الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سليمان بن عبدالعزيز العيوني

إحصائية السلسلة

5471 22
الدرس الخامس عشر

قطر الندى

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".

في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.

أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم.

{في الحلقة الماضية توقفنا عند ترتيب الجملة الفعليَّة الأصليَّة، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (والأصل أن يليَ عامِلَه)}.

بسم الله الرحمن الرحيم.

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد؛ فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم جميعًا في درس جديد من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وهذا هو الدرس الخامس عشر، ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبثُّ من الرياض من الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.

ما زال الكلام على باب الفاعل، إذْ قلنا: إنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ذكرَ فيه عدَّة مسائل، وشرحنا خمس مسائل منها.

والآن المسألة السادسة في: ترتيب الجملة الفعلية الأصلي، وذكره ابن هشام بقوله (والأصل أن يليَ عامِلَه)، يعني: الأصل أن يلي الفاعل عاملَه، فالترتيب الأصلي للجملة الفعلية هو: الفعل، فالفاعل، فالمفعول به.

والسبب في كون هذا هو الأصل؛ لأنَّ الفاعل قويُّ الارتباط بالفعل، كأنه جزءٌ منه، فلا فعل إلا بفاعل. وهذا من حيث المعنى.

أما من حيثُ اللفظ فنجد أن الفاعل هو الذي يؤثر في الفعل، كـالتأنيث والتَّذكير.

كذلك قد يؤثر به لفظيًّا، نحو "ذهبَ" مبني على الفتح، فإذا اتصل به ضمير متصل وكان فاعلًا، ستُسكِّن آخره، فتقول: "ذهبْتُ"، لأنَّ في هذا اللفظ أربعة متحركات، فكأنه كلمة واحدة، لأن الفعل مع الفاعل كأنه جزء منه.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد يتأخر جوازًا نحوُ ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ وكما "أتى ربَّه موسى على قدر"، ووجوبًا نحوُ ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ و "ضربني زيدٌ")}.

هذه المسألة في تأخير الفاعل جوازًا ووجوبًا، فذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- أن الفاعل في الأصل يأتي بعدَ الفعل، وقبل المفعول به؛ لكن مخالفة الأصل جائزة، فالفاعل قد يتأخَّر، ومعنى ذلك أن المفعول به حينئذٍ تقدَّم عليه، فتوسَّطَ بين الفعل وبين الفاعل، ويكون ذلك جوازًا إذا لم يُوجد موجب يُوجب تأخير الفاعل، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر: 41]، فـ "النذر" هي الفاعلة، فالأصل "ولقد جاء النذرُ آلَ فرعون"، ثم تقدَّم المفعول به وتأخر الفاعل جوازًا.

وكما تقول: "أكرمَ زيدٌ الأستاذَ"، و "أكرمَ الأستاذَ زيدٌ"، وكما في قول الشاعر الذي ذكره ابن هشام:

جاءَ الخلافة َ إذْ كانتْ لهُ قدراً ... كَمَا أتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ

وهذا في مدح عمر بن عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ-، فيقول: "كما أتى ربَّه موسى"، فالآتي هو موسى، فهو الفاعل، والمأتي هو "رب" فهو المفعول به، ثم تقدَّم المفعول به جوازًا لعدمِ المانع، والأصل أن يقول "كما أتى موسى ربَّه".

وقد يكون تأخُّر الفاعل واجبًا، فيكون تقدُّم المفعول به على الفاعل واجبًا، وذكر لذلك ابن هشام مثالين، كل مثالٍ هو عبارة عن موضع من مواضع الوجوب:

المثال الأول: قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: 124]، يعني إذا كان في المفعول به ضمير يعود إلى الفاعل، كما لو قلت: مثلًا "أكرمَ زيدًا أبوه" فالفاعل هنا أُخِّر وجوبًا وقُدِّم المفعول، لكي يعود الضمير إلى متقدِّم، ولو أننا أتينا بالترتيب الأصلي فقلنا: "أكرم أبوه زيدًا" لعاد الضمير إلى متأخرٍ رتبةً ولفظًا.

الموضع الثاني في قوله: "ضربني زيدٌ"، يعني: إذا كان المفعول به ضميرًا، والفاعل اسم ظاهر، كما لو قلت: مثلًا: "أكرمني زيدٌ"؛ فالعلم "زيدٌ" اسم ظاهر -أي: ليس بضمير- والمفعول به ضمير -وهو ياء المتكلم- فوجب حينئذٍ أن تُقدِم المفعول به لأنه ضمير، والقاعدة في الضمير: إذا أمكن الإتيان بالضمير المتَّصل لا يُعدَل عنه إلى الضمير المنفصل، فهنا يُمكن أن نأتي به متَّصلًا، فيجب أن يتصل بالفعل؛ فيتأخر الفاعل وجوبًا.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد يجب تأخير المفعول كـ "ضربت زيدًا" و "ما أحسنَ زيدًا" و "ضرب موسى عيسى"، بخلافِ نحو: "أرضَعَتِ الصغرى الكبرى")}.

هذه المسألة في تأخُّر المفعول به وجوبًا، فالفاعل حينئذٍ مُقدَّم وجوبًا، وذكر ابن هشام لذلك موضعين:

الموضع الأول: مثَّله بقولك: "ضربتُ زيدًا"، و "ما أحسنَ زيدًا"، يعني: أنَّ الفاعل ضميرٌ، والمفعول به اسمٌ ظاهر، وهذا عكس المسألة السابقة، كما لو قلت: "أكرمتُ زيدًا"، فالمفعول به "زيدًا" اسم ظاهر، والفاعل ضمير؛ فهنا يجب أن يكون الفاعل ضميرًا متَّصلًا فيتَّصل بالفعل، ويتأخر المفعول به وجوبًا، سواءٌ كان هذا الفاعل الواقع ضميرًا بارزًا كـ "أكرمتُ زيدًا، ضربتُ زيدًا، أو ضميرًا مستترًا، كقولك: "ما أحسنَ زيدًا"؛ فالفاعل في "أحسنَ" مستتر يعود إلى "ما".

الموضع الثاني: إذا التبسَ الفاعل بالمفعول به، يعني: إذا لم يكن هناك ما يُميز الفاعل من المفعول به؛ فحينئذٍ ليسَ لنا أن نعرف الفاعل من المفعول به إلَّا من طريق التزام الترتيب الأصلي، كقولك: "أكرم موسى عيسى"، فـ "موسى، عيسى" كلاهما معربٌ بحركات مُقدَّرة، أو لو قلت: "أكرمَ سيبويه هؤلاء"؛ فكلاهما مبني، فما يتبيَّن الفاعل من المفعول به لعدم وجود علامات الإعراب، فيجب أن تُقدِّم الفاعل، ويجب أن تؤخِّر المفعول به.

إلَّا إذا كان في الكلام دليل لفظي أو معنوي، فمثال الدليل المعنوي كمثال ابن هشام "أرضعت الصغرى الكبرى" فالمرضعة هي الكبرى، فهي الفاعل، والصغرى هي المفعول به لأنه المرضَعَة، ومع هذا قُدِّمَ المفعول به، وهذا يجوز، لأن المعنى يُبيِّن الفاعل من المفعول به.

وكام لو قلت: مثلًا: "أكرمت موسى ليلى"، فالفاعل "ليلى" وإن تأخر؛ لوجود التاء في "أكرمت".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد يتقدم على العامل جوازًا نحوُ ﴿فَرِيقًا هَدَى﴾، ووجوبًا نحو ﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾)}.

المفعول به قد يتقدَّم جوازًا ووجوبًا، يعني: أنه يتقدَّم على الفعل نفسه، فتقول: "أكرمتُ زيدًا"، فهنا "زيدًا" مفعول به مؤخَّر عن الفاعل وجوبًا، ويجوز أن تقول: "زيدًا أكرمتُ"، ويكون "زيدًا" مفعول به مقدَّم.

هل يجوز أن يتقدَّم المفعول به على الفاعل؟

الجواب: نعم يجوز، حيثُ لا يوجد موجب للتأخير، كقوله تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى﴾ [الأعراف: 30]، فالأصل في التركيب اللغوي "هدى فريقًا"، ثم قُدِّم المفعول به جوازًا. وفي البلاغة نبحث لماذا قُدِّم المفعول به.

وقد يكون تقدُّم المفعول به على الفعل واجبًا إذا وُجدَ موجب، وقد ذكر ابن هشام مثالًا للمفعول به المقدَّم وجوبًا في قوله ﴿أَيًّا مَّا تَدْعُوا﴾ [الإسراء: 110]، يعني: إذا كان المفعول به اسمًا له الصَّدارة، وعرفنا أن الأسماء التي لها الصدارة يجب أن تكون في أول جملتها مهما كان إعرابها، مبتدأ، أو خبرًا، أو مفعولًا به، أو حالًا، أو ظرفًا، أو غير ذلك؛ فإذا كان اللفظ الذي له الصدارة مفعولًا به فيجب أن يتقدَّم على كل شيء، حتى على الفعل.

مثال ذلك: أن تقول: مثلًا: "مَنْ أكرمتَ؟"، فـ "أكرمَ" فعل، والتاء فاعل، والمفعول به هو "مَن" المقدَّم؛ لأنَّك لو أجبتَ لقلتَ: "أكرمتُ زيدًا"، فالذي يُقابل "منْ" هو "زيدًا" فهو مفعول به لكنَّه مُقدَّم وجوبًا؛ لأنه اسم استفهام.

وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ [غافر: 81]، استفهام، يعني: "تُنكرون أيَّ آيات الله؟"، فـ "أيَّ" مفعول به؛ لأنه المنكر الذي أنكروه، ثم قُدِّمَ وجوبًا لأنه اسم استفهام.

وكذلك في قوله تعالى: ﴿أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، فـ "أيًّا" من أسماء الشرط، فله الصدارة، والمعنى: أيَّ اسمٍ تدعونه به فله الأسماء الحسنى، و "أي" هنا هو مفعول "تدعوا"، والمعنى: "تدعونَ أيَّ اسمٍ"، ثم قُدِّم المفعول به وجوبًا، فصارت الجملة "أيًّا ما تدعوا".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإذا كان الفعل نعمَ أو بئسَ فالفاعل إما مُعَرَّفٌ بأل الجنسيةِ نحوُ ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾، أو مضافٌ لما هي فيه نحوُ ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾، أو ضميرٌ مستترٌ مُفَسَّرٌ بتمييز مطابقٍ للمخصوص نحوُ ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾).

هذه المسألة خصَّها ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- للكلام على فاعل "نعم، بئس"، لأن فاعل "نعم، بئس" ضيِّق، ولا يكون من كل الأسماء، وإنما يكون من ثلاثة أشياء فقط.

وابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- لم يضع في هذا الكتاب بابًا خاصًّا بالمدح والذَّم بـ "نعم، وبئس" كما يفعل كثير من النحويين، وإنما فرَّق أحكام هذا الباب في مواضعها، فذكر أشياء في التمييز، وذكر هنا أشياءَ، وهكذا..

وفاعل "نعم، بئس" لا يكون من كل الأسماء:

- فلا يُمكن أن تأتي بعَلَم وتجعله فاعلًا لـ "نعم، بئس"، ما تقول: "نعم محمدٌ"!

- ولا يأتي ضميرًا، فلا تقول: "نعم أنت"!

- ولا يأتي اسمًا موصولًا، فلا تقول: "نعمَ الذي"!

وإنما يكون واحدًا من هذه الثلاثة:

النوع الأول: معرفًا بـ "أل" الجنسية، كأن تقول: "نعم الرجلُ زيدٌ"، فـ "الرجلُ" فاعل، لأنَّ "نعم" فعل ماضٍ جامد، وأما "زيدٌ" فهو المخصوص بالمدح، وفيه إعرابان:

= إما أنه مبتدأٌ مؤخَّر، يعني "زيدٌ" وأخبرتَ عنه بجملة "نعم الرجل".

= أو أنه خبر لمبتدأ محذوف، يعني "هو زيدٌ".

ومثل: قولك: "بئسَ الخلقُ الكذبُ".

النوع الثاني -وهو عائد إلى الموضع الأول: أن يكون اسمًا مضافًا لما فيه "أل"، كأن تقول: "نعمَ صديقُ الرجلِ زيدٌ"، ففعال نعن هو "صديق" وهو مضاف، و"الرجل" مضاف إليه، وهذا المضاف إليه فيه "أل".

النوع الثالث -يحتاج إلى انتباه: وهو أن يكون ضميرًا مستترًا -غير بارز- لكنه مفسَّر بتمييز يُطابق المخصوص.

مثال: "نعمَ الرجلُ زيدٌ"، نحوله إلى هذا الأسلوب الثالث، فنقول: "نعمَ رجلًا زيدٌ"، فـ "نعم" فعل ماضٍ، و "زيدٌ" هو المخصوص بالمدح والذم، و "رجلًا" لا يكون فاعلًا؛ لأنه تمييز منصوب، والفاعل ضمير مستتر تقديره: "هو"، وهذا الضمير المستتر يُبيِّنه هذا التمييز، فهو مُفسَّر بتمييز مطابق، كأنَّك أردتَّ أن تقول: "نعم الرجلُ رجلًا زيدٌ".

إذا اتفقنا أن الموضع الثاني عائدٌ إلى الموضع الأول، فمعنى ذلك أنَّ فاعل "نعم، وبئس" يأتي على أسلوبين:

- إمَّا بـ "أل"، فتقول: "نعم الخلقُ الصدقُ"، أو تقول: "نعم خلقًا الصدقُ".

- أو ضميرًا مستترًا مفسَّر بتمييز مطابق، مثل: "نعمَ صديقًا محمدٌ"؛ وهكذا..

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ النائب عن الفاعل:

يُحْذَفُ الفاعلُ فينوب عنه في أحكامه كلِّها مفعولٌ به، فإن لم يوجدْ فما اختصَّ وتَصَرَّفَ من ظرفٍ، أو مجرورٍ، أو مصدرٍ)}.

هذا الباب هو باب نائب الفاعل الذي يُمثل: الصورة الثانية من صور الجملة الفعليَّة المكوَّنة من فعلٍ مبنيٍّ للمجهول ونائب فاعلٍ.

ويُسمَّى: باب نائب الفاعل، أو: النائب عن الفاعل، أو: باب المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله.

وابن هشام -كما نرى- لم يعرِّفه، وإنما مباشرةً بدأ بأحكامه.

ولكي نعرف هذه الأحكام؛ نذكِّر بما قلناه في شرح المبتدئين:

لو قلت: "قرأ محمدٌ الكتابَ"، فإذا أردتَّ أن تحذف الفاعل لسبب من الأسباب؛ فتعمل عملين:

العمل الأول قبل الفاعل: تُحوِّل الفعل من مبني للمعلوم "فَعَلَ" إلى مبنيٍّ للمجهول "فُعِلَ، فتقول: "قُرئَ".

العمل الثاني بعد الفاعل: أن تأخذ المفعول به المنصوب وتضعه مكان الفاعل وتعطيه حكم الفاعل فترفعه.

إذًا نحتاج إلى أن ندرس الأمرين:

- ندرس ماذا نعمل قبل الفاعل المحذوف، وكيف نغيِّر صيغة الفعل من مبني للمعلوم إلى مبني للمجهول.

- وأن ندرس التغيير الذي بعدَ الفاعل، وهو ما الذي ينوب عن الفاعل بعد حذفه.

نبدأ بالمسألة الأولى: ما ينوب عن الفاعل بعد حذفه:

ذكر ابن هشام أن الذي ينوب عن الفاعل بعد حذفه واحدٌ من أربعة:

الأول: المفعول به.

الثاني: ما اختصَّ وتصرَّف من ظرف

الثالث: ما اختصَّ وتصرَّف من مجرور.

الرابع: ما اختصَّ وتصرَّف من مصدر.

نائب الفاعل ينوب عن الفاعل في أحكامه كلها التي درسناها قبل قليل في باب الفاعل:

- فحكمه الرفع.

- ويجب أن يتأخر عن فعله ولا يتقدَّم.

- يلزم التوحيد، فلا يُثنَّى الفعل معه ولا يُجمَع.

- هو الذي يؤثِّر في الفعل تذكيرًا وتأنيثًا.

وكل هذه الأحكام ستنتقل بعد ذلك من الفاعل إلى نائب الفاعل.

النوائب -كما قلنا- أربعة؛ فهل هذه الأربعة ينوب أيٌّ منها على الاختيار؟

الجواب: لا، إذا وُجد المفعول به فهو الذي ينوب عن الفاعل، كما لو قلت: مثلًا "فتحَ الحارسُ البابَ"، فتقول: "فُتِحَ البابُ". ولو قلتَ: "أخذَ زيدٌ القلمَ يومَ الخميس"، ثم أردتَّ أن تبني للمجهول، فتحذف الفاعل وتبني الفعل للمجهول، وتجعل المفعول به نائبًا للفاعل، لأن المفعول به هو الأولى أن ينوب عن الفاعل، فتقول: "أُخِذَ القلمُ". وهذا هو قول الجهور.

وقال الكوفيُّونَ: يجوز أن تُنيب ما شئتَ منها، لكن الأفضل أن تقدم نائب الفاعل، فلو أنبتَ الظرف في هذا المثال فالأفضل أن تقدمه، فتقول: "أُخِذَ يومُ الخميسِ القلمَ".

وقولهم جاءت عليه بعض الشواهد القليلة المتأوَّلة.

ومعنى قول ابن هشام (ما اختصَّ وتَصَرَّفَ من ظرفٍ، أو مجرورٍ، أو مصدرٍ): لو كان الفعل لازمًا -أي: ليس له مفعول به- ثمَّ أردتَّ أن تأتي بنائبٍ عن فاعله المحذوف، مثل: "جلسَ زيدٌ"؛ فهذا ليس له مفعول به لأنه لازم، وقد تأتي بجار ومجرور "على الكرسي"، أو بظرف "اليوم"، أو بمفعول مطلق "جلوسًا"؛ فالظرف والجار والمجرور والمصدر تنوب عن الفاعل بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون كلٌّ منها مختصًّا: المختص خلاف المطلق، يعني أنه مقيدَّ؛ فإما أن تقيده حينئذٍ بنعتٍ، أو بإضافة، أو بتعريف، المهم أن يكون مقيَّدًا ولا يكن عامًّا، لأنَّه لو كان عامًّا مطلقًا لذهبت الفائدة أصلًا، تقول: "جلسَ زيدٌ اليوم"، فيجوز أن تحذف "زيد" وتقول: "جُلِسَ اليوم"، فـ"اليوم" معرَّف بـ "أل"، يعني هذا اليوم الذي نحن فيه، فهو معيَّنٌ، ولكن لو قلت: "جلسَ زيدٌ يومًا" ثم بنيت للمجهول، فلا يجوز أن تقول: جُلِسَ يومٌ"، لأنه معلوم أنه في يومٍ من الأيام فُعل الجلوس، فليس هناك فائدة! ولكن لو قلت: "اليوم" يعني: هذا اليوم حدث فيه جلوس؛ ففيه فائدة.

أو تقول: "جُلِسَ يومُ الخميس"؛ فتقيَّد بالإضافة.

أو "جُلِسَ يومٌ طويلٌ"، فهذا اختصَّ.

وتقول: في الجار والمجرور: "جُلِسَ على الكرسي، جُلِسَ على كرسيٍّ جميل".

وكذلك في المفعول المطلق، فلو قلت: "جُلِسَ جُلوسٌ" فما فيه فائدة؛ لأنه معلوم أن هناك جلوسٌ فُعِلَ، لكن لو قلت: "جلسَ محمدٌ جلوسًا طويلًا" ثم تبني للمجهول فتقول: "جُلِسَ جلوسٌ طويلٌ، أو: جُلِسَ جلوسٌ مؤدَّبي"؛ لجازَ ذلك.

الشرط الثاني: أن يكون متصرفًا، أي: أنه يأتي ظرفًا ويأتي غير ظرفٍ، مثل: كلمة: "اليوم" يأتي ظرف زمان، ويأتي مبتدأ، ويأتي خبر، ويأتي مفعول به؛ فهذا يصح أن يقع نائب فاعل.

ولكن بعض الظروف لا تأتي إلا ظرفًا فقط، ولا يُمكن أن تأتي مبتدأ أو فاعلًا أو شيئًا آخر، مثل: "قط" فما تخرج عن الظرفيَّة، فهذه لا يُمكن أن تكون نائب فاعل.

وكذلك في الجار والمجرور، فهناك حروف جر لا تستعمل إلا حروف جر في معنًى معيَّن، مثل: "منذ" فلا تستعمل إلا في الزمان، و "ربَّ" لا تستعمل إلا مع النكرة، فهذه غير متصرفة.

والمصدر: فهناك أسماء لا تستعمل في اللغة إلا منصوبة على المصدرية، فلا يمكن أن تجعلها نائب فاعل، مثل: "سبحان الله" فهذه دائمًا ملازمة للمفعول المطلق، يعني: يسبح الله تسبيحًا، ومثل: "معاذ الله".

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: 13]، والأصل في التركيب اللغوي -والله أعلم: "فإذا نفخَ الملَكُ في الصور نفخةً واحدةً"؛ فعندما حذف الفاعل "المَلَك" وبنى الفعل للمجهول "نُفِخَ" وُجِدَ الجار والمجرور "في الصور" ووُجِدَ المفعول المطلق "نفخةً"، فيجوز أن تنيب عن الفاعل المحذوف هذا أو هذا.

فإذا أُنيبَ الجار والمجرور فنقول "نفخةً" ويبقى على أنه مفعول مطلق منصوب.

ولو أنبنا المفعول المطلق لرفعناه وقلنا: "نفخةٌ واحدةٌ"، وبقي الجار والمجرور متعلقًا بالفعل، وهذا الذي جاءت عليه الآية.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويُضَم أولُ الفعل مطلقًا، ويشاركه ثانِي نحوِ "تُعُلِّمَ"، وثالثُ نحوِ "اُنْطُلِق". ويُفْتَح ما قبلَ الآخر في المضارع، ويُكْسَر في الماضي. ولك في نحو "قال وباع" الكسرُ مُخْلَصًا ومُشَمًّا ضَمًّا والضمُّ مخلصًا)}.

تكلم هنا على كيفية بناء الفعل للمجهول، كيف نصوغ الفعل للمجهول، كيف نحوِّله من فعلٍ مبنيٍّ للمعلوم إلى فعل للمجهول.

هناك قاعدة عامَّة تشمل كل الأفعال:

- في الفعل الماضي: يُضمُّ أوله، ويُكسر ما قبل آخره، فتقول: في "ضَرَبَ - ضُرِبَ"، "أَكْرَمَ - أُكْرِمَ"، وفي "دَحْرَجَ - دُحْرِجَ".

- في الفعل المضارع: يُضمُّ أوله ويُفتَح ما قبل آخره، فيُقال في "يُكرِمْ - يُكرَم"، وفي "يُدَحرِجْ - يُدَحْرَج".

وهناك قواعد خاصة لا تطبَّق إلا في كلمات خاصَّة فقط، منها:

* الماضي المبدوء بتاء زائد، أي: ما كان على وزن "تَفعَّلَ" مثل: "تَخَرَّجَ، تَحَطَّمَ"، أو على وزن "تَفَاعَلَ"، مثل: "تَخَاصَمَ، تَجَاهَلَ"، أو "تَفَعْلَلَ" مثل: "تَدْحْرَجَ، تَبَعْثَرَ"؛ فهذا الفعل المبدوء بتاء زائدة تُطبَّق عليه القاعدة العامَّة، فيُضمُّ أوله ويُكسَر ما قبلَ آخره، ويُضاف إلى ذلك: ضم الحرف الثاني، مثل: "تَعَلَّمَ"، نطبق القاعدة:

نضم الأول ونكسر ما قبل الآخر، ونضم الثاني، فنقول: "تُعُلِّمَ"، "تَخَرَّجَ - تُخُرِّجَ"، "تَجَاهَلَ - تُجُوهِل".

* الفعل الماضي المبدوء بهزة وصل، وهي تسع صيغ، منها:

- انْفَعَلَ: انْكَسَرَ.

- افتَعَلَ: افتَتَحَ.

فهذا الفعل إذا أردتَّ أن تبنيه للمجهول تطبق عليه القاعدة العامَّة، تضم أوله وتكسر ما قبل آخره، وتضيف إلى ذلك حكمًا خاصًّا به وهو: ضمُّ الحرف الثالث، مثل: "انْطَلَقَ"، فتبنيه للمجهول وتقول: "اُنْطُلِقَ"، "اسْتَخْرَجَ - اسْتًخْرِجَ".

* الفعل الماضي الثلاثي الأجوف -يعني معتل العين- مثل: "قال، باع، صام"؛ فهذا في بنائه للمجهول ثلاث لغات:

اللغة الأولى: إخلاص الكسر، فتكسر الحرف الأول كسرًا خالصًا، فتنقلب الألف إلى ياء، فتقول: "قيل، بيعَ، صيمَ، جيء، غيض".

اللغة الثانية: ضمُّ الأول ضمًّا خالصًا، فتنقلب الألف إلى واو، فيُقال "قُولَ، بُوعَ، صُومَ"، فتقول: "قُولَ الحقُّ، بُوعَ البيتُ".

ومن ذلك قول الشاعر:

لَيْتَ وَلَه تَنْفَعُ شَيْئًا لَيْتُ ... لَيْتَ شَبَابًا بُوْعَ فَاشْتَرَيْتُ

الشاهد: قوله "بوع" يُريد: بيـع.

اللغة الثالثة بين هاتين اللغتين: فتكسر الحرف الأول مع إشمامه بضم -أي تخلطه بضم- فتكون الحركة حينئذٍ بينَ الضَّمة وبين الكسرة، والكسر أكثر.

ويوضحون ذلك فيقولون: هو أن تضم الشفتين على هيئة الناطق بالضمَّة، ولكن تنطق بكسرة، فتقول: "قُيِلَ - بُيعَ"، وهذه تسمى لغة الإشمام.

وأفصح هذه اللغات وأكثرها عند العرب: الكسر الخالص، ثم الإشمام، ثم الضم الخالص.

هذا ما يتعلق بباب نائب الفاعل، لينتقل ابن هشام بعد ذلك إلى بابٍ جديد وهو باب الاشتغال.

{في هذا الباب ذكر -رَحِمَهُ اللهُ- ما يُفعل في السابق للفاعل، ولم يذكر ما يُفعل بالمفعول به، فهل اكتفى بما سبق بيانه في الفاعل لم ذكر أنه تنطبق عليه جميع أحكامه؟}.

نعم، هو ذكر أن كل أحكام الفعل تنتقل إليه، فيكون مرفوعًا، تقول: "قُرِئَ الكتابُ"، ويتحكَّم بالفعل تأنيثًا وتذكيرًا، فتقول: "قُرئَ الكتابُ، قُرِئَت المجلةُ"، وهكذا..

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ الاشتغال: يجوز في نحو "زيدًا ضربتُه" أو "ضربتُ أخاه" أو "مررتُ به": رفعُ زيدٍ بالابتداء؛ فالجملةُ بعدَه خبرٌ، ونصبُه بإضمار "ضربتُ" و "أَهَنْتُ" و "جاوزت" واجبةَ الحذفِ؛ فلا موضعَ للجملة بعدَه)}.

باب الاشتغال بابٌ جديد ولا يُذكر في المعتاد للمبتدئين، وهو مشكلة لغوية حلَّها النحويون في هذا الباب.

لو قلنا: "أكرمتُ زيدًا" فلا إشكال في هذا التركيب، فـ "أكرمَ" فعل، والتاء فاعل، و "زيدًا" مفعول به.

لو قلنا: "زيدًا أكرمتُ"، فليس في هذا التركيب إشكال أيضًا، "أكرمَ" فعل، والتاء فعل، و "زيدًا" مفعول به مقدم.

لو قلنا: "زيدٌ أكرمتُه"، أيضًا هذا التركيب ما فيه إشكال، فـ "زيدٌ" مبتدأ، وجملة "أكرتُ" فعل وفاعل ومفعول به خبر للمبتدأ، والمبتدأ قد يُخبر عنه بجملة فعليَّة، فلا إشكال.

ولكن الإشكال عندما تقول: "زيدًا أكرمته"، فـ "أكرمَ" فعل ماضٍ، والتاء فاعل، والهاء مفعول به، فما إعراب "زيدًا"؟

لا يُمكن أن نقول إنه مبتدأ لأنه منصوب، ولا يمكن أن نقول إنه مفعول الفعل، لأن الفعل قد استوفى مفعوله ونصبه على شكل ضمير، والفعل ما ينصب الشيء نفسه مرتين.

قال النحويون: "زيدًا" المتقدمة هذه منصوبة بفعل محذوف دلَّ عليه المذكور، وتقدير الكلام "أكرمتُ زيدًا أكرمته"؛ فهو من أساليب المبالغة، لكن حذفتَ الأول لدلالة الثاني عليه، يوسمونه المنصوب على الاشتغال.

فإذا قيل: المنصوب على الاشتغال؛ يعني أنه منصوب بفعل محذوف دلَّ عليه المذكور.

ذكر ابن هشام في هذا الباب ست مسائل:

- حكم الاشتغال عمومًا.

- مواضع ترجُّح النَّصب.

- مواضع وجوب النصب.

- مواضع وجوب الرفع.

- مواضع استواء الرفع والنصب.

- ذكر في الأخير تنبيهًا.

على ما شرحنا؛ نعرف أن الاشتغال له أركان:

الركن الأول: المشغول وهو الفعل، يعني: الفعل الذي شغلته بنصب الضمير.

الركن الثاني: المشغول به، وهو الضمير المنصوب.

الركن الثالث: المشغول عنه، وهو الاسم المتقدم المنصوب؛ يعني: لولا وجود هذا الضمير لتسلَّط الفعل ونصب المفعول به في "زيدًا أكرمتُ"، لكن الفعل انشغل بنصب الهاء -الضمير- عن نصب "زيد".

والاشتغال كثير في كلام العرب وفي القرآن الكريم، ومن ذلك:

 قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا﴾ [النحل: 5]، يعني: "خلقَ الأنعامَ خلقها".

وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن: 10]، يعني: "وضعَ الأرضَ وضعها".

وقوله: ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر: 24]، يعني: "أنتَّبعُ بشرًا منَّا".

وقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [الرعد: 23]، هنا جاء بالرفع، وفي قراءة شاذة {جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، يعني: "يدخلون جنات عدنٍ يدخلونها".

في المسألة الأولى ذكر ابن هشام حكم الاشتغال عمومًا، فقال: هذا الأسلوب الذي ذكرناه يجوز فيه من حيث العموم وجهان:

الأول: أن ترفع الاسم المتقدِّم على أنه مبتدأ، فتقول: "زيدٌ أكرمتُه"، فـ "زيدٌ" مبتدأ، وجملة "أكرمته" جملة فعليَّة من فعل وفاعل ومفعول به، وهي خبر.

الثاني: أن تنصب "زيدًا" على الاشتغال، فتقول: "زيدًا أكرمته"، فهذا يُسمى "جواز نحوي". ولكن متى تستعمل الأسلوب الأول ومتى تستعمل الأسلوب الثاني؛ فهذا يعود إلى البلاغة، وقد ذكرنا بسرعة أن أسلوب الاشتغال فيه مبالغة لأن فيه تكريرًا.

ولابد أن ننبه إلى أن الاشتغال يكون على نوعين:

النوع الأول: اشتغال حقيقي: وهو أنَّ الفعل المشغول ينشغل بضمير الاسم المتقدِّم، كالمثال السابق "زيدًا أكرَمْتُهُ"، فالهاء الذي شغل الفعل وهو ضمير "زيد" الاسم المتقدم.

والاشتغال الحقيقي:

* إما أن يصل الفعل مباشرة إلى هذا الضمير فينصبه على أنه مفعول به.

* وإما أن يصل إليه بواسطة حرف جر، مثل: "زيدٌ مررتُ بهِ"، فالهاء تعود إلى "زيد"

النوع الثاني: اشتغال سببي، كقولك: "زيدًا أكرمتُ أخاه" فالفعل المشغول ما نصبَ ضمير الاسم المتقدم، وإنما نصب كلمة "أخ"، وهذه الكلمة بينها وبين الاسم المتقدِّم سبب -أي: رابط وعلاقة-؛ فلهذا أضيف إلى ضمير يعود إلى الاسم المتقدم.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الإنسان: 31]، فلو قال: "والظالمون" صارت مبتدأ والجملة بعدها خبر، فلما قال "الظالمين" نصب على الاشتغال، والضمير في قوله "لهم" فالفعل "أعد" وصل إلى ضمير المشغول عنه بحرف جر، فهذا من الاشتغال النسبي.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويترجح النصب في نحوِ "زيدًا اضْرِبْهُ" لِلطَّلَبِ، ونحوُ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ مُتَأَوَّلٌ، وفي نحوِ ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ للتناسب، ونحوِ ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾، "وما زيدًا رأيتُه" لغلبة الفعل)}.

بعد أن عرفنا أن الحكم العام في الاشتغال هو جواز نصب المشغول عنه وجواز رفعه؛ بدأ ابن هشام الآن يذكر أن النصب يترجَّح في مواضع، وقد يجب في مواضع.

معنى أن النصب مترجِّح: أن الرفع جائز ولكن مرجوح.

ويكون النَّصب مترجِّحًا إذا وُجِدَ مُرجِّحٌ للنَّصب:

- كأن يكون الفعل المشغول طلبيًّا، وعرفنا المراد بالطلب، وهو الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والعرض، والتحضيض، والتمني والتَّرجي.

كأن تقول: "زيدًا أكرمه"، "زيدًا لا تُهنْه"، "زيدًا ألا تُكرمْهُ"؛ فحينئذٍ يجوز في الاسم المتقدِّم -المشغول عنه- الرفع والنصب، إلا أنَّ النصب أرجح.

قال ابن هشام: (ونحوُ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ مُتَأَوَّلٌ)؛ لأن "السارقُ والسارقةُ" جاء بالرفع، مع أن الفعل بعدهما "اقطعوا" طلب، فقال (متأوَّل)، فهذا الأسلوب أصلًا ليس من أسلوب الاشتغال، وإنما التقدير: "مما يُتلَى عليكم حكمُ السارق والسارقة"، ثم بدأ من جديد فقال: "فاقطعوا أيدهما"؛ إذًا فقوله ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ ليس مشغولًا عنه، وإنما جزء من جملة سابقة، تقديرها "مما يُتلَى عليكم" خبر مقدَّم "حكمُ السارق والسارقة" مبتدأ مؤخَّر.

- كون المشغول مسبوقًا بجملةٍ فعليَّةٍ، ومثل: له ابن هشام بقوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ [النحل: 5]، فالآية قبلها قال سبحانه: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل: 4]، فـ "خلق الإنسان" جملة فعليَّة، فالأفضل أن نجعل الجملة بعدها أيضًا فعليَّة لكي تكون متناسبة، جملة فعليَّة معطوفة على جملة فعلية، فقال ﴿وَالْأَنْعَامَ...﴾، أي: "وخلق الأنعام"، ولو رفعَ لجازَ.

- كون المشغول عنه بعدَ أداةٍ الغالب أن يليها فعل، لأن الأدوات في اللغة العربية أنواع، ففيه أداوت لا يليها غلا فعل، وفيه أدوات لا يليها غلا اسم، وفيه أدوات يليها الفعل والاسم؛ لكن الأكثر أن يليها الفعل أو الاسم.

فمن الأدوات التي يليها الاسم والفعل لكن الأغلب أن يليها الفعل: همزة الاستفهام و "ما" النافية.

فيجوز أن تقول: في همزة الاستفهام "أزيدٌ حضر؟" ويجوز أن تقول: "أحضرَ زيدٌ؟"؛ فهمزة الاستفهام يليها الاسم ويليها الفعل، ولكن الغالب أن يليها الفعل، وكل ما كان الكلام على الأغلب فهو أفضل.

فلو أتيتَ بأسلوب الاشتغال بعد همزة الاستفهام فقلنا: "أزيدًا أكرمتَهُ؟" فهنا وقع الاشتغال بعد الهمزة:

- فلكَ الرفع "أزيدٌ" ومعنى ذلك أنَّك جعلتَ الهمزة متلوة باسم، وهذا الأقل فيها.

- ولو نصبتَ وقلت: "أزيدًا"، يعني "أأكرمتَ زيدًا" فجعلتَ الهمزة متلوة بفعل؛ فهذا هو الأغلب.

والأفضل أن تنصب على الاشتغال فتقول: "أزيدًا أكرمته".

ومثلها "ما" النافية، فيجوز أن تقول: "ما زيدٌ حضر"، و "ما حضرَ زيدٌ؛ إلا أنَّها كونها متلوة بالفعل أكثر.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويجب في نحو: "إِنْ زيدًا لَقِيتَه فأكرمْه" و "هَلَّا زيدًا أكرمته" لوجوبه)}.

النصب يكون واجبًا في الاشتغال في مواضع:

- إذا كان هناك موجبٌ للنصب، كأن يقع المشغول عنه بعدَ أداة لا يليها إلا فعل، مثل: أدوات الشرط، أدوات التحضيض، فهذه لا يليها اسم، فلو قلت: مثلًا في أدوات التحضيض: "هلا زيدًا أكرمته" فيجب أن تنصب "زيدًا"؛ لأنه منصوب بفعل محذوف، فتكون "هلا" حينئذٍ متلوةً بفعل، ولا ترفع.

وكذلك في الشرط، لو قلت: "إنْ زيدًا لقيته فأكرمه، إنْ زيدًا أكرمتَه فسأكرمه، أيضًا تنصب "زيدًا" لكي يكون التقدير "إنْ لقيتَ زيدًا"؛ فيكون الشرط متلوًا بفعل.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويجب الرفعُ في نحو: "خرجْتُ فَإذا زيدٌ يضربه عمرٌو" لامتناعه)}.

المسألة الرابعة: في وجوب الرفع.

متى يكون الرفع بالاشتغال واجبًا؟

الجواب: إذا كان هناك موجبٌ يُوجب الرَّفع:

- كأن يقع الاشتغال بعدَ أداة لا يليها إلا اسم، مثل: "إذا" الفجائية -وليست الظرفيَّة- فهذه لا يليها إلا اسم -يعني جملة اسمية- كأن تقول: "خرجتُ فإذا زيدٌ يُكرمه أبي"، ترفع "زيدٌ"، لكي تكون "إذا" الفجائية متلوة باسم.

- أو وقع الاشتغال بعد أداة لها الصدارة، كأن تقول: "زيدٌ هل أكرمتَهُ"، فـ "زيدٌ" مبتدأ، و "هل" استفهام له الصدارة، و "أكرمتَهُ" فعل وفاعل ومفعول، وقد اشتغل بالهاء، فلا يجوز أن تقول: "زيدًا"، لأن معنى ذلك أنك نصبته بفعلٍ محذوفٍ، وهذا الفعل دلَّ عليه المذكور، والمذكور واقع بعد الاستفهام، والاستفهام له الصدارة، ومعنى كونه له الصدارة: أي حاجز، فالذي قبله لا يؤثر في الذي بعده، والذي بعده لا يؤثر في الذي قبله.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويستويانِ في نحوِ "زيدٌ قام أبوه" و "عمرٌو أكرمْتُه" للتكافؤ)}.

لو جاءت جملة فيها مرجِّح يُرجِّح النصب، فويها مرجِّح يُرجِّح الرفع؛ فنقول في الحكم حينئذٍ: إنَّ الرفع والنصب في الاشتغال سواء.

مثل: "زيدٌ قام أبوه وعمرو أكرمتُهُ"، فالاشتغال في "عمرو أكرمته" إن كان مسبوقًا بجملة اسمية فالأفضل أن نرفع، وإن كان مسبوقًا بفعليَّة فالأفضل أن ننصب، وهنا مسبوق بجملة "زيدٌ قامَ أبوه" فإذا نظرنا للجملة الكبرى "زيدٌ قام أبوه" فهي جملة اسمية، وغذا نظرنا للجملة الصغرى "قام أبوه" فهي جملة فعليَّة؛ فلهذا جاز في "عمرو أكرمتُه" الوجهان.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وليس منه ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ و "أَزَيْدٌ ذهبَ به")}.

قوله (وليس منه)، لكي لا يلتبس على الطالب كون هذين المثالين من الاشتغال، والصواب أنهما ليسا من الاشتغال.

المثال الأول: الآية ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾، المعنى يمنع، لأننا لو قلنا: إنَّه اشتغال، فمعنى ذلك أنَّ "كلُّ" مبتدأ و"فعلوه" خبر، فإذا نصبتَ "كلَّ"؛ كان النصب بالفعل المشغول؛ وليس المعنى ذلك، وإنما المعنى: أنَّ "فعلوه" نعتٌ لـ "كل"؛ يعني: كل شيءٍ فعلوه في الزبر، فـ "في الزبر" هو الخبر، وليس المعنى أنهم فعلوا في الزبر كل شيء! لأنَّ الزُّبر هو كتاب عند الله -جَلَّ وَعَلَا- لا يستطيعون أن يفعلوا به شيئًا.

المثال الثاني: قولك: "أَزَيْدٌ ذُهِبَ به" الصناعة النحوية تمنع أن نقول إنه من الاشتغال، لأنه لو كان من الاشتغال ونصبناه وقلنا: "أزيدًا" فيكون الذي نصبه فعل محذوف دلَّ عليه المذكور، والمذكور هو "ذُهِبَ" وهو مبني للمجهول، والمبني للمجهول يرفع، فلو قدرنا بفعل لارتفع أيضًا.

وهذا نهاية الكلام على باب الاشتغال.

 {شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك