الدرس الثالث والعشرون

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

8521 24
الدرس الثالث والعشرون

المحرر في الحديث (1)

الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمُرسلين، أمَّا بعد:
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ مِن لقاءاتنا في قراءة كتاب "المحرر" للمحدث الفقيه العلامَّة الإمِام ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى- وكُنَّا قَد ابتدأنا بذكر أحكام صلاة التَّطوع، وكان مِن أَواخر المَسائل التي أخذناها حُكم صَلاة الوِتْر، وَذَكرنا أنَّ الجُمهور يَرون أنَّ صلاة الوِتْر مِن المُستحبات، وأنَّها ليست مِنَ الواجبات، ويستدلون على ذلك بما وَرَدَ في الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خمس صلوات مكتوبات في اليوم والليلة»[124].
ولمَّا سَأَلَ عَن الواجب مِنَ الصَّلاة، قال: «خمس صلوات في اليوم والليلة» فَدَلَّ هذا على عَدم وُجوب مَا سواها ومن ذلك صلاة الوِتْر.
واستدلوا كذلك بما ورد عَن عَلي -رضي الله عنه- أنَّه قَالَ: "لَيسَ الوِتْر بِحتمٍ كَهَيئةِ المَكْتوبةِ، ولَكِنَّهُ سنَّةٌ سنَّها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ"[125] كما رواه الترمذي وحسنه.
 
وقد جاء في حديث عند ابن حبان أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه في قيام شهر رمضان: «خشيتُ أن يُكُتب عَلَيْكُمْ»[126] وكان مِن صَلاة الليل في رمضان مَا يتعلق بصلاة الوِتْر.
وذَهَبَ فُقهاء الحَنَفية إلى أنَّ الوِتْر واجب، وعندهم أنَّ الواجب أقل رُتبة مِن الفرض، فهو مَا ثَبَتَ إيجابه والأمر به بدليل ظني، بخلاف الفرض، فهو الذي وَرَدَ بدليل قَطعي. وكان لهم أدلة واستدلالات في هذا الباب، وقد ذكرنا مَا يُشير إليها فيما مضى.
وكان مِن أواخر مَا ذَكَرنَا، مَسألة: "مَن أوتر في أول الليل، ثُمَّ قام في آخره، فماذا يفعل؟
وقلنا: إنَّ الصَّواب أنَّه يُصلي شَفْعًا ولا يوتر، وذلك لقول النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ»[127] فإذا نَهَى وَنَفَى الوِتْرين في الليلة، فهذا دليلٌ على النَّفي لِمَا هُو أكثر مِن الوِتْرين، كالثَّلاثة ومَا سواها.
ولعلنا نواصل قراءة كتاب المحرر في هذا الباب.
تفضل.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله  عليه وعلى آله وسلم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميع المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ أُبيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُوتِرُ بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1] و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن ماجة وَالنَّسَائِيُّ -وَزَاد: وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ)}.
قول: (أُبيِّ بنِ كَعْبٍ رضي الله عنه) في هذا الحديث: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُوتِرُ) فيه مشروعية الوِتْر، وفيه استحباب المُداومة على الوِتْر كما فَعَلَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
وقوله: بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي: أنَّه يَقرأ في الركعة الأولى بسُورة (الأعلى)، وفي الركعة الثَّانية بسُورة (الكافرون)، وفي الركعة الثالثة بسُورة (الإخلاص).
والقول باستحباب قِراءة هذه السور الثلاث هُو مَذهب الجُمهور، وَخَالفهم الإمام الشافعي، فقال: إنَّ المُستحب أن يَقرأ سُورة (الإخلاص) في الأولى، وسُورة (الفلق) في الثانية، وسُورة (النَّاس) في الثَّالثة، واعتمد على حديث وَرَدَ في ذلك لكنَّه ضعيف الإسناد، ومِن ثَمَّ كان قول الجمهور بتفضيل قراءة هذه السور الثلاث أولى؛ نظرًا لصحة الحديث الذي استندوا إليه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الغالب مِن أَحوال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوتر بثلاث ركعات، وقد أُثر عَنه أنَّه أوتَرَ بأكثر من هذا، لكنَّ الغَالب مِن أحواله أنَّه يُوتر بثلاث ركعات.
واستُدل بالحديث على جَواز قَرن الرَّكعات الثلاث، فمن صلى الوِتْر ثلاثًا فإنَّه حينئذٍ له ثلاث أحوال:
الحال الأول: أن يُصليها بتفريق بين الركعة والركعة بسلام، فيصلي ركعتين ثم يجلس للتشهد، فيسلم ثم يصلي ركعة، وهذا أكمل الأحوال وأَكثرَ مَا وَرَدَ في النَّصوص.
الحال الثاني: ورد أنَّه كان يُصلى ثلاث ركعات بتسليم واحد دون أن يكون في أثناءها جلسة للتشهد.
الحال الثَّالث: وَرَدَ أنَّه يُصلي ثلاثًا يَجلس للتَّشهد في أثنائها، وبعض العلماء نهى عن الصورة الثالثة، واستدل على ذلك بما ورد في الخبر، مِن أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- نَهى عَن تَشبيه صلاة الوِتْر بصلاة المغرب[128]، لكن أكثر أهل العلم مِن أَهل الحديث لا يَرون صِحة هذا الخبر، وبالتالي لم يعولوا عليه.
وحينئذٍ يكون الإنسان مخير على هذه الأحوال الثلاثة، ولا يصح أن يستدل بالحديث على المنع من أداء صلاة الوِتْر بركعة واحدة، لأنَّه فعل، والفعل النَّبوي لا يَنْتَهض وحده لمنع مَا سواه مِن الأحوال والأوجه.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي منَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي آخِرِهَا. رَوَاهُ مُسلمٌ.)}.
حديث عائشة فيه أداء صلاة الوِتْر بخمس ركعات (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي منَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) فهذا فيه مَشروعية أداء صلاة الليل، وقد جاءت النُّصوص بالترغيب في صلاة الليل والحثِّ عَليه وذكر فضيلة ذلك، وقد قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ»[129].
وقد استَدَلَّ بَعضُ الفُقَهاء بهذا الحديث على عدم جواز الزيادة عَن ثلاث عشرة ركعة في صلاة الليل، سواء كان في رمضان أو في غير رمضان.
وقد وَرَدَ في بعض ألفاظ هذا الخبر أنها -رضي الله عنها- قالت: "كان لا يزيد على ثماني ركعات في رمضان ولا في غيره" وهذا الحديث رواه الإمام مسلم وهو حديث صحيح، ومِن ثَمَّ هل يقال: إنَّه لا يُزاد عَن هذا المقدار كما قال بذلك بعض المحدثين؟
قال الجمهور بخلاف هذا.
فقالوا: إنَّه لا مَانع مِن الزيادة عَن هذا المقدار، واستدلوا على ذلك بما وَرَدَ في حديث ابن عمر، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى»[130] فلم يَحد صلاة الليل بِحَدٍ مُعين.
 ومِن هنا قالوا: إنَّ فِعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان بسبب إطالته للقراءة، وهذه الصَّلاة التي كان يُصليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي مِن الفِعل، ولا يَدُلُّ فعله عَلى المنع مما سواه.
وقد وَرَدَ أنَّ الصَّحابة لمَّا صلوا صلاة التراويح صَلوها عشرين ركعة[131]، وقد وَرَدَ ذلك مَرفوعًا للنَّبي -صلى الله عليه وسلم، لكنَّ أهل العلم يتكلمون في إسناده.
وقوله: (يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ) فيه جَواز صَلاة الوِتْر بخمس ركعات، وفيه أنَّ مَن صَلَّى الوِتْر بخمس ركعات، فإنَّ المُستحب له أن يواصل حتى لا يجلس بينها للتشهد، ولا يُسلم فيما بينها كما هو فعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم. 
{(وعنها قَالَتْ: مِن ْكُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قوله هنا: (مِن ْكُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم) فيه دلالة على أنَّ الوِتْر يَجوز في كل لحظة من لحظات الليل، وفيه أنَّ الوِتْر يَجوز أن يَكون في أول الليل وفي أوسطه وفي آخره.
وقولها: (فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ) المراد بالسَّحر: السُّدس الأخير مِن الليل، وفيه فضيلة أن يكون الوِتْر في هذا الوقت، وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على استحباب تأخير صلاة الوِتْر إلى السَّحر؛ لأنَّه آخِر أحوال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في اختيار الوقت الذي يُصلي فيه صلاة الوِتْر.
وقد استَدَلَّ بعض الشَّافعية بهذا الحديث على جَواز فَعل الوِتْر قَبل صَلاة العِشاء، لأنها قالت: (مِن ْكُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ) وقالت: (مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ) والجُمهور يُخالفون الشَّافعية في هَذا الحُكمُ، ويقولون: إنَّ صلاة الوِتْر لا تَبتدئ إِلَّا بَعد صَلاة العِشاء، ويستدلون على ذلك بما وَرَدَ في الحديث، وفيه أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوِتْر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر»[132] فَدَلَّ هذا على أنَّ الوِتْر لا يكون إِلَّا بعد صلاة العِشاء.
ولكن لو قُدِّرَ أنَّ الإنسان جَمَعَ العِشاء مَع المَغرب جمع تقديم إمَّا لسفر أو لمرض أو لمطر، فحينئذٍ لا بأس أن يُصلي صلاة الوِتْر ولو لم يدخل بعد وقت العشاء؛ لأنَّه قد صلى صلاة العشاء.
{(وَعَنْ أَبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّرضي الله عنه، أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُو»  رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث فيه الأمر بالوِتْر، وهو مِن أدلة الحنفية على إيجاب صلاة الوِتْر، والجمهور يَرون أنَّ الوِتْر مِن المُستحبات وليس مِن الواجبات على ما تقدم.
وقوله: «قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُو» أي: قبل أن يأتيكم وقت الفجر، وفيه دلالة على أنَّ وقت الوِتْر يَنتهي بأول دخول وقت الفجر، وأنَّه لا يَجوز أن يُصَلَّى الوِتْر بَعد دُخول وقت الفجر، وذلك لأنَّ صَلاة الوِتْر مُحددة بوقت، فَإذا خرج وقتها لم يُشرع فِعلها.
ومَا وَرَدَ مِن الأحاديث في أنَّ صَلاة الوِتْر تُقضى مِن الضُّحى، أي: مِن ضُحى الغَد، ومعناه أنَّ الوِتْر لا يُقضى على هَيئته، وإنَّما يُقضى على صِفة الشَّفعِ، وذلك بزيادة ركعة عَن صلاته في الليل.
{(وَرَوَى عَنْ جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ»)}.
قوله هنا: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ» الحنفية يَرون أنَّه مِن أدلة وُجوب الوِتْر؛ لأنَّ كلمة "يوتر" فعل مُضارع مَسبوق بلام الأمر، ولكن الأمر إذا ورد مقيدًا فَيُراد به مَشروعية الفِعل في ذلك القَيد أو في ذلك الوقت.
وفي هذا دلالة على جواز فعل صلاة الوِتْر في أَول الليل، وفي الحديث أيضًا أنَّ الأفضل في صلاة الوِتْر أن تكون آخر الليل.
وقوله: «فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» أي: تشهدها مَلائكة الليل وملائكة النَّهار. وكما تقدم أنَّ هذا الخبر ظاهره أنَّ أي وِتْرٍ مُجزئ، وبالتالي الركعة الواحدة في صلاة الوِتْر مُجزئة كما قال الجمهور خلافًا للحنفية.
قد أَشَرتُ قبل قليل إلى مَا يُقرأ في صلاة الوِتْر، وذكرتُ أنَّ الجمهور يقولون: يُقرأ في الأولى بالأعلى، والثانية بـ "الكافرون"، والثالثة بالإخلاص.
الشَّافعي قال: يُقرأ في الأولى بسُورة "الأعلى"، وفي الثانية بسُورة "الكافرون" وفي الثالثة بالسور الثلاث، "الإخلاص والمعوذتين"، ومذهب الجمهور أقوى؛ لأنَّه هو الذي صَحَّ به الحديث.
وقد وَرَدَ عند أبي داود أنَّه قَرأ في الثَّالثة بالإخلاص والمعوذتين، ولكن في إسناده راو لا يحتمل أن ينفرد بالحديث وأن يخالف رواية غيره، وبالتالي طعن فيها.
{(وَعَنِ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالوِتْر، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، -وَقَالَ: "سُلَيْمَان بن مُوسَى تَفرَّدَ بِهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظ"-، وَلم نَرَ أَحَدَاً منَ الْمُتَقَدِّمِينَ تَكلَّمَ فِيهِ، وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْد أَهلِ الحَدِيث، وَقَالَ البُخَارِيُّ: "عِنْدَهُ مَنَاكِير"، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الحَدِيث"، وَقَالَ ابْنُ عَديٍّ: "هُوَ عِنْدِي ثَبْتٌ صَدُوق")}.
هذا الحديث أشار المؤلف إلى تعليله بعدد مِن العِلل، منها أنَّه مِن رِواية سُليمان بن موسى الأشدق، وهو صدوق وفي حديث بعض اللين، وقد أنكر عليه الإمام البُخاري بعض تفرده، لذا قال: (عِنْدَهُ مَنَاكِير).
والأمر الثاني: أنَّه من رواية ابن جريج عن سليمان هذا بصيغة العنعنة، وابن جرير مُدلس لابد أن يُصرح بالسَّماع، ثم هذا الخبر ورد عند الحاكم موقوفًا مِن كلام ابن عمر -رضي الله عنه.
وفي هذا الحديث أنَّ وقت الوِتْر ينتهي بطلوع الفجر، وصلاة الليل يَنتهي وقتها بطلوع الفجر، والمراد الفجر الثَّاني، وحينئذٍ إذا أذن المؤذن الفجر الثاني، فلا يجوز للإنسان أن يُصلي صلاة الوِتْر، انتهى وقتها؛ لأنَّ هذا مِن أَوقات النَّهي.
وقوله: «فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» تثيب لذلك.
{(وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْر أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجه وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقد ضَعَّفَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَرُوِيَ مُرْسلاً. وَإسْنَادُ أَبي دَاوُد لَا بَأْسَ بِهِ)}.
هذا الحديث وجه الإشكال فيه مِن جهتين:
الجهة الأولى: أنَّه لم يُقيد قضاء الوِتْر وصلاة الليل بوقت، وإنما أطلقه، بينما ورد في الأحاديث الأخرى تقييده، بأن يفعل ذلك قبل زوال الشمس.
والأمر الثاني: أنه قال: «مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْر أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» فهذا كأن ظاهره إيجاب هذا وهو ليس مِن الواجبات، وقد ورد في الأحاديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لما فاتته صلاة الليل والوِتْر قضاه من الغد قبل الزوال شفعًا بدون وتر.
{(وَقد رَوَى ابْنُ حِبَّان مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ، فَلَا وِتْرَ لَهُ»)}.
تقدم الخبر أنَّ وقت الوِتْر ينتهي بطلوع الفجر، وأنَّ مَن فاته لعذر جاز له أن يقضيه من الغد ضحى.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عليه وسلم بثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، ونومٍ عَلَى وِتْرٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلَفظه للْبُخَارِيِّ، وَرَوَى مُسلمٌ نَحْوَه منْ حَدِيثِ أبي الدَّرْدَاء، وَأحمدُ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَه من حَدِيث أَبي ذَرٍّ)}.
هذا الحديث فيه الترغيب في ثلاثة أعمال:
 أولها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يرد تبديدها في هذا الخبر، وبالتالي الأصل أنها مُطْلَقَة، إن أراد أن يصومها متتابعة أو يصومها متفرقة، وسواء كانت أول الشهر أو مِن وسطه أو مِن آخره، وقد ورد في عدد من الأحاديث الترغيب في أن تكون هذه الأيام الثلاثة هي الأيام البيض، ولكن أيام التشريق لا يجوز صومها.
 وقوله هنا: (وَصَلَاةِ الضُّحَى) فيه استحباب صلاة الضحى، وقد اتفق العلماء في الجملة على أنَّ صلاة الضحى مُستحبة، ولكن ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سُئلت: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى؟
قالت: "لا إلا أن يجئ مِن مَغيبه، وفي لفظ قالت: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي صلاة الضحى قط، وإني لأسبحهما" أي: أصليهما.
وحينئذٍ وقع الاختلاف، فمنهم مَن قَال: إنَّ مَن نَفى صلاة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- للضحى نَفَى عِلمه بذلك، ولم ينفِ حقيقة الصَّلاة.
بينما آخرون قالوا: إنَّه إنما يصلى الضُّحى إذا لم يُصلِ بالليل، وأمَّا إِذا صَلَّى بالليل فإنَّه يكتفى به.
ولعل القول الثالث باستحباب صلاة الضحى مُطلقًا أرجح، لوجود عدد من الأحاديث النبوية التي ترغب في أداء صلاة الضُّحى.
{(وَعَنْ أُمِّ هَانِيءٍ بنتِ أَبي طَالب قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» فَقلتُ: أُمُّ هَانِيءٍ بنتُ أَبي طَالبٍ، فَقَالَ: «مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِيءٍ». فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثوبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بن أَبي طَالبٍ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً أَجَرْتُهُ: فُلَانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: «قَدْ أَجَرْتُ مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِيءٍ» قالت أُمُّ هانيءٍ: وَذَلِكَ ضُحىً. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفظُ لمسلم)}.
أم هانئ بنت أبي طالب ابنة عَمِّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم، أخت للصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، قالت: (ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ) أي: فتح مكة، وكان في السَّنة الثَّامنة، وذلك بعد الفتح، قالت:  (فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ) أي: إنَّها سَألت عَنه، فقيل لها: إنَّه يَغتسل، وكانوا يَضعون ثوبًا يَستر المُغتسل.
قال: (وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ) أي: تمسكه دون أن تُشاهده (قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ) يعني: أم هانئ سَلَّمَت على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- (فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» فَقلتُ: أُمُّ هَانِيءٍ بنتُ أَبي طَالبٍ، فَقَالَ: «مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِيءٍ») وهي ابنة عَمه وكانت امرأة كبيرة السن.
(فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) هذه الركعات وقع الاختلاف بين العُلماء فيما هي، فقالت طائفة:
هي صلاة الضحى، واستدلوا على ذلك باستحباب أن تكون صلاة الضُّحى بثمانِ ركعات، كما هو فِعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخبر.
بينما قال آخرون: إنَّ هذه الصَّلاة هي صلاة الفَتح؛ لأنَّها وقعت بعد فتح مكة، وقالوا: إنَّه لم يؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كان يُحافظ على هذا العدد في صلاة الضُّحى.
وقال آخرون: إنَّها قضاء مَا فَاتَه مِن صلاة الليل.
وقولها: (مُلْتَحِفاً فِي ثوبٍ وَاحِدٍ) أي: قد التَفَّ بذلك الثَّوب، ففيه جواز الصَّلاة في الثوب الواحد.
قالت: (فَلَمَّا انْصَرفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! زَعَمَ ابْنُ أُمِّي) هي أم هانئ بنت أبي طالب، تتكلم عن أخيها علي -رضي الله عنه.
قالت:  (زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بن أَبي طَالبٍ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً أَجَرْتُهُ) أي: أعطته الأمان وحميته، وتكفلت له بأن لا يأتي إليه أحد من المسلمين (فُلَانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: «قَدْ أَجَرْتُ مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِيءٍ») ففيه أنَّ الأمان للواحد يجوز أن يكون مِن المرأة، فيجوز أن يكون مِن الواحد مِن النَّاس.
قالت: (وَذَلِكَ ضُحىً) يعني: أدائه لهذه الصَّلاة ضُحى، ولذلك قال بعضهم: إنها صلاة ضحى.
(مُتَّفقٌ عَلَيْهِ) أي: أخرجه البخاري ومسلم.
{(وَعَنْ زيدِ بنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه: أَنَّهُ رَأَى قَومَاً يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلاة فِي غَيرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- (أَنَّهُ رَأَى قَومَاً يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ) من الذي رآهم؟
زيد بن أرقم، ومسجد قباء مكان فاضل، قد وَرَدَ أنَّ مَن صَلَّى فِيه رَكعَتين كُتب له أَجْرُ عُمرةٍ، وكان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يَخرج إليه في كل سَبت، ولكن هذا المسجد، أي: مسجد قباء ليس مما تُشَدُّ إليه الرِّحال؛ لأنَّ مَن كَان في المدينة إذا أراد أن يذهب إلى قباء لا يَشُد الرحلة.
فقال زيد -رضي الله عنه: (أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلاة فِي غَيرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ) يعني هناك ساعات أفضل كصلاة الليل (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الفِصَالُ») المراد بالفصال صغار الإبل.
وقوله: «تَرْمَضُ الفِصَالُ» أي: تصيبها الرَّمضاء، والمراد بالرَّمضاء: الحرارة الشديدة التي تكون في الأرض نتيجة ارتفاع الشمس.
قال: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ» الأوَّاب هو الرَّجاع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- إمَّا بالتوبة وإمَّا بالطَّاعات، وهذا يعني أنَّ آَخِرَ وقت صلاة الضُّحى أَفضل؛ لأنَّه هو الوقت التي تَحس الفِصال فِيه بِحَر الرَّمضاء.
وقوله: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ» ذكر بعض أهل العلم أنَّ الأفضل في صلاة الضُّحى تأخيرها، وتأخيرها إلى متى؟
قال بعضهم: إلى ارتفاع الشمس، وقال بعضهم: إلى أن تكون قريبة من زوال الشمس، وقد ورد في بعض روايات الحديث، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذا رمضت الفِصَالُ من الضحى».
ففي هذا الحديث دلالة على تفضيل هذا الوقت، وليس فيه دَلالة عَلى مَنع صَلاة الضُّحى مِن أن تُؤدى في وقت آخر.
{بالنسبة لصلاة الضحى، ممكن أن يُصليها بعد الشروق مُباشرة}
يُصليها بعد شروق الشَّمس وارتفاعها قيد رُمح؛ لأنَّ قبل هذا وقت نهي.
{هل يصح الجمهع بين صلاتي الشروق والضحى في نية واحدة؟}
صلاة الشروق هي جزء مِن صلاة الضحى.
{(وَرَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَاً وَيزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ)}.
في هذا الحديث قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ) فيه مَشروعية صَلاة الضُّحى وَمَشروعية المُدَاومة عليها، ومشروعية أن تُؤدى َصلاة الضُّحى بأربع ركعات، وجواز أن تؤدى صلاة الضُّحى بأكثر من ذلك.
وهذا الحديث فيه إشكالات، وهو أنَّه قَد وَرَدَ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَكن يُصلي صلاة الضُّحى، وحينئذٍ نحمل حديث النَّفي على نَفي المُداومة، وحديث الإثبات على أنَّه فَعَلَها ولم يَكن يُداوم عليها.
وقوله: (كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ) فيه استحباب صَلاة الضُّحى بأربع ركعات، وقد اختَلَفَ أهلُ العِلم، هل المُراد أربع ركعات بتسليم واحد؟ أو بتسلمتين؟ بعد الثنتي تسليمة وبعد الثنتي الأخريين تسليمة.
قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَاً وَيزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ) فيه جواز الزيادة على هذا المقدار.
{(وَلهُ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لعَائِشَةَ: هَل كَانَ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ)}.
قال: (وَلهُ) يعني: للإمام مسلم -رحمه الله- (عَنْ عبدِ اللهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لعَائِشَةَ: هَل كَانَ النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟) لأنه في العَصر الأول وقع اختلاف بين العُلماء في مَشروعية صَلاة الضُّحى، ثُمَّ وَقَعَ الاتفاق بعد ذلك.
قال: (قَالَتْ: لَ) يعني: لم يَكن يُصلي صَلاة الضُّحى، ولعله كان يَكتفي في ذلك بصلاة الليل، قالت: (إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ) أي: إذا حَضَرَ مِن السَّفر، صلى في يوم حضوره صلاة الضُّحى، وذلك لأنَّه في الأسفار لم يكن يُصلي بالليل، فَشُرَعَ له أن يَفعل صَلاته بالنَّهار وَقْتَ إقامته.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفرَضَ عَلَيْهِم. رَوَاهُ مُسلمٌ أَيضَ)}.
هذا الحديث حديث عَائشة (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى) أي: نافلة الضُّحى وَسُنَّة الضُّحى. (قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَ) ذهب بعض العلماء إلى أنَّ هذا الحديث فيه دليل على عدم مشروعية صلاة الضُّحى؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يُصليها، لكن هناك أحاديث دَلَّتْ عَلى أنَّه صَلَّى، والأحاديث المثبتة مُقدمة على أحاديث النَّفي، ولذلك كانت عائشة تُصليها، وقد بينت العِلة في عدم صلاة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أنه خَشِيَ أن يَعمل النَّاس به فَيُفْرَض عَليهم.
وفيه دَلالة على أنَّ صَلاة الضُّحى ليست واجبة ولا مفروضة.
قالت: (وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ) يعني: من المُستحبات (وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفرَضَ عَلَيْهِم) فهذا من شفقته -صلى الله عليه وسلم.
{(وَعَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: تُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ قَالَ: لَا. قلتُ فالنَّبي صَلَّى اللهُ عليه وسلم؟ قَالَ: لَا إخَالُهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
(لَا إخَالُهُ) يعني لا أظنه.
هذا دليلٌ مِن أَدلة مَن يَرى عَدم مَشروعية صَلاة الضُّحى، ولكن -كما تقدم- أنَّ عَدَم فِعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- له في بَعض مَواطنه لا يَدُلُّ عَلى عَدم مَشروعيته، فَقد رَغَّبَ في صيام يوم وإفطار يوم، ومع ذلك لم يَكن -صلى الله عليه وسلم- يَفعله، فلا نَستَدِلُ بهذا عَلى عَدم مَشروعيته.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُورة مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُول: «إِذا هَمَّ أَحَدُكُم بِالأَمْرِ فَلْيَرَكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنتَ عَلاَّمُ الغُيوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعاشِي وعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَو قَالَ عَاجلِ أَمْرِي وآجِلِهِ، فاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي ومَعاشِي وعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَو قَالَ عَاجِل أَمْرِي وآجلِه فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عَنهُ، واقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي» قَالَ: «ويُسَمِّي حَاجَتَهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ البُخَارِيُّ- وَعِنْده: «ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ»، وَعِنْدَ أَبي دَاوُد، وَهُوَ رِوَايَةٌ للْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»)}.
هذا الحديث في دعاء الاستخارة، وفيه أنَّه يُستَحَب للإنسان قبل أن يَقدم على أَمر مَا هُو مُتردد فيه، ولا يَعلم المَصلَحَة والخير في أي الجانبين وحينها يُصلي صَلاة الاستخارة، وفي الحديث أنَّ صَلاة الاستخارة ودعاء الاستخارة ليس مُقتصرًا على هذا السبب، بل كل أَمر يَتَرَدد فيه الإنسان يَنبغي له أن يَستَخِير الله -جَلَّ وَعَلا؛ ولذا قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُورة مِنَ الْقُرْآنِ).
وفيه استحباب حِفظ دُعاء الاستخارة.
وقوله: «إِذا هَمَّ أَحَدُكُم» أي: عَزَمَ، فإنَّ الهمَّ يُراد بِه العَزم المُؤكد «إِذا هَمَّ أَحَدُكُم بِالأَمْرِ فَلْيَرَكَعْ رَكْعَتَيْنِ» ظَاهره أنّ صَلاة الاستخارة واجبة؛ لأنَّ الأصل في الأوامر الوجوب، ولكن الأمر هُنا صُرف لأنَّه وَرَدَ عِند عَدم تَوَهُم مَشروعية هذه الصَّلاة، فهذا دليل على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّبُ في هاتين الركعتين.
قال: (كَمَا يُعَلِّمُنَا السُورة مِنَ الْقُرْآنِ) فيه الترغيب في حفظ دعاء الاستخارة.
يقول: «إِذا هَمَّ أَحَدُكُم» جَزَمَ به أو تَرَدَدَ فيه.
«بِالأَمْرِ» هنا اسم جنس مُعرف بال فيفيد العموم في جميع الأمور وجميع القضايا، ولكن مَا جُزِمَ فِيه بِجانب الخير والمصلحة لا يُشرع فيه الاستخارة، كأداء الصَّلاة، وهكذا إذا تكرر الأمر مع الإنسان، فإنَّه لا يشرع فيه دعاء استخارة، إذ لم يفعله -صلى الله عليه وسلم.
قال: «فَلْيَرَكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيرِ الْفَرِيضَةِ» فيه دلالة على أنَّ دعاء الاستخارة لا يتقيد بصلاة خاصة، بل يكون بأي ركعتين مِن ركَعات النَّوافل، سواء كانت سنة راتبة أو تحية مسجد أو سنة وضوء أو سنة طواف أو غيرها من أنواع الصَّلاة، بشرط أن تكون من غير الفريضة.
«ثُمَّ لِيَقُلْ» "يقل" هنا فعل مُضارع مَسبوق بلام الأمر، والأصل أن يكون للوجوب، ولكن لما كان هذا الحديث لتعليم الإنسان المشروع له في هذه الحال كان هذا على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب.
قال: «ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»، «أَسْتَخِيرُكَ» أي: أطلب الخير منك، وأطلب أن تَدلني على خير الأمور، و«اللَّهُمَّ» أصلها يا الله «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ» هذا توسل لله -عز وجل- بصفاته.
قال: «وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» أي: أطلب الحول والقوة والقدرة على شأني بقدرتك، أي: استمدها من قدرة الله -عز وجل، وفي هذا دلالة على أنَّ الإنسان عاجز، لا يتمكن من شيء إلا بأمر الله -جل وعلا.
قوله: «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ» أي: أطلب منك يا ربي أن تُعطيني من فضلك العظيم، أي: ما أنعمت به من نعم كثيرة وخيرات متتابعة «فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ» فهو علام الغيوب -سبحانه وتعالى.
 «وَأَنتَ عَلاَّمُ الغُيوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعاشِي وعَاقِبَةِ أَمْرِي»، «فِي دِينِي» أي: عبادتي لله -عز وجل، «وَمَعاشِي» أي: دنياني التي اعتاش فيها «وعَاقِبَةِ أَمْرِي» أي: ما يؤول إليه أمر «أَو قَالَ عَاجلِ أَمْرِي وآجِلِهِ، فاقْدُرْهُ لِي» أي: اكتبه لي، واجعله قد قضي لي به «وَيَسِّرْهُ لِي» أي: هَوِّن الطريق له «ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيه» أي: عَظِّم نَفعه عِندي.
«وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي ومَعاشِي وعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَو قَالَ عَاجِل أَمْرِي وآجلِه فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عَنهُ» هذا فيه دُعاء الله -عز وجل- بالصرف عن الأمور التي تكون الشرور فيها غالبة.
قال: «واقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ» أي: قَدِّره لي «ثُمَّ أَرْضِنِي» أي: اجعلني راضيًا بقضائك غَير مُتسخطٍ ولا جَزع مِن مَا أعطيته لي.
وفي لفظ قال: «رَضِّنِي بِهِ» بتشديد، وكلاهما يُؤدي نفس المعنى (قَالَ: «ويُسَمِّي حَاجَتَهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -عَنِ الشَّيْخِ الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ البُخَارِيُّ- وَعِنْده: «ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ»، وَعِنْدَ أَبي دَاوُد، وَهُوَ رِوَايَةٌ للْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»).
{(بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ)}.
لعلنا نقف على هذا، ونكون بذلك قد أنهينا باب صلاة التطوع، وسننتقل إلى سجود التِّلاوة والشكر في درس قادم -بإذن الله جل وعلا.
فأسأل الله أن يبارك فيكم، وأن يوفقكم، وأن يجعلكم الهداة المهتدين، كما أسأله -جل وعلا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردها إلى دينه رداً حميدًا جميلاً.
كما أسأله -جل وعلا- أن يكفينا شر كل من أراد بنا سوءً أو شرًّا.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------------------
[124] أخرجه الدارمي 1531 ومالك في الموطأ 248 وأحمد 21690 عن عبادة قال: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا لِلْقَادِرِينَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ"
[125] أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجة.
[126] رواه البخاري ( 1129 ) وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصحابه ليالٍ، ولما كانت الثالثة أو الرابعة لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ"، وفي لفظ مسلم (761) "وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا".
[127] أبو داود والنسائي وصححه الألباني في صحيحي أبي داود والنسائي
[128] أخرجه الحاكم ( 1/304) والبيهقي ( 3/31) والدار قطني ( ص172) وصححه الحاكم على شرطهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا توتِرْ بثلاثٍ تُشَبِّهوا بالمغربِ"
[129] مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ"
[130] رواه البخاري(946) ، ومسلم (749) عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى".
[131] قال الإمام الترمذي رحمه الله في سننه (3/169): "وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ وَهَكَذَا أَدْرَكْتُ بِبَلَدِنَا بِمَكَّةَ يُصَلُّونَ عِشْرِينَ رَكْعَةً.
[132] رواه الترمذي في (الصلاة) برقم (414)، وأبو داود في (الصلاة) برقم (1208).وورد بلفظ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً، أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك