الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين،
أمَّا بعد:
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيُّها الأعزَّاء مِن الحاضرين والمُشاهدين.
لقاؤنا في هذا اليوم هو اللِّقاء الثَّالث عشر في شرح كتاب "المحرر" للعلَّامة
الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا قد ابتدأنا ودخلنا في كتابِ الصَّلاة وابتدأنا ببابِ الأذانِ، وأخذنا شيئًا
مِن الأحاديثِ المتعلِّقةِ بالأذانِ، ولعلَّنا -بإذن الله عزَّ وجلَّ- أن نُواصل
البحثَ في ذلك.
نقرأ حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه المتعلِّق بالالتفات في الحيعلتين، أي: عند قول
"حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح".
فتفضل مشكورًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعين والمشاهدين، ولجميع
المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ عَوْنِ بنِ أَبي
جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّه رَأَى بِلَالًا يؤذِّن فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ
فَاهُ هَاهُنَا، وَهَاهُنَا يَقُولُ: -يَمِينًا وَشمالًا- يَقُولُ: حَيَّ عَلَى
الصَّلاة، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَفِيهِ: فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاة حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ، لَوى
عُنُقَهُ يَمِينًا وَشمالًا، وَلَمْ يَسْتَدِرْ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمدَ
وَالتِّرْمِذِيِّ: رَأَيْتُ بِلَالًا يؤذِّن [وَيَدُورُ]، وأَتَتَبَّعُ فَاهُ
هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: "حَدِيثٌ
حَسنٌ صَحِيحٌ"، وَلابْنِ مَاجَهْ: فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانِهِ، وَجعلَ
إِصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ)}.
هذا الحديثُ فيه استحبابُ الالتفاتِ عندَ الحيعلتين وهي قول المؤذِّنُ في الأذان:
"حي على الصَّلاة، حي على الفلاح"، ومِن المعلوم أنَّهم في الزَّمان السَّابق كانوا
يُؤذِّنون في المنارة - أعلى مكان في المَسجِد- مِن أجل أن يستمع النَّاس، وفي
زماننا الحاضر أصبحَ المؤذِّنون يُؤذِّنون في مكان الصَّلاة، وذلك لوجودِ مكبِّراتِ
الصَّوتِ، بحيثُ تُوضع آلاتُ تكبيرِ الصَّوتِ في أعلى المَسجِد ليستمع إليها
النَّاس، وكانوا في الزَّمان السَّابق يُشرع للنَّاس أن يلتفوا في الحيعلتين مِن
أجل أن ينتشرَ الصَّوتُ في جميعِ الجهاتِ.
واختلفَ أهلُ العلم في كيفيَّةِ هذا الالتفاتِ، والجمهور على أنَّه يلتفتُ يمينًا
وشِمالًا كما في الحديث المتَّفق عليه، ومعناه أنَّه لم يكن يجعل القبلة في خلفه،
وإنَّما يلتفت يمينًا وشِمالًا.
وروايةُ أبي داود صريحةٌ بهذا، حيث قال: (وَلَمْ يَسْتَدِرْ)
لكن رواه ابن ماجه، فقال فيه: (فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانِهِ)
وروايةُ أبي داود أصحُّ وأرجح مِن رواية ابن ماجه فقُدِّمَت عليها.
هل الالتفات يمينًا وشمالًا يكون بتَحريكِ القدمين أو بتَحريكِ أعلى البدنِ فقط؟
هذا الحديث محتملٌ للأمرين، فقد يكون حرَّك أعلى بدنِه مع بقاء قدميه ثابتةٌ في
الأرضِ، ويحتمل أن يكونَ استدارَ أو التفت يمينًا وشِمالًا بجميع بدنه.
ومَن قال إنَّه يدور بجميع بدنه استدلَّ برواية ابن ماجه
(فَاسْتَدَارَ) قال: هذا دليلٌ على أنَّه التفت بجميع بدنه إلى جهة اليمين
والشِّمال، ومن ثَمَّ جمعوا بين الروايتين: رواية أبي داود في قوله:
(وَلَمْ يَسْتَدِرْ) أي: لم يجعل قفاه إلى جهة القِبلة، ورواية ابن ماجه
(اسْتَدَارَ) بمعنى أنَّه التف بجميع بدنه يمينًا وشمالًا.
وتعلمون أنَّ في زماننا الحاضر أصبح المؤذِّنون يؤذِّنون في مكبِّراتِ الصَّوتِ،
فقد يقول قائلٌ منهم: لو التفتَ المؤذِّنُ يمينًا وشمالًا لأدَّى ذلك إلى أن لا
يَصل الصَّوتُ عند الحيعلتين.
ولذلك بعضُ علماء العصر قالوا: يتقدَّم فيلتفتُ يمينًا على جهة مكبِّر الصَّوت، ثم
يتقدم مع الجهة الأخرى فيلتفت شمالًا.
وقال بعضهم: يدورُ بمكبِّر الصَّوت معه.
وبعض أهل العلم قال: هذا الحكم مرتبطٌ بعلَّة، وهي: وصول الصَّوت إلى جميعِ جهاته،
وهذا لا يتحقَّق في الالتفات مع وجود مكبِّراتِ الصَّوتِ.
وينبغي أن يُلاحظ أنَّ مِن الحِكَم التي شُرعَ من أجلها الالتفاتُ يمينًا وشمالًا
عند الحيعلتين: أن تتغيَّر درجةُ الصَّوت، فإنَّ تغيُّر درجة الصَّوت يجعل النَّاس
يلتفتون وينتبهون لذلك الصَّوت، بخلافِ ما لو بقيَ على وتيرةٍ واحدةٍ.
وفي هذا الحديث أيضًا حكمان آخران، وهما:
الحكم الأول: استحبابُ سكوتِ النَّاس عند أذان المؤذِّن، فإنَّ أبي جحيفة رضي الله
عنه قال: (رَأَيتُ بِلَالًا يؤذِّن فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ
فَاهُ) معناه: أنَّه اشتغل بالالتفات إليه وترك الاشتغال بغيره.
الحكم الثَّاني فهو: في قوله: (وأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ)
ففي هذا مشروعيَّة جعل الأصبعين في الأذنين عند الأذان، وذلك مِن أجلِ أن يكون
صوتُه أعلى، ومِن أجل أن لا تتأثَّر أذُناه بالصَّوت الذي يُصدِره عند الأذان.
ويُلاحظ أيضًا في رواية أبي داود أنَّه قال: (لَوى عُنُقَهُ)
فظاهر هذا أنَّ قدميه كانتا ثابتتين في مكانهما، وأنَّ الالتفات إنَّما كان بأعلى
البدن دون أسفله.
{أحسن الله إليكم.
(وَعَنْ أَبي مَحْذُورَة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم أَمَرَ نَحْوًا مِنْ عِشْرينَ رَجُلًا فَأَذَّنُوْا،
فَأَعْجَبَهُ صَوتُ أَبي مَحْذُورَةَ، فَعَلَّمَهُ الْأَذَانَ. رَوَاهُ
الدَّارمِيُّ فِي "مُسْنده"، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحه")}.
في هذا الحديث:
- مشروعيَّة اختبار المتقدِّمين للأعمال
الشَّرعيَّة الدِّينيَّة كالأذان، واختيار الأفضل منهم.
- اهتمام صاحبُ الولايةِ العظمى بأمور النَّاس
الدِّينيَّة، ولذا اهتمَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بمَن يُختَارُ للأذان.
- جواز إقامة لجان التَّحكيم لاختيار مَن هو
الأفضل.
- أنَّ المعوَّل عليه في كل عملٍ مَن يكون مِن
أصحابه مُتقنًا له، فإنَّه قد عُوِّل على الصَّوت هنا. وقد جاء في الأحاديث ذكرُ
عددٍ من الصِّفات التي يُرجِّح فيها بين المؤذِّنين، مِن جنسِ الأمانة، ومِن جنسِ
معرفة الوقت، ومِن جنسِ حُسن الصَّوتِ، وهكذا أيضًا مِن جنسِ اختيارِ الشَّخصِ الذي
يعرف أوقات الأذان.
- مشروعيَّة تعليم النَّاس للأحكام
الشَّرعيَّة والأعمال التي جاء بها ديننا الحنيف.
فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ أبا محذورةَ الأذان، وفي هذا دلالة على
مشروعيَّة إقامة كل وسيلة تُؤدِّي إلى تعليم النَّاس أمرَ دينِهم، سواء كان ذلك
بالدَّورات أو المحاضرات أو بالمعاهد والمدارس أو نحوها ممَّا يَأخذ حُكمها.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ:
كَانَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مؤذِّنانِ: بِلَالٌ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
الْأَعْمَى. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديثِ جوازُ اتِّخاذِ أكثر مِن مُؤذِّنٍ في المَسجِد الواحدِ، كما فَعَل
النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة بلالٍ وابن أمِّ مكتومٍ، وفيه دلالةٌ على
جوازِ كوْنِ الأعمى مُؤذِّنا إذا كان يعرفُ أوقاتَ الأذانِ بواسطةِ التَّقليدِ
لغيره، أو بشيءٍ مِن الآلات التي تُرشده إلى ذلك.
وهذان المؤذِّنان لم يكونا يؤذِّنان في الوقت الواحد، بل كلُّ واحدٍ منهما يُؤذِّن
في وقتٍ يغايرُ الوقتَ الذي يُؤذِّن فيه الآخر، ولذا وَرَدَ في الحديث الآخر، أنَّ
النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ بِلالًا يؤذِّن
بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يؤذِّن ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»[67].
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ قَالَا: لمْ يَكُنْ
يؤذِّن يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ
جَابرِ بنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم العِيدَيْنِ،
غَيرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ. رَوَاهُ
مُسلمٌ)}.
هذان الحديثان فيهما أنَّ صلاة العيدِ لا يُشرع لها الأذان، لِما ورد في الحديث
الآخر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم « لَمْ يَكُنْ
يُؤَذَّنُ لَهُ فِي شَيْءٍ»[68]، وبالتَّالي لا يُشرع أن يتقدَّم قبلَ صلاةِ
العيدِ بأيِّ لفظةٍ أو بأيِّ كلمةٍ، كما فَعَل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقوله:
("لمْ يَكُنْ يؤذِّن يَوْمَ الْفِطْرِ") يعني لصلاة العيد، وفسَّره حديثُ
جابر بن سمرة بعده، قال:
("صَلَّيتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم العِيدَيْنِ،
غَيرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ").
وفي هذا دلالة على أنَّ الأذان والإقامة عبادات شرعيَّة، فلابدَّ مِن وضعِها في
محالِّها التي ورد الشَّرع بها.
{(وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ النَّومُ
عَنِ الصَّلاة، وَفِيه: ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلاة، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ
يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
حديث أبي قتادة فيه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نَامَ عَن صلاة الفجر ولم
يَستيقظ إلا بحرِّ الشَّمس، وفيه دلالة على أنَّ مَن اتَّخذ الأسباب للاستيقاظ
للصَّلاة لكنَّه لم يستيقظ، فإنَّه لا يلحقه شيء مِن المأثم بسبب ذلك، ولا تنقصُ
مكانَته بسببِ ذلك، إنَّما تنقصُ إذا لم يتَّخذ الأسبابَ لاستيقاظه للصَّلاة.
وفي الحديث جواز الأذان ومشروعيَّته بعد خروج الوقت، ففيه مشروعيَّة الأذان
للصَّلوات المقضيَّة الفائتة، كما فَعَل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر فِعْلُ
بلالٍ أنَّه بأمرِ من النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه كان معه.
وقوله: (فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
رَكْعَتَيْنِ) يعني: سنَّة الفجرِ، وفيه أنَّ مَن استيقظ للصَّلاة بعد وقتها
شُرِعَ له أن يَقضي الرَّاتبة؛ لأنَّ السُّنن الرَّواتب متعلِّقة بالفريضة، وسواء
كانت الرَّاتبة قبل الصَّلاة أو بعدها، فإنَّ صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم
لهاتين الركعتين كان بعد خروج وقت صلاةِ الفجر.
وقوله: (ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ)، أي: صلاة الفجر؛
لأنَّ الذَّهاب في أوَّل النَّهار يُقال له الغُدو.
قوله: (فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ)
ظاهره أنَّه لم يُخالف في طريقة فِعل الصَّلاة، فهذا يدلُّ على أنَّ مَن فاتته صلاة
سواء نسيها أو نام عنها؛ صلَّاها متى ذكرها أو متى استيقظ، ولا يؤخِّرها للغدِ في
نفسِ الوقتِ.
كما أنَّ الحديثَ ظاهره أنَّ الصَّلاة المقضيَّة تُفعل على هيئتها كما لو صُلِّيَت
أداءً، فصلاةُ الفجرِ مثلًا يُجهر بها، وظاهر هذا اللفظ أنَّه جَهر بصلاةِ الفجرِ
لَمَّا صُلِّيت بَعد طُلوعِ الشَّمس.
وقال بعض العلماء: إنَّ الصَّلاة المقضيَّة يلاحظُ فيها وقتَ القضاء، فلو صُلِّيت
الصَّلاة الجهرية في النَّهار بعد طلوعِ الشمس؛ استُحبَّ له أن يُسرَّ بها. لماذا؟
قالوا: لأنَّها أصبحت صلاة نهاريَّة كالظُّهرِ والعصر. لكن هذا يخالف حديث الباب،
فإنَّه قال فيه: (فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ
يَوْمٍ).
{أحسن الله إليكم.
(وَرَوى عَنْ جَابرٍ، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم:
أَنَّهُ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ
وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ)}.
(رَوَى) يعني: الإمام مُسلم، ولو قلت:
(رُوِيَ)، معناه أنَّك تُضعِّف الخبر؛ لأنَّها صيغة تمريض وتضعيف، والصَّواب
أن تقول: (وَرَوَى) أي: مسلم، فالضَّمير يعود على
الإمام مسلم؛ لأنَّه هو الذي أخرج الحديث الذي قبله.
وحديث جابر في سياق حجَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكرُ كيف كانت الصَّلاة
في عرفة، وكيف كانت الصَّلاة في المزدلفة، وقد ذكر المؤلفُ صلاةَ المغرب والعشاء في
المزدلفة، ولم يذكر صلاةَ العصرِ والظُّهر في عرفة اكتفاءً لما ورد في المزدلفة.
قال: (أَنَّهُ) يعني: النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) أي: بعد غروب الشَّمس من يوم
عرفة.
(فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أي: أنَّ
النَّبي صلى الله عليه وسلم كان مُسافرًا فجمع بين الصَّلاتين، وقصر صلاة العشاء.
(بِأَذَانٍ وَاحِدٍ) للصَّلاتين،
(وَإِقَامَتَيْنِ) فَأَخَذَ مِن هذا أنَّه يؤذِّن للصَّلاتين المجموعتين
بأذانٍ واحدٍ ويُقام لكلِّ صلاةٍ لوحدِها، كما هو مذهب الإمام أحمد.
والعلماء لهم أقوالٌ متعدِّدةٌ في هذا:
منهم مَن قال: لا يُشرع أذان.
ومنهم مَن قال: يُشرع أذانان.
ومنهم مَن قال: لا تُشرع إقامة.
ومنهم مَن قال: تكفي إقامة واحدة.
والصَّواب كما فَعَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للصَّلاتين المجموعتين، أن تكونا
بأذانٍ واحدٍ وإقامتين.
{أحسن الله إليكم.
(وَعَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ قَالَ: جَمَعَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَينَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، بِجَمْعٍ:
صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ.
رَوَاهُ مُسلمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِكُلِّ
صَلَاةٍ، وَلمْ يُنَادِ فِي الأوَّلى، وَلمْ يُسَّبِحْ عَلَى إِثْرِ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا، وَفِي رِوَايَة: وَلمْ يُنَادِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَ)}.
تلاحظ أنَّ هنا روايات للحديث -كما ذكرنا قبل قليل- ومن المعلوم أنَّ صلاة النَّبي
صلى الله عليه وسلم في المزدلفة واحدة لا يمكن أن يختلف الحال فيها، لكن مَن روى
الأذان فيها يكون قد أدركه، ومَن روى أنَّها بدون أذان، فهو لم يَحضر معهم إلا بعد
أن فَرِغ من الأذان، وبالتَّالي قال الراوي: (بدون أذان)،
كما هو ظاهر حديث ابن عمر، وإن كان حديث ابن عمر فيه تطرُّقٌ للأذان، فيمكن أن يكون
قد أغفله.
وقوله: (وَلمْ يُنَادِ فِي الأوَّلى) وفي رواية
«لَمْ يُنَادِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَ»[69] ظاهره أنَّه لم يُدرك ذلك، ومَن
روى أنَّها بأذانين، إنَّما رواه مِن حديث ابن مسعود مِن فعله رضي الله عنه فتوهَّم
الراوي أنَّه قد نَقَل ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا بالنَّسبة للإقامة، فقد جَزَم حديث جابر بإقامتين، وفي حديث ابن عمر مرةً
قال: (بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ)، ومرةً قال:
(بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ)
وبالتَّالي تُحمل رواياتُ الحديثِ التي فيها اختلاف على روايات الحديث التي ليس
فيها اختلافٌ، وبذلك تتَّسق الأحاديث الواردة في هذا.
وقوله: (وَلمْ يُسَّبِحْ) يعني: لم يُصلِّ صلاة
النَّافلة -السُّنن الرَّواتب- على إثر واحدة منهما، وذلك لأنَّ هدي النَّبي صلى
الله عليه وسلم في السَّفر: عدم فعلِ السُّنن الرَّواتب فيه، وإن كان يفعل غيرها
مِن غير السُّنن الرَّواتب، كصلاة اللَّيل، وصلاةِ الوِتر، وهكذا.
أيضًا وردَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه في الأسفار كان يُصلي سنَّة الفجر، وأنَّه
لم يكن يدعها سفرًا ولا حضرًا، فيكون هذا مُستثنًى مِن هذا الحكم.
{أحسن الله إليك.
(وعنِ ابنِ عُمر رَضي اللهُ عَنهُما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
«إِنَّ بِلَالًا يؤذِّن بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى،
لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ له: أَصبَحتَ أَصبَحتَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال: «إِنَّ بِلَالًا يؤذِّن بِلَيْلٍ»، تعلمون كما
وَرَدَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ لمسجدِه مؤذِّنيْن، أوَّلهما:
بلال. والثَّاني: ابن أم مكتوم، فقوله هنا: «إِنَّ بِلَالًا
يؤذِّن بِلَيْلٍ» استدلَّ به الجمهور على أنَّ أذانَ الفجرِ يجوز أن يكونُ
قبلَ دخولِ الوقت، وهذا خاصٌّ بالفجر، والحنفيَّة يُخالفون الجمهور في هذا.
وبعضهم قال: إنَّما يؤذَّن للأوَّلِ في المساجد التي يُؤذَّن فيها الأذان الثَّاني
بعد دخول الوقت.
وقوله: «فَكُلُوا وَاشْرَبُو» هذا الأمر للإباحة وليس
للإيجاب، وقوله: «حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»
لأنَّ ابن أم مكتوم يُؤذِّن على الوقت، وقد استُدلَّ بهذا الحديث على أنَّ الأذانَ
الأوَّل الذي قبل الوقت هو الذي يُقال فيه: "الصَّلاة خير من النَّوم"، والجمهور
يخالفون ويقولون: بلال إنَّما كان يُؤذِّن قبل الوقت في رمضان حيث يتعلق به
الصِّيام، ويدلُّ على ذلك ما تَواتَر مِن عملِ المسلمين إلى زمَاننا الحاضر في
الحرمين وغيرهما، من جعل التَّوثيب بقول "الصَّلاة خير من النَّوم" في الأذان
الثَّاني الذي يكون بعد دخول الوقت.
وأمَّا مَا وَرَدَ أنَّه يكون للأذان الأوَّل، فهذا باعتبارِ أنَّ الإقامَة يُقال
لها أذان، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ
كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ»[70].
وقوله: (وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى) يعني: ابن أم
مكتوم، وفيه جواز أن يكون الأعمى مؤذِّنًا، وقد استُدلَّ بهذا اللفظ على أنَّ
الأذان للرِّجال دون النِّساء، وأنَّه لا يُشرع أن تتولَّى النِّساء الأذانَ سواءً
لهن أو للرِّجال.
وقوله: (لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ له: أَصبَحتَ أَصبَحتَ)
فيه جوازُ التَّقليدِ في الأحكام الشَّرعيَّة لمن كان لا يستطيع الوصول للحُكمِ
الشَّرعيِّ، وفيه جوازُ اكتفاءِ المؤذِّن بالاعتمادِ على غيره في معرفةِ دخولِ
الوقتِ.
{(وَعَنْهُ: أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِي: "أَلا
إِنَّ العَبْدَ نَام" فَرَجَعَ، فَنَادَى: "أَلا إِنَّ العَبْدَ نَامَ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَذكرَ عِلَّتَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ:
"هُوَ غَيرُ مَحْفُوظٍ"، وَقَالَ الذُّهلِيُّ: "هُوَ شَاذٌّ مُخَالفٌ لما رَوَاهُ
النَّاس عَنِ ابْنِ عمر"، وَقَالَ مَالك: لَمْ تَزَلِ الصُّبْح يُنَادَى بهَا
قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَّا غَيرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فَإنَّا لَمْ نَرَ مَنْ
يُنَادِي لَـهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقتُهَ)}.
هذا الحديث ضعَّفه أهلُ العلمِ لأمرين:
الأوَّل: الكلام في بعض رواته.
والثَّاني: لمخالفة هذا اللفظ لغيره من الرِّوايات، ومنها حديث بن عمر الذي فيه
أنَّ بلالًا كان يؤذِّنُ بليل، قال: «إِنَّ بِلَالًا يؤذِّن
بِلَيْلٍ».
كلمة (بِلَيْلٍ) استدلَّ بها بعضُ أهلِ العلمِ على
أنَّ الأذان الأوَّل يجوز مِن منتصف اللَّيل، والأكثر على أنَّ الأذان الأوَّل يكون
قُبيل الأذان الثَّاني للفجرِ، وهذا الحديث فيه دلالة لمذهبِ الحنفيَّة الذين
يقولون: إنَّ الأذان للفجر لابدَّ أن يكون بعد دخول الوقت، أي: بعد طلوع الفجر.
والجمهور يجيزون الأذان للفجر قبل دخول الوقتِ لحديث بلالٍ السَّابق، ويقولون: إنَّ
هذا اللَّفظ معلول، وهو شاذٌّ غيرُ محفوظٍ.
وقول الذُّهلِيُّ: (هُوَ شَاذٌّ) يعني: أنَّ الثِّقة
قد خَالف به رواية مَن هُو أوثق منه، ومن هنا قال الإمام -رحمه الله:
(لَمْ تَزَلِ الصُّبْح) يعني: صلاة الفجر
(يُنَادَى بهَا قَبْلَ الْفَجْرِ) يعني قبل دخول
الوقت (فَأَمَّا غَيرُهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ)، أي:
الصلوات الأربع (فَإنَّا لَمْ نَرَ مَنْ يُنَادِي لَـهَا
إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ وَقتُهَ).
{أحسن الله إليكم.
(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا سَمِعْتُمُ
النداءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمؤذِّن»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ:
اللَّهُمَّ ربَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاة الْقَائِمَةِ، آتِ
مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي
وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ
البُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان وَالْبَيْهَقِيُّ:
"الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ" بالتَّعْرِيف.
وَعَنْ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: «إِذا قَالَ الْمؤذِّن: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ
أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، قَالَ: أَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاة قَالَ: لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ قَالَ:
لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ
أَكْبَرُ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
الله، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ».
رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَرَوَى عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ أَنَّه سَمِعَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذا سَمِعْتُمُ الْمؤذِّن؛
فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى
عَلَيَّ صَلَاةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ
الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ
مِنْ عِبادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ
الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف في الأذكار المتعلِّقة بالأذان، أوَّلُها: حديث أبي
سعيد، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا
سَمِعْتُمُ النداءَ» المراد بالنِّداء: الأذان، واستدلَّ الجمهور بهذه
اللَّفظة على أنَّ التَّرديد إنَّما يكون للأذان دون الإقامة، لأنَّ الإقامة لم يرد
فيها خبر بمشروعيَّة التَّرديد مع المؤذِّن فيها. والصَّواب: قول أهل العلم أنَّ
التَّرديدَ خاصٌّ بالأذان، وأمَّا الإقامة فلا يُشرع التَّرديدُ مع المؤذِّن فيها.
وقوله: «إِذا سَمِعْتُمُ» ظاهره أنَّ مشروعيَّةَ
التَّرديدِ للأذان، إنَّما تكون لِمن سمع المؤذِّن، أمَّا مَن لم يسمعه فإنَّه لا
يُشرع له التَّرديد، وبالتَّالي لو قُدِّر أنَّه لم يَستمع إِلَّا لنصف الأذان،
شُرع له أن يُردِّد مَا سمعه فقط دون مَا لم يسمعه.
وقد يأتينا سؤالٌ: هل ما يُؤتى في الإذاعات مِن الأذان المسجَّل، يُشرع لنا أن
نردِّد مع المؤذِّن فيه؟
فنقول: هذا على نوعين:
الأوَّل: إذا كان الأذان منقولًا على صِفة التَّسجيل، فحينئذٍ لا يُشرع للإنسان أن
يُردِّد معه. لماذا؟
لأنَّ هذا ليس لهذا الوقت؛ ولأنَّ هذا الأذان ليس معه نيَّة أنَّه نداءٌ للوقتِ
الحاضر، وبالتَّالي فالصَّوابُ أنَّه لا يُشرع ترديد النِّداء فيه، وهناك مِن
الفقهاء المعاصرين مَن قال إنَّه يُشرع، لكن أكثرَ علماءِ العصرِ على الأوَّل.
الثَّاني: مَن سمع أذانا في بلدٍ آخرٍ، فإنَّنا نجد الآن أنَّ وسائل الإعلام قد
تنقل الأذان من بلدان أخرى، وهذه البلدان الأخرى تخالف البلد الذي يكون فيه
السَّامع، بحيث يختلف الوقت فيما بين البلدين، فهل يُشرع له ترديد الأذان؟
نقول: ظاهر الخبر أنَّه يشرع له، لأنَّ كلمة النِّداء معرفة بـ "ال" الاستغراقيَّة
فتعمُّ كلَّ نداءٍ.
وهل هذا خاص بمسجد الإنسان الذي يصلي فيه؟ أو يُشرع له التَّرديد مع كلِّ مؤذِّن؟
الأظهر الثَّاني، لأنَّ الجميع يُعد نداءً وأذانًا.
قوله: «فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمؤذِّن» هذا
صيغة أمر، ولذلك ذهب الإمام أبو حنيفة والإمام مالك إلى وجوب إجابة المؤذِّن، ويرون
أنَّ هذا مِن الواجبات، وذهب الإمام الشَّافعي والإمام أحمد إلى أنَّه مستحبٌّ وليس
بواجبٍ، واستدلُّوا على ذلك بما ورد في صحيح مسلم، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم
سمع مؤذِّنا يؤذِّن، فلما قال: الله أكبر، قال: « عَلَى
الْفِطْرَةِ»[71]، فلما قال: أشهد أنَّ لا إله إلا الله، قال النَّبي صلى
الله عليه وسلم «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»[72].
وقوله: «فَقُولُوا مِثْلَ» ظاهره أنَّه يُردِّدُ جميع
ألفاظ الأذان بمثلها، وقد وردت أحاديث تدلُّ على أنَّه عند الحيعلتين، يقول: "لا
حول ولا قوة إلا بالله"، وبالتَّالي قلنا هذا مستثنًى من حديث الباب، فعند قول: "حي
على الصَّلاة، حي على الفلاح" يقول المجيب: "لا حول ولا قوة إلا بالله" لورود ذلك
عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
تبقى معنا لفظة" الصَّلاة خير من النوم" إذا قالها المؤذِّن، ماذا نقول في تَردادِ
الأذان؟
قال بعض الفقهاء: يقول صدقتَ وبررتَ.
لكن هذه اللفظة لم تثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نقول بمشروعيَّة
قولٍ أو فعلٍ إلا عند وروده عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أو ورود ما يُماثله فيما
يصحُّ أن يجري فيه القياس، ولذا فالصَّواب أنَّ المؤذِّن إذا قال: "الصَّلاة خير من
النوم" أن نقولَ مثل قوله: "الصَّلاة خير من النوم".
ثم ذكر حديث جَابرِ بنِ عبدِ الله- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وهو عند الإمام البخاري
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ
حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ» المراد بلفظة "النِّداء": الأذان، لأنَّ هو الذي
يُنادَى به، ولا تدخل الإقامةُ في هذا، وهذا الذِّكرُ إنَّما يُشرع لِمن سمع
المؤذِّن يؤذِّن، أما مَن لم يسمع، فإنَّه لا يُشرع له أن يقول هذا اللفظ.
إذا استمع لبعض ألفاظ الأذان، فهل يقول هذا الذِّكر؟
إن كان ما سمعه آخرُ الأذانِ فلا بأس. ولكن إن كان ما سمعه أوَّل الأذان فهنا وقع
تردُّدٌ بين العلماء، هل يشرع له أن يقول هذا الذكر وهذه الدعوة أو لا.
قوله: «اللَّهُمَّ» أي: يا الله
«ربَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ» الربُّ: يعني الذي أوجد وأنعم.
قوله: «وَالصَّلاة الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا
الْوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ»
فسَّرها بأنَّها منزلة للجنَّة لا تنبغي إلا له.
قوله: «وابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»
ورد عند البيهقي زيادة
« إنك لا تخلف الميعاد» وهذه الزِّيادةُ حسنةُ
الإسنادِ، ووقع تردُّدٌ بين العلماءِ في زيادة هذا اللفظ.
فقال طائفة: الصَّحيح أنَّ هذه اللفظة لم ترد، وبالتَّالي تكون هذه لفظةٌ شاذَّة،
لأنَّ الراوي الصَّدوق قد خالف الرُّواة الثِّقات.
وقال آخرون: إنَّها زيادةُ راوٍ مقبول الرِّواية، وبالتَّالي تكونُ مشروعة.
قوله: «حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي» أي: سؤالي لربِّ
العزَّة والجلالِ أن يرفعَ درجتَه أو أن يُبعده من نار جهنَّم، قال:
«حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال: (وعند النِّسائي «الْمَقَامَ
الْمَحْمُودَ») بدل «وابْعَثْهُ مَقَامًا
مَحْمُودً» وأيُّهما أولى؟ "مقام" بالتَّنكيرِ أو "المقام" بالتَّعريف؟ هنا
موطن خلاف بين العلماء:
فبعضهم رجَّح روايةَ التَّنكير؛ لأنَّها عند البخاري؛ ولأنَّه مقام يجهله النَّاس،
فتتطلَّع النُّفوسُ إلى معرفة حقيقته، بخلاف ما لو قال:
«الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ»
فإنَّ الألف واللام تكونُ للعهدِ.
ذكر المؤلف حديثَ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ، وفيه تَرديدُ ألفاظَ الأذان، وقد
استُدِلَّ بحديث عمر على أنَّ التَّكبيرتان تُنطقانِ بنَفَسٍ واحدٍ، وهذا مِن
مواطنِ الخلاف بين أهل العلم:
فمنهم مَن قال :كلُّ تكبيرةٍ بنَفَسٍ، ويقطع بين التَّكبيرةِ والتَّكبيرةِ. يقول:
"اللهُ أَكْبَرُ- اللهُ أَكْبَرُ"، يقطع بينهما بنَفَسٍ
ومنهم مَن قال: يجمع بين التَّكبيرتين. يقولها هكذا: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ
أَكْبَرُ" مجموعتين.
وفي حديث عبد الله بن عمر مشروعيَّة الصَّلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد
الأذان.
{أحسن الله إليك.
{(وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ، أَنَّه قَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، قَالَ: «أَنْتَ
إمَامُهُمْ، واقْتَدِ بِأَضْعَفِهِم، وَاتَّخِذْ مؤذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى
أَذَانِهِ أَجْرً» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: "عَلَى شَرطِ مُسلمٍ"، وَفِي رِوَايَة:
أَنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إلىَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَّخِذَ مؤذِّنًا
لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا. رَوَاهُ ابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ
-وَحَسَّنَهُ-)}.
قال حديث عثمان فيه جواز أن يطلب الإنسان الولاية الدِّينيِّة إذا غلب على ظنِّه
أنَّه الأصلح لها، وإذا ظنَّ أنَّه سيقوم بواجباتها، ولذا قال عثمان:
(اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي)، يعني: في الصلاة، فقَالَ:
«أَنْتَ إمَامُهُمْ، واقْتَدِ بِأَضْعَفِهِم») فيه مشروعيَّة ملاحظة
الإمام لأحوال المأمومين، وملاحظة أهل الضَّعف منهم.
وقوله: «وَاتَّخِذْ مؤذِّنً» فيه مشروعيَّة اختيار
المؤذِّنين، وفيه أنَّ الإمام ينبغي به أن يختار الأذان.
وفي قوله لعثمان: «وَاتَّخِذْ مؤذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى
أَذَانِهِ أَجْرً» هذا باعتباره صاحبَ ولاية أو باعتباره إمامًا للصَّلاة؟
موطن خلاف بين العلماء.
وقوله «لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرً» استدلَّ
بها أبو حنيفة وأحمد على عدم جواز أخذ الأجرة على أفعال القُرَب، وذهب الإمام مالك
والإمام الشَّافعي إلى جوازِ أخذِ الأجرة، واستدلُّوا على ذلك بقول النَّبي صلى
الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ»[73].
وقوله هنا: (آخِرَ مَا عَهِدَ إلىَّ النَّبي صلى الله عليه
وسلم) كأنَّه يُشير إلى أنَّ هذا آخر الأمرين من النَّبي صلى الله عليه
وسلم، ويلاحظ أنَّ لفظة "الأجر" لها مدلول، ولذلك قال العلماء: إنَّ الرزق الذي
يُدفع من بيت المال لا يُعد من الأجر، لأنَّ ذلك مُعدٌّ لمصالح المسلمين، وهذا مِن
مصالحهم، ثم إنَّ المؤذِّن قد حبس نفسه على هذه الوظيفة وهذه المهمَّة، فبعضهم قال:
قد تكون الأجرة على حبسه لنفسه لا على أذانه، ولذا قال هنا:
«لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرً».
{أحسن الله إليك.
(بَابُ شُرُوطِ الصَّلاة
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحدِكُم إِذا أَحْدَثَ حَتَّى
يَتَوَضَّ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قول المؤلف: (بَابُ شُرُوطِ الصَّلاة) شَرْطُ
الشَّيء: أمر سابق له لا يُحكم به إلا عند وجوده، والمراد بشروط الصَّلاة: أي
الأمور التي لا تصحُّ الصَّلاةُ إلا بها، وللصَّلاة شروطٌ متعدِّدةٌ لابد أن تكون
موجودة قبل الصَّلاة، وأن يستمرَّ حكمها في أثناء الصَّلاة.
ومن شروط الصَّلاة: الطَّهارة، فالطَّهارة تشمل رفع الأحداث، كالغسل من الجنابة
والوضوء عند وجود النَّواقض، وتشملُ إزالة النَّجس والخبث، وقد قال الله تعالى:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4].
أورد المؤلف هنا حديث أبي هريرة «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ
أَحدِكُم»، القبول بمعنى: نفي الأجر ونفي الصِّحة، قد يُطلق مرات لفظ "عدم
القبول" على نفي الأجر دون نفي الصِّحة، لكن هذا لا يكون إلا لدليلٍ، وإلا فالأصل
أنَّ نفي القبول يدلُّ على نفيِ الأجر ونفيِ الصِّحة معًا.
قال: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحدِكُم» الصَّلاة
هنا تشمل جميع الصَّلوات، لأنَّها اسمُ جنسٍ مضافٌ إلى معرفةٍ، فيشمل صلاةَ
الفريضةِ وصلاةَ النَّافلةِ.
وقوله: «صَلَاةَ أَحدِكُم» هنا أيضًا لفظٌ عامٌ،
فيشمل الرِّجال والنِّساء، الحاضرين والمسافرين.
وقوله: «إِذا أَحْدَثَ» أي: إذا انتقضَ وضوئه، كما لو
خرج منه الرِّيح.
قال: «حَتَّى يَتَوَضَّ» "حتى" حرف غاية ومعناه أنَّه
بعد الوضوء تُقبل صلاته، وهذا قد قُيد بأحاديثٍ أخرى ونصوصٍ أخرى تدلُّ على إيجاب
أركان الصَّلاة وعلى وجود شروطٍ أخرى للصَّلاة.
وبالتَّالي لا يصحُّ للإنسانِ أن يصليَ إلا إذا كان مُتطهرًا، ومَن صلَّى غيرَ
متطهِّرٍ، فإنَّ صلاتَه باطلةٌ لا تصحُّ، إلا مَن لم يجد الوضوءَ، فإنَّه حينئذٍ
ينتقل إلى التَّيمم.
مَا حُكم مَن صلى بغير وضوء؟
صلاته باطلة بالاتِّفاق. لكن هل تؤثِّر على صاحبها؟
قال الحنفيَّة: نعم، يَكفرُ بذلك؛ لأنَّه يُعدُّ مستهزئًا بهذه العبادة.
والجمهور ومنهم الأئمة الثَّلاثة -مالك والشَّافعي وأحمد- لا يَرون أنَّه يكفر
بهذا.
وبأخذِنا للحديث الأوَّلِ مِن أحاديث شروطِ الصَّلاةِ، يَقفُ درسُنا في هذا اليوم.
بارك الله فيكم، ووفَّقكم الله لكلِّ خيرٍ، وجعلكم الله من الهداة المهتدين، هذا
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-------------------------
[67] صحيح البخاري (622).
[68] رواه الطبراني في المعجم الكبير، والهيثمي في مجمَّع الزوائد
(1888)، وهي زيادة ضعيفة.
[69] سنن أبي داود (1928)، وصححه الألباني في صحيح
أبي داود.
[70] صحيح البخاري (591).
[71] صحيح مسلم (382).
[72] هذه اللفظة وردت في حديث آخر في صحيح البخاري من حديث الأعرابي الذي سأل النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ ؟، فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلَّا أَنْ
تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ
الصِّيَامِ ؟، قَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ:
أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ ؟، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، قَالَ:
وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ
اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ "، وَقَالَ
بَعْضُ النَّاسِ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا
مُتَعَمِّدًا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ،
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
[73] صحيح البخاري (5405).