الحمد لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا
بعد، فأرحب بكم في هذا اللقاء الحادي عشر، من لقاءاتنا من قراءة كتاب "المحرر"
للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
آخر حديثٍ في كتاب الطَّهارة، هو حديث أبي السَّمح رضي الله عنه، وأبو السَّمح
صحابيٌّ لم يعرف كثيرٌ من أهل العلم اسمه، وهذا لا يضرُّ فيه مَادام أنَّه من
الصَّحابة، فالصَّحابة كلهم عدولٌ ثقاتٌ.
قال: (كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبي صلى الله عليه وسلم)
يُستفاد منه: جواز خدمة أصحاب الفضل والعلم والمكانة، على جهة التقرب لله -عزَّ
وَجَلَّ.
قال: (فَأُتِيَ بِحَسَنٍ -أَوْ حُسينٍ- فَبَالَ عَلَى
صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم)
فيه الأخذ بخاطر الأطفال وصغار السِّن، وكان بين الحسن والحسين سنة واحدة، الحسن
أكبر من الحسين، وهما ريحانتا الجنَّة -رضي الله عنهما.
قوله: (فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُ
أَغْسِلُهُ) الغَسل فيه فركٌ من أجل إزالةِ جميع أجزاء النَّجاسة، فقال
النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، ويُرَشُّ مِنْ بَوْلِ
الْغُلَامِ»[51]، فيه دلالة على أنَّه إذا كان هناك صبي فوقع بوله على ثوب
ونحوه فإنَّه يَكفي فيه الرشُّ والنضحُ ولا يلزم أن يُغسل ويُفرك، وبينما بول
الجارية يُغسل.
عندنا مسألتان، هذا الحكم في بول الغلام إلى متى؟
قد جاءت بعض الأحاديث تُبيِّن أنَّ رشَّ بوله إلى أن يأكل الطعام، أي: إلى أن
يستغني بالطعام، فمادام يرضع الحليب ولا يَستغني بطعامه الذي يأكله عن شرب الحليب،
فإنَّه حينئذٍ يأخذ هذا الحكم.
تبقى مسألة أخرى، وهي: ما الفرق بين بول الجارية وبول الذكر؟
نحن الآن لا نعرف الفرق بينهما إلا في الحكم، والأحكام الشَّرعيَّة لابد أن يكون
لها معانٍ وَحِكم، وكوننا لا نَعرف الحِكمة مِن الحُكم، لا يَعني أن نَرد الحُكم،
فإنَّ لله -عز وجل- حِكمًا في الأحكام تَخفى علينا، والله تعالى إنَّما شرع الأحكام
لتحقيق مصالح العباد، ولقيام العباد بعبوديَّة الله -عز وجل- وهناك معانٍ أخر، ترجع
إليه من فرحه ورضاه تعالى، وبالتَّالي فنُسلِّم لمثل هذه الأحكام، وهذه هي القاعدة
الشَّرعيَّة، وهي: ما جاءنا من كتاب الله -عز وجل- وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم
يلزمنا أن نأخذ به؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
ولهذا نعلم أنَّ هذا الحكم الشَّرعي هو المُحقق للمصلحة، وهو الموافق للحكمة، وهو
الذي يحصل به الخير، وكذلك نعلم أنَّنا في مراتٍ لا نعرف وجه الحكمةِ في الأحكام
الشَّرعيَّة، فقد تخفى علينا، فكم من أمر جهلناه ولم نعلم به!
وبذلك نكون قد انتهينا من كتاب الطَّهارة، ونبتدئ في هذا اليوم بكتاب الصَّلاة،
ونبتدئ بقراءة أحاديثه.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،
وعلى آله وصحبه وسلم. اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعين والمشاهدين، ولجميع
المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:
(كِتَابُ الصَّلاة
عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بَينَ الرَّجُلِ وَبَينَ
الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاة» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الْحُصيْبِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْننَا وَبينَهُمُ
الصَّلاة، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْن مَاجَهْ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ.
وَقَالَ هِبَةُ اللهِ الطَّبَرِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ مُسلمٍ)}.
هذان الحديثان في فرض الصَّلاة، قال المؤلف: (كِتَابُ
الصَّلاة) الصَّلاة عبادة يتقرَّب المؤمنون بها لله -عز وجل، وهي صلةٌ بين
العبد وبين ربِّه -سبحانه وتعالى- فإنَّ العبدَ في صلاته يناجي ربَّه، وأقرب ما
يكون العبد من الله وهو في سجوده، كما ورد في ذلك الخبر[52].
