{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح كتاب "قطرِ النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ: أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، ومرحبًا بكم.
{نستكمل في هذه الحلقة المسألة الرابعة، عند قول ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد يتقدمُ الخبرُ إلا خبرَ دام وليس)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فحيَّاكم الله وبيَّاكم في الدرس الثاني عشر من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبث من الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مدينة الرياض.
ما زلنا نتكلم عن الناسخ الأول وهو باب "كان" وأخواتها، وذكرنا في ذلك ثلاث مسائل وشرحناها، ثم نقرأ الآن ونشرح المسألة الرابع في تقدُّم خبر هذه النواسخ.
قال ابن هشام: (وقد يتقدمُ الخبرُ إلا خبرَ دام وليس).
معنى تقدُّم الخبر: أن يتقدَّم على النَّاسخ نفسه، فنأخذ الخبر "كريمًا" ونقدمه على نفس الناسخ، فنقول: "كريمًا كانَ زيدٌ".
حكمه: جائز.
قال: (إلا خبرَ دام وليس)، معنى ذلك أنه جائز في البواقي "كان، أصبح، أمسى"، تقول: "أصبح زيدٌ نشيطًا، نشيطًا أصبح زيدٌ"، والتقدير والتأخير أمر بلاغي، والذي يتحكَّم فيه في الأصل هو الاعتناء، فالمتكلم يُقدِّم ما هو اشدُّ اعتناءً به.
هل جاءت شواهد من الكلام الفصيح على تقدم الخبر في هذا الباب؟
الجواب: لا، وإنما أجاز ذلك النحويون قياسًا على نحو قوله تعالى: ﴿وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 177].
فالناسخ في الآية: "كان".
واسم الناسخ: الواو.
و"يظلمون" جملة فعلية خبر الناسخ، والخبر متأخر في موضعه، ولكن "أنفسهم" مفعول به للخبر، وكان الأصل أنه متأخر على نحو: "كانوا يظلمون أنفسهم"، فـ "أنفسهم" مفعول الخبر -معمول الخبر- فتقدَّم هذا المعمول على "كان"؛ قالوا: فتقدُّم المعمول يدلُّ على جواز تقدُّم العامل. وهذا استدلال صحيح.
قال ابن هشام: (إلا خبرَ دام وليس).
أمَّا مع "دام" فباتفاق أن خبر "دام" لا يتقدم عليها؛ لأن من شروطها أن تسبق بـ "ما" المصدرية الظرفيَّة، وهذه لها الصدارة، فلا يتقدم عليها شيء مما بعدها.
وأمَّا "ليس" ففي تقدم خبرها عليها خلافٌ:
- بعضهم يمنع ذلك، وعليه كلام ابن هشام هنا.
- وبعضهم يُجيز، فيجوز أن تقول: "ليس زيدٌ مسافرًا، مسافرًا ليس زيدٌ"، ويستدلون على ذلك بنحو قوله تعالى: ﴿أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ﴾ [هود: 8]:
فــ "ليس" الفعل الناسخ.
واسم "ليس": "هو"، يعني: العذاب الواقع عليهم.
"مصروفًا": خبر "ليس".
و"يوم يأتيهم": ظرفٌ للخبر، وكان الأصل فيه التأخير، كقولك: "ليس مصروفًا عنهم يومَ يأتيهم"، ثم تقدَّم الظرف وهو معمول الخبر، فدلَّ هذا على جواز تقدُّم خبرها.
ومَن ردَّ ذلك قال: إنَّ المتقدِّم ظرف، والعرب يتصرَّفونَ ويتوسَّعون في شبه الجملة.
{قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (وتختص الخمسةُ الأول بمرادَفَةِ "صار")}.
الآن بدأ بذكر بعض الخواص، فقال: إنَّ الأفعال الخمسة الأولى "كان، أصبح، أضحى، أمسى، ظل"، تختص بأنها تأتي مرادفة لـ "صار"، وذلك أنَّ هذه الأفعال الثلاثة عشر لها معاني أصلية واضحة:
فـ "كان" تدل في الأصل على الماضي المطلق دون تحديده بزمان، فنقول: "كان محمد مريضًا" يعني في الزمن الماضي، غير اختصاص بليل أو نهار أو نحو ذلك.
و"أصبح" تدل على اتِّصاف اسمها بخبرها في الصباح، تقول: "أصبح الولد نشيطًا"، فتصف الولد بالنشاط في زمن الصباح.
و"أمسى" تدل على المساء.
و"أضحى" يعني: في الضحى.
و "ظلَّ" يعني: في النهار، يعني في الظِّلِّ.
وهذه الخمسة تختص بأنها قد تأتي ولا يُراد بها هذا الزمان المذكور، وإنما تكون بمعنى "صار"، فتدل على انتقال الشيء من حالةٍ إلى حالة دون تقييد ذلك بزمانٍ، كقولنا: "أصبح النفط مهمًّا"، فهنا لا تريد وصف النفط بالأهمية في الصباح، إنما تريد أن تقول: إنه لم يكنْ مهمًّا فصارَ مهمًّا، فهذا انتقال من دون ربطٍ بزمنٍ، وكذلك في "أمسى، وأضحى".
وكقولك: "كان محمدٌ عاملًا، ظل عالمًا، أمسى عالمًا"، يعني: صارَ عالمًا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ [النحل: 58]، لا يريد أن وجهه يُوصَف بالسَّواد فقط، وإنما صارَ مسودًّا، أي أنه حزينًا وقد سمع شيئًا يخجله ويستحيي منه، فاسودَّ وجهه في كل وقت في الليل والنهار.
{قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (وغيرُ ليس وفَتِئَ وزال بجواز التمامِ - أيْ الاستغناءِ عن الخبر - نحو ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾، ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾)}.
قوله: (وغيرُ ليس وفَتِئَ وزال بجواز التمامِ)، وتقدير كلامه:
الواو تعطف على الفعل "تختص"، يعني: ويختص غير "ليس، وفتئ، وزال" بجواز التَّمام.
وهذه المسألة يتكلم فيها ابن هشام على مجيء هذه الأفعال تامَّةً، فالأصل فيها أنها ناقصة، أي: أنها لا تكتفي بمرفوعها، فلا يتم المعنى ويكمل إلا بالمرفوع والمنصوب معًا.
فإذا قلت: "كان زيدٌ" وسكتَّ؛ بقي المعنى ناقصًا حتى تقول: "كريمًا".
وكذلك لو قلت: "أصبح الولد" وسكتَّ؛ فلا يتم المعنى إلا إذا قلتَ: "مريضًا".
وأمَّا مجيئها تامَّة، فمعنى ذلك أنَّ معناها يتم بالمرفوع، وتكون مثل بقية الأفعال، مثل: "ذهب زيدٌ، جاءَ زيدٌ، جلسَ زيدٌ"؛ فهذه أفعال تامَّة، أي: ليست بحاجة إلى منصوبها.
والمعنى يختلف حينئذٍ بين كونها ناقصة وكونها تامَّة، فإذا كانت تامَّة فإن "كان" حينئذٍ تكون بمعنى "وُجِدَ، أو: حصلَ، أو: حدثَ".
كأن تقول مثلًا: "انقضى رمضان وكان العيدُ"، يعني: انقضى رمضان وحصلَ العيد.
فـ "كان" فعل ماضٍ.
و "العيدُ": فاعل؛ لأن "كان" فعل تام، مثل "خرجَ ودخلَ".
ومثل قولك: "انتهت الحرب وكانَ النَّصرُ"، يعني: وُوجِدَ وحصلَ النّصر.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]:
فـ "كان" هنا بمعنى "وُجِدَ". وهو فعل تام.
"ذو عسرةٍ" فاعل "كان" مرفوع وعلامة رفعه الواو.
وكذلك في "أصبح، وأمسى، وأضحى"، فهي كلها تأتي تامَّة، ولا يكون معناها كما ذكرنا من قبل من اتِّصاف اسمها بخبرها في هذا الزمان، وإنما يكون معناها الدخول في الزمان.
فـ "أصبحتُ" يعني: دخلتُ في الصباح.
و "أمسيتُ"، يعني: دخلتُ في المساء.
و "أضحيتُ"، يعني دخلتُ في الضحى.
كما تقول: "أظهرتُ، أعسرتُ"، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]، فقوله: "حين تمسون" فعل وفاعل، ولا نحتاج حينئذٍ إلى منصوب، والمعنى: حين تدخلون في المساء.
قال تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: 18]، فـ "تظهرون" يعني: تدخلون في زمان الظهر.
إذًا؛ "تظهرون، تصبحون، تمسون"، كلها أفعال تامَّة تدل على الدخول في الزمان.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53]، فقوله: "تصير" من الفعل "صار - يصير"، بمعنى: ترجع، وليس بمعنى تنتقل من حالة إلى حالة.
وقوله: "الأمور": فاعل.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ﴾ [هود: 107]، فـ "السماوات" فاعل، يعني: ما وُجدت السماوات والأرض.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ [يوسف: 80]، فـ "لن أبرح" يعني: لن أغادر.
وفي الحديث المشهور في أذكار الصباح والمساء: «أصبحنا وأصبح الملك لله»، و«أمسنا وأمسى الملك لله»؛ فـ "أصبح" وردت مرتين:
الأولى: "أصبحنا" تامَّة، لأنَّ معناها: دخلنا في زمن الصباح.
الثانية: "وأصبحَ": ناقصة، لأن المعنى: صارَ الملك لله.
ثم استثنى ابن هشام من الأفعال التي تأتي تامَّة وناقصة ثلاثة أفعال، وهي: "ليس، فتئ، زال"، فهذه لا تأتي إلا ناقصة، ولا تأتي تامَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و"كان" بجواز زيادتِها متوسطةً نحو "ما كان أحسنَ زيداً")}.
الواو هنا عاطفة على "تختص"، والمعنى: وتختص "كان" بجواز زيادتها متوسِّطةً.
من هنا سيذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- شيئًا من خصائص "كان"، فنحن نقول دائمًا: "كان" وأخواتها، وما نقول: "أصبح" وأخواتها؛ لأن "كان" هي أم الباب؛ لأنها أكثرها استعمالًا، وتختص بخصائص عن بقيَّة أخواتها، فذكر هنا خاصيَّة وهي: زيادة "كان".
وقلنا: إن كل شيء قلنا فيه إنَّه زائد؛ فمعنى ذلك أنه زائد في اللفظ، وهذا اللفظ يحتمل أن تذكره وأن تحذفه من ذلك التركيب ولا يختل.
أمَّا من حيث المعنى: فكل زائدٍ فمعناه التوكيد -أي: تقوية المعنى.
وابن هشام قرَّرَ هنا أنَّ "كان" تُزاد، ولكن هل زيادتها مطلقة أو تجوز بشروط؟
الجواب: تجوز بشرطين، وبيَّن ابن هشام وابن مالك في ألفيته عندما قال:
وقد تزاد "كان" في حشوٍ ... كما كان أصح علم مَن تقدَّما
الشرط الأول: أن تكون بلفظ الماضي "كان".
أما المضارع والأمر "يكون - كنْ"؛ فلم يرد في السماع زيادتها بلفظ المضارع والأمر.
الشرط الثاني: كما قال ابن مالك: "في حشوٍ" أو كما قال ابن هشام: (متوسطة)، أي: تكون بين متلازمين، مثل:
- المبتدأ والخبر: كقولك: "محمدٌ قائمٌ"، فيجوز أن تزيد "كان"، فتقول: "محمدٌ كانَ قائمٌ"، فهنا "كان" زائدة لأنها ما أثَّرت في الإعراب.
- الفعل والفاعل: كقولك: "ذهبَ محمدٌ"، فتزيد "كان" فتقول: "ذهبَ كانَ محمدٌ".
- النعت والمنعوت، كقولك: "جاء محمدٌ الكريم"، فتزيد "كان" فتقول: "جاء محمدٌ كان الكريمُ".
ومن الشواهد قول الشاعر:
سراة بني أبي بكر تسامى ** على كان المسوَّمة العرابِ
فـ "على" حرف جر. و"المسومة" اسم مجرور، والجار والمجرور متلازمان لا يفصل بينهما، فزيدت "كان" بينهما.
وفي قول الشاعر:
في غرف الجنة العليا التي وجبت لهم ** هناك بسعيٍ كانَ مشكورِ
أي: بسعيٍ مشكورٍ. فهذا نعت ومنعوت، وفصلنا بينهما بـ "كان".
وأكثر مواضع زيادة "كان" وهو الموضع الذي تطرد فيه زياد "كان" هي: بين "ما" وفعل التعجُّب في أسلوب التعجُّب "ما أفعله"، فتقول: "ما أحسن زيادًا- ما كان أحسنَ زيدًا"، "ما أجملَ القمرَ، ما كانَ أجملَ القمرَ"، وهكذا..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وحذفِ نونِ مضارعها المجزومِ وصْلاً إن لم يلقَها ساكنٌ ولا ضميرُ نصبٍ متصلٌ)}.
هذه هي المسألة الثامنة في حذف نون "كان"، وهذه خاصيَّة أخرى من خصائص "كان" عن بقيَّة أخواتها، فكما نرى أن "كان" مختومة بالنون، ويجوز في هذه النون أن تُحذَف، وعندما نقول: "يجوز" يعني: أن الحكم ليس بواجب، فيجوز أن تُحذَف ويجوز أن تثبُت.
إلَّا أنَّ هذا الجواز مشروط بستَّة شروط، ذكر ابن هشام هنا خمسة وأهمل السادس:
الشرط الأول: قال ابن هشام (نون مضارعها)، يعني أن يكون بلفظ المضارع "يكون، تكون، أكون، نكون"، ولا يكون بلفظ الماضي "كان" أو الأمر "كُنْ".
الشرط الثاني: أن يكون المضارع مجزومًا، فالمضارع المرفوع والمنصوب لا تُحذف منهما النون أبدًا.
الشرط الثالث: أن يكون الجزم بالسكون، مثل "لم أكنْ، لم يكنْ، لم تكنْ"، فإن كان الجزم بحذف النون في "يكونون، يكونان، وتكونين"؛ فلا تُحذف النون.
الشرط الرابع: أن يكون الكلام وصلًا، كقولك: "لم أكُ مسافرًا، محمدٌ لم يكُ مسافرًا"، ومعنى ذلك أنَّك إذا وقفتَ تعيد النون، لو قلتَ "لـمْ يكُ محمدٌ مسافرًا، ثم وقفتَ على الكون فتقول: "لـمْ يكنْ" فتعيد النون.
الشرط الخامس: قول ابن هشام (إن لم يلقَها ساكنٌ)، يعني لم يأتِ بعدها ساكن، كما لو قلتَ "لـمْ يكنْ الرجلُ مسافرًا" فـ "يكنْ" فعل مضارع مجزوم بالسكون، ووصلًا، ولكن بعده ساكن، فحينئذٍ لا تحذف النون.
الشرط السادس: في قوله (ولمْ يلقها ضمير نصب متصل)، كأن تقول: مثلًا "الصديقُ لـمْ تكنْهُ" فالمضارع "تكن" اتصل بهاء الغائب، فلا نحذف النون.
وابن هشام ذكر خمسة شروط وأهمل السادس وهو مشروطٌ باتفاق، وذكر شرطًا وهذا الشرط ليس بصحيحٍ، وهو قوله: (وصلًا)، فالصواب أن هذا ليس بشرط، بل يجوز أن نحذف النون وصلًا ووقفًا، فلهذا نجد أن قرَّاء القرآن الكريم في النون المحذوفة في السكون يقفون عليها بالحذف، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]، فيقون "ولـمْ يكْ"، وفي قوله: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: 20]، فيقفون: "ولـمْ أكْ"؛ ولو كان إعادة النون واجبة عند الوقف لأعادوها عند الوقف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وحذفِها وحدَها معوَّضاً عنها ما في مثل "أَمَّا أنت ذا نفر")}.
المعنى: وتحتص "كان" بجواز حذفها، فيجوز في "كان" أن تُحذف وحدها، أي تُحذف هي ويبقى اسمها المرفوع وخبرها المنصوب، وهذا أيضًا أسلوب ثابت.
وهذا الأسلوب: عندما تقع "كان" بعد "أنْ" الدَّالة على التعليل؛ فهنا يجوز أن تُحذف "كان" ويجوز أن تُذكر.
كأن تقول: "أمَّا أنتَ غنيًّا تصدَّق".
الأصل القريب: "أنْ كنتَ غنيًّا تصدَّق".
الأصل الأول قبل التقديم والتأخير: "تصدَّق أنْ كنتَ غنيًّا".
فـ "أنْ" هنا للتعليل؛ لأن قبلها لام تعليل محذوفة، يعني "تصدَّق لأَنْ كنتَ غنيًّا"، فهذه "أنْ" ووقعت "كان" بعدها، والتاء اسمها، و "غنيًّا" خبرها؛ فيجوز أن تبقها هكذا ويجوز أن تُقدِّم، ولا إشكال.
ولكَ أن تُبقي "كان" ظاهرةً، ولك أن تحذف "كان"؛ فإذا حذفت "كان" في هذا الأسلوب فإنك تحذفها وحدها وتعوض عنها بـ "ما"، فإذا حذفت "كان" بقي اسمها ضميرًا متصلًا، وهذا الضمير قد حذفتَ ما كان متَّصلًا به؛ فوجب حينئذٍ أن نقلب الضمير المتصل إلى ضميرٍ منفصل لكي يقوم ويستقل بنفسه، فصارت "أمَّا أنت"، طبعًا "أنْ" ساكنة فتدغَم النون في الميم فتكون "أمَّا أنتَ غنيًّا فتصدَّق".
ومن ذلك قولك: "أمَّا أنتَ مجتهدًا أكرمتُك"، يعني: "أكرمتُكَ أنْ كنتَ مجتهدًا"، يعني: "أكرمتُكَ لأنْ كنتَ مجتهدًا".
ومن ذلك قول الشاعر:
أبا خراشة أمَّا أنتَ ذا نفرٍ ... فإنَّ قومي لم تأكلهم الضبعُ
أبو خراشة هدَّد وتوعَّد الشاعر، فقال الشاعر له: يا أبا خراشة أنْ كنتَ ذا نفرٍ تخوفني وتهددني، يعني: تهددني لأنْ كنتَ ذا نفر!
ثم حذف "كان" وعوض عنها بـ "ما"؛ فانقلبت التاء إلى ضمير منفصل، فصارت "أمَّا أنتَ".
و "أنتَ" اسم كان. و "ذا" خبر كان.
وهذا مثال على حذف "كان" وحدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ومع اسمها في مثل "إِنْ خيراً فخيرٌ" و «التَمِسْ ولو خاتَماً من حديد»)}.
تقدير العاطف: وتختصُّ "كان" بجواز حذفها مع اسمها.
وهذه هي المسألة العاشرة في خصائص "كان"، وهي: أنَّ "كان" يجوز أن تُحذَف مع اسمها، فإذا حذفنا "كان" مع اسمها يبقى الخبر المنصوب.
وهذا أيضًا أسلوب، ويكون عندما تقع "كان" بعد "إنْ" الشَّرطيَّة أو "لو" الشَّرطيَّة.
كأن تقول: "تعالَ إنْ راكبًا أوْ ماشيًا"، يعني: "تعالَ إنْ كنتَ راكبًا"، ثم حذفتَ "كان" واسمها "كنتَ"؛ وقلتَ "إنْ راكبًا" لأنَّ "كان" وقعت بعد "إنْ".
وتقول: "أعطني ولوْ قليلًا"، يعني: "أعطني ولو كان المُعطَى قليلًا"، فحذفتَ "كان" واسمها وبقي الخبر.
وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ إذا وقعت "كان" بعد "إنْ" و "لوْ".
ومن الشواهد على ذلك -وهي كثيرة- قول الشاعر:
قدْ قيلَ ما قيلَ إنْ صدقًا ** وإنْ كذبًا فمعْ اعتذارك من قولٍ إذا قيلَ
يعني: إنْ كانَ المقولُ صدقًا.
وقال الشاعر:
لا يأمن الدهرَ ذو بغيٍ ولو ملكًا **..........
يعني: ولوْ كانَ الباغي ملكًا.
وقال الشاعر:
لا تقربنَّ الدهرَ آلَ مطرَّفٍ ** إنْ ظالمًا أبدًا وإن مظلومًا
يعني: إنْ كنتَ.
في الحديث: «التمس ولو خاتمًا من حديد»، يعني: ولوْ كانَ الملتمَسُ.
ويقولون: "المرءُ مقتولٌ بما قتلَ، إنْ سيفًا فسيفٌ، وإنْ خنجرًا فخنجرٌ"، يعني: إنْ كانَ المقتول به سيفًا فالمقتولُ به سيفٌ.
وفي الحديث «بلغوا عني ولوْ آيةً»، يعني: ولوْ كان المبلَّغُ آيةً.
وقيل: "المرءُ مجزيٌّ بما عمل، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ"، يعني: إنْ كان عمله خيرًا فجزاؤه خيرٌ.
نختم الكلام على باب "كان" وأخواتها بهذه الفائدة:
قد عرفنا أنَّ "كان" لها أكثر من استعمال، وهي خمس استعمالات:
- تأتي "كان" بمعنى الماضي المنقطع، يعني: الذي حدث وانتهى، كأن تقول: "كان محمدٌ مسافرًا ثم رجع".
- وتأتي بمعنى الفعل المستمر، يعني في الماضي والحال والاستقبال، كقولنا: "كان الله رحيمًا، وكان الإسلامُ دينَ الرحمة".
- وتأتي بمعنى "صارَ"، مثل: "كان محمدٌ عالمًا"، يعني: لمْ يكنْ وكانَ.
- وتأتي زائدة، مثل: "ما كانَ أحسنَ زيدًا"، وذكرنا ذلك.
- وتأتي تامَّة، مثل: "انقضى رمضان وكان العيدُ"، يعني وُجِدَ.
ننتقل إلى الكلام على الأحرف العاملة عمل "ليس"، وهي ثلاثة أحرف:
- "ما" الحجازية.
- "لا" النافية.
- "لات".
وكثيرون يزيدون حرفًا رابعًا.
عملها: تعمل عمل "ليس"، فترفع المبتدأ وتنصب الخبر.
وشُبِّهَت بـ"ليس" ولم تُشبَّه بأمِّ الباب "كان"؛ لأنها تشابه "ليس" في العمل كما رأينا وفي المعنى، فكلها حروف نفي، ولكن تشابه "كان" في العمل فقط، ولو شُبِّهَت بـ "كان" فالتشابه يكون من باب العمل ولا إشكال في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و "ما" النافيةُ عند الحجازيِّينَ كـ "ليس" إن تقدم الاسمُ، ولم يُسْبَقْ بـ "إن" ولا بمعمولِ الخبر إلا ظرفاً أو جاراً ومجروراً، ولا اقترنَ الخبرُ بـ "إلا"، نحو ﴿ما هذا بشراً﴾)}.
الحرف الأول من الحروف النافية التي تعمل عمل "ليس" هو: "مـا" الحجازيَّة، وهي "ما" النافية المعروفة، وهي تدخل على الاسم كـ "ما محمدٌ بخيلًا"، وتدخل على الفعل كـ "محمدٌ ما يُهملُ دروسَه".
واختلف العرب في إعمال "ما" عمل "ليس":
- فالحجازيون يعملونها عمل "ليس"، فيقولون في "محمدٌ مسافرٌ" إذا أدخلوا عليها "ما" النافية: "ما محمدٌ مسافرًا".
- وأما التميميون فإنهم لا يعملونها شيئًا، ويجعلونها حرفًا مهملًا، فيبقى المبتدأ مرفوعًا والخبر مرفوعًا، فيقولون "ما محمدٌ مسافرٌ"، فـ "محمد" مبتدأ. و"مسافر" خبر.
