الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين،
أمَّا بعد، فهذا هو اللقاء الرابع عشر، مِن لِقاءاتنا في قراءة كتاب "المحرر"
للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
كنا ابتدأنا في لقاءنا السَّابق بباب شروط الصَّلاة، وأخذنا الشَّرط الأول، وهو
الطهارة من الأحداث، ولعلنا -بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ- أن نستمر في ذلك، بذكر
الشَّرط الثَّاني، ألا وهو: "ستر العورة".
جاء أحاديث وآيات كثيرة تشير إلى ستر العورة، قال الله تعالى:
﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]،
وأُخذ مِن هذا وُجوب ستر العورات عند الصَّلاة، وعند الطواف. ولعلنا نقرأ الأحاديث
الواردة في كتاب "المحرر" في ذلك.
{(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ
أَحدِكُم إِذا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّ»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ.
وَعَنْ أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَورَةِ
الرَّجُلِ، وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَورَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ
إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ
فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللهِ، عَوْراتُنا مَا نَأْتي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ:
«احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»،
قُلتُ: فَإِذا كَانَ الْقَوْمُ بَعضُهم فِي بَعضٍ؟ قَالَ:
«إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّه»، قُلتُ:
فَإِذا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: «فَاللهُ تَبَاركَ
وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» رَوَاهُ أَحْمدُ
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ،
وَإِسْنَادُهُ ثَابتٌ إِلَى بَهْزٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُور.
وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى
أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«أَمَّا صَاحِبُكُم فَقَدْ غَامَرَ» الحَدِيث. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَرَوَى عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَاعِدًا فِي
مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ، قَدِ انْكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ -أَوْ رُكْبَتِهِ- فَلَمَّا
دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاها.
وَعَنْ صَفِيَّةَ بنتِ الْحَارِث، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّه قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ
إِلَّا بِخِمَارٍ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحسَّنهُ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرطِ مُسلمٍ، وَصفِيَّةُ
وثَّقَهَا ابْنُ حِبَّان، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا ومُرْسَلًا، وَرَوَاهُ ابْنُ
خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِه، وَلَفظُهُ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ
صَلَاةَ امْرَأَةٍ قَدْ حَاضَتْ إِلَّا بِخِمَارٍ».
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ
يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:
فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذيُولِهِنَّ؟ قَالَ:
«يُرْخِينَ شِبْرً»، قَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ؟ قَالَ:
«فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ،
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسنٌ صَحِيحٌ، وَقدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ. وَعنهُ عَنْ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَعنهُ عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَاللهُ أَعلَمُ.
وَعَنْ أَبي يَحْيَى القَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ
وَفَخِذُهُ خَارِجَةٌ، فَقَالَ: «غَطِّ فَخِذَكَ، فَإِنَّ
فَخِذَ الرَّجُلِ مِنْ عَوْرَتِهِ» رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ-
وَأَبُو يَعْلَى وَالتِّرْمِذِيُّ -وَلَفظُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: «الْفَخِذُ عَوْرَةٌ»، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو يَحْيَى مُخْتَلفٌ فِيهِ،
وَثَّقَهُ ابْنُ معِينٍ فِي رِوَايَة، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ،
وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بنِ
جَحْش عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْفَخْذُ
عَوْرَةٌ», وَقَالَ أَنسٌ: وَحَسَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ
فَخِذِهِ, وَحَدِيثُ أَنسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ، حَتَّى يُخرجَ
مِنِ اخْتلَافِهِمْ، وَقد رُوِيَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجهٍ آخرَ عَنْ
طَاوُسٍ, عَنهُ.
وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم
غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ
نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنا رَدِيفُ أَبي
طَلْحَةَ، فَأَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَر، وَإِنَّ
رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَسَرَ
الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ
اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ القريَةَ قَالَ:
«اللهُ أَكْبرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ! إِنَّا إِذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فسَاءَ
صَباحُ المُنْذَرِينَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَمُسلمٌ
فِي رِوَايَةٍ: فَانْحَسَرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه
وسلم. فَلَفْظُ مُسلمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ بِعَوْرَة،
وَلَفظ البُخَارِيِّ مُحْتَملٌ. وَاللهُ أعلمُ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُم فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ
لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَمُسلمٌ،
وَعِنْدهُ: «عَاتِقَيهِ» و
«عَاتِقِهِ» أَيْضًا.
وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَجئْتُ لَيْلَةً لبَعضِ
أَمْرِي، فَوَجَدتُهُ يُصَلِّي وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ
وَصَلَّيتُ إِلَى جَانِـبِهِ، فَلَمَّا انْصَرفَ قَالَ: «مَا
السُّرَى يَا جَابِرُ؟» فَأَخْبَرتُهُ بِحاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ:
«مَا هَذَا الاشْتِمالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟» قُلتُ: كَانَ ثَوبٌ -يَعْنِي
ضَاقَ- قَالَ: «فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالتَحِفْ بِهِ،
وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ بِهَذَا
اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ مُسلمٌ، وَلَفظُهُ: «إِذا كَانَ
وَاسِعًا فَخَالِفْ بَينَ طَرَفَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى
حَقْوِكَ».
وَعَنْ أَبي مَسْلَمَةَ سَعيدِ بنِ يزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لأَنسِ بنِ مَالكٍ:
أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ:
نَعمْ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
هذه الأحاديث التي ذَكرها المؤلف، وتفضَّلتم بقراءتها بارك الله فيكم، كلُّها
متعلِّقة بالشَّرط الثَّاني مِن شُروط صحة الصَّلاة، ألا وهو "ستر العورة".
أولها حديث أبي سعيد في مَنع الرجل مِن أنْ يَنظر إلى عَورة الرجل، وهذا فيه تحريم
النَّظر إلى عورات الآخرين.
والمراد بالعورة: مَا يَلحق الإنسان من عَور ونقص بسبب كشفه وإظهاره. ولا يؤخذ من
هذا أنَّ الرجل يجوز له أن يكشف عورته فحسب، بل يَحرم على الإنسان أن يُظهر عَورته،
ويحرم على الآخرين أن يشاهدوها، فلا يقول قائل: إنَّ المنع مِن مشاهدة العورة يدل
على جَواز كشفها.
وهكذا في قوله: «وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَورَةِ
الْمَرْأَةِ»، أي: لا يجوز أن تَنظر المرأة إلى عورة المرأة.
وعورة الرجل هُنا موطن خلاف في تفاصيلها، وهي مِن السُّرة إلى الرُّكبة، ولكن لا
يَحسُن بالرجل أن يَكشف بدنه على جهة الاستمرار، وسيأتي كلامٌ في هذا.
وأمَّا بالنِّسبة لعورة المرأة عند المرأة، فالجمهور قالوا: إنَّ عَورة المرأة هي
مَا لا تُبديه عِند مَحارمها، فما لا تُبديه عند محارمها، لا يجوز لها أن تُظهره
عِند النِّساء الأخريات.
وقد استدلوا على هذا بدلالة الآية في قوله -جل وعلا: ﴿ولَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ [النور: 31] إلى قوله -جل
وعلا: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ حيث ذَكَرَ النِّساء مع
محارم المرأة.
وقوله: «وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ
وَاحِدٍ» أي: لا يلتحفان بثوبٍ واحدٍ يكون جسدُ كلِّ واحدٍ منهما ملامسًا
للآخر، وهكذا في قوله:
«وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ
وَاحِدٍ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
ثم رَوى عَنْ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عَن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وهذا إسناد حسن
(قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَوْراتُنا مَا نَأْتي
مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟)
قوله: (مَا نَأْتي) أي: مَا الذي نفعله منها وما الذي
نظهره؟
قوله: (وَمَا نَذَرُ؟) أي: ما الذي نتركه؟ أي: لا
نكشفه، فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «احْفَظْ
عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» فيه جواز
نظر كل واحدٍ مِنَ الزَّوجين لعورة الآخر، مَع أنَّ المعهود مِن حَال النَّبي صلى
الله عليه وسلم أنَّه لم يكن يفعل ذلك.
قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى
مِنِّي»[74].
فقال: (فَإِذا كَانَ الْقَوْمُ بَعضُهم فِي بَعضٍ؟)
أي: كان هناك رجال ورجال، والأظهر في لفظة "القوم" أن تصدُق على الرِّجال، ولا
تُطلق على النِّساء إلا على جهة التَّبعية، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّه» فيه تحريم
كشف العورات عند الآخرين، فقال:
(قُلتُ: فَإِذا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟) أي: لا
يوجد عنده أحد من الناس، قَالَ:
«فَاللهُ تَبَاركَ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى
مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» فيه استحباب تَرك التَّعري ولو كان الإنسان وحده.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف حديث أَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه
(قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ أَبُو
بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ) فيه
دلالة على أنَّ الركبة ليست مِن العَورة، وأنَّه يَجوز إظهارها عند الآخرين،
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا صَاحِبُكُم
فَقَدْ غَامَرَ» وذلك لقصَّة وقعت بين أبي بكر الصديق وبين رَجُلٍ من
الصَّحابة، فرفع أبو بكر صوته على الرجل ثُمَّ نَدِمَ على ذلك، فذهب إلى صاحبه مِن
أجل أن يَعتذر منه، فلم يَقبل اعتذاره، فعاد إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في
حديث مشهورٍ في الصَّحيح.
قال: (وَرَوَى عَنْ أَبي مُوسَى رضي الله عنه: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ) أي:
هناك بئر بجوار مَقعد النَّبي صلى الله عليه وسلم (قَدِ
انْكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ -أَوْ رُكْبَتِهِ) فيه دلالة على أن الرُّكبة
ليست من العورة، قال: (فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاه)
فيه حياء الإنسان مِن بَعض مَن يَكون بينه وبينه مُداخلة بتغطية حَدٍ أَكثر من حد
العورة.
ثم روىَ عَنْ صَفِيَّةَ بنتِ الْحَارِث، في موطن خلاف بين أهل الحديث في الحكم
عليها (عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّه قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا
بِخِمَارٍ») تقدم معنا أنَّ نَفي القبول يعني: نفي الأجر ونفي
الصحَّة.
قوله: «صَلَاةَ حَائِضٍ» هذا يشمل صلاة الفرض وصلاة
النَّفل، والمراد بصلاة الحائض: يعني التي مَن شأنها أنها تحيض؛ لأنَّ الحائض لا
يَجوز لها أن تُصلي، ولن تُقبل صلاتها سواء كانت بخمار أو بدون خمار.
وقوله «إِلَّا بِخِمَارٍ» الخمار مَأخوذ مِن الفعل
خَمَرَ، أي: غَطى، والمراد بذلك غطاء الرأس. إذن كلمة خمار تطلق على غطاء الرأس،
وأمَّا لفظة الحجاب في اللغة فيراد بها تغطية الوجه؛ لأنَّه هو الذي يُحجب، ولذا
قال -تعالى:﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: 53]، وأمَّا النِّقاب
فالمراد به ما يكون فيه نقب، أي: فتحة أمام العينين.
ثم قال: (رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد) فيه دلالة
على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف رأسها أثناء الصَّلاة، سواء وُجد أجانب أو لم يوجد،
حتى ولو صلَّت وحدها فلابد أن تُغطي رأسها، ويجب ملاحظة أنَّ مَا يتفرع عن الرأس من
الشَّعر لابد من تغطيته في الصَّلاة، وهكذا أيضًا جميع أجزاء البدن بما في ذلك
الصدر والرقبة، فلابد للمرأة من تغطيتها أثناء صلاتها، وقد فُسِّرَ هذا اللَّفظ
بالرواية الأخرى: «صَلَاةَ امْرَأَةٍ قَدْ حَاضَتْ»
وفيه دلالة على أنَّ المرأة الكبيرة تدخل في هذا الحكم.
ثم روى من حديث أيوب بن أبي تميمة السختياني عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر، أن
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قال: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ
خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فيه تَحريم
جَرِّ الثَّوب وإسبال الثَّوب إذا كان على جهة الخيلاء، ومن المعلوم أنَّ الخُيلاء
أَمرٌ محرم يُمنع الإنسان مِنه في أي شيء، ومن ذلك مَا يَتعلق باللباس.
ووقع اختلاف بين العلماء في حُكْمِ جَرِّ الثَّوب وإسباله إذا لم يكن على جِهة
الكبر والخيلاء، هل هو جائز أو لا؟
القول الأوَّل: إنَّ الأحاديث التي ورد فيها النَّهي عن جَرِّ الثَّوب مُطلقة،
فنحملها على الأحاديث التي قَيدت النَّهي بحال الخيلاء.
والقول الثَّاني: لا يَصح حَمل المُطلق على المُقيد هُنا؛ لأنَّ مِن شَرط حَمل
المُطلق عَلى المُقيد اتحاد الحكم، والحُكم فيهما مختلف؛ لأنَّ أَحَادِيثَ الخُيلاء
فيها حُكم أنَّ الله لا يَنظر إليه يوم القيامة، وأمَّا أحاديث النَّهي عن الإسبال
المطلقة، فإنَّ الحكم فيها أنَّه في النار، قال: «مَا
أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ»[75] قالوا:
لمَّا اختلف الحُكم والعقوبة فيهما، لم يَصح حَمل المُطلقِ على المُقيدِ.
(فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ
بِذيُولِهِنَّ؟)
الذُّيول: أطراف الثَّوب مِن الأسفل.
(قَالَ: «يُرْخِينَ شِبْرً»،
قَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ؟) في هذا دلالة على أنَّه لا يجوز
للمرأة أن تكشف أقدامها عِند الرِّجال الأجانب، وهذا مثلًا في المساجد أو في
الحرمين أو عند الطواف، ولابد لها أن تهتم بتغطية قدمها، ولكن هل تُلزم المرأة
بتغطية القدمين في أثناء الصَّلاة؟
إذا لم يكن عندها رجال أجانب، فهذا مما قد وقع الاختلاف فيه بين أهل العلم.
قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (إِذًا
تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ؟)
يعني بالإرخاء مقدار شبر فقط، قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ
ذِرَاعً» أي: يُطلْنِه عن ذلك، قال: «لَا يَزِدْنَ
عَلَيْهِ»، فيه جواز وضع الذُّيولِ في ثياب النِّساء بهذا المقدار.
ثم أورد المؤلف مِن حَديث ابن عباس، قال: (مَرَّ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ وَفَخِذُهُ خَارِجَةٌ، فَقَالَ:
«غَطِّ فَخِذَكَ») فيه أنَّ وجوب تغطية الفخذ على الرِّجال، وأنَّه
مِنَ العَورات، وقد وقع اختلاف بين أهل العلم فيه، ولكن الأظهر هو ترجيح هذه
الرِّوايات التي تُلزم بتغطية الفَخذ.
قال: «فَإِنَّ» هذا مِن حُروف التَّعليل، أي: العلَّة
في هذا أنَّ فَخذ الرجل من عَورته، وبالتَّالي لابُدَّ مِن تَغطيته عند وجود
الآخرين، وفي لفظ الترمذي قَالَ:
«الْفَخِذُ عَوْرَةٌ».
وَذَكَرَ أنَّ أَبا يَحيى القتاد مختلف فيه، ولكن هذا المعنى قد ورد عن جماعة من
الصَّحابة، فهذه الروايات يقوي بعضها بعض.
في المقابل هناك روايات قد تَدلُّ على أنَّ الفَخذ ليس بعورة، مِنها مَا في
الصَّحيح من حديث أنس، قال: (حَسَرَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم عَنْ فَخِذِهِ)
فهذا فيه دلالة على أنَّ الفخذ لا يجب تغطيته.
قال المؤلف: قال الإمام البخاري: (وَحَدِيثُ أَنسٍ أَسْنَدُ)
أي: أقوى في الإسناد،
(وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ)؛ لأنَّ فيه تغطية
الفخذ (حَتَّى يخرجَ مِنِ اخْتلَافِهِمْ) هنا
الأحاديث تعارضت، وبالتَّالي نحاول أن نجمع.
بعضهم جمع، فقال: قوله (عَنْ فَخِذِهِ) يعني: عن
ساقه، والفخذ قد تطلق على السَّاق في لغة العرب، ولكن الأصل في الألفاظ أن تُحمل
على حقيقتها.
من هنا كان لابد من النَّظر في التَّرجيح بين هذه الرِّوايات، ومِن مواطن التَّرجيح
أن يقال هذا فعل وذاك قول، والقول آكد لاحتمال الفعل أن يكون خاص به صلى الله عليه
وسلم، وأحاديث تغطية الفخذ فيها احتياط وفيها منع، والقاعدة: إذا تعارض خبران،
أحدهما يدل على الإباحة والآخر يدل على المنع، فإنَّ الحذر مقدم عليه.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف حَديث أَنسِ بنِ مَالك (أَنَّ النَّبي
صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ) هذا في أي سنة؟
في السنة السابعة، وخيبر مدينة نخلٍ تقع شمال المدينة النَّبويَّة.
قال: (فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَ) يعني: عند خيبر،
(صَلَاةَ الْغَدَاةِ) أي: صلاة الفجر، (بِغَلَسٍ)
أي: بظلمة، وفيه دلالة لمذهب الجمهور باستحباب التَّبكير بصلاة الفجر.
قال: (فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ
أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنا رَدِيفُ أَبي طَلْحَةَ) فيه جواز الارتداف على
الإبل.
قال: (فَأَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي:
وضع مسابقة، سواءً كان بين الخيل أو بين الإبل، وفيه جواز وضع المسابقات، وفيه جواز
تنظيم صاحب الولاية لهذه المسابقات، وظاهره أنَّه قد وضع جوائز فيه، ووضع الجوائز
في مسابقات الإبل والخيل جائزة عند أهل العلم إذا كانت الجوائز من الإمام.
قال أنس: (وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ
صلى الله عليه وسلم)
فيه جواز لمس العورة المخفَّفة من وراء الثَّوب، وفيه أنَّ العَورة المُخفَّفة إذا
كانت الثِّياب عليها ضيِّقة حاذقة، فإنَّه لا بأس بذلك، بخلاف العورة المغلَّظة،
فإنَّه لا يَصحُّ مَسَّها ولا يَصحُّ لبس الضَّيِّق الذي يُشاهده الآخرون عليها.
قال: (ثُمَّ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ) هذه
الكلمة "حَسَرَ الْإِزَارَ"، الْإِزَارَ هذا فاعل أو مفعول؟
يمكن أن تكون "حسر الإزارُ"، فيكون "الإزارُ" فاعل، وبالتَّالي قد وقع بدون تعمد
النَّبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ويحتمل (ثُمَّ حَسَرَ
الْإِزَارَ) فيكون الفاعل ضميرًا مُستترًا عائدًا إلى النَّبي صلى الله عليه
وسلم، فيكون على جهة التَّعمد، لكن الرِّواية الأولى أظهر في كونه وقع من دون قصده
صلى الله عليه وسلم.
قال: (حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ
اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا دَخَلَ القريَةَ) يعني: خيبر
(قَالَ: «اللهُ أَكْبرُ») فيه رفع الصَّوت
بالتَّكبير خصوصًا في حال القتال «إِنَّا إِذا نَزَلْنَا
بِسَاحَةِ قَوْمٍ»
أي: بفنائهم «فسَاءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ» أي: الذين
وصلت إليهم النِّذارة، واستُدلَّ بهذا على أنَّه لا يُبيَّت أُناس حتى تصل إليهم
الدَّعوة.
وفي رواية لمسلم "وَانْحَسَرَ الْإِزَارُ" فبالتَّالي تكون مُفَسِّرة للرواية التي
في الإمام البخاري.
قال: (فَلَفْظُ مُسلمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ
الْفَخِذَ لَيْسَ بِعَوْرَة)
يعني: ليس مِن فِعله (وَلَفظ البُخَارِيِّ مُحْتَملٌ)
لاختلاف الإعراب في ذلك.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله
عليه وسلم قَالَ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُم فِي الثَّوْبِ
الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» فيه الأمر بتغطية العاتقِ
أثناءَ الصَّلاةِ.
والعاتق: هو الذي يكون في الكتف، وبالتَّالي لابد من التَّغطية.
قال بعض أهل العلم: هذا على الوجوب؛ لأنَّ النَّهي عن الشيء يَقْتَضي المنع منه،
وهذا هو مشهور مذهب أحمد. والجمهور حملوه على الاستحباب، وظاهر هذا أنه يشمل صلاة
الفريضة وصلاة النَّافلة، فإن حذف المتعلَّق في الفعل المنهي أو المنفي يدلَّ على
العموم، فلما قال: «لَا يُصَلِّي» لم يذكر نوع
الصَّلاة، فشملت جميع أنواع الصلوات.
وقوله: «لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ» هذه رواية الأكثر
والأشهر، وهي التي في البخاري، وفي لفظ عند مسلم
«عَاتِقَيهِ» بالتَّثنية، ولكن الأرجح هو رواية الجماعة في هذا.
ثم ذكر المؤلف حديث جَابرِ بنِ عبدِ الله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-
(قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ
فَجئْتُ لَيْلَةً لبَعضِ أَمْرِي، فَوَجَدتُهُ يُصَلِّي) يعني: وجد النَّبي
صلى الله عليه وسلم يصلي.
قوله: (لبَعضِ أَمْرِي) أي: له حاجة عند النَّبي صلى
الله عليه وسلم.
قال: (وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ) وجد النَّبي صلى
الله عليه وسلم يُصلي، وعليه ثوب واحد، كانت الثِّياب في ذلك الزَّمان لا يلزم أن
تكون مخاطة، فهو ثوب بمعنى الخرقة، أو بمثابة الرداء ونحوه؛ لأنَّ ما كان مخيط يقال
له: قميص، أو يقال له: بردة ونحو ذلك.
قوله: (فَاشْتَمَلْتُ بِهِ)، أي بالثَّوب، يعني:
لفَّه على بدنه (وَصَلَّيتُ إِلَى جَانِـبِهِ) إلى
جانب النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا جواز وجود الجماعة في صلاة النَّافلة، إذا لم يكن ذلك على جهة التَّرتيب
وإنما وقع اتفاقًا، قال: (فَلَمَّا انْصَرفَ) يعني:
قضى النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاته، وفي هذا دليل على جواز صلاة النَّافلة في
الأسفار مِن غَير السُّنن الرَّواتب، وأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يُصلي
النَّوافل المطلقة في أسفاره.
فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا السُّرَى يَا
جَابِرُ؟» السُّرى المراد به: السير في الليل، فكأنَّه سأله عن السَّبب، ما
الذي جعلك تسير ليلًا إليَّ؟ وما هو السَّبب الذي جعلك تقدم إليَّ في هذه السَّاعة
من الليل؟
قال جابر: (فَأَخْبَرتُهُ بِحاجَتِي) أي: أعلمته بما
أطلبه منه في ذلك (فَلَمَّا فَرَغْتُ) يعني من عرض
حاجتي عليه صلى الله عليه وسلم وفيه أدب النَّبي صلى الله عليه وسلم وتفقُّده
لحوائج أصحابه، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا
الاشْتِمالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟» يعني رأيتك قد صليت به
(فقُلتُ: كَانَ ثَوبٌ) يعني أنه لم يكن عندي إلا ثوب واحد، فلففته على بدني،
ولذلك كان إذا أراد أن يسجد أخرج يديه من الأسفل، فربما ظهر شيء من عورته.
ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ كَانَ»
يعني: إن كان الثَّوب الواحد وَاسِعًا، فحينئذٍ «فَالتَحِفْ
بِهِ»، وبالتَّالي لا تظهر عورتك «وَإِنْ كَانَ
ضَيِّقً» أي: قصيرًا لا تستطيع أن تلتحف به وتلفه على بدنك مررًا
«فَاتَّزِرْ بِهِ» أي: ضعه لأسفل بدنك.
وبهذا استدلَّ الجمهور على أنَّ العَاتقين لا يجب تغطيتهما في الصَّلاة، وأحمد
ممَّن يقول بوجوب تغطية العاتق في الصَّلاة، قال: هذا مقيد بحال الحاجة، إذا لم يكن
ثوبه واسعًا، ولذا قال: «وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ
بِهِ» أمَّا لو كان واسعًا، فحينئذٍ يَلزمه أن يلتحف به.
(رَوَاهُ البُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ مُسلمٌ،
وَلَفظُهُ: «إِذا كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَينَ
طَرَفَيْهِ» أي أدخل أحد الطَّرفين في الآخر من أجل أن يستمسك، وتخرج يديك
من خللهما، وبالتَّالي تتمكَّن من السجود من دون أن تظهر عورتك، قال:
«وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ» أي: اتَّزر به.
ثم أورد المؤلف من حديث سعيد بن يزيد -رحمه الله- قال:
(قُلْتُ لأَنسِ بنِ مَالكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي
النَّعْلَيْنِ؟) ما يُلبس على القدمين أنواع:
· منها الحذاء الذي يكون ليس له عقب.
· ومنها النعل، فيكون من سيور ويكون له سير
على العقب.
· ومنها الخفاف، وهي تغطي جميع القدمين وفوق
الكعبين، وتكون مصنوعة من الجلد، لكنها فيها ليونة.
· ومنها الجوارب، وتكون من الصوف أو القطن وهي
مشابهة للخفاف.
فكانوا يلبسون النعال كثيرًا، وذلك لأنَّها تبقى في الرجل ولا تسقط من الرجل، فسئل
أنس عن صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم، هل كان يصلي في النعلين؟ فقال:
(نَعمْ)
وظاهر قوله (أَكَانَ) أنَّ هذا على الاستمرار، ويحتمل
أن يكون قد فعل ذلك ولو مرَّة، مما يدلُّ على جوازه.
وقد ورد في الخبر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة مَن سبق، حيث كانوا لا
يصلُّون في نعالهم.
إذن هذه أحاديث كلها فيما يتعلق بأحكام اللباس.
ننتقل الآن إلى الشَّرط الثَّالث من شروط الصَّلاة، وهو: استقبال الكعبة، وقد كان
النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي إلى بيت المقدس، فلما قدم المدينة استمرَّ
على ذلك سبعة عشر شهر، أو ثمانية عشر شهر، فنزلت الآية في قوله تعالى:﴿فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144].
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ:
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144]،
فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وهُم رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقدْ
صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا
كَمَا هُم نَحْوَ الْقِبْلَةِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ الأخْنَسِيِّ، عَنِ المقْبُرِيِّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا بَينَ
الْمَشْرِقِ وَالْمغْرِبِ قِبْلَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: "هَذَا
حَدِيثٌ حَسنٌ صَحِيحٌ"، وَتكلَّمَ فِيهِ أَحْمدُ، وَقوَّاهُ البُخارِيُّ.
وَعَنْ عَامرِ بنِ رَبيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَفِي
رِوَايةِ البُخَارِيِّ: يُومِيءُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلمْ
يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلاة
الْمَكْتُوبَةِ)}.
إذن هذه أحاديث في الشَّرط الثَّالث من شروط الصَّلاة، وهو: شرط استقبال القبلة.
وأورد المؤلف حديث (أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيتِ الْمَقْدِسِ)
وهذا قبل الهجرة، وبعد الهجرة في المدينة سبعة عشر شهرًا فَنَزَلَتْ:
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ كان النَّبي صلى الله عليه
وسلم يتطلع إلى أن يؤمر باستقبال الكعبة في صلاته، ولذلك كان يقلب وجهه في السماء،
قال تعالى: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ﴾.
﴿فَوَلِّ﴾ هنا فعل أمر، والأصل في الأوامر أن تكون
للوجوب، واستقبال القبلة يكون قبل الصَّلاة، ولذلك كان شرطًا فيها.
قال: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾،
واستقبال المسجد الحرام واستقبال الكعبة، هذا على أنواع:
من كان خارج حدود الحرم، فإنَّه يكفيه الاتجاه نحو مكة.
ومن كان في الأقاليم والآفاق يكفيه أن يتجه إلى مكة.
ومن كان في مكة لابد أن يتوجه للمسجد.
ومن كان في المسجد أو بقربه لابد أن يتوجه إلى الكعبة، ولابد أن يكون أمامه جدار من
جدران الكعبة، ولذلك وإن كان الحجر جزء من الكعبة؛ إلا أنه لا يجوز أن يستقبل،
لماذا؟
لأنه ليس فيه شيئًا من جدران الكعبة، ومن ثَمَّ مَن كان في الكعبة وأراد أن يصلي
النافلة، فلا يصلي إلى جهة الباب، لأنه ليس في وجهه شيء من جدران الكعبة، لابد أن
يكون أمام شيء من جدران الكعبة.
ثم قال: (فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وهُم رُكُوعٌ
فِي صَلَاةِ الْفَجْر)، كانوا متجهين إلى بيت المقدس
(وَقدْ صَلَّوْا رَكْعَةً) فنادى هذا الرجل (أَلا
إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ) يعني من بيت المقدس إلى الكعبة
(فَمَالُوا كَمَا هُم نَحْوَ الْقِبْلَةِ) وفي هذا دلالة على أن الإنسان لا
يلزمه أن يعمل إلا بما يعرفه من الأحكام، حتى ولو كان هناك حكم آخر، فكانت القبلة
قد حولت قبل هذا، لكنهم لما لم يعرفوا؛ فلم يلزمهم.
وفي هذا أنَّه إذا تغيَّر اجتهادُ الإنسان في أثناء الصَّلاة تحوَّل، كمَن كان في
برية وظن أن القبلة مع هذه الجهة فصلى ركعة، ثم غلب على ظنه أن القبلة مع الجهة
الأخرى؛ فإنه يتحول إليها وتصح صلاته بذلك، ولو كان بعضها إلى جهة وبعضها إلى جهة
أخرى.
وفي الحديث جواز العمل بخبر الواحد، يعني هذا رجل واحد، وعملوا بخبره وأقرهم
النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل بأن هذا يدلُّ على جواز نسخ المتواتر بخبر
الواحد.
ثم أورد حديث (عُثْمَانَ، عَنِ المقْبُرِيِّ، عَنْ أَبي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«مَا بَينَ الْمَشْرِقِ وَالْمغْرِبِ قِبْلَةٌ») أهل المدينة
يتوجَّهون في صلواتهم إلى جهة الجنوب، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
«مَا بَينَ الْمَشْرِقِ وَالْمغْرِبِ قِبْلَةٌ» لأنَّ الجنوب بينهما.
وفي هذا دلالة على أنَّ الانحراف اليسير في الاتجاه في القبلة لا يؤثر على صلاة
الإنسان، وإن كان قد تكلم الإمام أحمد في هذا الخبر، لكن الصواب أنه مقبول ويعمل
به.
إذن القاعدة العامة: لابد من استقبال القبلة في الصلوات، سواءً كانت فريضة أو نافلة
أو كانت تلك الصَّلاة صلاة أداء أو قضاء، ويستثنى من هذا مسائل:
المسألة الأولى: في المسافر، إذا أراد أن يصلي النافلة، فإنَّه يصلي إلى جهة سفره،
ولا يلزمه أن يتجه إلى الكعبة، لفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم.
فقد رَوُىَ عَامرِ بنِ رَبيعَةَ (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ) في
بعض ألفاظ الخبر، قال: "في أسفاره" والجمهور يقيِّدون هذا الحكم بالسَّفر، أما مَن
كان داخل المدن، فجمهور أهل العلم يقولون: إنه لا يجوز له أن يتوجه إلى غير القبلة.
وفي هذا الحديث دلالة على جواز الصَّلاة النافلة على الراحلة في الأسفار، وفيها
دلالة على أنَّه إذا صلى على الراحلة فإنَّه يومئ ولا يلزمه أن يسجد، أو أن يضع
رأسه على الأرض، أو أن يضع حاجة على يسجد عليها، فيكفيه الإيماء، وفي الحديث دلالة
على أن المكتوبة لا تُصلى على الراحلة، بل لابد من النزول، إلا في حال الضرورات،
كما لو كان هناك مطر شديد لا يستطيع الإنسان معه من النُّزول من الراحلة.
والمسألة الثانية: في حال صلاة الخوف عند المسايفة وعند اشتداد القتال، يصلي الناس
رجالًا وركبانًا حيث كانوا.
المسـألة الثالثة: لو عجز الإنسان عن معرفة القبلة، وكان في سفر، فإنَّه يجتهد
ويصلي حيث غلب على اجتهاده، وبالتَّالي لو قُدِّر أنَّه عرف بعد ذلك أنَّه صلى إلى
غير القبلة، فإنَّه لا يلزمه إعادة تلك الصَّلاة.
به إذن أحكام متعلِّقة بهذه الشروط الثلاثة من شروط الصَّلاة: الطهارة، ودخول
الوقت، واستقبال القبلة، وستر العورة.
ولعلنا -إن شاء الله- نكمل بقية أحكام الصَّلاة في يوم آخر، بارك الله فيكم، وفقكم
الله للخير، وأنتم يا أيُّها المشاهدون الكرام، جعلكم الله مباركين، ورزقكم الله
علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونية خالصة.
كما أسأله -جل وعلا- أن يجزي إخواني ممن رتب هذا اللقاء وهيئه، من مخرج وفنيين
وإداريين التوفيق لكل خير، كما أسأله -جل وعلا- لجميع المسلمين صلاحًا في أحوالهم،
واستقامة في أمورهم، وحفاظا على عباداتهم.
اللهم وفق ولاة المسلمين لكل خير، واجعلهم من أسباب الهدى والتقى وصلاح العباد
والبلاد.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------
[74] ذكَرَه الترمذي في نوادر الأصول دون إسناد، وكذلك القرطبي في تفسيره
(2: 224)
لآية النور: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ ﴾، وذكره المناوي في "الفيض" (2: 224)
(1718). بلفظ "مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي". وأخرجه أحمد في
"مسنده" (6: 63) (24344)،
والترمذي في الشمائل (359)، بلفظ: "ما نظرتُ إلى فرجِ
النبي صلى الله عليه وسلم قطُّ، أو ما رأيتُ فرجَ النبي صلى الله عليه وسلم قط"،
والحديث ضعفه ابن رجب في فتح الباري(1/336)، والضياء
المقدسي في "السنن والأحكام" (1/168)، وضعفه ابن ماجه
(662)
[75] البخاري (5787) عن أبي هريرة رضي الله عنه