وقد جاءت النُّصوصُ بفرض الصَّلاة وبالأمر بها، قال تعالى:
﴿إِنَّ الصَّلاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتً﴾
[النساء: 103]، ﴿كِتَابً﴾ أي أمرًا مفروضًا واجبًا.
وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾
[البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، النور: 56، المزمل: 20]، في نصوصٍ كثيرةٍ.
ومن ثَمَّ فهذه الصَّلاة قد جاءت الآيات القرآنيَّة ببعض ما فيها، ومما فيها:
القراءة، كما في قوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: 20]، وفي قوله: ﴿وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً﴾
[الإسراء: 78]، وهكذا جاءت في الآيات القرآنيَّة الأمر بالرُّكوع والسُّجود، قال
الله تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾
[البقرة: 43]، وقال: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[الحج: 77].
لكن لم يأتِ بيان كيفيَّتها وترتيبها، إلا في سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم مما
يدلُّك على أن الآيات القرآنيَّة تحتاج في بيان معانيها إلى أحاديث النَّبي صلى
الله عليه وسلم.
وقد أجمع العلماء على أنَّ الصَّلوات الخمس واجبة مفروضة، وقد جاء في حديث طلحة
أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل، فقال: يا رسول الله، ماذا أوجب الله
عليَّ من الصَّلاة؟ قال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ»[53]، وفي حديث إسراء النَّبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث
أنس وغيره، قال: «فُرضت عليَّ خمسُ صلوات في اليوم والليلة،
خمسٌ في العدد، وخمسون في الأجر»[54].
ومن ثَمَّ فإنَّ فرض الصَّلاة لا إشكال فيه، وقد أجمع العلماء على أنَّ ترك
الصَّلاة جريمة أعظم مِن جريمة غيرها من الكبائر، ولذلك على الإنسان أن يحافظ على
صلاته، وألا يتهاون في ذلك.
إذا تقرَّر هذا، فعندنا مسألة وقع الاختلاف فيها بين العلماء، ألا وهي مسألة: هل
تاركُ الصَّلاة يكفرُ بتركه للصَّلاة أو لا؟
جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشَّافعي، قالوا: لا يَكفر
بذلك؛ لأنَّه لازال مُقِرًّا بشهادة التَّوحيد، وشهادة الرِّسالة، ومن ثَمَّ لا
يكفر بهذا.
وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ تارك الصَّلاة يكفر بتركه للصَّلاة مُتعمِدًا، واستدلَّ
على ذلك بعددٍ من النُّصوص، منها: قوله الله تعالى: ﴿مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر:
42، 43]، ومنها: قوله تعالى:
﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاة وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11]، قالوا: فَدَلَّ هذا على أنَّ
مَن لم يُصلِّ فليس أخًا في الدِّين، وكان ممَّا استدلَّ به الإمام أحمد هذا
الحديث: «بَينَ الرَّجُلِ وَبَينَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ
تَرْكُ الصَّلاة»[55] وقد عرَّف الشِّرك والكفر بالألف واللام التي هي
للعهد، وذلك يُراد به الكفر الأكبر، وهذا ما ورد في حديث بُريدة رضي الله عنه أنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْعَهْدُ الَّذِي
بَيْننَا وَبينَهُمُ الصَّلاة، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[56].
فبتعاضدِ هذه الأدلَّة قال أحمد بتكفير تارك الصَّلاة.
وعند أحمد: أنَّه يعود إلى الإسلام بفعله للصَّلاة، وبناء على هذا إذا ترك الصَّلاة
فإنَّه يُطالب بفعلها، ولا يُقام عليه حدُّ الرِّدة إِلَّا إذا دُعِيَ للإسلام وإلى
فعل الصَّلاة ثم امتنع في ما يأتي.
وذهب الجمهور إلى أنَّه لا يَكفر، ولكن اختلفوا في عقوبته:
فقال مالك والشافعي: يُقتل حدًّا. وهذا المذهب في الحقيقة أصعب من المذهب الأول،
ووجه الصعوبة فيه: أنَّ الحدَّ لا يُستتاب صاحبه، وإنما يُبادر بالعقوبة له متى ثبت
عليه أنَّه يترك الصَّلاة.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يُجلَد ويُسجَن حتى يؤدِّي الصَّلاة، وظاهر النُّصوص
تدُّل على القول الأول.
{(وَعَنْ عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ:
«شَغَلُونا عَنِ الصَّلاة الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ
وَقُبُورَهُمْ نَارً»، ثُمَّ صَلَّاهَا بَينَ العِشَاءَينِ، بَينَ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عُمرَ جَاءَ يَوْمَ
الخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ،
وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمس
تَغْرُبُ, فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ مَا
صَلَّيْتُه»، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ للصَّلَاةِ،
وَتَوَضَّأْنا لَهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، ثُمَّ صَلَّى
بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
هذه الأحاديث متعلِّقة بأوقات الصَّلاة، كانوا في أوائل الإسلام إذا شُغِلَ الإنسان
عن الصَّلاة أخَّرها وأجَّلها، ثم بعد ذلك جاء تحديد أوقات الصَّلوات، وأُمر
الإنسان أن يصلي الصَّلاة على حسبِ حاله، ومن ثَمَّ لا يؤجِّل الصَّلاة.
عندنا خمس صلوات مفروضة، قال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى
الصَّلوات وَالصَّلاة الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]، إذن الصَّلاة الوسطى لها
أهميَّة زائدة عن بقية الصَّلوات، ولذلك أكد عليها بقوله:
﴿وَالصَّلاة الْوُسْطَى﴾.
ما هي الصَّلاة الوُسْطَى؟
قال بعض العلماء: إنَّها صلاة العصر، وهذا هو المشهور، وهو الذي تدل عليه الأحاديث،
حيث إنَّ قَبلها صلاة الفجر والظُّهر، وبعدها المغرب والعشاء.
وقال آخرون: إنَّها صلاة المغرب.
وقال آخرون: إنَّها صلاة الفجر؛ لأنَّ هاتين الصلاتين وسطٌ بين النَّهار واللَّيل،
فكانت وسطى، وهناك أقوال متعددة في تحديد هذه الصَّلاة -الصَّلاة الوسطى.
وظاهر هذا النَّص يدلُّ على القول الأول والقائل بأنَّ الصَّلاة الوسطى هي صلاة
العصر.
قال صلى الله عليه وسلم: «شَغَلُونا عَنِ الصَّلاة
الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارً»،
استدل بهذه اللفظة على جواز الدُّعاء على الكافرين، والعلماء لهم ثلاثة أقوال في
هذه المسألة:
- قول يقول بجواز الدعاء عليهم مُطلقًا، قالوا
لأن الله تعالى قال:
﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:
89]، فهذا نوع دعاءٍ عليهم.
- والقول الثاني يقول: إنَّه يجوز الدعاء
بالصِّفة، ولا يجوز بالعين، فلا تقول مثلًا القبيلة الفلانيَّة، أو البلد الفلاني،
وإنَّما تقول الكفَّار على جهة العموم، لا على جهة الخصوص.
- والقول الثالث يقول: إنَّ الدعاء عليهم، إذا
كان سيتحقق به مصلحة شرعيَّة، من نقصان آثامهم، يعني تقول: اللهمَّ أشلَّ هذا
الكافر الذي صدَّ المسلمين عن طاعة الله، فهنا هذا الذي دعوت عليه أنت في الحقيقة
تدعو له؛ لأنَّه بذلك سيقل إثمه، ولن يتمكن من صدِّ النَّاس عن الطاعة.
وهذه أقوال مشهورة في هذه المسألة، وأصحاب هذا القول الأخير قالوا: إنَّ النَّبي
صلى الله عليه وسلم لمَّا دعا على المشركين في أُحد، نَزَلَ قوله تعالى:
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 128، 129]
فنُهِيَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن الدُّعاء على المشركين.
قوله: (ثُمَّ صَلَّاهَا بَينَ العِشَاءَينِ) صلى
ماذا؟ صلاة العصر.
(بَينَ العِشَاءَينِ) أي: صلاة المغرب وصلاة العشاء،
وفيه جواز إطلاق اسم أحد المتقاربين أو المتناظرين عليهما على جهة التَّثنية، كما
تقول: العمران، أي: أبو بكر وعمر، والأسودان: التمر والماء، هل الماء أسود؟ لا،
ولكن غُلِّبَ عليه، ولذلك يقال: القمران، أي: الشَّمس والقمر، فهذا من باب التغليب.
وقوله: (بَينَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) فيه إطلاق
اسم المغرب واسم العشاء على هاتين الصلاتين المعروفتين.
ثم ذكر المؤلف حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما:
(أَنَّ عُمرَ جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، فَجَعَلَ
يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ)
استدلَّ به بعضهم على جواز السبِّ لهم مَا لم يَتَرتب على ذلك مفسدةٌ أكبر، وقد قال
الله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108].
وقال عمر: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي
الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمس تَغْرُبُ، فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«وَاللهِ مَا صَلَّيْتُه»)
يبدو أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ما صلَّاها نسيانًا، وليس على جهة التعمُّد
والاختيار، وذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لما صلى به جبريل في اليومين، في
أول الوقت وآخره، قال له جبريل: «الوقت ما بين هذين»[57].
(قَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ) وهو مكان بجوار
المدينة (فَتَوَضَّأَ للصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنا لَهَا
فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا
الْمَغْرِبَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ).
قد يُستدَل بهذا الحديث أو بالذي قبله على أنَّ مَن تَرَكَ صلاة واحدة فصلاها في
الوقت الذي يليها، فإنَّه حينئذ لا يكفر بمثل ذلك، ولا يلحق به شيء من المأثم، لكن
هذه الأحاديث في المعذور، حيث إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عنها ولم
يتذكرها، بل نسيها، ولذلك صلاها بعد المغرب، وهذا خارج محل النِّزاع الذي يكون بين
أهل العلم.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا رَقَدَ أَحَدُكُمْ
عَنِ الصَّلاة أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللهَ
تَعَالَى يَقُول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي﴾
[طه: 14]» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَوَقْتُهَا إِذا ذَكَرَهَ»،
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا يَثْبُت)}.
حديث أنس في صحيح مسلم، قال: «إِذا رَقَدَ أَحَدُكُمْ»
أي: نام واستغرق في نومه.
قوله: «عَنِ الصَّلاة» ليس فيه دلالة على جواز أن
يرقد الإنسان عن الصَّلاة باختياره، فإذا قَرب وقت الصَّلاة فعلى الإنسان أن ينتظر
وقتها.
قال: «أَوْ غَفَلَ عَنْهَ» يعني: نسيها.
«فَلْيُصَلِّهَا إِذا ذَكَرَهَ» يُصلي فعل مضارع
مَسبوق بلام الأمر، فتكون هذه الصيغة مِن صِيغ الأمر، فيفيد الوجوب والتَّحتُّم.
قوله: «فَلْيُصَلِّهَا إِذا ذَكَرَهَ» فيه إيجاب أداء
الصَّلاة المنسيَّة، فإنَّ الله تعالى يقول: ﴿وَأَقِمِ
الصَّلاة لِذِكْرِي﴾، ﴿وَأَقِمِ﴾: فعل أمر.
﴿الصَّلاة لِذِكْرِي﴾: للعلماء قولان في تفسير هذه
اللفظة:
الأول: من أجل أن تذكرني، وتكون اللام لام التعليل.
الثاني: لِذِكْرِي، أي: متى ذكرتني.
وهذه الآية فيها: أنَّ النَّاسي والنائم عن الصَّلاة لا يؤاخذ بذلك مَتَى بَذَلَ
الأسبَاب التي تجعله يؤدي الصَّلاة في وقتها.
وهنا إشكالية، وهي أنَّ هذه الآية في سورة طه، في قصة موسى -عليه السلام- ولذلك
احتجَّ جماعة مِن أهل العلم بهذا الحديث على أنَّ شَرْعَ مَن قَبلنا شرع لنا؛ لكون
النَّبي صلى الله عليه وسلم قد استدل بآية متعلقة بشرع مَن قبلنا.
ثم ذكر حديث أبي هريرة، وقد بيَّنَّا أنَّه لا يَصِح أن يعوَّل عليه.
يبقى هنا مسألة، وهي متعلقة بالأحاديث الماضية: مَن صلى في الليل صلاةً نهاريَّة،
فهل يجهر أو لا؟ ومَن صلَّى في النَّهار صلاة نهاريَّة، فهل يجهر أو لا؟
إذن هل المعتبر الوقت نهارًا وليلًا، بحيث يُجهر بصلاة الليل، وَيُسَرُّ بصلاة
النَّهار؟ أو أنَّ المعوَّل عليه ما جاءنا في الدليل الشَّرعي من فعل النَّبي صلى
الله عليه وسلم؟
فنقول: الأصل أنَّ القَضَاءَ يُحاكي الأداء ويماثله، ولو كانت هناك مخالفةٌ بين
القضاء والأداء، لذكرها النَّبي صلى الله عليه وسلم.
{(وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ
مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا
حَتَّى إِذا كَانَ وَجْهُ الصُّبح عَرَّسْنَا، فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَا حَتَّى
بَزَغَتِ الشَّمس، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو بَكْرٍ،
وَكُنَّا لَا نُوقِظُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنَامِهِ إِذا نَامَ
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ اللهِ صلى
الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى
اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَأَى
الشَّمس قَدْ بَزَغَتْ، قَالَ: «ارْتَحِلُوْ»،
فَسَارَ بِنَا حَتَّى إِذا ابْيَضَّتِ الشَّمس، نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ
قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَسَارَ لَيْلَةً حَتَّى إِذا أَدْرَكنا الْكَرَى
عَرَّسَ، فَذكرَ حَدِيثَ النَّومِ عَنِ الصَّلاة، وَفِيه: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم: «تَحَوَّلُوا عَنْ مَكَانِكُمْ الَّذِي
أَصَابَتْكُم فِيهِ الْغَفْلَةُ» قَالَ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّن
وَأَقَامَ وَصَلَّى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَحدٌ
الْأَذَانَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ إِلَّا الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبَانُ
الْعَطَّارُ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَقدْ ذَكَرَ مُسلمٌ الحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ
يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّب، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ،
وَقَالَ فِيهِ: وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلاة، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبح،
وَلم يَذْكُرِ الْأَذَانَ)}.
هذان الحديثان متعلقان بحادثةٍ وقعت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم في أحدِ
أسفاره، قال عمران: (كُنْتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم
فِي مَسِيرٍ لَهُ)
يُستفاد منه: استحباب رفقة أصحاب الفضل والعلم في الأسفار من أجل أن يُستفاد منهم.
قوله: (فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَ) أي: سرنا في الليل،
والأصل أن يُطلق لفظ الإدلاج على السير أول الليل.
قوله: (حَتَّى إِذا كَانَ وَجْهُ الصُّبح) أي: قرب
وقت صلاة الفجر.
قوله: (عَرَّسْنَ) أي: نمنا على جانب الطريق.
قوله: (فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَ) أي: جاءنا النوم.
قوله: (حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمس) وفي بعض الروايات
أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وكَّل بلالًا ليحفظهم، فنام رضي الله عنه، فلمَّا
استيقظ، قال: «ليس في النَّوم تفريط، إنَّما التفريط في
اليقظة»[58].
قال: (حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمس) البزوغ: ظهورُ أول
الشَّمس.
فقال عمران: (فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو
بَكْرٍ) فيه فضيلة أبو بكر.
قال: (وَكُنَّ) يعني: من طبيعتنا ومن عادتنا
(وَكُنَّا لَا نُوقِظُ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنَامِهِ إِذا نَامَ
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ) يعني: يستيقظ بنفسه.
قال: (ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ
اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ)
لماذا؟ لكي يستيقظ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مشروعيَّة التَّكبير
للتَّنبيه.
قال: (حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ) يعني: بعد منامه (وَرَأَى
الشَّمس قَدْ بَزَغَتْ، قَالَ: «ارْتَحِلُوْ»)
يعني: انتقِلوا مِن مكانكم الذي أنتم فيه إلى مكانٍ آخرٍ. لماذا؟
قيل: إنَّ هذا الوقت لم يكن وقت صلاة، بل كان من أوقات النهي المغلَّظ، فأخَّر
الصَّلاة لأنَّ وقت النَّهي المغلَّظ لا يُستحب فعل الصَّلاة المقضيَّة فيه.
قال: (فَسَارَ بِنَا حَتَّى إِذا ابْيَضَّتِ الشَّمس)
أي: انتقلنا مِن مَكاننا إلى مَكان آخر، فلما ابيضَّت الشَّمس، أي: ارتفعت ولم تعد
صفراء، لأنَّها أول ما تخرج تكون صفراء.
قال: (نَزَلَ) يعني: من راحلته.
(فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ) أي: صلى بنا صلاة الفجر.
قال: (فَصَلَّى بِنَ) أي: كان لهم إمامًا.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ) هذا في السَّنة
السَّابعة، وكانت خيبر في الخامسة، قال: (فَسَارَ لَيْلَةً)
أي: استمرَّ في السَّير في الليل، (حَتَّى إِذا أَدْرَكنا
الْكَرَى) أي: لحقنا النُّعاس والرَّغبة في النَّوم.
قال: (عَرَّسَ) يعني: نام في جانب الطريق، في آخر
الليل (فَذكرَ حَدِيثَ النَّومِ عَنِ الصَّلاة، وَفِيه:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَحَوَّلُوا
عَنْ مَكَانِكُمْ الَّذِي أَصَابَتْكُم فِيهِ الْغَفْلَةُ») فيه
مشروعيَّة أن ينتقل الإنسان من مكانه الذي نَام فِيه عَن الصَّلاة.
(قَالَ: فَأَمَرَ بِلَالً) النَّبي صلى الله عليه
وسلم صاحب الولاية، وبلال في ولايته، وحينئذٍ فرض على بلال أن يؤدي الأذان
والإقامة.
أمَّا الإقامة فلا إشكال فيها؛ لأنَّها إعلام للحاضر. ولكن هل أذَّن بلال؟ وهل
يُشرع الأذان للصَّلوات المقضيَّة؟
هناك ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: لا يُشرع الأذان في وقت الصَّلاة المقضية. لماذا؟
لأنَّ وقت الأذان هو أول الوقت، فكونه يؤذِّن بعد الوقت، فهذا ليس وقتًا له.
واستدلوا على ذلك بأنَّ الأذان لِإعلام البعيدين، والإقامة لإعلام الحاضرين،
والبعيدين لا يحتاج إلى إعلامهم؛ لأنَّ المفروض أنَّهم قد أدُّوا هذه الصَّلاة في
أوائل وقتها، وبالتَّالي فإنَّ المعوَّل عليه هذا الخبر هل أذن بلال أو لم يؤذن؟
أهل الحديث مختلفون في ذلك.
قال: (فَأَذَّن بلال وَأَقَامَ وَصَلَّى النَّبي صلى الله
عليه وسلم)، تلاحظون أنَّ الضَّمائر في عودها تختلف في من تعود عليه، ويُفهم
هذا من السياق.
من الذي أذن؟ بلال رضي الله عنه.
من الذي أقام؟ بلال رضي الله عنه.
من الذي صلى؟ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فاختلف عودُ هذه الضمائر، والمقصود أنَّ
هذا كان في صلاة الفجر.
{(بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلاة
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: «وَقْتُ الظُّهْرِ إِذا زَالَتِ الشَّمس وَكَانَ
ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوقْتُ الْعَصْرِ: مَا
لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمس، وَوقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ: مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ،
وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ
الصُّبح: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمس، فَإِذا طَلَعَتِ
الشَّمس فَأمْسِكْ عَنِ الصَّلاة فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَينَ قَرْنَي شَيْطَان»،
وَفِي لَفظٍ: «وَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِذا غَابَتِ
الشَّمس مَا لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ
مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ،
ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاة، لَا
يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ رَافعِ بنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: «أَصْبِحُوا بِالصُّبح؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ
لأُجُورِكُم، -أَو- أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ
وَابْنُ حِبَّان وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ -وَلَفظُهُ-:
«أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ -أَو
قَالَ- لِأُجُورِكُم»)}.
هُنا ذَكَرَ المؤلف عددًا من الأحاديث. قال: (بَابُ
مَوَاقِيتِ الصَّلاة)، المراد به: الوقت الذي تجب فيه الصَّلاة، والوقت الذي
ينتهي فيه وقت الأداء. ومواقيت: جمع لميقات، والميقات قد يطلق على الزَّمان
والمكان، والمراد هنا الزَّمان.
وقوله: (الصَّلاة) المراد بها: الصَّلوات الخمس
المفروضة؛ لأن البحث هنا فيها فقط.
ثم ذكر المؤلف حديث عبد الله بن عمرو: (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَقْتُ الظُّهْرِ إِذا زَالَتِ
الشَّمس وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ»)
إذن البداية إذا زالت الشَّمس، فإذا انتقلت الشَّمس من كبد السَّماء إلى جهة
المغرب، فقد دخل وقت الظهر.
قوله: «وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ
الْعَصْرُ» آخر وقت الظُّهر أن يصيرَ ظلُّ كل شيء مثلَه، وذلك بعد خصم ظلِّ
الزَّوالِ.
والعصر يبتدئ من صيرورة ظل كل شيءٍ مثله، وينتهي باصفرار الشَّمس، هذا الوقت يُقال
له: وقت اختياري، يعني لأهل الاختيار. وبالتَّالي متى يبتدئ وقت العصر؟
قال الجمهور: يبتدئ وقت العصر بصيرورة ظلِّ كلِّ شيءٍ مثله.
وعند الإمام أبي حنيفة: بصيرورة ظل كل شيءٍ مثليه. وقول الجمهور أظهر؛ لهذا الحديث
وغيره.
متى ينتهي وقت العصر؟
- الوقت الاختياري ينتهي باصفرار الشَّمس.
- وأما الوقت الاضطراري لأهل الأعذار، فإنَّه
يستمر حتى غروب الشَّمس.
وقت صلاة المغرب متى؟ نقول: يبتدئ بغروب الشَّمس.
متى تُعدُّ الشَّمس غائبة؟ هل هو بغياب قرصها؟ أو بغياب حجبها؟ فالشَّمس دائرية،
متى نعدُّ الشَّمس قد غربت؟ هل هو بغياب الدائرة التي في نصفها المركز؟ أو بغياب
جميع القرص؟
عند الفلكين: الغروب بغياب الوسط. وعند الشرعيين: غياب الشَّمس يكون بغياب جميعِ
قرصِ الشَّمس، إذن نفرِّق بين المصطلحين في الغروب.
متى يبتدئ وقت صلاة المغرب؟ بغروب الشَّمس كاملةً.
متى يستمر وقت المغرب؟ يستمر إلى غياب الشفق الأحمر، وهذا هو مذهب الجمهور. وقيل
الشَّفق الأبيض؛ لأن الشفق ثلاثة أنواع: شفق أبيض، ثم يأتي بعده شفق أحمر، ثم يأتي
بعده شفق أسود. فالشفق الأسود هذا لا يعوَّل عليه.
قال: (وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) متى يبتدئ وقت
صلاة العشاء؟ بانتهاء وقت المغرب، وهو بغياب الشفق الأحمر، فيبتدئ وقت صلاة العشاء،
وهذا يختلف باختلاف البلدان.
قال: (إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ) متى ينتهي
وقت صلاة العشاء؟
قال أحمد والشافعي: إلى ثلث الليل.
وبعضهم يقول: إلى الفجر.
والصواب: أنَّ الوقت الاختياري ينتهي بنصف الليل لهذا الحديث وما ماثله. أما الوقت
الاضطراري فإلى طلوع الفجر، كما لو كانت هناك امرأة حائض، فطهرت، فحينئذ نقول: وقت
الاضطرار يستمرُّ إلى طلوع الفجر.
قال: (وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبح: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا
لَمْ تَطْلُعِ الشَّمس) إذن نهاية وقت صلاة الفجر تكون بطلوع الشَّمس.
متى تعدُّ الشَّمس طالعة؟ إذا طلع أول قرص منها، فبمجرد بزوغها يُعدُّ أنَّ الصُّبح
قد طلع، وهذا واضح.
لكن متى يبتدئ وقت الفجر؟ هناك فجران: فجر كاذب، وفجر صادق.
النوع الأول: الفجر الكاذب، يخرج ضوءٌ من المشرق، ثم يذهب حتى يتوسَّط في كبد
السَّماء، ثم يخبو ويعود إلى الظلمة مرة أخرى، هذا يُقال له: فجر كاذب، ولا علاقة
له بالأحكام الشَّرعيَّة.
النوع الثاني: الفجر الصادق، وقد شبَّهه النَّبي صلى الله عليه وسلم بذنب
السرحان[59] وهو الذئب- متى يبتدئ هذا الفجر الصادق؟ الفجر الصادق أول ما يظهر يبزغ
نور في جهة المشرق، يغطي جهة مشرق الشَّمس، ثم بعد ذلك يذهب من المشرق إلى أن
يتوسَّط في كبد السَّماء، ثم ينتشر في الأفق.
متى يُعدُّ أنَّ الفجر قد دخل؟
بعض العلماء قال: لا يُعدُّ الفجر قد دخل إلا بانتشاره.
وبعضهم قال: يكفي توسطه في كبد السَّماء.
وبعضهم يقول: بمجرد بزوغه نَعُدُّ أن صلاة الفجر قد دخل وقتها.
ولعل القول الثالث هذا أرجح، فقد ثبت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة
الفجر بعد بزوغ الفجر، كما في صلاته في مزدلفة، كما رواه عبد الله بن مسعود.[60]
قال: «فَإِذا طَلَعَتِ الشَّمسُ فَأمْسِكْ عَنِ الصَّلاة
فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَينَ قَرْنَي شَيْطَان»، إذن لماذا جعل أوقات النَّهي؟
من الحكم في هذا: النهي عن مشابهة المشركين، الذين يسجدون للقمر، أو للشمس، فإنَّهم
يسجدون لها أول طلوعها.
هناك خلاف فقهي في صلاة الفجر، أيهما أولى: أن نقدِّم صلاة الفجر أو أن نؤخرها؟
الأصل أنَّ الأفضل في الصَّلوات هو التَّقديم، وأن تؤدَّى في أول الوقت؛ لأنَّه
الغالب مِن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله تعالى:
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، لكن يبقى عندنا وقتان، أولهما
وقت الفجر، فأيهما الأفضل أن يؤدى في أول الوقت؟ أو أن يؤخر؟
قال الجمهور: الأفضل أن يُبَكَّرَ به. وقال الحنفيَّة: الأفضل أن يؤخَّر.
دليل الجمهور هو: حديث عائشة (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ
يَشْهَدْنَ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ)[61]
ويُستفاد منه: جواز أن تصلي المرأة صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد.
قال: (مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ) نوع من أنواع
الثياب (مُتَلَفِّعَاتٍ) أي: قد لففنَ هذه الثياب على
أجسادهن.
(ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ) أي: يرجعن
(إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاة، لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ
الْغَلَسِ) الغَلَس: هو الظُّلمة، ومعناه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم
كان يُصلي بالغَلَس، وكان إذن يُبَكِّر بالصَّلاة.
وأورد من حديث رافع بن خديج، دليلًا لمذهب الحنفيَّة،
«أَصْبِحُوا بِالصُّبح»، قالوا: هذا دليل على أنَّه يؤخِّر صلاة الصُّبح حتى
ينتشر النور في الأفق.
قوله: «أَصْبِحُوا بِالصُّبح» أي: انتظروا بصلاة
الصُّبح حتى يكون هناك نورٌ وصباحٌ.
قال: «فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأُجُورِكُم، -أَو- أَعْظَمُ
لِلْأَجْرِ»، قد تقدَّم أنَّ أهل العلم تكلَّموا في هذا الخبر، وفي بعض
ألفاظه: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ
فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ -أَو قَالَ- لِأُجُورِكُم».
كيف نجمع بين هذه الأدلة؟
- هناك مَن قال: يبتدئها بغلس، وينهيها مع
الصُّبح والنور.
- وقد رجَّح الحنفية التأخير.
- والجمهور رجَّحوا التَّبكير والتَّقديم.
- وهناك مَن قال: حديث
«أَصْبِحُوا بِالصُّبح» يعني: صلُّوها بعد أن يدخل الفجر؛ لأنَّ هذا هو
الصَّباح.
ولعلَّ القول باستحباب تبكير صلاة الفجر أقوى، وهذا هو مدلول الأحاديث السَّابقة.
أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا وإياكم
الهداة والمهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
-------------------
[51] أبو داود والنسائي وصححه الألباني
[52] أخرج أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عن أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا
يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ".
[53] أخرجه البخاري عن طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قال: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ
ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى
دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"
فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ" قَالَ:
هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم "الزَّكَاةَ" قَالَ: هَلْ
عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ: فَأَدْبَرَ
الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"
[54] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "فُرِضَتْ عَلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصَّلوات لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ خَمْسِينَ، ثُمَّ نَقَصَتْ حَتَّى
جُعِلَتْ خَمْسًا، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُحَمَّدُ إنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ
لَدَيَّ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ خَمْسِينَ".
[55] رواه مسلم في الصحيح، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه عن أبيه
[56] رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
[57] سنن أبي داود (33003)، وصححه الألباني.
[58] سنن أبي داود (441)، وصححه الألباني، وأصله في
الصحيحين.
[59] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الفجرُ فجرانِ، فأمَّا الفجرُ الذي يكونُ كذنَبِ السَّرْحانِ فلا يُحِلُّ الصلاةَ،
ولَا يُحَرِّمُ الطعامَ، وأَما الفجرُ الذي يذهبُ مُسْتَطِيلًا في الأفُقِ، فإِنَّه
يُحِلُّ الصلاةَ، ويُحَرِّمُ الطعامَ" [صحيح الجامع].
[60] أخرج مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قال: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا
إِلَّا صَلَاتَيْنِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ
يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا" ومَعْنَاهُ: أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي وَقْتِ
الْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، الَّتِي هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ
قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْمُعْتَادِ، وَلَكِنْ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وقال النووي: وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي
بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ
الْفَجْرُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ هَذِهِ السَّاعَةَ"
[61] البخاري (546) عن عائشة رضي الله عنها.