الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سليمان بن عبدالعزيز العيوني

إحصائية السلسلة

5596 22
الدرس الثالث عشر

قطر الندى

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".

في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح كتاب "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.

أهلًا وسهلًا ومرحبًا.

{في هذا الدرس نستكمل -بإذن الله- عمل "إنَّ" وأخواتها، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فينصِبْنَ المبتدأَ اسماً لهن، ويرفعْنَ الخبرَ خبراً لهن)}.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحيَّاكم الله وبيَّاكم في الدرس الثالث عشر من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبث من الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مدينة الرياض.

وصلنا في الدرس الماضي إلى أول باب: "إن" وأخواتها، وهو الناسخ الثاني من نواسخ الابتداء.

ذكر ابن هشام فيه عشر مسائل:

الأولى: ألفاظها ومعانيها. وهذا قرأناه وشرحناه في الدرس الماضي.

الثَّانية: عملها.

الثَّالثة: اقترانُ "ما" الزائدة بها.

الرَّابعة: تخفيفُ "إنَّ".

الخامسة: تخفيفُ "لكنَّ".

السَّادسة: تخفيف "أنَّ".

السَّابعة: تخفيف "كأنَّ".

الثَّامنة: توسُّطُ خبرها.

التَّاسعة: كسرُ همزة "إنَّ".

العاشرة: دخول لام الابتداء بعدَ "إنَّ".

قرأنا قبل قليل المسألة الثانية وهي في عمل "إنَّ" وأخواتها، فذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- أن عملها عكسُ عمل "كانَ" وأخواتها، كما قال ابن مالك -رَحِمَهُ اللهُ:

لـ "إنَّ، أنَّ، ليتَ، لكنَّ، لعل، كأنَّ" ** ماذا لهنَّ؟ كعسُ ما لـ "كان" من عمل

فهنَّ ينصبنَ ما كان مبتدأ اسمًا لهن، ويرفعنَ ما كان خبرًا للمبتدأ خبرًا لهن؛ وهذا عملها فيما بعدها، أي: في الجملة الاسمية بعدها.

أمَّا إعرابها في نفسها هي: فهي حروفٌ، وإذا عرفنا أنها حروف فتعرب إعراب الحروف، والحروف كلها لا محلَّ لها من الإعراب، فلهذا عندما نعربها نبيِّن نوعها، ثم نبيِّن حكمها الإعرابي وأنها لا محل لها من الإعراب، وحركة البناء.

وعرفنا من قبل معانيها:

فنقول في إعراب "إنَّ، أنَّ": حرفُ توكيدٍ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، لا محل له من الإعراب مبني على الفتح.

وكذلك "ليتَ": حرفُ تمنٍ ينصب اسمه ويرفع خبره. وهكذا...

والشواهد على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]:

"إنَّ": حرف توكيد، إلى آخر الإعراب.

اسم "الله" اسم "إنَّ" منصوب.

"غفورٌ": خبر "إنَّ" مرفوع.

"رحيم": خبرٌ ثانٍ، وقد درسنا في باب المبتدأ والخبر أن الخبر قد يتعدَّد.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: 75]: فهذه "أنَّ" أختُ "إنَّ".

و "صالحًا" اسمها منصوب.

"مرسلٌ" خبرها مرفوع.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إن لم تقترن بهن "ما" الحرفيةُ نحوُ ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ إلا "ليت" فيجوز الأمران)}.

المسألة الثالثة: حكمُ هذه الأحرف إذا اتصل بهنَّ "ما" الحرفية الزائدة، فيجوز أن تقول في: "محمدٌ كريمٌ": "إنَّ محمدًا كريمٌ"، ثم تُدخل "ما" الحرفيَّة الزائدة على "إنَّ" فتقول: "إنَّما محمدٌ كريمٌ"، وهكذا في بقيَّة أخواتها.

فهذا هو المراد باقتران "ما" بهذه الأحرف.

و "ما" هذه هي الحرفيَّة، من الحروف الزائدة، وكل ما كان ذكره وعدمه سواء في التركيب فهو حرفٌ زائد من حيث التركيب، وأما من حيث المعنى فمعناه التوكيد وتقوية المعنى.

إذًا؛ تُعرَب "ما" في نفسها إعراب الحروف الزائدة، فنقول: "ما" حرف زائد مبني على السكون لا محل له من الإعراب.

و "إنَّ" وأخواتها تعمل هذا العمل المذكور إن لم تقترن بـ "ما" الزائدة، فإذا اقترنت بها يبطل عملها، فتكون حينئذٍ هاملة مُلغاة، وحينئذٍ تبقى الجملة الاسمية بعدها على أصلها مبتدأً مرفوعًا وخبرًا مرفوعًا.

- إذا قلنا: "محمدٌ كريمٌ" مبتدأٌ وخبرٌ مرفوعان.

- ثم أدخلنا "إن" فإنها تعمل، فتقول: "إنَّ محمدً كريمٌ".

- فإذا وصلنا "ما" بــ "إن" نقول: "إنَّما محمدٌ كريمٌ"، فتعود "محمدٌ كريمٌ" إلى مبتدأ وخبر مرفوعين، لأنَّ "إنَّ" أُلغيَ عملها بـ "ما"؛ فلهذا يختصرون ويقولون: "(إنَّما) كاف ومكفوف"، فـ "إنَّ" حرف مكفوف، و "ما" حرف كاف، أي: كفَّها عن العمل.

 

كأن تقول "إنما إلهكم إله واحد":

- الأصل: "إلهُكم إلهٌ". مبتدأ وخبر.

- فإذا دخلت "إنَّ" وحدها لقلنا: "أنَّ إلهَكم إلهٌ واحدٌ".

- فلما دخلت "ما" قلنا: "إنَّما إلهُكم إلهٌ واحدٌ" بالرفع.

وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ﴾ [طه: 98].

ثم استثنى ابن هشام "ليت"؛ فإنها يجوز فيها الأمران، فإذا لم تتصل بها "ما" فإنها كبقيَّة أخواتها تعمل وجوبًا، فتقول مثلًا: "ليتَ محمدًا مسافرٌ"، إذا كان سفره مستحيلًا أو صعبًا.

فإذا دخلت "ما" عليها قلنا: "ليتما"؛ فيجوز فيها الأمران:

- أن تبقى على إعمالها فتعمل. فتقول: "ليتما محمدًا مسافرٌ"، اسمها منصوب، وخبرها مرفوع.

- أو يبطل عملها فتهمل. فتقول: "ليتما محمدٌ مسافرٌ" مبتدأ وخبرٌ مرفوعان.

واستدلوا على ذلك ببعض الشواهد كقول الشاعر:

قالَتْ أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ ... لَنَا إلى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفَهُ فَقَدِ

هذا البيت يذكر قصَّة زرقاء اليمامة عندما رأت حمامًا يطير في الجو، فمن قوة بصرها عدَّته، فقالت: لو أنَّ هذا الحمام مع الحمامة التي عندي، ونصفه معه لكان العدد مائة، فحسبت وأخرجت معاملة رياضيَّة!

فالشاهد في قولها "ليتما" ثم قالت "هَذَا الْحَمَامُ" وفيها روايتان:

الإعمال: فتقول "لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامَ لنا"، فـ "هذا" اسم "ليت" في محصل نصب. و "الحمامَ" بدل من "هذا"، والبدل تابع فانتصب. و"لنا" شبه جملة خبر.

الإهمال: "أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لنا"، فـ "ليتما" كاف ومكفوف، و"هذا" مبتدأ، و "الحمامُ" بدل من المبتدأ مرفوع، و"لنا" خبر المبتدأ.

فإن قيل: لماذا جازَ ذلك في "ليتَ" دون بقيَّة أخواتها؟

فالجواب: أنَّ "إنَّ" وأخواتها إذا تصلَت بها "ما" الزائدة يبطل اختصاصها بالجملة الاسميَّة، ونحن نعرف أن الحروف إنما تعمل إذا كانت مختصَّةً بالأسماء، أو مختصَّة بالأفعال، أما إذا كانت غير مختصَّة -يعني تدخل على الأسماء والأفعال- فالأصل فيها أنها لا تعمل.

وكذلك "إنَّ" وأخواتها، فالأصل فيها أنها مختصة بالدخول على الأسماء، فلا تدخل على الفعل، تقول: "إنَّ محمدًا يسافر، إنَّ محمدًا يلعب"، ولكن ما تقول: "إنَّ يلعب محمد"! إلا إذا اتصلت بها "ما" فيبطل اختصاصها، فتدخل على الأسماء والأفعال، فتقول: "إنَّما محمدٌ قامَ، وإنَّما قامَ محمدٌ".

إلا "ليتَ" فإن اختصاصها لا يبطل حتى لو دخلت عليها "ما"، فتقول: "ليتما محمدًا سافر" ولا يجوز أن تقول: "ليتما سافر محمدٌ".

{قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (إن لم تقترن بهن "ما" الحرفيةُ نحوُ ﴿إنما اللهُ إلهٌ واحدٌ﴾ إلا "ليت" فيجوز الأمران، كـ "إنْ" المكسورة مخففةً)}.

الآن بدأ بالكلام على تخفيف "إنَّ" وأخواتها، وكما نلحظ أنَّ هذه الأحرف ستة، أربعة منها مختومة بنونٍ مشدَّدة، وهي: "إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكنَّ"؛ وهذه يجوز في النون التخفيف:

فتقول في "إنَّ": "إنْ".

وفي "أنَّ": "أنْ".

وفي "لكنَّ": "لكنْ".

وفي "كأنَّ": "كأنْ"

وهنا يختلف الحكم، فبيَّن ابن هشام تخفيف هذه الأحرف الأربعة، مبتدئًا بـ "إنَّ"، فإذا خُفِّفَت فيجوز فيها الأمران: أن تعمل، وأن تهمل، والأكثر في ذلك الإهمال، لكن الإعمال واردٌ جائز.

فيجوز أن تقول: "محمدٌ كريمٌ"، فإذا أدخلتَ "إنَّ" تقول: "إنَّ محمدًا كريمٌ" بالإعمال وجوبًا، فإذا خففتها جاز لك أن تُعمل فتقول: "إنْ محمدًا كريمٌ"، وجاز أن تهمل فتقول: "إنْ محمدٌ كريمٌ".

من ذلك قوله -سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4] على تخفيف "لَمَا" وهي قراءة، فقالوا: إنَّ "ما" هنا زائدة، والمعنى: إنَّ كل نفسٍ لعليها حافظٌ، ثم خُففت "إنَّ" إلى إنْ" وبطل عملها.

وأمَّا قراءة ﴿لَمَّا عليها﴾ فـ "إنْ" ليست مخففة من الثقيلة، ولكنها نافية بمعنى "ما" ومعنى القراءة: ما كل نفسٍ إلَّا عليها حافظ.

وكذلك في قوله تعالى: ففي قراءة التخفيف: ﴿وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [هود: 111]، فـ "إنْ" هنا عاملة.

وفي قراءة التشديد ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾، وإعمالها حينئذٍ واجب.

وفي ﴿لما﴾ قراءتان: ﴿لَمَا﴾ و ﴿لَمَّا﴾.

قد يقول قائلٌ: إذا خففت "إنَّ" صارت "إنْ" فتلتبس بـ "إنْ" النافية كأن تقول: "إنْ محمدٌ بخيلٌ" يعني: ليس محمدٌ بخيلًا؛ فكيف نفرق بينهما؟

الجواب: إذا دلَّ المعنى على التفريق بينهما فيُكتفى بالمعنى، وإن شئتَ فتأتي بالخبر باللام؛ لأن اللام لا تدخل في خبر النافية، وإنما تدخل في خبر "إنَّ" مخففةً ومثقَّلة، فإذا قلتَ: "محمدٌ كريمٌ" وأنت تريد إثبات الكرم لمحمد؛ فتقول: "محمدٌ كريمٌ" ثم "إنَّ محمدًا كريمٌ"، ويجوز أن تقول: "إنَّ محمدًا لكريمٌ".

فإذا خففتَ (إنَّ) فلك الإعمال والإهمال:

إن أعملت؛ تقول: "إنْ محمدًا كريمٌ" فلك أن تأتي باللام، ولك أن لا تأتي بها؛ لأنَّ الإعمال كاشفٌ عن نوع "إنْ" أنها المخففة.

وإن أهملتَ؛ فهنا يحدث اللبس، فلا ندري هل أنتَ تثبت الكرم أم تنفه! فحينئذٍ يجب أن تأتي باللام في الخبر لِيَفْرُق بين نوعي "إنْ" فتقول: "إنْ محمدٌ لكريمٌ" فنعرف أنَّك تثبت، ولو لم تأتِ باللام لكانت النافية، إلا إذا كان فيه معنى كاشف، كأن تقول: "إنْ قومي كرامٌ" وأنت تمدح قومك، فحينئذٍ ليس هناك إلا أنها مخففة؛ لأنك تثبت الأمر لا تنفه، وسيأتي بيان لذلك في مسألة قادمة -إن شاء الله.

{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فأما "لكنْ" مخففةً فتُهْمَل)}.

معنى تخفيف "لكنَّ": أنَّ نونها المشددة تسكَّن فيُقال: "لكنْ".

حكمها إذا خففت: ليس فيها إلا الإهمال وجوبًا، وما بعدها حينئذٍ يكون جملة، ويبطل اختصاصها، فتدخل على الجملة الاسمية ويكون المبتدأ والخبر مرفوعين، وتدخل على الجملة الفعلية.

ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76]، فـ "لكنْ" دخلت على جملة فعليَّة "كان".

وتقول: "لكنْ ذهبَ زيدٌ"، فدخلت على الجملة الفعلية.

وقال تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ﴾ [النساء: 166]، الأصل "اللهُ يشهدُ" مبتدأ وخبر، ثم دخلت "لكنْ" المخففة، ولأن النون ساكنة، واسم "الله" مبدوء بـ "أل" وهي ساكنة، فيلتقي ساكنان، فيُتخلَّص من ذلك بكسر الساكن الأول ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ﴾.

وكذلك قوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [النساء: 162].

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأما "أنْ" فتَعمَل، ويجب في غير الضرورة حذفُ اسمها ضميرِ الشأن، وكونُ خبرها جملةً مفصولةً -إن بُدِئَتْ بفعلٍ مُتَصَرِّفٍ غيرِ دعاءٍ- بـ "قد، أو تنفيس، أو نفي، أو لو")}.

المسألة السادسة في تخفيف "أنَّ" بفتح الهمزة.

والمراد بتخفيفها: هو قلبُ نونها المشددة إلى نون ساكنة، فبدل "أنَّ" نقول: "أنْ".

حكمها بعد التخفيف: يجب أن تعمل، فلابد لها من اسمٍ وخبر، إلا أنه يشترط في إعمالها شرطان:

الأول: في غير الضرورة الشعرية، يعني: لا يشترط ذلك في الضرورة الشعريَّة، بل قد يأتي اسمها وخبرها كما هما من قبل، كقول الشاعر:

بأنْكَ رَبِيعٌ وغَيْثٌ مَرِيعٌ ** وأنْكَ هُناكَ تكونُ الثِّمَالاَ

فالأصل "بـأنَّكَ" ثم خفف "أنَّ" إلى "أنْ" فقال: "أنْـكَ"، فـ "أنْ" مخففة من الثقيلة، والكاف اسمها، وهو ضمير بارز، و "ربيعٌ" خبرها اسمٌ مفرد، ومثل ذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.

أما في غير ضرورة الشعر فيجب أن تعمَل ولكن بشروط أربعة:

الشرط الأول: حذف اسمها.

الشرط الثاني: أن يكون اسمها ضمير شأن محذوفًا غيرَ مذكورٍ، وضمير الشأن هو: ضمير يعود غلى شأنٍ مفهوم.

وشأن: يعني قصَّة، يعني الأمر المسؤول عنه، وهو أمرٌ يُفهَمُ فهمًا.

الشرط الثالث: أن يكون خبرها جملة لا مفردًا، فيكون جملة اسمية -مبتدأ وخبر- أو جملة فعليَّة -فعل وفاعل.

الشرط الرابع: أن يكون خبرها الجملة مفصولًا عن "أنْ" بواحدٍ من الفواصل الأربعة:

فإذا كان الخبر جملة غير فعليَّة مبدوءة بفعل متصرف -أي غير جامد-، وغير دعائي -أي غير دال على الدعاء: فيجب الفصل بينه وبينه "أنْ" بواحد من أربعة فواصل سيأتي ذكرها.

وقولنا: "فصل خبرها إذا كان الخبر مبدوءًا بفعل" يُخرج الجملة الاسمية، فإن الجملة الاسمية تبدأ باسم، فلهذا يجوز أن تقول: "علمتُ أنْ محمدٌ مسافرٌ"، يعني: "علمتُ أنه محمدٌ مسافرٌ"، فالاسم ضمير شأن محذوف، والخبر هو الجملة الاسمية "محمدٌ مسافرٌ"، ولذا لم يُفصل بينَ الخبر وبين "أنْ"، لأن الخبر جملة اسمية.

وكقوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 10]، فـ "أنْ" مخففة من الثقيلة، والخبر: "الحمدُ لله" وهو جملة اسمية. والمعنى: وآخر دعواهم أنَّه الحمدُ لله.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، يعني: وأنَّ الشأن.

وقوله: ﴿لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ فهذه جملة فعلية ولكنها مبدوءة بفعل جامد، فـ "ليس" ليس له مضارع ولا أمر.

وكقوله تعالى في قراءة: ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور: 9]، فـ "أنْ" مخففة، ومعنى الآية: والخامسة أنَّه -يعني الشأن- غضبَ اللهُ عليها، فجاء الخبر مبدوءً بفعل ولكن فعل دعائي، يدعو عليها بغضب الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليها، فهذه لا تحتاج إلى فصل، لأن الخبر هنا جملة ليست مبدوءة بفعل متصرفٍ غير دعائي.

أما إذا كان الخبر جملة مبدوءً بفعل متصرف غير دعائي؛ فيجب الفصل بواحد من أربعة:

- إما بـ "قد".

- أو بحرف تنفيس: السين أو "سوف".

- أو بحرف نفي كـ "ما" أو "لنْ".

- أو حرف "لو".

من الشواهد على ذلك أن نقول: "علمتُ أنْ سيُسافر زيدٌ"، يعني: علمتُ أنَّه -الشأن- سيسافر زيدٌ"، فـ "يُسافر" فعل متصرف، فيجب أن يُفصل، وهنا فصل بحرف تنفيس.

وكقولك: "علمتُ أنْ لن سيُسافر زيدٌ"، فصلنا بحرف نفي "لنْ".

وكقولك: "علمتُ أنْ لوْ يُسافر زيدٌ" فصلنا بـ "لوْ".

وكقول: "علمتُ أنْ قدْ سافرَ زيدٌ"، فصلنا بـ "قد".

ومن الشواهد على ذلك قوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ [المزمل: 20]، يعني: علم أنه -الشأن- سيكونُ؛ فالفعل المضارع "يكونُ" جاء مرفوعًا؛ لأن "أنْ" هنا ليست مصدريةً ناصبة، وإنما مخففة من الثقيلة "أنَّ".

وقال تعالى: ﴿وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: 113]، فـ "صَدَقَ" فعل متصرف، ففصل بـ "قد".

وكقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: 20]، فهذه "أنْ"، و "لنْ تحصوه" خبر مبدوء بنفي، يعني: علم أنه -الشأن- لن تحصوه.

وقال تعالى: ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: 100]، يعني: أنه لوْ نشاءُ أصبناهم.

فإن قيل" إذا خففت "أنَّ" إلى "أنْ" تلتبس بـ "أنْ" المصدرية الناصبة، فكلاهما بلفظٍ واحد]، فكيف نميز بينهما؟

سبق الكلام على ذلك في إعراب الفعل المضارع، عندما قلنا: إن "أنْ" إن سُبقت بعلمٍ -يعني: بأي كلمة تدل على علم- فهي المخففة من الثقيلة قطعًا، كقولك: "علمتُ أن سيُسافر زيدٌ"، وقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾، وقوله: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ﴾ [طه: 89].

وإن سبقت بظنٍّ فيجوز فيها أمران:

- أن تكون المصدرية الناصبة.

- وأن تكون المخففة.

كـ "ظننتُ أن سيسافرُ زيدٌ"، ويجوز "ظننتُ أن سيُسافرَ زيدٌ".

فإذا لم تسبق بعلم ولا بظنٍّ فهي الناصبة المصدرية، كقولك "أحبُّ أنْ تجتهدَ ولابدَّ أن تساعدَ".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وأما "كأن" فتَعمل، ويَقِل ذكرُ اسمها، ويُفصَل الفعل منها بـ "لم أو قد")}.

المسألة السابعة هي: تخفيف "كأنَّ"، يعني: أن نونها المشددة تسكَّن، فيُقال: "كأنْ".

حكمها بعد التخفيف: لابد من إعمالها، ولك حينئذٍ وجهان:

الوجه الأول: أن تجعلها كــ "إنْ" المخففة، فتنصب اسمها وترفع خبرها.

فتقول: "محمدٌ مسافرٌ" فإذا أدخلتَ "كأنَّ" تقول: "كأنَّ محمدًا مسافرٌ"، ثم إذا خففت فيجوز أن تعمل، فتقول: "كأنْ محمدًا مسافرٌ، كأنْ هندًا قمرٌ".

ومن ذلك قول الشاعر:

وصدرٍ مشرق النحر ** كأنْ ثدييه حُقَّان

فـ "كأنْ" مخففة عاملة، و"ثدييه" اسم منصوب "كأنْ" منصوب، وعلامة نصبه الياء. و "حُقَّانِ" خبر مرفوع بالألف، فهذا جائز ولكنه الوجه الأقل.

الوجه الثاني -وهو الأكثر: فهو إعمالها بشروط إعمال "أنْ" السابقة؛ فحينئذٍ يجب أن يكون اسمها ضمير شأن محذوفًا، وخبرها يكون جملة، وإذا فُصلَت فتُفصَل بـ "لمْ" وبـ "ٌد"؛ كقوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: 24]، يعني: كأنَّه -الشأن- لم تغنَ هذه البلدة بالأمس؛ ففصل بـ "لم".

وكقول الشاعر:

لا يهولنَّك اصطلاء لظى الحر ** بِ فمحذورها كأنْ قدْ ألمَّا

الشاهد "كأنْ" المخففة من "كأنَّ"، واسمه: ضمير الشأن محذوف، يعني: كأن الشأن قد ألمَّ؛ ففصل بـ "قد".

انتهينا الآن من الكلام على تخفيف "إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكنَّ".

ونخلص من الكلام على تخفيف "إنَّ" وأخواتها؛ فنقول:

- إذا خففت "إنَّ" فيُقال فيها: "إنْ" ويجوز فيها وجهان:

* إهمالها: وهو الأكثر.

* إعمالها: وهو قليل.

- أمَّا "أنَّ" إذا خُففت فيُقال فيها "أنْ"، ويجب فيها الإعمال، ولكن بشرط أن يكون اسمها ضمير شأنٍ محذوفًا، وأن يكون خبرها جملةً لا مفردًا.

- وأما "لكنَّ" إذا خففت فيُقال فيها: "لكنْ" ويجب إهمالها.

- وأما "كأنَّ" إذا خففت فيُقال فيها: "كأنْ"، ويجوز فيها حينئذٍ وجهان:

* أن تُعمَل إعمال "إنْ" المخففة.

* أن تُعمَل إعمال "أنْ" المخففة.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يَتَوَسط خبرُهن إلا ظرفاً أو مجروراً نحوُ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾، ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا﴾)}.

في هذه المسألة تكلم ابن هشام على توسُّط هذه الأحرف، والمراد بتوسُّط الخبر: أن يأتي خبرها بينَ هذه الأحرف وبين اسمها، فتقول: "إنَّ محمدًا كريمٌ" أخَّرتَ الخبر، فإذا وسَّطته قلتَ: "إنَّ كريمٌ محمدًا"، فجعلت الخبر بين "إنَّ" واسمها.

السؤال الأول: لماذا لم يتكلَّم على تقدُّم الخبر؟ وتكلم على توسط الخبر فقط؟

معنى تقدم الخبر: أن يتقدَّم الخبر على "إنَّ" وأخواتها نفسها، وهذا لا يجوز أبدًا.

السؤال الثاني: هل يجوز أن تتوسَّط أخبارها؟

قال ابن هشام: لا يجوز أن يتوسَّط الخبر إلا إذا كان شبه جملة -ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا.

ففي نحو: "إنَّ محمدًا كريمٌ" الخبر "كريمٌ" مفرد؛ فلا يجوز أن يتوسَّط.

وقولك: "إنَّ محمدًا يلعبُ"، فالخبر جملة فعليَّة، فلا يجوز أن يتوسط.

وقولك: "إنَّ محمدًا في البيت"، فالخبر "في البيت" شبه جملة؛ فيجوز أن يتوسَّط فتقول: "إنَّ في البيت محمدًا".

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ [آل عمران: 13]، فالأصل "إنَّ عبرةً في ذلك" فيجوز أن توسِّط الخبر، ويجوز أن تؤخر الخبر.

وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا﴾ [المزمل: 12]، فالأصل اللغوي أن تقول: "إنَّ أنكالًا لدينا"، فيجوز في الخبر أن يتوسَّط وأن يتأخَّر؛ لأنه شبه جملة.

فإن قيل: لماذا امتنع تقديم الخبر مطلقًا، وضاق الكلام في توسُّط الخبر؟ أما في "كان" وأخواتها -كما سبق- فإن التوسُّط جائز مطلقًا، والتَّقدُّم أيضًا جائز إلَّا مع "دام" باتفاق، و"ليس" بخلاف"؟

الجواب عن ذلك: لأن "كان" وأخواتها أفعال، والأفعال هي الأصل في العوامل، فيجوز في معمولاتها أن تتصرف بالتقديم والتأخير، أما "إنَّ" وأخواتها حروف، والحروف عملها ضعيف، فلهذا لا يُتصرَّف في معمولاتها إلا على شكلٍ ضيق.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتُكْسَر إِنَّ في الابتداء نحو ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، وبعد القسم نحوُ ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾، والقول نحو ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾، وقبل اللام نحو ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾)}.

هذه المسألة في كسر همزة "إنَّ".

فهناك حرفان من الأخوات: "إنَّ، أنَّ"، وكثير من النحويين يقولون: إنهما حرف واحد، لكن يأتي في مواضع بالكسر "إنَّ"، وفي مواضع يأتي بالفتح "أنَّ"؛ والخلاف في ذلك سهل.

متى نقول: "إنَّ" ومتى نقول: "أنَّ"؟

القاعدة في ذلك واحدة، فإذا فهمنا هذه القاعد وطبقناها؛ فسنخرج بمواضع كثيرة، فدعونا نركز على القاعدة.

القاعدة في ذلك تقول: إن تأوَّل "إنَّ" مع معموليها بمصدر فإنها تفتح.

يعني: يجوز أن تحذف "إنَّ" ومعموليها -اسمها وخبرها- وتضع مصدر الخبر؛ فحينئذٍ تفتح، وإذا لم يُمكن ذلك فتُكسر، كما قال ابن مالك -رَحِمَهُ اللهُ:

وهمزَ إنَّ افتحْ لِسَدِّ مصدرِ ... مسدَّها وفي سوى ذاك اكْسِرِ

فإذا قلت: "أحبُّ أنَّك مجتهدٌ"؛ يُمكن أن تحذف "أنَّ" واسمها "الكاف" والخبر "مجتهد" وتضع مصدر "مجتهد" فتقول: "أحبُّ اجتهادكَ"؛ فحينئذٍ تُفتح.

وتقول مثلًا: "يعجبني أنَّ زيدًا مسافرٌ"، يعني: يعجبني سفر زيد؛ فحينئذٍ تفتح.

لكن لو قلتَ: "إنَّ محمدٌ مسافرٌ"، فأوَّلتها وقلتَ: "سفرُ محمد"؛ فالمعنى يختلف!

فهذه هي القاعدة، فإذا طبقناها نخرج بمواضع الكسر وبمواضع الفتح، وبمواضع يجوز فيها الوجهين على تأويلين. وابن هشام هنا اكتفى بمواضع الكسر، يعني أنَّ ما سواها يُفتَح.

الموضع الأول: قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتُكْسَر إِنَّ في الابتداء)، يعني: إذا وقعت في ابتداء الكلام.

كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، وقولك: "إنَّ محمدٌ كريمٌ".

الموضع الثاني: بعد القسم، يعني: إذا وقعت في أول جملة جواب القسم "والله إنَّ محمدًا مسافر، والله إنَّ العلمَ مفيدٌ".

ولو تأمَّلتَ في "إنَّ" هنا لوجدتها في أول جملتها؛ لأنها في أول جملة جواب القسَم؛ إذًا هي في الابتداء حقيقة.

إذًا الموضع الأول أن تكون في الابتداء المطلق، والموضع الثاني أن تكون في الابتداء المقيَّد -وهو الابتداء في جملة القسَم.

الموضع الثالث: بعد القول، يعني: إذا وقعت في أول الجملة المقولة، كأن تقول: "قال الأستاذُ إنَّ اليومَ جميلٌ، قال الأستاذُ إنَّ الكتابَ مفيدٌ"، فيجب أن تكسر "إنَّ".

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: 30]، فقوله ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ هذه هي الجملة المقولة، وجاءت "إنَّ" في أولها فكُسِرَت.

الموضع الرابع: قبل لام الابتداء، وتسمى "اللام المزحلقة"، فلو قلت: "يعجبني أنَّ محمدًا مجتهدٌ" فهنا تفتح؛ لأنها تتؤوَّل "يعجبني اجتهاد محمد"، ولو أتيت باللام في الخبر فقلت "لمجتهدٌ" فيجب أن تكسر فتقول: "يعجبني إنَّ محمدًا لمجتهدٌ"، وذلك لوجود اللام، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون: 1]، فكُسِرَت "إنَّ" ولولا هذه اللام لوجب الفتح، فنقول في الكلام "والله يعلم أنَّك رسولُه"؛ لأنها تؤوَّل "واللهُ يعلمُ رسالتَك" أي: كونكَ روسلًا.

{في الموضع الثاني من كسر "إنَّ" بعد القسم؛ لماذا أفرده عن الموضع الأول وهو ذكرها في الابتداء؛ فهل هذا للتنبيه على خلاف؟}.

هذا فقط للتنبيه على المواضع، وإلا قلنا في الحقيقة "إنَّ" في كل مواضعها هي واقعة في الابتداء، إما في الابتداء الحقيقي في أول الكلام، أو في ابتداء جملتها هي، كأن تأتي في أول جملة الخبر "محمدٌ إنَّه كريمٌ، جاء الذي إنَّه كريمٌ، جاء الذي إنه كريمٌ"، وهكذا.

{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (ويجوز دخولُ اللام على ما تأخر من خبر إنَّ المكسورةِ، أو اسمها، أو ما توسط من معمول الخبر، أو الفصل)}.

هذه المسألة في دخول لام الابتداء بعد "إنَّ"، وقولنا: (بعد "إنَّ) يدل على أنَّ لام الابتداء لا تدخل إلَّا بعد "إنَّ" فقط دون أخواتها، فلا تدخل بعد "أنَّ"، ولا بعد بقيَّة الأخوات، فلهذا يجوز أن تقول "محمدٌ كريمٌ، إنَّ محمدًا كريمٌ، إنَّ محمدًا لكريمٌ"، فتأتي باللام بعد "إنَّ" فقط، وما يُقال في "ليتَ محمدًا مسافرٌ": "ليتَ محمدًا لمسافرٌ"!؛ فاللام لا تأتي إلا بعد "إنَّ".

ثم أراد أن يتكلَّم عن كيفية دخول اللام بعد "إنَّ"؛ فالأصل في قولك "محمدٌ كريمٌ" أنها جملة اسميَّة -مبتدأ وخبر-، وهذه الجملة الاسمية إذا أدخلتَ عليها "إنَّ" وهي حرف توكيد، وندخل عليها أيضًا لام الابتداء وهي أيضًا حرف توكيد؛ فيجوز أن نُدخل "إنَّ" فقط فنقول "إنَّ محمدًا كريمٌ"، ويجوز أن نُدخل اللام فقط فنقول "لمحمدٌ كريمٌ" كما في قوله تعالى: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ [الحشر: 13]، يعني "أنتم أشدُّ"، ثم دخلت اللام فصارت ﴿لَأَنْتُمْ﴾، فلام الابتداء تدخل على المبتدأ في الأصل لتوكيد المعنى.

أما لو أدخلنا الحرفين وكل منهما للتوكيد؛ فلا يجتمعان، فتبقى "إنَّ" في موضعها في الابتداء، ثم نزحلق اللام إلى داخل الجملة، بحيثُ يُفصَل بينها وبين "إنَّ" بفاصل، لكي يذهب قُبحُ الجمع بينهما، ففي قولنا "إنَّ محمدًا لكريمٌ" دخلت اللام على الخبر.

ولو قلنا "في الدار محمدٌ" ثم أردنا أن نُدخل "إنَّ" سنقول "إنَّ في الدارِ محمدًا"، ثم إذا أردنا أن نُدخل اللام سنقول "إنَّ في الدار لمحمدًا" ستدخل اللام على اسم "إنَّ" المؤخَّر، ولا يصح أن تدخل على "الدار" لأنه لا يُفصَل بين الجار والمجرور.

فالقاعدة واحدة، وهي أن لام الابتداء تدخل بعدَ "إنَّ"، فإذا دخلت يجب أن تُزحلَق إلى داخل الجملة لكيلا تجتمع مع "إنَّ" وبحيث يفصل بينهما فاصل واحد.

وتطبيق ذلك يوضح لنا أنَّ "إنَّ" حينئذٍ إمَّا أن تدخل على اسم "إنَّ" المؤخر إذا تقدَّم الخبر، أو تدخل على الخبر إذا تقدم الاسم، وإما أن تدخل على ضمير الفصل إذا أتى بين المبتدأ والخبر فاصل مثل "محمدٌ هو كريمٌ" فـ "هو" ضمير فصل لأنه فصل بين متلازمين، فتقول "إنَّ محمدً لهو كريمٌ".

قال (أو ما توسط من معمول الخبر)، يعني لو قلنا مثلًا "محمدٌ جالسٌ في الدار"، فـ "محمدٌ" مبتدأ، و "جالسٌ" خبر، و "في الدار" شبه جملة متعلقة بالخبر، فشبه الجملة المتعلقة بالخبر يجوز أن تتأخر وهذا هو الأصل، ويجوز أن تتقدم على الخبر فتقول "محمدٌ في الدار جالسٌ"، فـ "جالسٌ" هو الخبر، و "في الدار" شبه جملة متعلقة بالخبر، لكن تقدَّمت، فتوسَّطت بينَ المبتدأ والخبر.

فإذا أدخلت "إنَّ" واللام؛ لقيل: "إنَّ محمدًا لفي الدار جالسٌ"، فدخلت اللام على معمول الخبر المتوسِّط.

ثم ننتقل إلى مسألة تابعة لهذه المسألة، وهي أنَّ هذه اللام -كما عرفنا- إنما تدخل بعد "إنَّ" جوازًا للتوكيد، وقد تدخل وجوبًا في موضع واحد.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويجب مع المخففة إن أُهْمِلَتْ ولم يظهر المعنى)}.

هذا الذي أشرنا إليه من قبل، وهو عندما تلتبس "إنْ" المخففة من الثقيلة بـ "إنْ" النافية كما لو قلتَ مثلًا "محمدٌ مسافرٌ"، ثم أدخلت "إنْ" المخففة، فتقول "إنْ محمدٌ مسافرٌ"، فـ "إنْ" هذه هل هي مخففة من الثَّقيلة "إنَّ" فتثبت السفر لمحمد؟ أو أنَّها النافية بمعنى "ما"؛ فتنفي السفر عن محمد؟

المعنى هنا ما يكشف! فلو كان المعنى يكشف لم يكن هناك مشكلة، كقول الشاعر:

أَنَا ابْنُ أُبَاة ِ الضَّيْمِ مِنْ آلِ مَالِكٍ ** وإنْ مالكٌ كانتْ كرامَ المعادنِ

فهو يمدح؛ فـ "إنْ" حينئذٍ مخففة من الثقيلة.

ولكن في مثل ذلك يكون فيه لبس؛ فحينئذٍ يُرفع بأحد أمرين:

- إما أن تُعمِل "إنْ" المخففة من الثَّقيلة فتقول "إنْ محمدًا مسافرٌ"؛ فنعرف أنَّك تريد المخففة من الثقيلة.

- أو أنَّك تأتي باللام التي يجوز أن تدخل بعد "إنَّ" فنعرف أنَّك تريد "إنْ" المخففة، فتقول "إنْ محمدٌ لمسافرٌ"؛ فتكون اللام حينئذٍ واجبة، لأنها التي بيَّنت لنا المعنى، واللبس ممنوع في اللغة.

فهذا ما يتعلق بباب "إنَّ" وأخواتها.

ويُلحق بباب "إنَّ" وأخواتها في العمل بابُ "لا" النافية للجنس، فهي تعمل عملها، فلهذا ذكرها ابن هشام مباشرة بعد "إنَّ" وأخواتها.

{قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (ومثلُ "إِنَّ": "لا" النافيةُ للجنس)}.

في هذا الباب خمس مسائل:

الأولى: عملها.

الثانية: شروط إعمالها.

الثالثة: حالات اسمها.

الرابعة: حكم "لا" إذا تكرَّرت.

الخامسة: حكمُ نعتِ اسمها المبني.

قرأنا المسألة الأولى في عملها، فذكر ابن هشام أنَّ "لا" النافية للجنس تعمل عمل "إنَّ"، فتنصب اسمها وترفع خبرها، فتقول "لا مؤمنَ كاذبٌ"، فـ "مؤمن" انتصب بـ "لا"، و"كاذب" ارتفع بـ "لا"؛ مثل "إنَّ"، كما لو قلت "إنَّ المؤمنَ صادقٌ".

وسيأتي أنَّ "لا" النافية للجنس لا تعمل إلا في النَّكرات، فلهذا نكَّرنا الاسم، بخلاف "إنَّ" فإنها تعمل في النكرة والمعرفة.

وبهذا عرفنا أنَّ عمل "لا" النافية للجنس ضعيف، لأسباب:

أولًا: لأنها حرف، والحروف عملها ضعيف.

ثانيًا: أنها محمولة على حرف، فعملها صارَ بالحملِ، فلا تعمل إلا بشروط، متى ما انتفت هذه الشروط بطل عملها.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لكنْ عملُها خاصٌّ بالمُنَكَّراتِ المتصلةِ بها، نحوُ "لا صاحبَ علمٍ ممقوتٌ" و "لا عشرينَ درهماً عندي")}.

"لا" النافية للجنس تعمل عمل "إنَّ" وأخواتها بشروط، مجمل هذه الشروط أربعة:

الشرط الأول: كون اسمها وخبرها نكرتين، وهذا أشار إليه ابن هشام، كقولك "لا رجلَ في البيتِ، لا سيارةَ في المعرض، لا كتابَ عندي، لا مؤمنَ كاذبٌ، لا بخيلَ ممدوحٌ".

ولا تعمل في المعارف:

* فلا تعمل في ضمير، لا تقول "لا أنتَ مسافرٌ".

* ولا تعمل في علم، لا تقول "لا محمدَ في البيت".

* ولا تعمل في المعرف بـ "أل"، لا تقول "لا المؤمنَ كاذبٌ".

الشرط الثاني: أن تتصل باسمها، لأننا قلنا إنها حرف ضعيف في العمل، والعامل الضعيف لا يعمل في الجملة غلا إذا جاءت على ترتيبها الأصلي، ما فيه فواصل ولا تقديم وتأخير؛ فإذا فُصلت عن اسمها فإن عملها يبطل.

الشرط الثالث: أن لا تتكرَّر، فلا تقول مثلًا "لا رجلَ ولا امرأة في البيت، لا كتابَ ولا دفترَ عندي".

الشرط الرابع: أن لا يدخل عليها حرف جر، فلا تقول مثلًا "جئتُ بلا حاجة، وخفتُ منْ لا شيء".

أما الشرط الأول وهو كون اسمها وخبرها نكرتين؛ لو انتقض فصار اسمها معرفة؛ فيبطل عملها ويجب تكريرها، فالاسم بعدها يكون مرفوعًا بالابتداء، ويجب أن تكرر، فلا تقول "لا محمدٌ في البيت" وتسكت، وإنما تقول "لا محمدٌ في البيت ولا زيدٌ".

فإن قلتَ: أنا أريد نفي محمد فقط!

نقول: استعمل نافيًا آخر كـ "ليس" فتقول "ليسَ محمدٌ في البيت".

وأما الشرط الثاني: وهو كونها تتصل باسمها كأن تقول "لا رجلَ في البيت"، فلو قدَّمتَ الخبر وفصلتَ به بينها وبين اسمها وقلت "لا في البيت رجل"؛ فتُهمَل وتُكرَّر، فتقول "لا في البيت رجلٌ ولا امرأة".

الشرط الثالث وهو كونها أن لا تتكرر، فإن تكررت كقولك "لا رجلَ ولا امرأةَ في البيت"؛ فيجوز فيها خمسة أوجه -سيأتي ذكرها بعد قليل.

الشرط الرابع: أن لا يدخل عليها حرف جر، فإن دخل عليها حرف جر فيجب أن تهمل، ويكون ما بعدها مجرورًا بحرف الجر، كقولك "جئتُ بلا حاجةٍ، وخفتُ من لا شيءٍ".

نقف هنا، ونكمل -إن شاء الله- بقية المسائل في باب "لا" النافية للجنس في الدرس القادم بإذن الله، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك