليٌّ، واستفادةُ وجوبِ الغَسْلِ مَرةً واحدةً أخذناه من الآية، لكن أخذنا من هذا الحديث جوازَ الاقتصار على مرةٍ واحدةٍ، وأن الغَسلة الثَّانية والثَّالثة ليست بواجبة.
قال: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) الوضوء مرتين لا يقوى على القول بالإيجاب، وأخذنا الإيجاب من ظاهر آية سورة المائدة، وفي هذا الحديث جواز أن يكون غسل الأعضاء مرتين مرتين، ولكن يُستثنى من هذا مسحُ الرَّأس، فإن المشروع الاقتصار على مسحةٍ واحدةٍ في ذلك.
قال: (وَعَنْ عَامرِ بنِ شَقِيقِ بنِ جَمْرةَ، عَنْ أبي وَائِلٍ، عَنْ عُثْمَان رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّه كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ)، اللحية: هي الشَّعر الذي ينبت في الوجه، في الذقن وعلى اللحيين.
كيف يغسل المتوضئ لحيته؟
إذا كانت اللحية تشفُّ عن ما تحتها، فإن الواجب أن تغسلها وتغسل ما تحتها؛ لأنه قد حصلت المواجهة بذلك، ما قيل "الوجه" إلا لأنه يُواجَه به.
وأما إذا كانت اللحيةُ كثيفةً، فحينئذ الواجب هو غسل ما تحصل به المواجهة من اللحية، وهو الجهة العليا من اللحية، ويُستحب أن يكون معه تخليلٌ بإدخال الأصابع في خلل اللحية -أي في الفراغات التي تكون بين الشعر- وهذا الحديث حديثٌ فعليٌّ، والأحاديث الفعليَّة تدلُّ على الاستحباب -كما تقدَّم.
(وَقَالَ البُخَارِيُّ: "هُوَ أصحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ"، وعامرٌ -يعني ابن شقيق- ضَعَّفَهُ ابْنُ معِينٍ, وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ"، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: "لَا يَثبُتُ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ حَدِيثٌ")، هذا رأي الإمام أبي حاتم -رحمه الله.
{قال المصنف -رحمه الله: (وَعَنْ سِنَانِ بنِ رَبيعَةَ، عَن شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الأُذُنانِ مِنَ الرَّأْسِ»، وَكَانَ يَمْسحُ رَأْسَهُ مَرَّةً، وَيمْسَحُ المأْقَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَسنَانٌ: رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ حَدِيثًا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِالقَوِيِّ"، وَشَهْرٌ: وثَّقَهُ أَحْمدُ، وَابْنُ مَعِين وَغَيْرُهُمَا، وَتكلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَرَوى له مُسلمٌ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» مَوْقُوفٌ عَلَى أبي أُمَامَةَ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَاللهُ أعلمُ.
وَروى شُعْبَةُ، عَنْ حَبيبِ بنِ زيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ فَتَوَضَّأ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحه" -وَاللَّفْظُ لَهُ- وَابْنُ حِبَّان، وحبِيبٌ: وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: "هُوَ صَالح".
وَعَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسَبَغَ الْوُضُوءَ، ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثَمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأُ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمُ الغُرُّ المُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وتَحْجِيْلَهُ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمٍ: أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ حَدِيث نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَة، وَزَاد فِيهِ: وَقَالَ نُعَيْمٌ: لَا أَدْرِي قَوْلَهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَنْ يُطِيْلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل، مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ قَولِ أَبي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَى مُسلمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ خَلَفِ بنِ خَليفَةَ، عَنْ أبي مَالكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبي حَازِمٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى يَـبْلُغَ إِبْطَهُ، فَقلتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءَ؟ قَالَ: يَا بَنِيْ فَرُّوخَ أَنْتُم هَاهُنَا؟! لَو عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَاهُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ».
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَترَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ والْخُفَّيْنِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأُ، فَأَخَذَ لأُذُنَيْهِ مَاءً خِلافَ الماءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ. رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الهَيْثَمِ بنِ خَارِجَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَن عَمْرِو بن الْحَارِثِ، عَن حِبَّان بنِ وَاسعٍ الْأنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ، وقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ مُسلمٌ عَنْ غيرِ وَاحِدٍ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ، وَلَفْظُهُ: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَذَكَرَ وَضُوْءَهُ، قَالَ: وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غيرِ فَضْلِ يَدِهِ، وَلم يَذْكُرِ الْأُذُنَيْنِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا أصَحُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَعَنْ عَمْرو بن عَبَسَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، حَدِّثنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: «مَا مِنْكُم رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ، فَيُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ، فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجهِهِ وَفِيه وخَياشِيمِهِ، ثمَّ إِذا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أمَرهُ الله إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ المَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ المَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ، فَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وفَرَّغَ قَلْبَهُ للهِ عزَّ وجل إِلَّا انْصَرفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ مُسلمٌ هَكَذَا، وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي "مُسْنده" وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحه"، وَفِيهِ: «كَمَا أَمَرَهُ الله تَعَالَى»، بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
وَعَنْ جَعْفَرَ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابرٍ رضي الله عنه، فَذكرَ الحَدِيثَ فِي حَجَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وَفِيه: فَلَمَّا دَنا مِنَ الصَّفَا قَالَ: «﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158] ابْدَؤوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِصِيغَةِ الْأَمرِ، وَرَوَاهُ مُسلمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا منْ غيرِ وَجهٍ عَنْ جَعْفَرَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ "نَبْدَأُ" أَو "أَبْدَأُ"، وَهُوَ الصَحِيْح.
وَعَنْ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا بَحِيرُ بنُ سَعدٍ، عَن خَالِدِ بنِ مَعْدانَ، عَنْ بعضِ أَصْحَابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لمْ يُصِبْهَا المَاءُ فَأَمَرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الْوضُوءَ وَالصَّلاة. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلَيْسَ عِنْد أَحْمدَ ذِكْرُ الصَّلاة. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ؟ قَالَ: نَعم)
}.
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف تتكلَّم عن فروض الوضوء، وما الذي يُفرض منها وما الذي لا يُفرض، ولعلَّنا نأتي إلى هذه الأحاديث واحدًا واحدًا.
فأولها: حديث سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب، وقد تكلم المؤلف عن هذا الإسناد، فقال عن شَهْرِ بن حوشَب: وثَّقه أحمد وابن معين، وتكلم فيه جماعة.
قال في حديث: «الأُذُنانِ مِنَ الرَّأْسِ»، يعني أنه عند مسح الرأس يُشرع مسح الأذنين، وهناك خلاف فقهي في المجزئ من مسح الرأس، فالإمام مالك، والإمام أحمد يرون أنه لابدَّ من مسح جميع الرأس، وأنه لا يكفي بعضه، لقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾، قالوا: "رءوس" جمع مضاف إلى معرفة، فيفيد العموم.
وقال الإمام أبو حنيفة: يجزئه مسح ربع الرأس، على مقدار اليد، وقال الإمام الشافعي: يجزئه أقل ما يصدق عليه اسم الشعر، فعند بعضهم ثلاث شعرات، وعند بعضهم تكفي شعرة واحدة.
وعليه، فهناك اتِّفاقٌ على أنَّ الأذنين يُشرع مسحهما، لكن هل المسح هنا على الوجوب؟ قال مالك وأحمد بالوجوب، والبقيَّة قالوا بالاستحباب.
قوله: (وَكَانَ يَمْسحُ رَأْسَهُ مَرَّةً) فيه دليل لمذهب الجمهور، (وَيمْسَحُ المأْقَيْنِ) وهو ما يكون بين الأذن وبين شعر الرأس، وهو جزءٌ من الرَّأس.
ثم روى من حديث عبد الله بن زيد أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم (أُوتِيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ)، المُدُّ: ملء اليدين المعتدلتين.
قال (فَتَوَضَّ): أي توضَّأ وضوءًا كاملًا بثلثي المد.
قال (فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ): أي يُعيد تمرير اليَدِ فيها عند غسلها. وذكر المؤلف بأن في إسناده حبيب بن زيد، وقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ صَالح.
ثم روى عن نعيم، قال: (رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسَبَغَ الْوُضُوءَ) فيه استحباب الإسباغ.
(ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ) أي ابتدأ في غسل العضد، وهذا مذهب الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، أنه يُستحب الزيادة في غسل الأعضاء، وهذا اجتهاد منه، وقد خالفه بقية الصحابة، وفِعْلُ النَّبي صلى الله عليه وسلم على خلاف مذهب أبي هريرة.
قال: (ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ –يعني ابتدأ- فِي الْعَضُدِ، ثَمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّ) الجمهور يقولون: إن أبا هريرة رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم يغسل إلى المرفق وإلى الكعبين، لكنَّه هو الذي كان يزيد على ذلك ظنًّا منه أنَّ ذلك من الفضيلة.
قوله: (وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمُ الغُرُّ») أي أنتم الذين تأتون يوم القيامة وجباهكم بيضاء نقيَّة صافية، مُحجَّلون كأن عليكم الذَّهب من إسباغ الوضوء، لكن لاحظ أنَّ التَّحجيل في السَّاعد وليس في العضد، وأن الغرَّة في الجبهة -وهي من الوجه- وليست من خارج الوجه.
قال: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وتَحْجِيْلَهُ» هذا في محل الوضوء، كأن إطالة الغرَّة والتَّحجيل هذا مِن كثرة الوضوء، وليس من مجاوزة محلِّ الوضوء.
قال: (وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نُعَيْمٍ: أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إِلَى السَّاقَيْنِ) وهذا مذهب أبي هريرة، وقد خالفه الصَّحابة، وأخذه من فهمه لهذا الحديث: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ» لكن الغرَّة والتَّحجيل إنما هي في محل الوضوء، قال: «مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ»، فغَسْلُ العضد والسَّاق ليس من الوضوء.
قال: (وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ حَدِيث نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَة، وَزَاد فِيهِ: وَقَالَ نُعَيْمٌ: لَا أَدْرِي قَوْلَهُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَنْ يُطِيْلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل، مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ قَولِ أَبي هُرَيْرَةَ) تردد فيه، هل هو مرفوع أو موقوف.
قال: (وَرَوَى مُسلمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ خَلَفِ بنِ خَليفَةَ، عَنْ أبي مَالكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبي حَازِمٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ فَكَانَ يَمُدُّ يَدَهُ حَتَّى يَـبْلُغَ إِبْطَهُ، فَقلتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا هَذَا الْوُضُوءَ؟) يعني خالف به فعل بقية الصحابة، فقال: (يَا بَنِيْ فَرُّوخَ أَنْتُم هَاهُنَا؟!) أي يا مَن الدِّيكُ أبوكم الذي يصيح كلما رأى إنسانًا.
قوله: (لما رأيتني أفعل ذلك، صِحْتَ وانتقدتني، لَو عَلِمْتُ أَنَّكُمْ هَاهُنَا مَا تَوَضَّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ، سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ»). لكن غسل العضد ليس من الوضوء، وبالتَّالي لا يصح هذا الاستدلال من أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ) أي البداءة باليمين.
قوله: (فِي تَنَعُّلِهِ) أي في لبس النعال.
قوله: (وَترَجُّلِهِ) أي: تمشيط الشعر.
قوله: (وَطُهُورِهِ) أي: وضوئه وغسله.
قوله: (وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)، وقد ورد أنه كان يستعمل اليد اليمنى في ما يُستحسن، واليسرى في ما يُستقبح.
ثم أورد حديث المغيرة بن شعبة (وَعَنِ ابْنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ) استدل بذلك الشافعيَّة على جواز الاقتصار على الجزء اليسير، والجمهور يقولون: كان يلبس العمامة، فمسح بالنَّاصية مع مسحه للعمامة.
قوله: (فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ والْخُفَّيْنِ) فيه مشروعيَّةُ المسحِ على الخفين، وأنه لا يجب نزعهما في الوضوء.
ثم ذكر حديث (أخذ ماءً جديدًا للأذنين)، وقد تقدَّم أنَّ هذا خطأ من الراوي، والصواب: أنه أخذ ماءً جديدًا لمسح الرأس، وليس لمسح الأذنين.
ثم أورد من حديث عمرو بن عبسة، قال: (وَعَنْ عَمْرو بن عَبَسَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، حَدِّثنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟) يعني ما هو الوضوء؟
قَالَ: («مَا مِنْكُم رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ -يعني الماء الذي يتوضأ به، فَيُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ، فَيَنْتَثِرُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجهِهِ وَفِيه -يعني فمه- وخَياشِيمِهِ») أخذ من هذا بعض الفقهاء أنه لا يُستحب التَّنشُّف، وهذا الاستدلال فيه نظر؛ بل استعمال المناديل ونحوها لا يعني أنه لا توجد آخر قطرة، فلم يشترط في الحديث لحصول الأجر أن تخرج آخر قطرة وحدها، بل يمكن أن تكون قد خرجت بالمناديل ونحوها. ثم ذكر خروج الخطايا من اليدين، والرأس، والقدمين.
قوله: «فَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وفَرَّغَ قَلْبَهُ للهِ عزَّ وجل إِلَّا انْصَرفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» فيه استحبابُ سنَّةِ الوضوء، يعني يصلي ركعتين للوضوء، وبعض أهل العلم قال: إنَّها من ذوات الأسباب التي تُفعل حتى في أوقات النَّهي.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------------
[19] صحيح  البخاري (1)
[20] صحيح البخاري (161)
[21] سبل السلام للصنعاني (1/65) ولفظه " كان يديرُ الماءَ على مِرفَقيهِ"
[22] صحيح مسلم (230).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك