{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ: أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا ومرحبًا بكم.
{نستكمل في هذه الحلقة شرح "قطر النَّدى"، قال: ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ التوابعِ: يَتبع ما قبله في إعرابه خمسةٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فحيَّاكم الله في الدرس العشرين من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لشيخنا ابن هشام -عليه رحمة الله-، ونحن في مدينة الرِّياض في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف.
كنَّا قد توقفنا على باب التوابع، بعد أن انتهينا من الكلام على الأسماء العاملة عمل فعلها، فبدأ شيخنا ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- بالكلام على باب التوابع فقال: (يَتبع ما قبله في إعرابه خمسةٌ).
أولًا: ما المراد بالتوابع؟
التوابع: جمعُ تابع، والمراد بالتابع: هي الكلمة التي تتبع ما قبلها في إعرابها، يعني أنَّ لها إعرابًا، ولكنه ليس بمعيَّنٍ ولا مُحدَّدٍ، فكل باب من الأبواب السابقة كان له حكم إعرابي خاص، فالفاعل حكمه الرفع، والمفعول به حكمه النصب، والمضاف إليه حكمه الجر، وأما هذه التوابع فلها حكمٌ إعرابي، ولكنه ليس ثابتًا، وإنما تتبعُ فيه ما قبلها في الرفع والنصب والجر والجزم، ويُسمِّيه بعضهم: "إمَّعات النحو" كما شرحنا في شرح المبتدئين.
عدد التوابع:
بعضهم يذكرها أربعة، وبعضهم يجعلها خمسة -كما فعل شيخنا ابن هشام- وذلك لأنهم يفصلون في العطف، فبعضهم يجعله واحدًا فتكون التوابع أربعة، وبعضهم يفصل فيقلو: عطف البيان وعطف النسق؛ كما فعل ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (النعتُ، وهو التابعُ المشتق أو المؤولُ به المبايِنُ لِلَفظ متبوعه)}.
سبق في شرح المبتدئين الكلام على النعت وتعريفه، فلا نريد أن نعيد الكلام عليه، لأن فهمه يحتاجُ إلى مزيد كلام، وقد قلنا ذلك شرح المبتدئين.
وفي شرح المبتدئين أيضًا ركَّزنا على الفرق بين النعت وبين الحال، ونلخص ذلك فنقول:
إنَّ النعت والحال كلاهما صفة من أوصاف الموصوف، فأنت إذا قلت: "جاء محمدٌ الضَّاحكُ" فالضَّحك من صفات محمد، وإذا قلت: "جاء محمدٌ ضاحكًا"، فالضَّحك أيضًا من صفات محمد؛ إلَّا أنَّ الفرق أنَّ الصفة إذا طابقت الموصوف في التعريف أو طابقته في التنكير فتسمى في النحو: "النعت" كـ "جاءَ محمدٌ الضَّاحكُ" فكلاهما معرفة، أو كـ "جاءَ رجلٌ ضاحكٌ" كلاهما نكرة.
أما إذا خالفت الصفة الموصوف، وذلك بأن تكون الصفة نكرة ويكون الموصوف معرفة، كقولك: "جاء محمدٌ ضاحكًا"؛ فالوصف حينئذٍ نسميه في النحو "حال".
فهذا هو الفرق بين الحال والنعت من الناحية اللفظية.
أما من الناحية المعنوية: فالحال يدل على صفة صاحبه ولكن في وقت معيَّنٍ، وهو وقت الفعل، فإذا قلت: "جاءَ محمدٌ ضاحكًا" يعني: محمدٌ متَّصفٌ بالضَّحك في وقت المجيء، لكن قبل المجيء أو بعد المجيء لا تدل على إثبات ولا على نفي.
وأمَّا النعت: فإما أن يكون بالصفات المعروفة في الموصوف، إما صفة دائمة أو معروفة، فإذا قلت: "جاء محمدٌ الضَّاحكُ" فمعنى ذلك أن الضَّحك من الصفات المعروفة في محمد، وإلا ما صحَّ أن تقع نعتًا له، ولهذا فيصح أن تقول ذلك حتى ولو كان محمدٌ وقت المجيء لم يكن ضاحكًا.
وابن هشام هنا في التعريف قال: (التابع)، وهذا يشمل جميع التوابع.
ثم بدأ يُخرج بقيَّة التوابع فقال: (المشتق) ليُخرج التابع الجامد، كالتوكيد "جاء محمدٌ نفسه، جاء الرجال أجمعون"، وكذلك يُخرج البدل وعطف البيان، تقول في البدل: "جاء زيدٌ أبو خالدٍ" وفي العطف تقول: "جاء زيدٌ وخالدٌ"؛ فهذه الأشياء لا يشترط فيها أن تكون مشتقة.
ثم قال: (المشتق أو المؤوَّلُ به)، كأن تقول: "جاء زيدٌ الأسدُ"، فهنا أنت لا تريد الأسد الحقيقي، وإنما هي مؤوَّلة بـ "الشجاع"؛ إذًا هي نعت.
قوله (المباين للفظ متبوعه)، أراد هنا فقط أن يُخرج التوكيد اللفظي، وهو بتكرير اللفظ، كأن تقول: "جاء محمدٌ الكريمُ الكريمُ"، فالأول نعت، والثاني توكيد لفظي وليس نعتًا؛ لأنه مطابق للفظ متبوعه.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وفائدته: تخصيصٌ، أو توضيحٌ، أو مدحٌ، أو ذمٌّ، أو تَرَحُّمٌ، أو توكيدٌ)}.
النعت له أربع فوائد:
الفائدة الأولى: التَّخصيص، وذلك يكون مع المنعوت النكرة، كأن تقول: "جاء رجلٌ كريمٌ"، فوصفت رجلًا بأنه كريمٌ لتخصصه، فهو ما تعرَّفَ وما زال نكرة، ولكن عندما قلت: "رجلٌ كريمٌ" تخصَّصَ، وكما قلنا إنَّ التخصيص هو تضييق التَّنكير، فخرج بذلك كل الرجال غير الكرماء.
الفائدة الثانية: التوضيح، وذلك عندما يكون الموصوف معرفة قد تشتبه أو تلتبس بغيرها، كأن تقول: "جاء زيدٌ الطويلُ" فإن كان زيدٌ هذا قد يلتبس بغيره كأن يكون هناك أكثر من زيد؛ فأردتَّ أن توضحه فقلت: "الطويلُ"؛ فصار واضحًا معروفًا.
الفائدة الثالثة: المدح أو الذَّم أو التَّرحُّم: إذا كان المنعوت معرفة، لكن لا تلتبس بغيرها، يعني: معرفة واضحة ومعروفة للمخاطب، فيأتي بالنعت:
- إما للمدح: مثل: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلفظ "الله" معروف وغير ملتبس بغيره، ثم وصفناه بـ "الرحمن الرحيم" للمدح.
- أو الذَّم: مثل: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فمعلوم أن الشيطان هو إبليس، ثم قلنا "الرجيم" للذَّم.
- أو التَّرحُّم: مثل: "اللهم ارحم عبدكَ المسكين" وصفتَ العبدَ بأن ألمسكين" وأنت تخاطب الله -جَلَّ وَعَلَا- وهو يعلم كل شيء؛ فأنت لا تريد أن توضِّح له مَنْ عبدَه هذا؛ وإنما أردتَّ طلب التَّرحُّم له.
الفائدة الرابعة: التوكيد: إن كان معنى النعت معروفًا قبل اللفظ به، كأن تقول: "جاء من المجتهدين طالبٌ مجتهدٌ"، فـ "مجتهدٌ" معروف؛ لأنه دل عليه قول "المجتهدين" من قبل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، فـ "كاملة" للتوكيد.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (ويتبع منعوتَه في واحدٍ من أوجهِ الإعراب، ومن التعريف والتنكير. ثم إن رَفَعَ ضميرًا مستترًا تَبِعَ في واحد من التذكير والتأنيث، وواحد من الإفراد وفرعَيْهِ. وإلا فهو كالفِعْل، والأحسن "جاءني رجلٌ قعودٌ غلمانُه" ثم "قاعدٌ" ثم "قاعدونَ")}.
ابن هشام هنا أراد أن يقول: إن النعت على نوعين، ولكل نوع من هذين النوعين حكمه:
النوع الأول: النعت الحقيقي، وهو النعت الذي لم يرفع اسمًا ظاهرًا بعده، كقولك: "جاء زيدٌ الفاضل، جاء محمدٌ العالم، أريدُ الكتابَ المفيد".
حكم النعت الحقيقي: يتبع متبوعه في الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًّا، ويتبع في التعريف والتنكير، ويتبع في التذكير والتأنيث، ويتبع في الإفراد والتثنية والجمع، فلابد أن يتبع في واحد من كل هذه الأشياء.
تقول: "مررتُ برجلٍ كريمٍ"، فـ "كريمٍ" تبع "رجلٍ" في الجر وفي التذكير وفي التنكير وفي الإفراد.
وتقول: "مررتُ برجلين كريمين، وبرجالٍ كرامٍ، جاء رجلٌ كريمٌ".
أما النوع الثاني: هو النعت السببي، وهو النعت الذي رفع اسمًا ظاهرًا بعده، كقولك: "مررتُ برجلٍ كريمٍ أبوه، جاء محمدٌ الكريمُ أبوه"، فرفع اسمًا ظاهرًا بعده، فنسميه نعتًا سببيًّا.
حكمه: أنه يتبع متبوعه في الإعراب وفي التعريف والتنكير فقط، ويُعامل في الأمور الباقية معاملة الفعل، ففي التذكير والتأنيث وفي التثنية والجمع يُعامل معاملة الفعل.
ما حكم الفعل مع الفاعل؟
الجواب: يلزم الإفراد سواء كان الفاعل مفردًا أو مثنًى أو جمعًا، تقول "جاء رجلٌ، جاء رجلان، جاء رجالٌ"، فالفعل لزم الإفراد؛ وكذلك النعت السببي يلزم الإفراد.
وعرفنا أن الذي يؤثر في الفعل تذكيرًا وتأنيثًا هو الفاعل، تقول: "جاء محمدٌ، جاءت هند"، وكذلك في النعت السبي.
تقول: "مررتُ برجلٍ كريمٍ أبوه"، فـ "كريمٍ" تبع ما قبله "رجلٍ" في الإعراب وفي التنكير، أما فيما سوى ذلك فيُعامل معاملة الفعل.
كما تقول: "مررتُ برجلٍ يكرُمُ" تقول أيضًا "مررتُ برجلٍ كريمٍ".
وإذا قلت: "مررتُ برجلٍ كريمٍ أخواه" فهنا "كريم" لزم الإفراد كالفعل.
وتقول: "مررتُ برجلٍ كريمةٍ أمُّه" فأنَّثنا "كريمة" لأنه كالفعل يتأثر بالفاعل.
وتقول: "مررتُ برجلٍ كريمةٍ أختاه" أيضًا لزم الإفراد كالفعل، ولكنه أُنِّثَ كالفعل.
وهذا الحكم يُستثنى منه الجمع، كما قال: ابن هشام: (والأحسن "جاءني رجلٌ قعودٌ غلمانُه" ثم "قاعدٌ" ثم "قاعدونَ")، يعني: أنَّنا نستثني من النعت السببي -الذي قلنا إنه يُعامل معاملة الفعل فيلزم الإفراد- الجمعَ؛ فإذا كان مرفوعه جمعًا فالأفضل حينئذٍ أن نأتي بالنعت السببي جمع تكسير، فنقول: "مررتُ برجالٍ كرامٍ آباؤه".
وبعد ذلك في الحسن: الإفراد، تقول: "مررتُ برجلٍ كريمٍ آباؤه".
وبعد ذلك في الحُسن: الجمع السالم، تقول: "مررتُ برجلٍ كريمين آباؤه".
وكذلك في جمع التأنيث:
الأفضل: جمع التكسير، فتقول: "مررتُ برجلٍ كرامٍ جدَّاتُه".
ثم بعد ذلك: الإفراد، تقول: "مررتُ برجلٍ كريمةٍ جداته".
ثم بعد ذلك: الجمع المؤنث السالم، تقول: "مررتُ برجلٍ كريماتٍ جدَّاته".
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (ويجوز قطعُ الصفةِ المعلومِ موصوفُها حقيقةً أو ادِّعاءً، رفعًا بتقدير "هو"، ونصبًا بتقدير "أعني، أو أمدح، أو أَذُمُّ، أو أرحم")}.
هذا يُسمَّى قطع النعت، وهذا أمر يتعلق بالبلاغة، يعني: يعود إلى المعنى، فعندما تصف الموصوف بشيءٍ من صفاته، فتقول: "جاء محمدٌ" ثم تذكر شيئًا من صفاته، كـ "الطويل، الشجاع، العالم"؛ فأنتَ إمَّا أن تقصد أن تجعل هذه الصفات تابعةً للموصوف، وأردتَّ أن تتكلَّم حتى ينتهي الكلام بذكر هذه الأوصاف، فالكلام متواصل؛ فهنا ليس لك إلا الإتباع، تقول: "جاءَ محمدٌ الطويلُ، مررتُ بمحمدٍ الطويلِ".
أما إذا كنتَ قد أردتَّ أن تقف على الموصوف، فقلت: "جاء محمد"، ثم بدا لك بعد ذلك أن تُكمل وتذكر الأوصاف، يعني لم قلت: "جاءَ محمدٌ" وأردتَّ أن تقف ظهر لك أن محمدًا هذا غير واضح؛ فأردتَّ أن تبيِّن مَن هون أو ظننت أن المخاطَب سيسألك مَن هو؛ فأنتَ مباشرة وصلتَ وأجبتَ؛ فحينئذٍ أنت كنتَ أردتَّ قطع الكلام ثم وصلتَ؛ فلكَ أن تصل بالرفع، ويكون التقدير حينئذٍ "جاء محمدٌ هو الطويلُ"، ثم تحذف "هو" المبتدأ وتصل الكلام بعضه ببعض، وهذا يظهر في الصوت، يسمى "الترميز الصوتي" فعندما ترتجل مثلًا.
فإن كان الأصل عندك أنك تصل، تقول: "جاءَ محمدٌ الطويلُ"؛ لكن إن كنتَ أردتَّ أن تقف ثم وصلتَ فإنَّك تقول: "جاء محمدٌ... الطويلُ" فيظهر في الصوت ولا يظهر في الكتابة"، فإمَّا أن ترفع النعت على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ووصلت الكلام وحذفت المبتدأ، فتقول "جاء محمدٌ الطويلُ"، وإما أن تقطع على النَّصب، فتقول: "جاء محمدٌ الطويلَ"، على تقدير "أعني"؛ ثم حذفت الفعل.
وهناك شرط للقطع، وهو أن يكون الموصوف معلومًا، يعني: غير محتاجٍ لصفته، وهذا مفهوم مما قلنا قبل قليل؛ لأنك لن تقف على الموصوف إلا إذا كان معلومًا، أما لو لم يكن معلومًا فالأصل أنَّك تُكمل حتى تنتهي ويُعلم، ثم الأوصاف الأخرى هذه قد تأتي بعد ذلك.
فلهذا لو كان "محمد" ملتبسًا بغيره، يعني أن المخاطَب يعرفُ محمدًا طويلًا ومحمدًا قصيرًا؛ فحينئذٍ يجب أن تُتبِعْ، فتقول: "جاءَ محمدٌ الطويلُ، مررتُ بمحمدٍ الطويلِ"، وليس لك أن تقطع.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (والتوكيدُ)}.
التابع الثاني من التوابع: التوكيد.
ويُسمى "التوكيد النحوي" لنفرق بين التوكيد النحوي والتوكيد البلاغي، لأننا كثيرًا ما نقول: فائدة هذا الشيء التوكيد، كما في الحال فإنها قد تأتي مؤكِّدة، وقد يأتي التمييز مؤكدة، وذكرنا أنَّ "إنَّ، وأنَّ" للتوكيد، فهناك أشياء كثيرة جدًّا تأتي للتوكيد وتقوية المعنى المعروف قبل ذكرها، ولو ما ذُكرت فالمعنى الإجمالي معروف، وهذا هو التوكيد البلاغي.
إذًا؛ المراد بالتوكيد البلاغي: كل كلمة معناها معروف قبل ذكرها، وإنما تذكر لتقوية هذا المعنى وتحقيقه.
أما لتوكيد النحوي في هذا الباب قد يكو داخلًا في التوكيد البلاغي -وهذا أكثره- وقد يكون توكيدًا نحويًا فقط.
التوكيد النحوي لا يُراد به إلا النوعين اللذين سيذكرهما ابن هشام الآن، وما سوى هذين النوعين مما نقول عنه توكيدًا فهو توكيد بلاغي، وليس توكيدًا نحويًّا.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وهو إما لفظيٌّ نحو "أخاكَ أخاكَ إنَّ مَن لا أخا له" ونحو "أتاكِ أتاكِ اللاحقونَ اِحبسْ اِحبسْ" ونحو "لا لا أبوح بِحُب بثنةَ إنها"، وليس منه ﴿دكًا دكًا﴾ و ﴿صفًا صفًا﴾)}.
التوكيد النحوي نوعان:
- التوكيد اللفظي الذي ذكره ابن هشام الآن.
- وتوكيدٌ معنويٌّ سيذكرها بعد قليل.
أما التوكيد اللفظي فأمره سهل؛ لأنه توكيدٌ للفظ، يعني تكريرٌ للفظِ، فاللفظ الذي تريد أت تؤكده تكرره، سواء أكان فعلًا، أم كان اسمًا، أم كان حرفًا، أم كان جملة، أو كان شبه جملة، وهذا كثير حتى عند الناس الآن، فإذا أردتَّ أن الناجح محمد، تقول: "نجحَ محمدٌ محمدٌ"، فـ "محمدٌ" الأولى هو الفاعل، و"محمد" الثانية ليست فاعلًا ثانيًا، وإنما هو توكيدٌ لفظي لـ "محمدٌ" الأولى، وهو تابع.
ولو أردتَّ أن تؤكِّد الفعل، لكنا نقول: "نجحَ نجحَ محمد".
ولو أردتَّ أن تؤكِّد الجملة كلها، تقول: "نجحَ محمدٌ نجحَ محمدٌ"، فالجملة الثانية توكيد لفظي للجملة الأولى.
وكذلك في الحروف، فلو قيل: "هل جاء محمد؟" فتقول: "لا لا" أو "نعم نعم".
وذكر ابن هشام مثالًا لتوكيد الاسم توكيدًا لفظيًّا، وهو في قول الشاعر:
أخاكَ أخاكَ إنَّ مَن لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
فقوله: "أخاك" الأولى منصوبة على الإغراء، يعني: الزم أخاكَ. و"أخاك" الثانية" توكيد لفظي يتبع "أخاك" الأولى.
ومثَّل على توكيد الفعل بقول الشاعر:
إلى أين النجاة ببغلة ... أتاكِ أتاكِ اللاحقونَ اِحبسِ اِحبسِ
يُكلِّم بغلته، فقال: "أتاكِ أتاكِ"، فـ "اللاحقون" فاعل لـ "أتاك" الأولى، أما "أتاكِ" الثانية فتوكيد لفظي.
ومن التوكيد اللفظي أيضًا في آخر البيت قوله: "احبسِ احبسِ".
ومن توكيد الحرف توكيدًا لفظيًّا، قول المجنون:
لا لا أبوح بِحُب بثنةَ إنها ... أخذت عليَّ مواثقًا وعهودا
فـ "لا" الأولى هي حرف النفي، و"لا" الثاني توكيدٌ لفظيٌّ.
ثم بيَّن ابن هشام ونبَّه أن قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22]، ليس من التوكيد اللفظي، لأن هذا سيُخالف المعنى، ومعنى الآية: جاء الله -سبحانه وتعالى- مجيئًا يليق بجلاله وعظمته، وجاءت الملائكة من كل السماوات صفًّا صفًّا.
فلو قلنا: إنَّ "صفًا" الثانية توكيد لفظي فهذا يعني أنه فضلة، و "صفًّا" الأولى فقط هي الحال، ويكون المعنى أن الملائكة جاءت صفًّا واحدًا، وليس المعنى على ذلك؛ بل الأسلوب هنا من الأساليب الدالَّة على الترتيب، كقولنا "جاؤوا واحدًا واحدًا، ادخلوا ثلاثةً ثلاثةً"، يعني: مرتَّبينَ على هذا الشيء، وكذلك قوله ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ يعني: جاءت الملائكة مرتبين صفًّا بعد صفٍّ.
إذًا؛ قوله ﴿صَفًّا صَفًّا﴾ من الحال المكررة، وليست "صفًّا" الثانية توكيدًا لفظيًّا.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿كلا إذا دكت الأرض دكا دكا﴾ [الفجر: 21]، وكلام ابن هشام ليس قطعيًّا؛ لأن المفسرين اختلفوا في قوله تعالى ﴿دكًّا دكًّا﴾ هل الأرض تُدَكُّ دكًّا بعدَ دكٍّ، أما أنها تُدكُّ دكًّا واحدًا.
- فمن قال: إنه دكًّا بعد دكٍّ؛ فكلام ابن هشام صحيح، فتكون الحال مركَّبة من الكلمتين.
- ومن قال: إن الدَّكَّ هنا دكٌّ واحدٌ؛ فـ "دكًّا" حينئذٍ مفعول مطلق، و "دكًّا" الثانية توكيدٌ لفظي.
ويدل على أن الدَّكَّ دكٌّ واحدٌ: قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: 14].
إذًا؛ قول ابن هشام هنا ليس مقطوعًا به. ومن قال: إنَّ "دكًّا" الثانية توكيدٌ لفظي فقوله قويٌّ، وهو قول جمهور المعربين في هذه الآية.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (أو معنويٌّ وهو بالنفس والعين مؤخرةً عنها إن اجْتَمَعَتَا، ويُجْمَعانِ على "أَفْعُلٍ" مع غيرِ المفردِ، وبِـ"كُلِّ" لغير مثنىً إن تجزأ بنفسه أو بعامله، وبـ "كلا وكلتا" له إن صحَّ وقوعُ المفردِ موقعَه واتحد معنى المسنَد، ويُضَفْنَ لضمير المؤكَّد، وبـ "أجمعَ وجمعاءَ وجمعِهما" غيرَ مضافةٍ)}.
هذا هو النوع الثاني من التوكيد النحوي، وهو: التوكيد المعنوي.
والتوكيد المعنوي يكون بألفاظٍ معيَّنةٍ تتبعها العلماء وذكروها، وذكرها ابن هشام -كما نرى- في ستَّةِ ألفاظٍ، وهي: "النفس، والعين، و"كلا، وكلتا، وكل، وأجمع".
اللفظ الأول والثاني "النفس، والعين"، نحو قولك: "جاءَ زيدٌ نفسه، جاءت هندٌ عينها" فالمراد بـ "النفس" هنا التوكيد، وليست النفس التي بين جنبي الإنسان، وكذلك المراد بـ "العين" التوكيد، وليست العين الباصرة في الرأس.
و"العين والنفس" يؤكَّد بهما المفرد والمثنى والجمع، وتضاف حينئذٍ إلى ضميرٍ مطابقٍ للمؤكَّد، إلا أنها في الإفراد تقول "جاء زيدٌ نفسه، وجاءت هندٌ عينها"، وأما في التثنية والجمع فإن "النفس والعين" يُجمعانِ على وزن "أَفْعُلْ" فقط، فيُقال: "أنْفُسْ، أَعْيُنْ" ولا يُقال: "نفوس وعيون"، فتقول: "جاء الطالبان أنفسهما، والطالبتان أعينهما، والطلاب أنفسهم، والطالبات أعينهن".
ويجوز أن تجمع بين التوكيد بالنفس والعين، ولكن تؤخر العين على النفس، فتقول: "جاءَ زيدٌ نفسه عينه، وجاءت هندٌ نفسها عينها".
واللفظ الثالث "كل" وإنما يؤكَّد به ما له أجزاء، فكل شيء له أجزاء سواء كان جمعًا فله أجزاء كـ "جاء الطلاب كلهم" أو كان مفردًا له أجزاء، كقولك: "قرأتُ الكتابَ كلَّه، جاء الجيشُ كلُه".
وقولنا هذا يُخرج المفرد الذي ليس له أجزاء، ما تقول "جاء زيدٌ كلُّه".
وكذلك يُخرج المثنى لأن له جزءان، ما تقول "جاء الطالبان كلهما".
اللفظ الرابع والخامس من ألفاظ التوكيد المعنوي "كلا وكلتا"، وهما للمثنى المذكر والمؤنث، تقول "جاء الطالبان كلاهما، ورأيتُ الطالبين كليهما، وسلمتُ على الطالبين كليهما، جاءت الطالبتان كلتاهما".
قال: (ويُضفنَ لضميرِ المؤكَّد)، يعني أن الألفاظ السابقة الخمسة "النفس، العين، كلا، كلتا، وكل" لابد أن تضاف إلى ضمير يُطابق المؤكَّد، فتقول: "جاء زيدٌ نفسه، جاء الطلاب كلهم، جاء الطالبان كلاهما، جاءت الطالبتان كلتاهما".
السادس من ألفاظ التوكيد "أجمع" وجمعها: "أجمعون". ومؤنَّثه: "جمعاء". وجمعها: "جُمَع".
فتقول: "جاء الجيشُ أجمع، جاءت القبيلة جمعاء، جاء الطلاب أجمعون، جاءت الطالبات جُمَع".
إلَّا أنَّ التوكيد بـ "أجمع" وفروعها يكون من غير إضافةٍ كالبقيَّة، وإضافتها مقدَّرة، فقولك: "جاء الطلاب أجمعون" ليس فيها إضافة.
ومن التوكيد بـ "أجمع" وفروعها قوله تعالى: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 39]، كأنه قال: "لأغوينهم كلهم".
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 43]، وقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 30].
ويقولون: إن التوكيد بـ "أجمع" الأكثر فيه أن يأتي بعد التوكيد بـ "كل"، فتقول: "جاء الطلاب كلهم أجمعون، رأيت الكلاب كلَّهم أجمعين"، ولكن يجوز التوكيد بـ "أجمع" وفروعه من دون كل، كقول: "جاء الطلابُ أجمعون".
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وهي بخلاف النعوت، لا يجوز أن تتعاطف المؤكِّداتُ، ولا أن يَتْبَعْنَ نكرةً، وندر "يا ليتَ عدةَ حولٍ كلِّه رجبُ")}.
ذكر شيئًا من الفروق بين النعت والتوكيد.
الفرق الأول: أن النعوت إذا تعددت يجوز أن تتعاطف وأن تتعدَّد.
وقولنا (تتعاطف) أي: يكون بينها حرف عطف.
وقولنا (تتعدد)، أي: تُذكر وليس بينها حرف عطف.
تقول: "جاء زيدٌ الطويلُ والعالمُ والشجاعُ" أو تقول: "جاءَ زيدٌ الطويلُ العالمُ الشجاعُ".
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى: 1- 4]، فـ "الذي" هنا كلها نعوت وقد تعاطفت.
وقال: -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم: 10- 12]، فهذه نعوت تكررت وتعددت بلا عطف.
أما التوكيدات إذا تكررت فهي تتعدَّد، ولكن لا تتعاطف، تقول: "جاء زيدٌ نفسُهُ عينُهُ"، ولا تقول "نفسه وعينه.
وتقول: "جاء الطلابُ كلُّهم أجمعون"، ولا تقول "كلهم وأجمعون".
الفرق الثاني: أن النعت يكون للمعرفة وللنكرة.
تقول: "جاء زيدٌ الشجاعُ، وجاء رجلٌ شجاعٌ".
وأما التوكيد فلا يكون إلا للمعرفة عند الجمهور، تقول: "جاء زيدٌ نفسه، أكرمتُ الطالب نفسَه" ولا تقول: "جاء رجلٌ نفسه، أكرمتُ طالبًا نفسه".
ولهذا حكموا بالشذوذِ على قول الشاعر:
لكنه شاقه أن قيل ذا رجبٌ ... يا ليتَ عدةَ حولٍ كلِّه رجبُ
فـ "كله" توكيد لـ "حول" أي: سَنَةٍ، وهو نكرة -كما نرى.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وعطفُ البيان. وهو تابعٌ موضحٌ أو مخصِّصٌ جامِدٌ غيرُ مؤولٍ)}.
عطف البيان نعرفه باختصار لأنه لم يُذكر في شرح المبتدئين، فنقول: عطف البيان هو النعت لكن بجامد.
فالنعت -كما سبق- لابد أن يكون بمشتقٍّ أو بمؤوِّلٍ بمشتق، تقول: "جاء محمدٌ القويُّ الطويلُ الجميلُ"، فهذه أوصاف مشتقة.
أما عطف البيان فهو النعت لكن بجامد، كأن تقول "جاء محمدٌ أخي، جاء محمد أبو زيد" فانت الآن وضَّحت "محمد" ووصفته بأنه أخوك، ولكن كلمة "أخي" جامدة وليست وصفًا، وكذلك "أبو زيد".
قال: ابن هشام: (تابعٌ موضِّحٌ أو مخصِّصٌ)، يعني كالنَّعت، فإن النعت فائدته التوضيح إذا كان المنعوت معرفة، والتخصيص إذا كان المنعوت نكرة؛ فهما سواء، ولكن الفرق بينهما أن عطف البيان جامد غير مؤَّول، كقولك: "هذا خاتمٌ حديدٌ"، فـ "الحديد" جامد ووصفت به للخاتم.
ومن ذلك قولك: "أحبُّ عمرَ الفاروق"، فـ "الفاروق" هنا لقب وليس نعتًا أنه يَفْرُق، واللقب علم، والعلم جامد.
ومن ذك قوله تعالى ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: 16]، "الصديد" وإن كان على وزن فعيل لكنه ليس بوصف، لأن الصديد هو الماء الذي يخرج من الجروح، فوصف الماء بأنه هذا الصديد الذي يخرج من الجروح، فهو جامد.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (فيوافق متبوعَه، كـ "أُقْسِمُ بالله أبو حفص عمرُ" و "هذا خاتَمٌ حديدٌ". ويُعرَب بدلَ كلٍّ من كلٍّ إن لم يمتنع إِحلالُه مَحَلَّ الأول، كقوله: "أنا ابنُ التاركِ البكريِّ بشرٍ" وقولِه: "أَيَا أَخَوَيْنَا عبدَ شمسٍ ونوفلا")}.
عرفنا أنَّ عطف البيان هو النعت ولكنه نعتٌ بجامد، ونعرف الآن أن عطف البيان يأخذ حكم النعت الحقيقي، فلهذا يتبع متبوعه في كل شيء، في الإعراب، وفي التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي الإفراد والتثنية والجمع. فتقول: "هذا خاتمٌ حديدٌ، وهذان خاتمان حديدان".
ثم بيَّن ابن هشام العلاقة بينَ عطف البيان وبين البدل، ولو أنه أخَّر ذلك بعدَ البدل أو قدَّم البدل لكان أفضل، ولكن شرحنا البدل من قبل في شرح المبتدئين، فبيَّن العلاقة بين عطف البيان والبدل، فقال: إن عطف البيان لأنه نعتٌ بجامد يجوز لك أن تعربه بدلَ كلٍّ من كلٍّ، كقولك "جاءَ زيدٌ أخي" فـ "زيدٌ" هو "أخي"، و"أخي" هو "زيد"؛ فلك أن تقول: إن الثاني بدل، أو إنه عطف بيان؛ وهذا بشرط: إن لم يمتنع إحلاله محلَّ الأول، يعني إذا جازَ أن تحذف الأول من الكلام فيجوز فيه أن يكون بدلًا أو عطف بيان، مثل: "جاء زيدٌ أخي"، فيجوز أن تحذف "زيد" وتقول "جاء أخي"؛ إذًا "أخي" إما عطف بيان أو بدل.
وفي قولك: "جاء زيدٌ أبو محمد" يجوز أن تحذف "أبو محمد"؛ فهذا عطف بيان أو بدل؛ لأنه يجوز أن يحل الثاني محل الأول، وتحذف الأول.
فإن لم يجُزْ أن تحذف الأول وتجعل الثاني في محلِّه؛ فليس في الثاني إلا أن يكون عطفَ بيانٍ لا بدل، كقوله: "أنا ابنُ التاركِ البكريِّ بشرٍ"، فـ "بشرٍ" بدل من "البكري"، يعني: أنا ابن التارك بشرٍ، فـ "بشر" هو نفسه "البكري"، ولكن هنا لا يجوز أن تحذف "البكري" وتضع "بشر" مكانه، لأنك لو فعلتَ ذلك لقلتَ "أنا ابن التاركِ بشرٍ"، فـ "ابن التارك" مضاف، و "بشرٍ" مضاف إليه، فاجتمعت الإضافة و "أل"، والإضافة و "أل" لا يجتمعان إلا في مواضع ذكرناها في باب الإضافة، منها: أن يكون المضاف إليه فيه "أل" كـ "البكري"، فصحَّت الإضافة، ولكن لو حذفت "البكري" ووضعت "بشر" العَلَم فسدَ المعنى.
إذًا؛ لا نقول: إنَّ "بِشر" بدل؛ لأنه لا يحل محل الأول، ولكنه عطف بيان.
وكذلك في قول الشاعر:
أَيَا أَخَوَيْنَا عبدَ شمسٍ ونوفلا ... أعيذكما بالله أن تحدثا حربا
قوله: "أيا" حرف نداء.
وقوله: "أخوينا" منادى منصوب لأنه مضاف.
وقوله: "عبدَ شمسٍ" واضح أنه تابعٌ لـ أخوينا"، ويجوز أن يحل "عبدَ شمس" محل "أخوينا" فتقول "أيا عبدَ شمسٍ" ولا إشكال، ولكن المشكلة في "نوفلا"، فهي منصوب ومعطوفة على "عبد شمس"؛ فلو أن أداة النداء باشرت "نوفلًا" كنتَ تقول: "أيا نوفلُ" لأنه منادى مفرد علم؛ فلو كان بدلًا لقيل "ونوفلُ"؛ ولكنه عطف بيان؛ لأن "نوفلا" لا يصح أن يحل محل "أخوينا".
الخلاصة: إذا صحَّ أن يحل الثاني محل الأول جاز فيه أن يكون بدلًا أو عطف بيان، وإلا فهو عطف بيان فقط.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وعطفُ النسق بالواوِ وهي لمطلق الجمع، والفاءِ للترتيب والتعقيب، و"ثم" للترتيبِ والتراخي، و"حتى" للغاية والتدريج لا للترتيب)}.
التابع الرابع هو: عطف النسق.
والمراد به: العطف بأحرف النسق، وهي أحرف معيَّنة، وهي تسعة سيذكرها ابن هشام واحدًا واحدًا، ويُبيِّن معانيها، وهي: "الواو، الفاء، ثم، أو، حتى، أم، لا، لكن، بل".
بدأ ابن هشام بالواو، ومعناها: لمطلق الجمع، تقول: "جاء محمدٌ وخالدٌ"، يعني أن محمدًا وخالدًا مشتركا في المجيء، ولا تدل على ترتيب أو أن أحدهما قبل الثاني.
الحرف الثاني: الفاء، وهو للترتيب والتعقيب، تقول: "جاء محمدٌ فخالدٌ"، تدل على أن الثاني بعد الأول، وهذا هو الترتيب.
وتدل أيضًا على التعقيب، أي: ليس بينهما مهلة طويلة.
الحرف الثالث: "ثم"، وهي للترتيب والتراخي، تقول: "جاءَ محمدٌ ثم خالدٌ"، يعني: أن الثاني بعدَ الأول، وهذا هو الترتيب، وبينهما مهلة طويلة، وهذا هو التراخي.
الحرف الرابع: "حتى" وهو للغاية والتدريج.
- فتأتي للغاية فتقول: "أكلتُ السمكة حتى رأسها"، يعني أن الأكل وصل في الغاية إلى الرأس.
- وتأتي للتدريج، فتقول: "مات الناس حتى الأنبياء".
قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (لا للترتيب)، يعني ما فيه دلالة على الترتيب، فقولك "مات الناس حتى الأنبياءُ" ليس معنى ذلك أن الأنبياء آخر مَن يموت، وإنما تدل فقط على التدريج.
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (و"أوْ" لأحد الشيئين أو الأشياء مفيدةً بعد الطلبِ التخييرَ أو الإباحةَ، وبعدَ الخبرِ الشكَّ أو التشكيكَ، و"أم" لطلب التعيين بعد همزةٍ داخلةٍ على أحد المستويَـيْنِ)}.
الحرف الخامس: "أوْ"، ولا تأتي لشيء واحد، فإما أن تأتي لشيئين كقولك: "كُلْ تفاحةً أو برتقالةً"، أو تأتي لأشياء "كُلْ تفاحةً أو برتقالةً أو تينًا".
وله معنيان بعد الطلب ومعنيان بعد الخبر:
أما بعد الطلب: وهو ما يدل طلبًا كالأمر والنهي، وقد تفيد:
- التخيير: فلابد أن تختار أحدهما إذا لم يُمكن الجمع بينهما، كقولك "تزوج هندًا أو أختها، سجل في كلية اللغة أو كلية الشريعة".
- أو الإباحة: إذا أمكن الجمع بينهما، نحو قولك: "كُلْ تفاحةً أو برتقالة"، فتأكل تفاحة أو برتقالة أو تأكلهما؛ كل هذا مباح.
وأما بعد الخبر: فتكون للشَّك أو التشكيك:
فالشك: إذا كان المتكلم شاكًّا، ما تدري مَن الذي جاء، تقول: "جاء محمدٌ أو خالدٌ".
التشكيك: إذا كان المتكلم يعرفن ولكن يريد أن يشكك المخاطَب، فتقول: "جاء محمدٌ أو خالدٌ"، فأنا أعرف ولكن أردتُّ أن أُشكِّكَ.
الحرف السادس: "أمْ"، وهو لطلب التعيين بعد همزة داخلةٍ على أحد المستويين.
فـ "أمْ" إنما أن تكون حرف عطف بعد همزة التسوية، فلابد أن تستعمل همزة التسوية مع "أمْ".
وللعطف بها طريقةٌ معيَّنة ذكرها ابن هشام فقال: (داخلة على أحد المستويين)، يعني عدك أمر تعرفه كالمجيء، فتعرف أن هناك أحدًا جاء، ولكن لا تعرف مَن الذي جاء، هل هو زيد أم خالد؟ فالمعلوم في الوسط، والمستويين أحدهما بعد الهمزة والثاني بعد "أم"؛ فتقول "أزيدٌ جاءَ أمْ خالدٌ".
أما إذا عرفتَ أنَّ الشخص زيد، ولكن لم تعرف ماذا فعل، هل ذهب أم عادَ، فتجعل المعلوم في الوسط، وتجعل المستويين بعد الهمزة و"أم" فتقول: "أذهبَ زيدٌ أم عادَ".
{قال: -رَحِمَهُ اللهُ: (وللرَّدِّ عن الخطإ في الحكم "لا" بعد إيجاب و "لكن وبل" بعد نفْيٍ، ولصرف الحكم إلى ما بعدها "بلْ" بعدَ إيجابٍ)}.
بقية أحرف العطف، وهي "لا، لكن، بل" ولكل منهما معنى.
أما "لا" فإنها لرد الخطأ في الحكم، ولا تكون إلا بعد إيجاب، يعني: كلام موجب غير مسبوق بنفي أو نهي أو استفهام، كأن تقول: "جاء محمدٌ لا خالدٌ" فهي ترد الخطأ في الفهم.
و"لكن" كذلك لرد الخطأ، ولكنها لا تكون إلا بعد نفي، كأن تقول: "ما جاء خالدٌ لكن محمدٌ"؛ فهي تثبت الحكم لما بعدها وترد الخطأ الذي كان فُهم فيما قبلها.
وأما "بلْ" فقد تستعمل في الإيجاب، وقد تستعمل في غير الإيجاب.
فإن كانت في الإيجاب: فهي لصرف الحكم إلى ما بعدها، تقول: "جاءَ خالدٌ بلْ زيدٌ"، يعني صرفت الحكم إلى ما بعدها، وأما ما قبلها فهو مسكوت عنه ومضروب عنه، يعني: لا تثبت ولا تنفي، وإنما تثبت لما بعدها.
وأما إذا كانت بعد النفي: فهي لرد الخطأ، تقول: "ما جاء زيدٌ بلْ خالدٌ"، يعني: تثبت ما بعدها وتُخطِّئ ما قبلها.
يبقى لنا التابع الخامس وهو البدل، نشرحه -إن شاء الله- في الدرس القادم -بإذن الله تعالى.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.