والقياس فيها هو لغة جمهور العرب وهم التميميين، أن تُهمل، فإن الحروف لها قاعدة في الإعمال، فالحروف إمَّا أن تكون:
- مختصة بالأسماء: كحروف الجر، ومثل "إنَّ" وأخواتها، وهذا قياسها أن تعمل.
- مختصة بالأفعال، فلا تدخل إلا على الأفعال، كحروف النصب والجزم، فهذه أيضًا قياسها أن تعمل.
- غير مختصَّة، يعني مشتركة فتدخل على الأسماء والأفعال، وهذه قياسها أن لا تعمل.
إذًا؛ الحرف المختص قياسه أن يعمل، والحرف غير المختص قياسه أن لا يعمل، مثل: "هلْ" في الاستفهام، والهمزة، كـ "هل محمدٌ مسافرٌ؟ هل سافرَ محمدٌ"، فالحرف غير مختص، ودخل على الاسم والفعل؛ فصار مهملًا.
فالقياس في "ما" أن تُهمَل لأنها حرف غير مختص، إلَّا أنَّ السماع جاء بإعمالها عند الحجازيين، ولغة القرآن -كما نعرف- جاءت في الأكثر على لغة الحجازيين، ومن ذلك "ما" الحجازية، كقوله تعالى: ﴿ما هذا بشراً﴾، فـ "ما" حجازيَّة، و"هذا" اسمها، و "بشرًا" خبرها منصوب.
وكقوله تعالى: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ [المجادلة: 2]، فـ "ما" نافية، و "هنَّ" اسمها، و "أمهاتِهم" خبرها منصوب وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.
ولم تأتِ "ما" الحجازيَّة عاملةً إلا في هذين الموضعين، وفيما سوى ذلك لم يظهر عملها في الخبر، إلا في موضع ثالث احتمالًا لا نصًّا، في قوله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47]، فـ "ما" النافية، و"أحد" اسمها، و "مَنْ" زائدة
فإن قلنا: "حاجزين" هو الخبر، فقد عملت نصًّا في الخبر، يعني: ما أحدٌ منكم حاجزين.
وإن قلنا: إن الخبر هو "منكم"، يعني: ما أحدٌ منكم، فأخبر عن الأحد بأنه منهم حالةَ كونهم حاجزين، فـ "حاجزين" تكون حال حينئذٍ، فلا تكون عاملة في الخبر نصًّا.
ومما ينبغي أن نعرفه: أنَّ عمل "ما" ضعيف، لأنه ليس عملًا بالأصالة، فإنَّ "ما" لا تعمل بالأصالة، وإنما تعمل حملًا لها وقياسًا لها على "ليس"، وأيُّ عاملٍ عمله ضعيف فإنه لا يعمل في الجملة إلَّا إذا جاءت على أصلها، فإن كان في الجملة تقديم أو تأخير أو زيادات؛ فهذا يُبطل العمل الضعيف، كـ "ما" الحجازية، فلهذا لا تعمل إلا بشروط، وكل هذه الشروط تعود إلى أمر واحد، وهو أنَّ عملها ضعيف ويزول بما يحصل في الجملة من زيادات أو تقديم وتأخير.
- ولا تعمل "ما" إذا زيد قبل اسمها "إنْ"، فلو قلتَ: "محمدٌ مسافرٌ"، ثم زدتَّ "ما"، ثم أدخلتَ "ما" النافية؛ فهنا تعمل عند الحجازيين، فيقولون: "ما محمدٌ مسافرًا".
لكن لو زدتَّ "إنْ" بطل عملها، فتقول: "ما إنْ محمدٌ مسافرٌ"، فـ "محمدٌ" مبتدأ، و "مسافرٌ" خبر، و"ما" حجازيَّة لكن عملها مبطَل بسبب زيادة "إنْ".
- ولا تعمل "ما" إذا زدتَّ "إلَّا" قبل الخبر، كأن تقول: "ما محمدٌ مسافرًا"، فلو زدتَّ "إلَّا" تقول: "ما محمدٌ إلا مسافرٌ"، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران: 144]، وقوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر: 50]، كل هذا بسبب التقديم والتأخير.
إذًا؛ شروط الإعمال تعود إلى شيء واحد، وهو أن عملها ضعيف يبطل بالزيادات في الجملة، أو بما يحدث فيها من تقديمٍ وتأخير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وكذا "لا" النافيةُ في الشعر بشرط تنكير معمولَيْها نحو "تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقياً ** ولا وَزَرٌ بما قضى اللهُ واقياً")}.
الحرف النافي الثاني الذي يعمل عمل "ليس" هو: "لا" النافية المعروفة، وهي حرفٌ مشترك غير مختص، فيدخل على الأسماء كقولك "لا رجلٌ في البيت"، ويدخل على الأفعال، كقولك "محمدٌ لا يهمل دروسه؛ فكان القياس فيه أن يكون مهملًا، وهذه لغة جمهور العرب.
إلَّا أنَّ الحجازيين أيضًا يُعملونها عمل "ليس"، ولكن "لا" أضعف من "ما الحجازيَّة، فهي لا تعمل إلا عند الحجازيين، ولا تعمل إلا بشروط "ما" المذكورة قبل قليل، وهي: أن لا يكون في الجملة زيادات ولا تقديم وتأخير، وأيضًا بشرطين آخرين:
- أن يكون ذلك في الشعر: يعني ضرورة شعريَّة.
- تنطير معموليها: يعني أنها لا تعمل إلَّا في النكرة لا في المعرفة، كقوله ""تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقياً"، فـ "لا" عاملة عمل "ليس" لأنها بمعنى "ليس"، و "شيءٌ" اسمها مرفوع، و "باقيًا" خبرها منصوب.
تقول: "لا رجلٌ مسافرًا، لا بخيلٌ محمودًا"، يعني: ليس بخيلٌ محمودًا.
ومن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أحدٌ أغيرَ من الله»، يعني: ليس أحدٌ أغيرَ من الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و "لاتَ" لكنْ في الحين. ولا يُجْمع بين جزأَيْها، والغالبُ حذفُ المرفوع نحو ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾)}.
الحرف النافي الثالث الذي يعمل عمل "ليس" هو: "لات"، وهو منا لحروف النافية وهي بمعنى "ليس"، إلا أن إعمالها عمل "ليس" واجبٌ لا جائز، وليس فيه لغات، بل هو عاملٌ هذا العمل عند جميع العرب، إلَا أنَّ إعمالها يكون بشروط أشار إليها ابن هشام:
الشرط الأول: أنها لا تعمل إلا في الحين.
المراد بالحين: الزمان، يعني لا تعمل إلا في أسماء الزمان، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾، فـ "لات" حرف نفي بمعنى "ليس"، و "حينَ" بمعنى زمن، و"مناص" بمعنى فرار.
الشرط الثاني: أنه لا يُجمَع بين جزأيها.
المراد بجزأيها: اسمها وخبرها، فلابد من حذف أحدهما، إما أن تحذف اسمها فيبقى الخبر، وإما أن تحذف خبرها فيبقى الاسم، ويجوز أن تحذف الاسم ويبقى الخبر، ويجوز أن تحذف الخبر ويبقى الاسم، لكن الغالب هو حذف المرفوع -وهو اسمها- وبقاء خبرها، كالآية: ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾، يعني: ليسَ الحينُ حينَ مناصٍ، أو: ليسَ الوقتُ وقتَ فرارٍ؛ فحُذِفَ الاسم المرفوع وبقي الخبر المنصوب.
والوجه الثاني جائز ولكنه ليس بغالب، وهو حذف الخبر المنصوب وإبقاء الاسم، ومن ذلك قراءة في قوله تعالى: ﴿وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ﴾، فـ "لات" بمعنى "ليس"، و "حينُ" اسمها"، والخبر محذوف، والمعنى: ليس لهم حينُ مناصٍ. أو: ليسَ لهم وقتُ فرارٍ.
ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر:
ندم البغاةُ ولاتَ ساعةَ مندمٍ ** والبغيُ مرتعُ ممتطيه وخيمُ
فهذه "لات" بمعنى "ليس"، واسمها محذوف، والتقدير: ليس الساعةُ، وخبرها مذكور وهو "ساعةَ"، والمعنى: ليست الساعةُ ساعةَ مندمٍ.
ويرى بعض النحويين أنَّ "لات" ضيقةُ العمل، واستعمالها ليس بكثير، لكنه أسلوب مطَّرد، فلِضيقِها قالوا إنها لا تعمل إلا في الحين، أي: لا تعمل إلا في لفظ "حين".
وبعض النحويين يقولون: غنها تعمل في الزمان كله، أي في جميع ألفاظ الزمان، في "الحين، الساعة، الوقت"، وكل الأسماء الدالة على الزمان، ومن الشواهد على ذلك هذا البيت:
ندم البغاةُ ولاتَ ساعةَ مندمٍ **..........
"ساعةَ مندمٍ"، عملت في "الساعة"، وإن كانت الآية جاء بلفظ "الحين".
هذا ما يتعلق بالناسخ الأول وهو "كان" وأخواتها، وعرفنا أنها ترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر خبرًا لها.
ثم أُلحِقَت بها بعض الحروف، وهي:
- "ما" النافية الحجازيَّة.
- "لا" النافية.
- لاتَ.
وينبغي أن ننتبه غلى أنَّ "كان" وأخواتها أفعال، فهي تعرب إعراب الأفعال ماضيًا ومضارعًا وأمرًا، وأما هذه الملحقات بها -ما، لا، لات- فهي حروف، فيجب أن تعرب إعراب الحروف:
- فعندما نعرب "ما" النافية الحجازية نعربها إعراب الحروف، فنقول: "ما" حرف نفي يعمل عمل "ليس" مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
- وكذلك عندما نعمل "لا" و "لات" وهي مُعْمَلة وجوبًا؛ نقول: "لاتَ" حرف نفي يعمل عمل "ليس" مبني على الفتح لا محل له من الإعراب.
فإن قيل: هل "لاتَ" هي "لا". أم هما حرفان مختلفان؟
الجواب: في ذلك خلاف بين النحويين:
- بعضهم يقول: إنَّ "لاتَ" هي "لا"، ودخلت عليها تاء التأنيث شذوذًا، لأن تاء التأنيث إنما تدخل في القياس على الأسماء، مثل "قائم - قائمة، جالس - جالسة"، ولا تدخل على الحروف إلا شذوذًا، كما دخلت في "ثُمَّ، ثُمَّت"، وكذلك في "لا، لاتَ".
- وقال آخرون: بل هو حرفٌ آخر جاء مرتجلًا بهذه الصيغة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثاني: "إنّ وأنّ" للتأكيد، و "لكنَّ" للاستدراك، و"كأن" للتشبيه أو الظن، و"ليت" للتمني، و"لعل" للتَّرَجِّي أو الإشفاق أو التعليل)}.
ذكر -رَحِمَهُ اللهُ- الناسخ الثاني من نواسخ الابتداء بعدَ أن انتهينا من "كان" وأخواتها.
وكما ذكر ابن هشام أنَّ الناسخ الثاني ستة أحرف: "إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكنَّ، لعلَّ، ليتَ"، أربعة أحرف مختومة بالنون، وحرفان غير مختومين بالنون، وسيذكر فيما بعد أن هناك حرفًا آخر يُلحق بها ويعمل عملها، وهو "لا" النافية للجنس.
وبدأ بالكلام على معاني هذه الحروف، فقال: ("إنّ وأنّ" للتأكيد، و "لكنَّ" للاستدراك).
الاستدراك: أن تأتي إلى كلامٍ سابقٍ فستدرك عليه شيء، فمعنى ذلك أنه لا يأتي إلا بعدَ كلامٍ متقدِّمٍ ولا يكون في أول الكلام، كأن تقول: "زيدٌ شجاعٌ لكنه بخيلٌ"، فعندما قلت "زيدٌ شجاعٌ" كأنَّه ظُنَّ أنَّه كريمٌ لأنَّ الأصل في الشجعان الكرم؛ فاستدركتَ بقولك "لكنَّه بخيل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و"كأن" للتشبيه أو الظن)، المعنى الأصلي المتفق عليه أنه للتشبيه، تقول: "كأنَّ زيدًا أسد، كأنَّ هندًا قمرٌ"، فزيد ليس بأسد ولكنه يشبه الأسد.
وأما مجيئها للظنِّ فهو أن تذكر أنَّك تظنُّ ذلك ظنًّا ولستَ بمستيقنٍ، ولا تريد أن تشبه الشيء بالشيء، فتقول: "كأن زيدًا مسافر"، فأنت لا تريد أن تشبهه بأنه مسافر، وإنما تريد أن تخبر أنَّك لست متأكِّدًا، فهذا من باب الظن، وبعضهم يُعيده أيضًا إلى التشبيه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و"ليت" للتمني)، التمنِّي هو طلبُ فعل الشيء، فإن كان التَّمني بلفظ الفعل "أتمنَّى، يتمنَّى، التَّمني"؛ فهذا يكون في جميع المطلوبات الممكنة والغير ممكنة، فتقول: "أتمنى أن تزورني هذه الليلة، أتمنى أن يعود محمد، أتمنى أن يغفر الله لك"، فإذا كان التمني بلفظ الحرف "ليتَ"؛ فهذا له خاصيَّة، وهو أنه لا يكون في الأغلب إلا للمستحيل أو العسير، ولا يكون في الممكن، فتقول: "ليتَ الشباب عائدٌ"، لأنَّ هذا مستحيل، أو تقول: "ليتني أُطعم الحُجاج" فذا ممكن ولكنه عسير،، ولكن ما تقول: "ليتكَ تزورني الليلة"، وهو أمر ممكن ليس بعسير!
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (و"لعل" للتَّرَجِّي أو الإشفاق أو التعليل)، فـ "لعل" تكون في الممكنات:
- فإن كان هذا الممكن محبوبًا فنعبِّر عنه بالرَّجاء والتَّرجِّي، فتقول: مثلًا "لعلَّ الغداء جاهز، لعلَّ زيدًا يزورني".
- وإن كان هذا الشيء مكروهًا فيُسمَّى إشفاقًا، تقول: "لعل العدوَّ قريبٌ".
وتكون "لعل" للتعليل"، كأن تقول: "أنهِ عملكَ لعلنا نتغدى" يعني: كي نتغدى.
فهذه الأحرف ومعانيها، وهذه هي المسألة الأولى في هذا الباب، وندع بقيَّة الباب -إن شاء الله- للدرس القادم. إلى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.