{بسم الله الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياء والمرسلين،
نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبهِ أجمعين، أهلًا ومرحبًا بالمتابعين والمتابعات
الكرام في برنامج البناء العلمي، في شرح كتاب "المحرر في الحديث"، يشرحه فضيلة
الشَّيخ: سعد بن ناصر الشثري، حياك الله يا شيخ، أهلًا ومرحبًا وسهلًا بك}.
الله يحيك، ووفقك الله للخير، ولعلَّنا نواصل ما كنَّا ابتدأنا به، حيثُ تكلمنا عن
عددٍ من الأحاديث في باب صفةِ الصَّلاةِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياءِ والمرسلين،
أمَّا بعد:
ففي اللقاءات السَّابقة تحدَّثنا عمَّا يتعلَّق بتكبيرة الإحرام، وأنَّها ركنٌ من
أركان الصَّلاة، وتكلَّمنا عن رفعِ اليدين حذوَ المنكبين عند تكبيرة الإحرام، وأنَّ
ذلك محلُّ اتِّفاقٍ بين أهل العلم في أصله، وقد وقع الاختلاف في كيفيَّة الرَّفع:
فطائفة تقول: إنَّ اليدين تكونان حذو المنكبين، والمنكب: هو المفصل الذي بين العضد
وبين الكتف.
وآخرون قالوا: إنَّ اليدين تكونان إلى فروع الأذنين.
وهناك مَن جمع فقال: إنَّ أطراف الأصابع تكون عند فروع الأذنين، وأصلُ الكفِّ يكون
عند المنكب.
ثم بعد ذلك ذكرنا مَا يتعلَّق بدعاء الاستفتاح، وذكرنا أنَّ الإمام أحمد يُرجِّح
قول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وتَباركَ اسْمُكَ
وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»[81]، وأنَّ الإمام الشَّافعي
-رحمه الله تعالى- يُرجِّح ما ورد في الخبر الآخر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه
وسلم قال في الاستفتاح:
«وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنا مِنَ الْمُشْرِكين، إِنَّ صَلَاتِي ونُسُكِي
وَمَحْيايَّ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالمينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنا مِنَ الْمُسْلِمينَ»[82].
وذكرنا أنَّ بعض أهل العلم رجَّح أن يقول: «اللَّهُمَّ
باعِدْ بَيْنِي وَبَينَ خَطايايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَينَ الْمُشْرِقِ وَالْمَغْربِ،
اللَّهُمَّ نَقِّنِي منَ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الدَّنَس، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايايَ بِالْمَاءِ والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»[83]،
كما سيأتي ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولعلَّ حديث أبي هريرة هو أقوى ما
في الباب، وعلى كلٍّ؛ فهذا على سبيل الاستحباب.
وكان الإمام مالك -رحمه الله- يرى أنَّ دعاء الاستفتاح ليس بمشروعٍ، أخذًا من حديث
أنس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، كانوا يفتتحون الصَّلاة ب﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾[84]، ولكن هذه الرِّواية فُسِّرت بالرِّواية
الأخرى وأنَّ هذا فيما يتعلَّق بما يُجهر به من القراءة.
وقد اطَّرد الإمام مالك أصله في ذلك، وقال بعدم استحباب الاستعاذة، وبعدم استحباب
البسملة، وأنَّه يبتدئ بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالمِينَ﴾ مباشرة، وهذا خلافُ ما وَرَدَ مِن عددٍ من الأحاديث، منها:
حديث أبي سعيد الخدري الذي تقدَّم معنا، أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان
يستعيذ.
وأمَّا بالنَّسبة للبسملة، فهناك ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء فيها قبل قراءة
الفاتحة في الصَّلاة:
الإمام مالك يقول: هي غير مشروعة، وفعلها مخالف لفعل الصَّلاة.
وبعض المالكية قال: إنَّ البسملة من البدع.
وفي المقابل قال فقهاء الشَّافعيَّة: إنَّ البسملة جزء من الفاتحة، وإنَّ قراءتها
واجبة، ولا تتمُّ صلاة إنسان إلا بقراءة البسملة.
وذهب الإمام أحمد والإمام أبو حنيفة إلى أنَّ البسملة مُستحبَّة، وأنَّها ليست من
الفاتحة، واستدلُّوا على ذلك بما ورد في حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله
عليه وسلم قال: «قال الله -عز وجل: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ
بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ
الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾»[85]،
ثم ذكر بقيَّة ألفاظ الفاتحة.
ثم بعد ذلك قرأنا ما يتعلَّق بقراءة الفاتحة، وأخذنا حديث عائشة في ما يتعلَّق
بكيفية الصَّلاة، وكان مِن ضمن ما أخذناه: ما يتعلَّق بكيفيَّة الجلوس:
- فإنَّ هناك مَن رأى أنَّ جميع جلسات
الصَّلاة تكون بالتَّورُّك. وهو قول مالك.
- وهناك مَن رأى أنَّ جميع جلسات الصَّلاة
تكون بالافتراش. وهو قول أبي حنيفة
- وهناك من رأى أنَّ الغالب في جلسات
الصَّلاة، أن تكون بالافتراش، إلا فيما يتعلَّق بالتَّشهد الأخير فإنَّه على جهة
التَّورُّك، وهذا قول أحمد والشَّافعي، إلا أنَّ هذين الإمامين اختلفا في التَّشهد
الذي يكون في الصَّلاة الثُّنائيَّة، كالفجر، والسُّنن الرَّواتب، فقال أحمد:
يفترش، وقال الشَّافعي -رحمة الله على الجميع: يتورَّك. وقلنا: إنَّ ظاهر حديث
عائشة رضي الله عنها يدلُّ على أنَّه يفترش في هذا الموطن.
كان من أواخر ما ابتدأنا بشرحه: حديث أبي هريرة في مُتابعة الإمام، وذكرنا أنَّه لا
يجوز للإنسان أن يَسبق إمامه في الصَّلاة في أيِّ ركنٍ مِن أركانها؛ لقوله صلى الله
عليه وسلم: «إِنَّمَا الْإِمَامُ أَوْ إِنَّمَا جُعِلَ
الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُو»[86]، والفاء تفيد
التَّعقيب، وبه استدلَّ الجمهور على أنَّ المأموم لا يتقدَّم في الصَّلاة على
إمامه.
ثم ذكرنا مَا يتعلَّق بالتَّسميع، هل هو خاصٌّ بالإمام كما قال الجمهور، أو أنَّ
المأموم يشاركه في هذه اللفظة؟
وظاهر حديث أبي هريرة أنَّ المأموم لا يشارك الإمام في هذه اللفظة.
وهكذا في قول: "اللهم ربنا لك الحمد" فإنَّ الجمهور يقولون: هي للإمام والمأموم،
وهناك مَن قال إنَّها خاصَّة بالمأموم دون الإمام.
وبقيت مسألة: إذا صلَّى الإمام جالسًا، فهل يُصلي مَن خلفه جلوسًا؟ أو أنَّهم
يقومون على الرغم من جلوس إمامهم؟
نقول: ذهب الجمهور إلى أنَّ الإمام إذا صلى جالسًا؛ صلوا قيامًا، واستدلُّوا على
ذلك بما ورد في أواخر عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حينما صلَّى جالسًا وصلَّى
أبو بكر والنَّاس خلفه قيامًا، وقالوا: هذا آخر الأمرين من النَّبيّ صلى الله عليه
وسلم، والمتأخِّر ينسخ المتقدِّم.
وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ المأمومين يجلسون، واستدل بهذا الحديث:
«وَإِذا صَلَّى»
يعني الإمام «قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِيْنَ»[87]،
وهذا الحديث متفق عليه.
وحمل الإمام أحمد الحديث الذي فيه صلاة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته،
على ما إذا ابتدأ الإمام الصَّلاة قائمًا، ثم عرضت له علَّة فجلس، فإنَّ أبا بكر هو
الذي ابتدأهم بالصَّلاة قيامًا، ثم جاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فجلس، قال:
فهذه صورة مغايرة لحديثنا الذي بين أيدينا.
ومن القواعد المقرر عند الأصوليين: إذا أمكن الجمع بين الدَّليلين، فإنَّه لا يُصار
إلى التَّرجيح، ولا إلى القول بالنَّسخ.
لعلنا نواصل الحديث في ذلك، تقرءون حديث ابن عمر.
{أحسن الله إليك. قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْ عبدِ اللهِ
بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، إِذا افْتَتَحَ الصَّلاة، وَإِذا كَبَّر
للرُّكُوعِ، وَإِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُما كَذَلِكَ أَيْضًا،
وَقَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمدُ»، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وللبخاريِّ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمرَ كَانَ إِذا دَخَلَ فِي الصَّلاة
كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذا قَالَ سَمِعَ
اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ
يَدَيْهِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ مَالكِ بنِ الْحُوَيْرِث رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله
عليه وسلم كَانَ إِذا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِـهِمَا
أُذُنَيْهِ، وَإِذا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِـهِمَا أُذُنَيْهِ،
وَإِذا رَفعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: «سَمِعَ
اللهُ لِمَنْ حَمِدَه»، فَعلَ مثلَ ذَلِك. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ
لَهُ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ)}.
هذان الحديثان فيهما عددٌ من الأحكام، وهما حديثان صحيحان، قال في حديث ابن عمر:
(كَانَ يَرْفَعُ) "كان" الأصل أن تُستعمل للتَّكرار
والدوام.
(يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ) فجعل رفع
اليدين حذو المنكبين، بينما في حديث مالك بن الحويرث: «أنَّه
كان يُحَاذِيَ بِـهِمَا أُذُنَيْهِ»، ولذلك اختار الجمهور محاذاة المنكبين؛
لأنَّ حديث ابن عمر متفق عليه.
واختار الشافعي وجماعة أنَّه يحاذي الأذنين، وذلك لثبوت هذا عن النَّبيِّ صلى الله
عليه وسلم.
وهناك طائفة ثالثة قالت: إنَّ هذا الأمر على الاختيار، إن شاء كذا، وإن شاء كذا.
وتلاحظ هنا أنَّ هناك تصرُّفات مِن النَّاس ينبغي مراجعتها، تجده يهز يديه هزًّا،
وبعضهم تجده في المقابل يحرِّك أصابعه داخل أذنيه عند تكبيرة الإحرام، فكلاهما
مخالفٌ لهدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يُستحب للإنسان أن يرفع يَديه حَذو
منكبيه، هذا أقل ما ورد.
وظاهر هذا أن تكون الأصابع مضمومة، وأن تكون جهة اليد إلى جهة القبلة، والذي يظهر
في الجمع بين حديث المنكبين وحديث فروع الأذنين: أنَّ أصابعه تكون عند أسفل الأذن
عند فروع الأذن، وأنَّ أصل الكف يكون عند المنكب، وبذلك تجتمع هذه الأحاديث.
متى يرفع يديه؟
هناك موطن متفق عليه، وهو: عند تكبيرة الإحرام، عند افتتاح الصَّلاة، بحيث يكون
إرجاعه لليدين بنهاية التَّكبير، رفع اليدين تكون ببداية التَّكبير، وخفضهما تكون
بنهاية التَّكبير. وهذا كما تقدَّم محل اتفاق.
وهناك ثلاثة مواطن أخرى:
الموطن الأول: التَّكبير عند بداية الرُّكوع، لقوله هنا:
«وَإِذا كَبَّر للرُّكُوعِ»، وفي لفظ: «وَإِذَا
رَكَعَ» وهذا الرَّفع لليدين يمكن أن يكون قبل التَّكبير، ويمكن أن يكون
معه، ويمكن أن يكون بعده.
والموطن الثاني: إذا رفع رأسه من الركوع، فعند الرَّفع يرفع اليدين حذو المنكبين،
أو حذو الأذنين، على ما في هذه الأحاديث. وهذان الموطنان وردا في هذين الحديثين.
الموطن الثالث: عند القيام من التَّشهد الأوَّل للرَّكعة الثَّالثة، فإنَّ هذا
الموطن قد ثبت في الصَّحيح رفع اليدين فيه.
وهذه المواطن الثَّلاثة قال الحنفية والمالكية بعدم استحباب رفع الأيدي فيها،
واستدلوا على ذلك: بما ورد من حديث ابن مسعود: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ»[88]، ولكن هذا الحديث ضعيف
الإسناد من جهة، وقد خالفه رواية عدد كبير من الصَّحابة حيث أثبتوا رفع اليدين في
هذه المواطن، ومِن ثَمَّ فإنَّ الصَّواب هو رفع اليدين في هذه المواطن.
وهذه الأحاديث فيها: استحباب قول الإمام عند الرَّفع من الرُّكوع:
(سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمدُ)، وهذا الاستحباب
للإمام، خلافًا لمن يقول إنَّ الإمام لا يقول: (رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمدُ)، وفيه إثبات الواو بدون لفظة
(اللَّهمَّ)، قال: (رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمدُ).
وقوله: (وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ)،
أي: إذا كان التَّكبير قبله سجود، أو بعده سجود، فإنَّه لا يُشرع رفع اليدين حذو
المنكبين.
ومن أمثلة ذلك: عند سجوده من القيام، وعند رفعه للجلسة بين السَّجدتين، وعند سجوده
الثَّاني، وعند قيامه من السَّجدة إلى التَّشهد، أو إلى الرَّكعةِ الثَّانيةِ، فهذه
مواطن لا يُستحبُّ رفعُ الأيدي حذو المنكبين فيها.
وقوله هنا: (وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ)،
استدلَّ به الإمام الشَّافعي، والإمام أحمد على أنَّ التَّكبيرات التي لا يكون
قبلها سجود ولا بعدها سجود، يُستحب رفع الأيدي فيها، ومن ذلك: تكبيرات صلاة العيد،
وتكبيرات صلاة الاستسقاء، ومن ذلك تكبيرات صلاة الجنازة؛ فإنَّ الإمامين أحمد
والشَّافعي يقولان إنَّ الأيدي ترفع في هذه المواطن؛ لأنَّ هذا التَّكبير ليس قبله
سجود ولا بعده سجود، وقد يستدلُّون على ذلك بما ورد عن عدد من الصَّحابة برفع
الأيدي في تكبيرات الجنازة، كزيدٍ وابنِ عمر وغيرهما.
وذكر المؤلف أنَّ البخاري قد روى من حديث نافع عن ابن عمر، أنَّ ابن عمر كان يفعل
ذلك، قال: (وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمرَ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
{(وَرَوَى عَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ: أَنَّهُ رَأَى
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاة كَبَّرَ
وصفَّهُمَا حِيَالَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ التَحَفَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ
الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يرْكَعَ، أَخْرَجَ يَدَيْهِ
مِنَ الثَّوْبِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ:
«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» رفعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ
بَينَ كَفَّيْهِ)}.
هذا حديث وائل بن حُجْرٍ في صحيح مسلم، وفيه أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم، وهذا فيه دلالة على أنَّ أفعال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في
الصَّلاة عباداتٌ يُشرع التَّقرب لله -عز وجل- بفعلٍ مماثل لفعله.
قال: (رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلاة)
هذا عند تكبيرة الإحرام.
قوله: (وصفَّهُمَا حِيَالَ أُذُنَيْهِ)، فيه بيان
مقدار ما تُرفع له الأيدي.
قال: (ثُمَّ التَحَفَ ثَوْبَهُ) المراد بالتحاف
الثَّوب: أن يلفَّ الثَّوب على بدنه، وظاهره أنَّه كان عليه الثَّوب ويُراد به هنا
الرداء.
قال: (ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى)
فيه استحبابُ وضع اليد اليمين على اليسار حال القيام، وبذلك قال الجمهور خلافًا
للإمام مالك والمالكية.
وأحاديث وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى أحاديث كثيرة، تبلغ درجة التواتر، وقد
قيل: إنَّ الإمام مالك إنما ترك ذلك لأنَّه خُلعت كتفه بسبب فتواه في أيْمانِ
المُكره، فلذلك لم يكن يستطيع أن يضع اليد اليمنى على اليد اليسرى فكان يسدلهما،
وظنَّ أصحابه أنَّ السَّدل هو قول الإمام -رحمه الله.
وهنا لم يبيِّن أين توضع الأيدي، وقد قيل: إنَّها توضع على الصدر، وقيل: توضع تحت
الصدر، وقيل: فوق السُّرة، وقيل: تحت السُّرة.
لكن هذه الأقوال لا يسندها دليل صحيح، إنَّما الذي معها أدلة ضعيفة، ومِن ثَمَّ
فإنَّ الأظهر أنَّه لا تحديد في هذا الباب، وأنَّ هذه المواطن سواء؛ لأنَّ هذا موطن
خشوعٍ لله -جل وعلا، وقد ورد في السُّنن أنَّه وضع يده اليمنى على كفِّه اليُسرى
وعلى رسغه وساعده، فدلَّ هذا على أنَّ اليد اليمنى يوضع جزء منها على الكف، وجزء
منها على المفصل، وجزء منها على عظم السَّاعد؛ ليتمكن من امتثال الخبر الوارد في
ذلك.
قال: (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يرْكَعَ) أي: شرع فيه،
وابتدأ فيه.
قال: (أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ) ليتمكَّن من
فعل هذه السُّنَّة، وهي رفع الأيدي حذو المنكبين.
قال: (ثُمَّ رَفَعَهُمَ) يعني: اليدين.
قال: (ثُمَّ كَبَّرَ) ظاهره أنَّ رفع اليدين أولًا،
ثم التَّكبير ثانيًا، لكن هناك أحاديث قرنت بينهما، يعني إذا كبَّر للركوع رفع
يديه، وهناك أحاديث تقول: إنَّه يكبِّر ثم يرفع يديه، ولذا قلنا: إنَّ الجميع
مشروع، وأنَّ كلَّ هذه الكيفيَّات واردة، ولا حرج على الإنسان فيها، ويعدُّ المرء
ممتثلًا للسنَّة في هذا الباب.
قال: (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يرْكَعَ، أَخْرَجَ يَدَيْهِ
مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَ) رفع اليدين
قال: (ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ:
«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»)
يعني: لما رفع من الركوع قال هذا اللفظ.
وقوله: (فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَينَ كَفَّيْهِ)
فيه دلالة على أنَّه يرفع اليدين عند السُّجود لتكون حذو المنكبين، بحيث يكون مفصل
اليد حذو المنكبين، ومن ثَمَّ يكون موطن سجوده بين يديه.
وفي هذا دلالة أيضًا على أنَّه يفعل بهما كما يفعل في الرَّفع عند التَّكبير من ضم
الأصابع بعضها إلى بعض وبسط الكفِّ.
{(وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِه عَنْ وَائِلِ بنِ
حُجْرٍ، قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَوضَعَ يَدهُ
الْيُمْنَى عَلَى يَدهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ)}.
هذا الحديث فيه زيادة (عَلَى صَدْرِهِ)، حديث وائل بن
حُجر هو في صحيح مسلم كما في الرواية التي قبلها، والذي في الرواية المشهورة أنَّه
وضع يده اليمنى على اليسرى، وليس فيها ذكر موطن الوضع.
هذه الرواية في حديث ابن خزيمة قال فيها: (عَلَى صَدْرِهِ)،
لكن هذا الإسناد فيه راوٍ متروك، ومن ثَمَّ كانت هذه الرِّواية مُنكرة، وليست من
باب زيادة الثِّقة؛ لأنَّ الراوي ليس من الثِّقات.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَينَ التَّكْبِيرِ والقِرَاءَةِ إِسكاتةً،
قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً، فَقلتُ: بِأَبي وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله،
إِسْكَاتُكَ بَينَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقولُ؟ قَالَ:
«أَقُولُ: اللَّهُمَّ باعِدْ بَيْنِي وَبَينَ خَطايايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَينَ
الْمُشْرِقِ وَالْمَغْربِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي منَ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَى
الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَس، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايايَ بِالْمَاءِ
والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله هنا: (يَسْكُتُ بَينَ التَّكْبِيرِ والقِرَاءَةِ)
المراد قراءة الفاتحة، والمراد بالتكبير هو: تكبيرة الإحرام لافتتاح الصَّلاة، وفيه
مشروعيَّة السُّكوت بين التَّكبير والقراءة.
وفي هذا الخبر: مشروعيَّة دعاء الاستفتاح، وقد ذكرنا في ما مضى أنَّ بعض الأئمة
رجَّح ما ورد من حديث عمر وأبي سعيد، أنَّه يقول:
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وتَباركَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا
إِلَهَ غَيْرُكَ»[89]، وبعضهم قال: إنَّه يقول:
﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفً﴾
[الأنعام: 79] إلى بقية الآية، وهذا ثالث.
فالظاهر أنَّه يجوز الاكتفاء بواحدٍ منها، وأنَّها كلها أدعية للاستفتاح صحيحة
الإسناد، وبالتَّالي فبأي واحدٍ دعا الإنسان بها حال بدء الصَّلاة، فإنَّه يُعَدُّ
ممتثلًا وموافقًا للسُّنَّة.
وهنا مسألة ذكرها بعضهم: هل من المستحسن أن نجمع بين هذه الأحاديث الثَّلاثة، فنقول
في دعاء الاستفتاح كل ما تضمنته هذه الأمور الثَّلاثة؟
فنقول: هذا ليس بمستحب؛ لأنَّ هذا لم يرد عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لا في
قوله، ولا في فعله، وبالتَّالي نقول بعدم استحباب الجمع بينها.
قوله: «باعِدْ بَيْنِي وَبَينَ خَطايايَ كَمَا بَاعَدْتَ
بَينَ الْمُشْرِقِ وَالْمَغْربِ»، هذا فيه: طلب من الله أن يغفر الذُّنوبَ
حتى تبتعد هذه الذُّنوب عن الإنسان.
واستُدلَّ أيضًا بقوله: «والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» على
أنَّه يجوز الوضوء والاغتسال بالثَّلْجِ والبَرَدِ، والجمهور يقولون: لا يجوز إلا
بالماء وحده، ويستدلِّون على ذلك بما ورد من النُّصوص التي قيَّدت الوضوء والغُسل
باستعمال الماء -كما تقدَّم.
{(وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ». وَفِي رِوَايَةٍ:
«بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
«لَا تُجْزِيءُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ» وَقَدْ
أُعِلَّ)}.
أُعِلَّ: يعني ضُعِّفَ هذا الحديث لوجود عِلَّةٍ فيه.
{(وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم وَأَبا بَكْرٍ وَعمرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاة بِ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَرَوَى مُسلمٌ: صَلَّيتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرِ
وَعمرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾، لَا يَذْكُرُونَ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي
آخِرِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ الْخَطِيبُ وَغَيرُهُ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ بِلَا حُجَّةٍ.
وَفِي لفظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ:
فَكَانُوا لَا يَجْهرونَ بِ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالمِينَ﴾. وَفِي لفظٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسِرُّ بِ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾، وَأَبُو بَكرٍ وَعُمر. زَاد ابْنُ خُزَيْمَةَ:
فِي الصَّلاة)}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن القراءة، وهل يُقرأ بفاتحة الكتاب أو لا؟
أولها حديث عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ
لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ»، فقد أُخذ منه أنَّ قراءة الفاتحة فرضٌ
بالنَّسبة للإمام والمنفرد، فهي ركنٌ لصلاتهما، لا تصحُّ الصَّلاة لأي منهما إلا
بقراءة الفاتحة، وأمُّ القرآن هي سورة الفاتحة، كما ورد تفسيره في الرِّواية
الأخرى.
وأُخذ من هذا حال المأموم، فإنَّ المأموم إذا لم يقرأ الفاتحة، ما حاله؟
للعلماء فيه أقوال:
- الجمهور يقولون: قراءة الفاتحة بالنَّسبة
للمأموم مُستحبَّة، وليست بواجبة.
- وهناك مَن رأى أنَّ قراءة الفاتحة تجب في
الصَّلوات السِّريَّة، لا في الصَّلوات الجهريَّة، وكانوا مما يستدلون به قوله
تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
- وهناك مَن رأى وجوب قراءة الفاتحة، ومعنى
الوجوب: أنَّها إذا تُركت نسيانًا أو جهلًا لم تُؤثِّر على الصَّلاة، وإذا تُركت
عمدًا أثَّر ذلك على الصَّلاة، وهذا هو مذهب الإمام الشَّافعي، ولعلَّه أرجحُ
الأقوال في هذه المسألة.
- وهناك مَن رأى أنَّ قراءة الفاتحة ركنٌ
للمأموم، لا تصحُّ صلاته إلا بها.
والصواب كما قلنا: إنَّها واجبة، أمَّا دليل الوجوب؛ فهذا الحديث:
«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ».
وهذا قد ورد له سبب كما ورد في السنن: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي
صلاة الفجر، فكان هناك رجلٌ ينازعه في القراءة، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
«من ذا الذي يقرأ؟»، فقال الرجل: أنا يا رسول الله،
فقال صلى الله عليه وسلم:
«إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فَلا تَقْرَءُو»[90]، ثم
نزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وحديث عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ هذا في المأموم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه
وسلم وهو إمام خاطب المأمومين، وقال لهم: «لَا تَقْرَءُوا
إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ
بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ».
إذن الحديث نص في المأموم، ثم قال: «لَا تَقْرَءُوا إِلَّا
بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ»
والاستثناء من النَّفي إثبات، وبالتَّالي يلزم من المأموم أن يقرأ الفاتحة، وهذا
لعلَّه أرجح الأقوال، وهو مذهب الإمام الشَّافعي في المسألة.
ثم ذكر المؤلف حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: «لَا
تُجْزِيءُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ» وفيه من
الخلاف ما فيه على وِفق ما سبق في الخبر الذي قبله، وفيه العلاء بن عبد الرحمن.
قال: (وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم وَأَبا بَكْرٍ وَعمرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاة بِ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾).
هذا فيه ذكر مسألة البسملة، فإذا كانوا لا يفتتحون إلا بِ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾، فهذا مذهب الإمام مالك في عدم استحباب دعاء
الاستفتاح، ولا الاستعاذة، ولا البسملة.
وهناك مَن يقول: إنَّ قوله: (كَانُوا يَفْتَتِحُونَ)
يعني جهرًا في ما يسمعه النَّاس، وقد صُرِّحَ بذلك كما في الرِّواية الأخرى، قال:
(فَكَانُوا لَا يَجْهرونَ بِ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالمِينَ﴾)، معناه: أنَّهم كانوا يقرءونها سِرًّا.
{(وَعَنْ نُعَيْمِ الـمُجْمِرِ قَالَ: صلَّيتُ وَرَاءَ أَبي
هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ثُمَّ
قَرَأَ بِأمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى إِذا بَلَغَ: ﴿وَلَا
الضَّالِّينَ﴾، قَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاس: آمِينَ، وَيَقُولُ كُلَّما
سَجَدَ: اللهُ أَكْبَرُ، وَإِذا قَامَ مِنَ الْجُلُوسَ مِنَ الاثْنَتَيْنَ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقُولُ إِذا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنِّي
لأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّان وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ والخطِيبُ وصحَّحوه، وَقد أُعِلَّ ذِكرُ الْبَسْمَلَةِ)}.
ذكر المؤلف هنا حديث نُعَيْمِ الـمُجْمِرِ، سُمِّيَ بهذا الاسم نسبةً إلى الجمر
الذي يوضع فيه العود؛ لأنَّه كان يفعل ذلك في المسجد، فأُثني عليه بهذا الوصف.
قال: (صلَّيتُ وَرَاءَ أَبي هُرَيْرَةَ) وأبو هريرة
من الصَّحابة الذين يحفظون أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم،
(فَقَرَأَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾،
ثُمَّ قَرَأَ بِأمِّ الْقُرْآنِ) استدلَّ به الشَّافعيَّة على أنَّ البسملة
من الفاتحة وأنَّه يُجهر بها.
والجمهور يقولون: إنَّ البسملة ليست من الفاتحة، وأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
لم يكن يجهر بها.
قال: (ثُمَّ قَرَأَ بِأمِّ الْقُرْآنِ) فيه مشروعيَّة
قراءة الفاتحة في الصَّلاة،
(حَتَّى إِذا بَلَغَ: ﴿وَلَا
الضَّالِّينَ﴾، قَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاس: آمِينَ)، وفي هذا
دلالةٌ على استحباب قول: "آمين"، وعلى رفعِ الصَّوتِ بالتَّأمين في القراءة.
قال: (وَيَقُولُ كُلَّما سَجَدَ: اللهُ أَكْبَرُ)،
كان في الزَّمان الأوَّلِ اختلافٌ بين الصَّحابة في التَّكبير فيما عدا تكبيرة
الإحرام:
فقال بعضهم: لا يُشرع التَّكبير، فيسجد ويركع بدون تكبير.
وجمهور السَّلف وجمهور الصَّحابة على مشروعيَّة التَّكبير، وقد ثبت التَّكبير مِن
فعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة.
قال: (وَإِذا قَامَ مِنَ الْجُلُوسَ مِنَ الاثْنَتَيْنَ)
يعني قام بعد التَّشهد الأوَّل، (قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ،
ثُمَّ يَقُولُ إِذا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لأَشْبَهُكُمْ
صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفيه مشروعيَّة الاقتداء
بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
{(وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِت رضي الله عنه قَالَ:
كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَثقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا
فَرَغَ قَالَ: «لَعَلَّكُمْ تقرؤونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟»
قُلْنَا: نَعَمْ، هَذًّا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:
«لَا تَفعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ؛ فَإِنَّهُ لَا
صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِهَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ:
إِسْنَادُهُ حسنٌ، وَصَحَّحهُ البُخَارِيُّ، وَتكلَّمَ فِيهِ أَحْمدُ وَابْنُ عبدِ
الْبَرِّ وَغَيرُهـمـَا، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ)}.
هذا الحديث هو مدار البحث في قراءة المأموم للفاتحة، هل هي واجبة أم لا؟ والحديث في
إسناده ابن إسحاق -صاحب السيرة- وابن إسحاق صدوق يُقبَل حديثه، لكنَّه مُدَلِّسٌ،
لا يُقبَل منه حديث إلا ما صرَّح فيه بالتَّحديث، فلا تكفي العنعنة.
وقد وقع الاختلاف في صيغة ابن إسحاق في روايته لهذا الخبر، هل هو بصيغة التَّحديث
-وهو الأظهر- وبالتَّالي نأمن من تدليس ابن إسحاق، أو أنَّه بصيغة العنعنة،
وبالتَّالي يكون له حكم أمثاله من الأخبار والمراسيل.
وتقدَّم أنَّ الصواب صحة الخبر، أو أنَّ الخبر حسن، وبالتَّالي فإنَّه يُعمل به.
قال عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ: (كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم فَثقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ) أي: أصبح يُتَعْتِع فيها ويُرَدِّدها
مرة بعد أخرى
(فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «لَعَلَّكُمْ
تقرؤونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟») يعني أنَّ المأمومين يقرءون خلف
الإمام، يستفسر عن ذلك، (قُلْنَا: نَعَمْ، هَذًّا يَا
رَسُولَ اللهِ) يعني نقرأها بسرعة (قَالَ:
«لَا تَفعَلُو») أي: لا تقرءوا وقت قراءة الإمام،
«إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتابِ»، فاستُدلَّ بهذا على أنَّ فاتحة الكتاب
واجبة على المأموم، كما هو مذهب الإمام الشَّافعي -رحمه الله. والجمهور يقولون
إنَّها ليست بواجبة.
واستدل لمذهب الشافعي بقوله: «فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ
لَا يَقْرَأُ بِهَ»
والجمهور يقولون: قراءة الإمام قراءة للمأموم، ولعلَّ مذهب الإمام الشافعي في هذا
أرجح.
بارك الله فيكم، ووفقك الله للخير، وجزاك الله أحسن الجزاء، هذا والله أعلم، وصلى
الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{جزاك الله خيرًا، باسمي وباسم المتابعين الكرام، نشكر معالي الشَّيخ سعد بن ناصر
الشثري، جزاك الله خيرًا، وكتب الله أجرك شيخنا الكريم، ورفع الله قدرك}.
الله يبارك فيك، أشكرك على حسن تقديمك، وأسأل الله لإخواني ممَّن يُرتِّب هذا
اللقاء التَّوفيق لكل خير، كما أسأله -جل وعلا- لجميع المسلمين أن يكونوا موَّفقين
في أمورهم، وقد صلُحت أحوالهم، واستقامت أمورهم، وارتفعت درجاتهم، هذا والله أعلم،
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------------------------
[81] صحيح، ابن ماجة (945)
[82] صحيح مسلم 1296
[83] البخاري ومسلم
[84] البخاري (710) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾. وَفِي رِوَايَةٍ: "صَلَّيْتُ مَعَ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". وَلِمُسْلِمٍ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالمِينَ﴾، لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي
أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا".
[85] صحيح مسلم (603).
[86] صحيح البخاري (694).
[87] صحيح مسلم (627).
[88] ذكره الصنعاني في سبل السلام بلفظ "يرفعُ يديهِ عندَ الافتتاحِ ثُمَّ لا
يعودُ" (1/266)، وضعفه.
[89] تقدم تخريجه في (1)
[90] سنن الدارقطني (1062).