{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح كتاب "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وبيَّاكم
{في هذا الدرس نستكمل المسألة الثالثة من مسائل "لا" النافية للجنس، وهي: حالات اسمها.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإن كان اسمُها غيرَ مضاف ولا شِبْهَهُ بُنِيَ على الفتح في نحو "لا رجلَ" و "لا رجالَ"، وعليه أو على الكسر في نحو "لا مسلماتِ"، وعلى الياء في نحو "لا رجلَيْنِ" و "لا مسلمِيْنَ")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فحيَّاكم الله وبيَّاكم في الدرس الرابع عشر من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبث من الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة في مدينة الرياض.
ما زلنا نتكلم على باب "لا" النافية للجنس، وعرفنا أنها تعمل عمل "إنَّ" بشروط، ثم وصلنا غلى المسألة الثالثة التي قرأناها الآن، وهي في حالات اسم "لا" النافية للجنس.
ذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- مذهب الجمهور في ذلك، وهو أنَّ "لا" النافية للجنس لاسمها حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون غير مضافٍ، وغير شبيه بالمضاف، أي: يكون مفردًا.
والمراد بالمفرد هنا: أن يكون غير مضاف -أي: ليس مركبًا إضافيًّا- وغير شبيه بالمضاف، يعني: ليست عبارة بعضها متعلق ببعض
فإذا كان اسمها مفردًا فإنه يُبنى على ما يُنصَب عليه.
مثال ذلك: "لا رجلَ في البيت، لا رجالَ في البيتِ، لا نساءَ في البيت"، فهذه كلها مفردات.
وكذلك لو قلت: "رجلين" فهذا مفرد، لأن المفرد هنا ما ليس مضافًا ولا شبيهًا بالمضاف، فيُبنى على ما يُنصَب عليه -يعني على الياء- فتقول "لا رجلينِ في البيت، لا والدينِ يرضيان بذلك، لا خطَّينِ متوازيينِ يتقاطعان".
وكذلك جمع المذكر السالم يُبنى على الياء، فتقول "لا مسلمِين يفعلون ذلك، لا معلمِينَ غائبونَ، لا مهندسِين يفعلون ذلك".
وكذلك جمع المؤنث السالم كان القياسُ فيه أن يُبنى على الكسر لأنه يُنصبُ بالكسرة، إلا أنَّ السَّماع جاء فيه بالبناء على الكسر والفتح، فتقول "لا مسلماتِ يقلنَ ذلك، ولا مسلماتَ يقلنَ ذلك، لا سياراتِ في المعرض، ولا سياراتَ في المعرض".
فإذا كان اسم "لا" النافية للجنس ليس مفردًا، كأن يكون مضافًا، كـ "طالب علم، حارس مدرسة، كتابَ نحو"؛ أو كان شبيهًا بالمضاف -يعني عبارة بعضها يتعلق ببعض على غير طريق الإضافة- كقولك "جملٌ وجهه، حسنٌ فعله، شاربًا عصيرًا، ضاربًا رجلًا، طالعًا جبلًا، قارئٌ للكتابِ، جالسٌ في البيت، رحيمٌ بالعبادِ، خمسةً وخمسين": فإنَّه يُنصب بعلامة الإعراب، أي: يبقى على الإعراب ولا يُبنى.
فتقول مثلًا: "لا قبيحًا فعله ممدوحٌ، ولا طالعًا جبلًا عندنا، ولا قارئًا للكتاب نادمٌ، ولا رحيمًا بالعبادِ مكروهٌ، ولا خمسةً وخمسينَ ريالًا عندي".
فهذا قول الجمهور.
وهناك قولٌ آخر لبعض المحققين من النحويين، وهو أنَّ اسمها له حالةٌ واحدة وهي: أنه معربٌ منصوبٌ، كاسم "إنَّ" وأخواتها، إلَّا أنه لا يُنوَّن، وهذا حكمٌ خاصٌّ بـ "لا" النافية للجنس.
فلهذا إذا كان منوَّنًا فإنه لا يُنوَّن، وما سوى ذلك يبقى على النصب، فتقول: "لا مؤمنَ كاذبٌ، لا مؤمنَينِ يقولان ذلك، ولا مؤمنِينَ يقولون ذلك"، وفي الجميع يُقال: اسم "لا" النافية للجنس منصوب.
فهذا ما يتعلق بحالات اسم "لا" النافية للجنس؛ لننتقل إلى المسألة الرابعة في حكم العطف مع تكرير "لا" ودونه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولك في نحو "لا حولَ ولا قوةَ" فتحُ الأولِ، وفي الثاني الفتحُ والنصبُ والرفعُ)}.
في هذه الجملة وما بعدها إلى آخر كلام ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- على "لا" النافية للجنس تعقيدٌ لفظي، وذلك بأنها ضغطَ الكلام ضغطًا شديدًا لإدخال المسائل بعضها في بعض، فصار الكلام معقَّدًا، وسنفكُّه.
فابن هشام في هذه المسألة يتكلَّم على حكم العطف، فإذا عطفتَ مع تكرير "لا"، مثل: "لا رجلَ ولا امرأةَ في البيت"
أو عطفتَ من دون تكرير "لا"؛ مثل: "لا رجلَ وامرأةً في البيت".
بدأ بالكلام على حكم العطف مع تكرير "لا" كما لو قلتَ "لا رجلَ ولا امرأةَ عندي، لا دفترَ ولا كتابَ في المكتبة". فما حكم ذلك؟
قال ابن هشام (ولك في نحو "لا حولَ ولا قوةَ")، يعني عطف مع تكرير.
قال: (فتحُ الأولِ، وفي الثاني الفتحُ والنصبُ والرفعُ)، ثم قال بعد ذلك: (... ورفعُه)، يعني: لكَ رفعُ الأول. قال: (فيمتنع النصبُ)، يعني يمتنع النصب في الثاني. ثم قال: (وإن لم تُكَرَّر "لا"...... اِمْتنعَ الفتحُ).
ولو أنه اختصر ولمْ يأتِ بهذا التعقيد اللفظي لكان الكلامُ واضحًا جدًّا، فهو يقول:
المسألة الأولى إذا عطفتَ مع تكرير "لا" كقولك "لا حول ولا قوة إلا بالله، لا رجل ولا امرأة في البيت"؛ فلك خمسة أوجه:
الوجه الأول: أن تبني الأول والثاني، على أن "لا" نافية للجنس، والاسم معها مبني على الفتح. فتقول: "لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله".
الوجه الثاني: أن تبني الأول على أن "لا" عاملة نافية للجنس، وترفع الثاني على أن "لا" مهملة، فتقول "لا حولَ ولا قوةٌ إلا بالله".
الوجه الثالث: أن تبني الأول على الفتح، وتنصب الثاني بالتنوين، فتقول: "لا حولَ ولا قوةً إلا بالله".
فهذه الأوجه الثلاثة الأولى، الأول فيها مبني على الفتح، والثاني لك فيه: البناء على الفتح، والرفع مع التنوين، والنصب مع التنوين.
الوجه الرابع: أن ترفع الأول على أن "لا" مهملة، وتبني الثاني على أن "لا" نافية للجنس، فتقول "لا حولٌ ولا قوةَ".
الوجه الخامس: أن ترفع الأول والثاني، فتقول: "لا حولٌ ولا قوةٌ".
المسألة الثانية: العطف من دون تكرير "لا"، كأن تقول "لا حولَ وقوةَ إلا بالله، لا رجلَ وامرأةَ في البيت، لا قلمَ ودفتر عندي"؛ فليس في الأول إلا الفتح، ولك في الثاني: الرفع يعني أنه معرب مرفوع، والنصب يعني أنه معرب منصوب، فتقول: "لا قلمَ وكتابًَا عندي، أو: لا قلمَ وكتابٌ عندي"، وامتنع بناء الثاني، ولا يُمكن أن يُبنَى، لأن البناء لا يكون إلا بينَ شيئين.
ولذلك فإن الجمهور يُعلِّلون بناء اسم "لا" النافية للجنس لأن "لا" مركبة مع اسمها، كتركُّب "خمسةَ عشر"؛ فبني الثاني على الفتح، مثل "لا قلمَ"، فصارت كلمة واحدة.
فلا يُمكن بناء الثاني نحو "لا قلمَ وكتابَ"! لأنَّ "لا قلمَ" كلمة واحدة، أما "كتاب" فكلمة، وبينهما الواو وهي أيضًا كلمة؛ فلا يُمكن أن تركب ثلاث كلمات؛ فامتنع البناء على الفتح، بوقي الرفع والنصب.
ننتقل إلى المسألة الخامسة، وهي: حكم نعت اسم "لا" المبني.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإن لم تُكَرَّر "لا"، أو فُصِلَتِ الصفةُ، أو كانت غيرَ مفردة، اِمْتنعَ الفتحُ)}.
الكلام على نعت اسم "لا" المبني، فعرفنا أن اسم "لا" له حالتان:
- إما أن يُبنى على ما يُنصب به.
- أو أنه معرب منصوب.
فالكلام على اسم "لا" النافية للجنس المبني إذا نُعِتَ، كأن تقول "لا بضاعةَ عندنا" تريد أن تنعت "بضاعة" فتقول "لا بضاعةَ جديدة" فما حكم النعت هنا؟
- إما أن يكون هذا النعت مفردًا -يعني ليس مضافًا ولا شبيهًا بالمضاف- ومتصلًا -ليس بينه وبين المنعوت فاصل- فحينئذٍ يجوز لك فيه الأوجه الثلاثة السابقة المذكورة، فتقول:
* "لا بضاعةَ جديدةَ عندنا"
* " لا بضاعةَ جديدةً عندنا".
* "لا بضاعةَ جديدةٌ عندنا".
فكل الأوجه جائزة.
فإن لم يكن هذا النعتُ مفردًا، بأن كان مضافًا أو شبيهًا بالمضاف، أو كان منفصلًا؛ فيمتنع البناء على الفتح، ويبقى الوجهان الآخران: الرفع والنصب، فتقول:
- "لا بضاعةَ عندنا جديدةٌ" ففصلتَ بين النعت والمنعوت بخبر.
- "لا بضاعةَ عندنا جديدةً".
أو قلت: "لا بضاعةَ ذات جودة عندنا"، فـ "ذات جودة" مضاف ومضاف إليه؛ فليس لك فيه إلا النصب والرفع؛ فتقول "ذاتَ جوة، وذاتُ جودة".
فهذا ما يتعلق بـ "لا" النافية للجنس، لننتقل مع ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- إلى الناسخ الثالث وهو "ظننتُ" وأخواتها.
{قال ابن هشام: (الثالثُ: "ظَنَّ، ورأى، وحَسِب، ودَرَى، وخال، وزَعَمَ، ووجد، وعلم" القلبياتُ)}.
هذا هو الناسخ الثالث من نواسخ الابتداء، وهو باب "ظنَّ" وأخواتها، وذكر فيه ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- أربع مسائل:
الأولى: ألفاظها.
الثانية: عملها.
الثالثة: إلغاؤها.
الرابعة: تعليقها.
بدأنا بالمسألة الأولى في ألفاظها، فذكر ابن هشام ألفاظ هذا الباب، والحقيقة أن ألفاظ هذا الباب كثيرةٌ جدًّا، وابن هشام ذكر أشهر الأفعال الداخلة في هذا الباب.
ونستطيع أن نقول: إن الأفعال الداخلة في هذا الباب على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أفعال الظن: وهي أفعالٌ تدل على الظن، مثل: "ظن، حسب، خال"، كأن تقول "ظننتُ محمدًا مسافرًا"، وكقول الشاعر:
زعمتني شيخًا ولستُ بشيخ ** إنما الشيخ مَن يدبُّ دبيبًا
فقوله "زعمتني شيخًا"، أي: ظنَّتني شيخًا
النوع الثاني: أفعال تدل على العلم، أي: التأكد واليقين، كأن تقول: "علمتُ اللهَ عظيمًا، علمتُ العلمَ نافعًا"، وكقوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة/10]، يعني: وقع في علمكم وتأكدتُّم أنهنَّ مؤمنات.
وقال الشاعر:
رأيتُ الله أكبرَ كلِّ شيءٍ محاولةً ** وأكثرَهم جنودًا
يعني: علمتُ أنَّ الله أكبرَ.
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص/44]، يعني علمناه صابرًا.
النوع الثالث: أفعال التصيير، ولم يذكرها ابن هشام، وهي تدل على الانتقال والتَّحوُّل من حالة إلى حالة.
كقولك: "جعلتُ الطينَ حجرًا، وصيَّرتُ العجينَ خبزًا"، وكقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان/23]، فـ "جعل" فعل التصيير. و"ناء" المتكلمين: فاعل. وهاء الغائب مفعول أول، و"هباءً" مفعول ثانٍ.
وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء/125]، يعني: صيَّره خليلًا.
ومعنى قول ابن هشام (القلبيَّات)، يعني: أن أفعال الظن والعلم لابدَّ أن تكون أفعالًا قلبيَّة تقوم بالقلب، ولا تقوم بالحواس، لأن هذه الأفعال قد تأتي قلبيَّة، وقد تأتي حسيَّة.
مثل "رأى" فقد تكون بمعنى: علم، تقول "رأيتُ العلمَ مفيدًا" بمعنى: علمتُه؛ فهذه تدخل في هذا الباب لأنها قلبيَّة.
أما "رأى" البصرية التي بمعنى أبصرَ، كأن تقول "رأيتُ الكأسَ، رأيتُ محمدًا"؛ فهذه لا تدخل في هذا الباب، وهي كغيرها من الأفعال، فـ "رأيتُ محمدًا" فعل وفاعل ومفعول به.
ثم ذكر ابن هشام علمها في المسألة الثانية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فتنصبهما مفعولَيْنِ، نحوُ "رأيتُ اللـهَ أكبرَ كلِّ شيءٍ")}.
بيَّن في هذه المسألة عمل "ظننتُ" وأخواتها، فذكر أنها تنصبُ المبتدأ وتنصب الخبر، لكن تنصب المبتدأ على أنه مفعول به أول، وتنصب الخبر على أنه مفعولٌ به ثانٍ، فإذا قلنا مثلًا "محمدٌ كريمٌ" ثم أدخلت "ظننتُ"؛ فنقول "ظننتُ محمدًا كريمًا"، و "محمدًا" مفعول به أول، و "كريمًا" مفعول به ثانٍ.
سؤال: لماذا لم يكن المنصوب الأول اسمًا لـ "ظننتُ" والمفعول الثاني خبرًا لـ "ظننتُ" كما قلنا في "كان" وفي "إنَّ"؟
الجواب في ذلك: أنَّ "ظنَّ" وأخواتها ليست أفعالًا ناقصة مثل "كان" وأخواتها؛ بل هي أفعال تامَّة، والدليل على ذلك أنه لابدَّ لها من فاعل، لأنها أفعال فيها حدثَ، فـ "ظننتُ" من الذي فعل الظَّن؟ فلابد من فاعل، فلهذا لابدَّ من فاعل قبل أن تأتي الجملة الاسمية -المبتدأ والخبر-
تقول: "ظنَّ الأستاذ..، ظنَّ زيدٌ..." ثم تأتي الجملة الاسمية.
لو قلنا "البابُ مفتوحٌ" كيف ندخل "ظننتُ" وأخواتها عليها؟
هنا لابد أن تأتي بفعل وفاعل، فلا تقل "علمَ" وتسكت، لأنه فعل تام يحتاج إلى فاعل قبل أن تأتي الجملة الاسمية المنسوخة، فتقول "علمَ محمدٌ البابَ مفتوحًا"، فـ "البابَ" مفعول أول. و "مفتوحًا" مفعول ثانٍ؛ فهذه الجملة مكوَّنة من فعل وفاعل ومفعول، إلا أن هذه الأفعال لقوتها تنصب مفعولين اثنين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويُلغَيْنَ برجحان إن تأخرْنَ نحو "القومُ في أَثَري ظننتُ"، وبمساواة إن توسطنَ نحو "وفي الأراجيزِ خِلتُ اللؤمَ والخَوَرَا")}.
هذه المسألة في الكلام على إلغائها، يعني: إبطال عملها، وتكون أفعالًا مهملة وليس لها عمل.
ولـ "ظننتُ" وأخواتها ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تتقدَّم على الجملة الاسمية، كأن تقول "محمدٌ كريمٌ"، ثم تدخل "ظننت" على الجملة، فإما أن تأتي:
- في البداية، فتقول "ظننتُ محمدًا كريمًا".
- متوسطة، تقول: "محمدٌ ظننتُ كريمٌ".
- متأخرة، فتقول: "محمدٌ كريمٌ ظننتُ".
كل ذلك جائز في الكلام، ويختلف معناه:
* فإن وقعت في البداية: فليس فيها إلا الإعمال، تقول "ظننتُ محمدًا كريمًا" تنصب المبتدأ مفعولًا أول، وتنصب الخبر مفعولًا ثانيًا.
* وإذا توسَّطت بين المبتدأ والخبر: فيجوز إعمالها وإهمالها بمساواة، يعني: يستوي إعمالها وإهمالها:
= فإن أعملتها، قلتَ: "محمدًا ظننتُ كريمًا"، فتكون قدَّمتَ المفعول الأول حينئذٍ، والمفعول يجوز ان يتقدَّم ما لم يمنع من ذلك مانع.
= وإن أهملتها، قلتَ: "محمدٌ ظننتُ كريمٌ"، كأنَّكَ قلتَ "محمدٌ كريمٌ" مبتدأ وخبر، ثم أقحمت "ظننتُ" بينهما، فهو فعل مقحَمٌ مُلغًى، ليس له مفعول أول ولا ثانٍ.
* وإن أخرتَها؛ فحينئذٍ يجوز إعمالها وإلغاؤها، إلا أنَّ إلغاءها أرجح وأحسن، فتقول: "محمدٌ كريمٌ ظننتُ"، ولو أعلمتها لجاز وقلتَ "محمدًا كريمًا ظننتُ".
هذا كلام ابن هشام، وهو كلامٌ من الناحية النحوية، وننبه كثيرًا إلى أن كلام النحويين كثيرًا ما يتحدَّث على التركيب من حيث الكثرة والقلَّة في استعمال العرب، أما الضابط في التَّجويز فإنما يقوم على المعنى، يعني نعود إلى البلاغة في ذلك:
- فأنت إذا أردتَّ أن تبتدئ بالجملة الاسمية فتقول "محمدٌ كريمٌ"، ثم بعد ذلك بدا لك أن تُدخل الظن، فتقول "محمدٌ كريمٌ ظننتُ".
- أما إذا أردتَّ منذ البداية ان تدخل الظن على الجملة، إلا أنَّك قدَّمتَ المفعولين -وهذا جائز- فتقول "محمدًا كريمًا ظننته".
والمعنى يختلف في ذلك.
وحكمه -كما قال ابن هشام: جائز، وليس بواجب.
ثم ذكر ابن هشام شاهدين:
الأول: مثال على التأخُّر، وهو في قول الشاعر:
القومُ في أَثَري ظننتُ فإن يكن ** ما قد ظننتُ فقد ظفرت وخابوا
فالأصل "ظننتُ القومَ في أثري"، فـ "القومَ" مفعول أول. و "في أثري" مفعول ثانٍ.
فلما تأخر فعل الظن هنا جاز الإعمال فقال "القومَ في أثري ظننتُ"، وجاز الإهمال كما فعل الشاعر "القومُ في أثري"، صار مبتدأ وخبر.
والثاني: مثال التَّوسُّط فهو قول الشاعر:
أبا الأَرَاجِيز يا بنَ اللَّؤْم تُوعِدُني * وفي الأَراجِيز خِلتُ اللُؤمُ وَالخورُ
الشاهد: "خِلتُ اللُؤمُ وَالخورُ".
فـ "خلت" من أخوات "ظن".
المعنى: ظننتُ وحسبتُ اللؤمَ في الأراجيز، يعني أنه يحتقر الأراجيز، فيقول: أنتَ صاحب أراجيز ولستَ بشاعر.
والأصل أن يقول: "خلتُ اللؤمَ في الأراجيز"، فوسَّط وقال "في الأراجيز خلتُ اللؤم"؛ فجاز له أن يُهمل كما فعل الشاعر، لأنه جعل الفعل بينَ الخبر المقدَّم وبينَ المبتدأ المؤخَّر، فأهمل فقال " وفي الأَراجِيز خِلتُ اللُؤمُ وَالخورُ"، ولو أعملَ لجازَ وقال " وفي الأَراجِيز خِلتُ اللُؤمَ وَالخورَ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإن وليَهن "ما" أو "لا" أو "إِنْ" النافياتُ، أو لامُ الابتداءِ أو القسمُ أو الاستفهامُ؛ بطَل عملُهن في اللفظ وجوبًا، وسُمِّيَ ذلك تعليقًا، نحو ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحزبينِ أَحْصى﴾)}.
هذه هي المسألة الرابعة في تعليقها، يعني: إلغاء علمها في اللفظ دون المحل، فلا تعمل في لفظ المبتدأ والخبر، فيبقيان مرفوعان.
وأما عملها في المحل، فلو أنَّك عطفتَ عليها فلك أن تراعي المحل.
حكم التعليق: واجب.
والمعلقات تعود إلى شيءٍ واحد، وهي ألفاظ لهن الصدارة تقع بين "ظننتُ" وأخواتها وبين الجملة الاسمية، فإذا وقعت هذه الألفاظ التي لهنَّ الصدارة بين ظننتُ وأخواتها والجملة الاسميَّة فإنَّها تمنع "ظننتُ" وأخواتها من أن تعمل في الجملة الاسميَّة.
مثال ذلك: "محمدٌ كريمٌ"
- إذا أدخلتَ "علمتُ" وليس بينه وبين الجملة الاسمية فاصل من هذه المعلقات؛ لوجبَ أن يعمل، فنقول "علمتُ محمدًا كريمًا".
- أما لو جاء بينهما معلِّق لبطل عملها في لفظ المبتدأ والخبر، ووجب بقاء المبتدأ والخبر مرفوعين:
* مثل الاستفهام، تقول "علمتُ هل محمدٌ كريمٌ" فيبقى "محمدٌ" مبتدأ مرفوع، و "كريمٌ" خبر مرفوع.
* حرف النفي "ما"، مثل: "علمتُ ما محمدٌ كريمٌ".
* لام الابتداء، تقول: "علمتُ لَمحمدٌ كريمٌ".
* لام القسم، مثل: "علمتُ لَيجتهدنَّ زيدٌ"، يعني: علمتُ والله ليجتهدنَّ زيدٌ.
* حرف النفي "إنْ" بمعنى "ما"، مثل: "علمتُ إنْ محمدٌ كريمٌ".
* حرف النفي "لا"، مثل "علمتُ لا محمدٌ كريمٌ ولا زيدٌ".
فالمسألة واحدة، فالمعلقات -كما ذكر ابن هشام رحمه الله تعالى- هي: "ما" النافية إذا وقعت بين هذه الأفعال وبين الجملة الاسمية، أو "لا" النافية، أو "إنْ" النافية؛ فكلها بمعنى "ما".
ومثَّل ابن هشام بقوله تعالى: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى﴾ [الكهف/12]، فـ "لنعلم" من باب "ظننتُ" وأخواتها، والفاعل مستتر تقديره "نحن". و "أيُّ" مبتدأ مرفوع بالضمَّة، و"الحزبين" مضاف إليه، و"أحصى" خبر، وهذه الجملة الاسمية لم يعمل فيها "نعلم"، لأنها مبدوءة باستفهام، والاستفهام له الصدارة.
هذا ما يتعلق بالناسخ الثالث وهو "ظننتُ" وأخواتها، وبذلك ننتهي من الكلام على الجملة الاسمية وأحكامها النحوية بصورتها الأصلية -المبتدأ والخبر- وبصورتها المنسوخة، سواء كان الناسخ "كان" وأخواتها وما يعمل عملها، أو "إنَّ" وأخواتها وما يعمل عملها، أو "ظننتُ" وأخواتها.
لننتقل بعد ذلك إلى الكلام على الجملة الفعلية مبتدئين بباب الفاعل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابٌ: الفاعل مرفوعٌ كـ "قامَ زيدٌ" و "مات عمرٌو")}.
باب الفاعل يُمثل الصورة الأصليَّة للجملة الفعليَّة، لأن الجملة الفعليَّة تأتي على صورتين فقط:
الصورة الأولى: تتكون من فعل مبني للمعلوم وفاعل، كـ "ذهبَ زيدٌ، قام زيدٌ، ماتَ زيدٌ".
الصورة الثاني: أن تتكوَّن من فعلٍ مبنيٍّ للمجهول ونائب فاعل، كـ "فُتِحَ البابُ، قُرئَ القرآنُ"، وستأتي هذه الصورة في الباب التالي -باب نائب الفاعل.
وفي باب الفاعل ذكر ابن هشام عشر مسائل:
المسألة الأولى: حكم الفاعل.
المسألة الثانية: تقدم عامله.
المسألة الثالثة: إفراد عامله.
المسألة الرابعة: تأنيث عامله.
المسألة الخامسة: حذف الفاعل.
المسألة السادسة: ترتيب الجملة الفعلية الأصلي.
المسألة السابعة: تأخُّر الفاعل جوازًا ووجوبًا.
المسألة الثامنة: تأخُّر المفعول به جوازًا ووجوبًا.
المسألة التاسعة: تقدُّم المفعول به جوازًا ووجوبًا.
المسألة العاشرة: فاعل "نعم، وبئس".
قرأنا المسألة الأولى في حكم الفاعل، إذ بيَّنَ ابنُ هشام -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الفاعل مرفوع، يعني أنَّ حكمه الإعرابي هو الرفع، وهذا واضح، وعلامة الإعراب:
- قد تكون الضمة، كـ "جاءَ زيدٌ".
- وقد تكون الألف، كـ "جاء الزيدان".
- وقد تكون الواو، كـ "جاء الزيدون"، و"جاء أخوك".
ولم يُعرِّف ابن هشام هنا الفاعل اكتفاءً بتعريفه في نحو المبتدئين، فلا حاجة لإعادته.
وهنا يُمكن أن نذكر أن الفاعل وإن كان حكمه الرفع إلَّا أنَّه قد يُجرُّ لفظًا، بأن يدخل عليه مثلًا حرف جرٍّ زائد، وذلك إذا كان نكرة في استفهام أو نفي.
مثال ذلك: "الطالبُ في القاعة"، فـ "الطالبُ" مبتدأ. و "في القاعة" خبر.
ندخل الاستفهام: "هل الطالبُ في القاعةِ؟"، الإعراب ما يتغيَّر.
لو نكَّرنا كلمة "الطالب" نقول "هل طالبٌ في القاعة؟"، أيضًا ما يتغيَّر الإعراب، ولكن تغير المعنى، لأنَّ النكرة بعد الاستفهام تعم.
وهنا نكرة بعد استفهام يجوز أن تدخل عليها حرف الر الزائد "من"؛ فلك أن تقول "هل طالبٌ في القاعة؟" أو "هل من طالبٍ في القاعة؟"، لكن "طالب" هنا مبتدأ.
ونفس الأمر نطبقه على الفاعل، كأن نقول "هل جاء الطالبُ؟"، فـ "الطالبُ" فاعل.
إذا نكَّرناه قلنا "هل جاء طالبٌ؟"، فـ "طالب" فاعل.
ثم لك أن تأتي بـ "من" الزائدة فتقول "هل جاء من طالبٍ؟"، فإذا أدخلتَ "من" الجارة فإنَّ الفاعل سينجر في اللفظ دون الإعراب، ولا نقول في إعراب كلمة "طالب" اسمًا مجرورًا؛ بل نقول: فاعل مرفوعٌ محلًّا مجرورٌ لفظًا بـ "من" الزائدة.
تقول: "ما جاء أحدٌ"، فـ "أحدٌ" فاعل مرفوع. فإذا أدخلت "من" قلت "ما جاء من أحدٍ" فـ "أحد" فاعل مرفوع محلًّا مجرور لفظًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يتأخر عاملُه عنه)}.
هذه المسألة في تقدُّم عامله.
والجملة الفعليَّة -كما عرفنا: تتكون من فعل وفاعل، كـ "جاء محمدٌ"، فالفعل لابد أن يتقدَّم، وهو العامل الذي يرفع الفاعل، والفاعل لابد أن يتأخر لأنه المعمول.
وابن هشام يقول: يجب أن يتأخر الفاعل، إذًا؛ الفعل الذي رفعه لابدَّ أن يتقدَّم، ومعنى ذلك أنَّ الفاعل لا يجوز أن يتقدَّم على الفعل.
ولو قال قائلٌ: "محمدٌ جاء" لقلنا: إن هذا جائز، لكنها جملة أخرى، وليست هي "جاء محمدٌ" بالتقديم والتأخير، ولكنها لما تقدَّم الاسم صار مبتدأ، و"جاء" جملة فعليَّة مكوَّنة من فعلٍ ظاهرٍ، والفاعل مستتر تقديره "هو"، والجملة الفعلية من الفعل والفاعل خبر.
إذًا؛ جملة "جاء محمدٌ" جملة فعلية مكونة من فعل وفاعل.
أما جملة "محمد جاء" جملة اسمية.
لماذا امتنع ذلك؟
الجواب: امتنع ذلك لفظًا ومعنًى، وشرحنا ذلك في الشرح السابق للمبتدئين، فلا نعيدُ الكلام على ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا تلحقه علامةُ تثنيةٍ ولا جمعٍ، بل يقال "قام رجلانِ، ورجالٌ، ونساءٌ" كما يقال "قام رجلٌ". وشذ «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ»، «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُم»)}.
في هذه المسألة تكلم ابن هشام على إفراد عامله، وعرفنا أن المراد بعامله أنه رافعه، كـ "جاء محمدٌ"، فـ جاء" هو العامل الرافع.
وعامل الفعل لابد أن يُفرَد مهما كان الفاعل، فمثلًا: الفعل "قام" لابدَّ أن يلزم الإفراد، سواء كان الفاعل مفرد "قام رجل"، أو مثنى "قام رجلان"، أو جمع "قام رجال"، أو جمع نساء "قام نساء".
إذًا؛ الفعل لا يتبع الفاعل في التثنية والجمع؛ بل يلزم الإفراد، بخلاف التأنيث والتذكير، وهذا سيأتي في حكم آخر، فإن الفعل يتبع الفاعل في التذكير "قام رجلٌ"، وفي التأنيث "قامت امرأة"، وهذا حكم سيأتي الكلام عليه.
قال ابن هشام: (وشذَّ «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ»، «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُم»).
هذان حديثان رُويا في بعض كتب الحديث بهذا اللفظ، وهو يعني بذلك: أنَّ الفعل قد يوافق فاعله في التثنية والجمع، فتقول على ذلك "قاما رجلان، وقاموا رجال" فهذه لغة يسمونها في النحو "أكلوني البراغيث"، يعني أن يكون الفعل تابعًا للفاعل في التثنية وفي الجمع، وهذه اللغة قليلة لبعض العرب، ولكنها ليست ضعيفة، أما اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وتكلَّم بها جماهير العرب فهي ما ذكرها ابن هشام من وجوب إفراد الفعل.
فقال ابن هشام: جاء هذان الحديثان شذوذًا على هذه اللغة، فـ "يتعاقب" الفعل. و"ملائكة" الفاعل؛ ولو جاء الحديث على لغة جمهور العرب لقال "يتعاقبُ فيكم ملائكةٌ" بالإفرادِ، فلما قال "يتعاقبون" جمع الفعل لأن الفاعل جمع؛ صارَ على هذه اللغة.
والصواب: أنَّ هذا الحديث مختصر من حديث أطول منه، فقد جاء هذا الحديث بأكثر من رواية في كتب الحديث، فجاء بلفظ «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ»، وجاء في رواية أخرى أيضًا صحيحة: «الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار»، وفي رواية أخرى «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار»؛ فبانَ بذلك أنَّ هذا اللفظ إنما هو اختصار وتصرُّف في لفظ الحديث، ومعلومٌ أنَّ المحدثين يُجيزون التَّصرُّف في ألفاظ الحديث، ما دام أن المعنى صحيحًا.
وأما الحديث الآخر «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُم؟»، أيضًا هو حديث قاله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لورقة بن نوفل عندما أخبره أن قومه سيُخرجونه، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُم؟).
وهذا الحديث يتكوَّن من:
- همزة الاستفهام: (أ).
- الواو التي بعدها: هي واو العطف، وكان حقها أن تتقدَّم، فيُقال "وأَمُخرجيَّ"، لكن همزة الاستفهام من قوتها في الاستفهام تتصدَّر حتى على واو العطف، وهذا خاصٌّ بها دون بقية أداوت الاستفهام.
- وقوله "مخرجيَّ" الأصل "مُخرج" فاعل من "أخرجَ يُخرج فهو مخرجٌ"؛ ثم جُمِعَ جمع مذكر سالم "مخرجون"، ثم أُدخل عليه ياء المتكلم فصار "مخرجوني"، ومعلوم أنَّ نون الجمع تحذف في الإضافة، فـ "مخرج" اسم وأضيف إلى ياء المتكلم، فحُذفت النون، فصارت "مُخرجوي"، فلما اجتمعت الواو والياء يجب قلب الواو ياءً، وإدغامها في الياء الأخرى، فصارت "مُخرجيَّ".
يقول ابن هشام: أن هذا الحديث من هذه اللغة، لأن "هم" فاعل لـ "مخرجيَّ" وهو اسم مأخوذ من "مخرجون"؛ إذًا العامل الذي رفع الفاعل وافقه في الجمع على هذه اللغة، ولو جاء هذا الحديث على لغة جمهور العرب لقيل "أومخرجي هم" من دون تشديد، يعني "مُخرج" المفرد، وأضيف إليه ياء المتكلم، ولكن لما قال "مخرجيَّ" جمع الرافع للفاعل لأن الفاعل جمع.
ونقول: ليس هذا بواجب في الحديث، لأنه يجوز في الحديث أن يكون "هم" مبتدأ مؤخر، و "مخرجيَّ" خبر مقدم؛ يعني "أهم مخرجيَّ"، والتقديم والتأخير جائز، ولا إشكال في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتلحقه علامةُ تأنيثٍ إن كان مؤنثًا، كـ "قامتْ هندٌ" و "طلعت الشمسُ". ويجوز الوجهانِ في مجازيِّ التأنيثِ الظاهرِ نحو ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وفي الحقيقيِّ المنفصلِ نحو "حَضَرَتِ القاضيَ امرأةٌ" والمتصلِ في باب "نعم وبئس" نحو "نِعْمَتِ المرأةُ هندٌ"، وفي الجمع نحو "قالتِ الأعرابُ" إلا جمعَيِ التصحيحِ فَكَمُفردَيْهما نحو "قام الزيدون" و "قامتِ الهنداتً")}.
في هذه المسألة الرابعة تكلم على تأنيث عامله، فالفعل عندما يتأثَّر بالفاعل في التذكير والتَّأنيث؛ نسألُ أولًا: الفاعل إذا كان مذكرًا فما حكم الفعل؟
الجواب: ليس في الفعل إلا التذكير، فلهذا لا يذكر النحويون ذلك، لأنّه ليس فيه إلا التذكير، سواء كان الفاعل مذكرًا حقيقيًّا كـ "قامَ رجلٌ"، أو مذكرًا مجازيًّا كـ "سقطَ قلمٌ".
أما إذا كان الفاعل مؤنَّثًا؛ ففي الفعل تفصيل:
- قد يكون تأنيثه واجبًا.
- وقد يكون تأنيثه جائزًا.
فلهذا يتحدَّث النحويون عن هذه المسألة، فيكون تأنيث الفعل واجبًا مع الفاعل المؤنث في حالتين، أشار إليهما ابن هشام إشارة في ضمن كلامه:
الحالة الأولى: أن يكون الفاعل حقيقيَّ التأنيث متَّصلًا.
ومعنى كونه حقيقي التأنيث: يعني أنه من الناس أو من الحيوان.
وأما مجازي التأنيث: فهو المؤنث من غير الناس والحيوان.
ومعنى كونه متَّصلًا: أي ليس بينه وبين الفعل فاصل، كقولك "قامت هندٌ، انطلقت ناقةٌ"، فهنا التأنيث واجب، لأن المؤنَّث حقيقي التأنيث متصل.
الحالة الثانية: أن يكون الفاعل المؤنث ضميرًا.
مثال ذلك: "هندٌ قامت"، ففاعل "قامت" ضمير مستتر تقديره "هي"، فالتأنيث واجب.
وكقولك: "الناقة انطلقت، الشمسُ طلعت"، ففاعل "طلعت" ضمير مستتر تقديره "هي"، مع أن الضمير عائد إلى مؤنث مجازي، ولكن بما أنَّ الفاعل المؤنث ضمير فيكون تأنيث الفعل واجبًا.
فإذا عرفنا حالتي الوجوب فيُمكن أن نقول: ما سوى ذلك فتأنيثه جائز، لكن ابن هشام ذكر مواضع جواز التأنيث عندنا في أربعة مواضع:
الموضع الأول: إذا كان الفاعل المؤنث مجازي التأنيث، وعرفنا معنى كونه مجازي التأنيث، وهو ما ليس من الناس وليس من الحيوان، كالشمس، والسيارة، فيجوز أن تقول في الفعل الماضي: "طلعت الشمسُ، وطلعَ الشمس"، وفي الفعل المضارع: "تطلع الشمس، ويطلع الشمس"؛ لأنَّ الماضي يُؤنَّث بالتاء الساكنة في آخره، كـ "ذهب - ذهبت"، والمضارع يُؤنَّث بتاء مفتوحة في أوله، كـ "يطلع، تطلع".
وكذلك تقول "انطلقت سيارة، وانطلق سيارة" يجوز الوجهان، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [يونس/57]، فـ "موعظة" مؤنث مجازي، وأُنِّثَ معها الفعل، وقال تعالى: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ﴾ [الأنعام/157]، فـ "بينة" مؤنث مجازي، وجاء الفعل مذكرًا.
الموضع الثاني في التأنيث الجائز: في الحقيقي المنفصل.
فلو كان الفاعل المؤنث حقيقي التأنيث، وكان منفصلًا عن الفعل بفاصل؛ فتأنيث الفعل جائز، وإن كان الأكثر التأنيث، فتقول "ذهبَت إلى البيتِ هندٌ، أو: ذهبَ إلى البيت هندٌ"، وتقول: "جاءت القاضي هندٌ، وجاء القاضي هندٌ".
الموضع الثالث: في باب "نعم، وبئس"؛ سواء كان مجازيًّا أو حقيقيًّا متَّصلًا أو منفصلًا.
كقولك: "نعمت المرأة هندٌ، ونعم المرأة هند" فـ "نعم" فعل، و"المرأة" فاعل؛ والسبب في ذلك أن الفاعل هنا إنما المراد به جنس المرأة، وليس واحدًا من المرأة، والجنس في الحقيقة يدخل في المؤنث المجازي
الموضع الرابع: في جمع التكسير، وهو معدودٌ في المؤنث المجازي، كما قال الزمخشري:
إن قومي تجمَّعوا وبقدري تحدَّثوا ** لا أبالي بجمعهم، كل جمعٍ مؤنثُ
فيجوز أن تقول: "قال العلماء، قالت العلماء"، "قام الرجال، قامت الرجال"، وقال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ [الحجرات/14]، ويجوز في قولك "قال الأعراب".
أما جمع التصحيح سواء جمع مذكر سالم أو جمع مؤنث سالم، فكما قال ابن هشام (إلا جمعَيِ التصحيحِ فَكَمُفردَيْهما)، يعني: جمع التصحيح حكمه حكم المفرد، فـ"المحمدون" حكمه حكم المفرد "محمد"، وهو واجب التذكير فتقول "قام المحمدون" مثل "قام "محمد"؛ فلا يجوز إلا التذكير فقط.
وجمع المؤنث السالم فكمفرده، فلو قلتَ "الهندات" فهي كـ "هند"؛ يجب أن تقول "قامت الهندات".
وأما "السيارات" فكـ "سيارة" مؤنث مجازي، فيجوز أن تقول "انطلقت السيارات، وانطلق السيارات".
هذا ما يتعلق بتأنيث الفعل وتذكيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وإنما امتنع في النثر "ما قامتْ إلا هندٌ" لأن الفاعلَ مذكرٌ محذوفٌ، كحذفه في نحو ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يتيمًا﴾، و ﴿قضي الأمر﴾ و ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾، ويمتنع في غيرهن)}.
المسألة الخامسة في حذف الفاعل.
والأصل في الفاعل الذكر، لأنه عمدة الجملة الفعليَّة، إلا أن العرب قد تحذفه في مواضع ذكرها ابن هشام في أربعة مواضع:
الموضع الأول: قبل "إلَّا" ويسمى الاستثناء المفرَّغ، فيجوز أن تقول "ما جاء أحدٌ إلَّا زيدٌ"، فتذكر الفاعل "أحدٌ"، أو تقول "ما جاء إلَّا زيدٌ" فتحذف الفاعل، فينتقل المعنى لشمَا بعد "إلَّا".
ومثَّل ابن هشام فقال: "ما قامتْ إلا هندٌ"، ففي الإعراب الصناعي نقول "هندٌ" فاعل، مع أن الفاعل في الحقيقة محذوف تقديره "أحدٌ"؛ فلهذا يجب في الفعل هنا التذكير؛ فإذا فُصِلَ بينَ الفعل والفاعل بـ "إلَّا" فيجب في الفعل التذكير دائمًا، سواء كان الفاعل مذكر "ما قام إلَّا زيدٌ" أو كان مؤنَّثًا "ما قام إلَّا هندٌ"، لأن الفاعل في الحقيقة مذكر محذوف تقديره "أحدٌ".
الموضع الثاني: فاعل المصدر، فلو حوَّلنا الفعل إلى مصدر، فيجوز في هذا المصدر أن نذكر فاعله وأن نحذف الفاعل.
مثال ذلك: "يجبُ إكرام المسلمِ الجارَ"، يعني: "يجب أن يُكرم المسلمُ الجارَ" فإذا ذكرتَ الفعل فلابد من ذكر الفاعل، ولو حوَّلنا الفعل إلى مصدر فلك:
- أن تذكر الفاعل فتقول "يجبُ إكرام المسلمِ الجارَ" فينجر بالإضافة.
- ولك أن تحذف الفاعل، فتقول: "يجبُ إكرامُ الجارِ".
الموضع الثالث: مع الفعل المبني للمجهول، وهذا واضح، تقول: "فتحَ الحارسُ البابَ"، أو تحذف الفاعل وتقول "فُتِحَ الباب.
الموضع الرابع: في "أفْعِلْ" التَّعجُّب، كأن تقول مثلًا: "أَسْمِعْ بزيدٍ"، فلو عطفتَ عليه؛ فلك في المعطوف أن تذكر الفاعل وأن تحذف، فتقول: "أسْمِعْ بزيدٍ وأبصر به، أو: أسْمِعْ بزيدٍ وأبصر"، وتقول "أجْمِلْ بزيدٍ وأكرِمْ به، أو: أَجْمِلْ بزيدٍ وأكرم"، فتحذف الثاني بدلالة الأول عليه.
ونقف هنا ونكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
﴿شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.