{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "قطر النَّدى وبل الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د. سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة. أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وبيَّاكم، أرحبُ بكم وأرحبُ بالإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات.
{في هذه الحلقة نستكمل شرح "قطر النَّدى"، وقد توقفنا عند قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ويُعرَبُ فيما عدا ذلك نحوُ "يقومُ زيدٌ، ولا تَتَّبِعَانِّ، لَتُبْلَوُنَّ، فإما ترَيِنَّ، وَلَا يَصُدُّنَّكَ").
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد:
فهذا هو الدرس الثالث من دروس شرح "قطر النَّدى وبل الصَّدى" في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف.
كنَّا قد توقفنا في الكلام في الحلقة الماضية على إعراب الفعل المضارع، وكما ذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ الفعل المضارع منه مُعربٌ ومنه مبني، قال: (وَيُسَكَّنُ آخِرُه مع نونِ النِّسوة، ويُفْتَحُ مع نون التوكيد)، فقوله: "يُسكَّن" يعني: يُبنَى على السكون، ما قال: يُجزَم. وقوله: (ويُفْتَحُ مع نون التوكيد) يعني: يُبنَى على الفتح، ولم يقل: يُنصَب.
ثم بعدَ ذلك بيَّنَ إعرابه، وأنَّه يُعرب فيما سوى هاتين الحالتين، يعني: يكون متغير الآخر بحسب تغيُّر الإعراب. فعرفنا الآن متى يكون المضارع مُعربًا، ومتى يكون مَبنيًّا.
بقي أن نعرف بعد ذلك إذا كان مبنيًّا يُبنَى على أي حركة؟
قال ابن هشام: (وَيُسَكَّنُ آخِرُه مع نونِ النِّسوة)، أي: يُبنى على السُّكون إذا اتَّصلت به نون النسوة.
فــ "يذهبُ" مُعربًا، وإذا تَّصلت به نون النسوة "يذهبْنَ، يدرُسنَ، يتربصنَ".
ويُبنى على الفتح مع نون التوكيد، مثل: "يذهبُ" معربًا، أما "لا تذهَبَنَّ" مبني على الفتح، و "هل تُسافرَنَّ" يُبنى على الفتح.
إذًا؛ المضــارع يُبنى على شيئين:
- على السكون مع نون النسوة.
- على الفتح مع نون التوكيد.
ومثَّل ابن هشام للمضارع المعرب بثلاثة أمثلة، نقف معها بسرعة:
المثال الأول: "يتربصْنَ"، بُني المضارع هنا على السكون لاتصاله بنون النسوة، ولولا ذلك لكان معربًا.
المثال الثاني: قول ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ﴾ [البقرة: 237]، أي: النساء المطلَّقات، فالنون في قوله: "يَعفُونَ" هي نون النسوة، تعود إلى المطلقات.
وهنا الفعل "يعفو" مختوم بواو مثل: "يدعو"، فالواو حرف أصلي، مثل: "يذهب" الحرف الأخير الباء.
صِلْ نون النسوة بالفعل "يذهبْ": "يذْهبْنَ" كقوله: "يتربصنَ"، ونفعل ذلك في "يعفو" ونضيف نون النسوة المفتوحة، وما قبل نون النسوة ساكن فتصير "يعفونَ".
إذًا؛ الفعل المضارع هنا مبني على السكون، وهو الموجود على الواو في آخر الفعل، ونون النسوة ضمير متَّصل وهو فاعل.
وعليه يكون "يعفو" فعل مضارع على وزن "يَفْعُلْ" فإذا اتصلت به نون النسوة صار "يَفْعُلْنَ". إذًا؛ وزن: "يعفُونَ" في الآية "يفْعُلْنَ".
والفعل "يذهب" إذا وصلنا به واو الجماعة صار "يذهبُونَ"، ونون الرفع تُحذَف في النصب والجزم، فــ "يذهب" كما هي، ثم نضيف واو الجماعة، ونضم ما قبلها لتصير "يذهبُونَ".
لو أردنا أن نفعل مثل ذلك في "يعفو"؛ لكانت "يعفوْ" ثم واو الجماعة وهي واو ساكنة، ثم نون جمع المذكر السالم، فيجتمع عندنا ساكنان: الواو التي في آخر الفعل، وواو الجماعة؛ والقاعدة أنه لا يجتمع ساكنان، فحتى نخلص من التقاء الساكنين إذا كان الساكن الأول حرف مد يُحذَف، وإذا كان غير ذلك يُحرَّك، والفعل "يعفو" آخره حرف مد، فنحذفه، فيكون الفعل "يعْفُونَ"، كما لو قلتَ "الرِّجالُ يعْفُونَ"، فالواو هنا واو الجماعة تعود إلى الرجال، أما واو الفعل فحُذفت لالتقاء الساكنين، ويكون وزن "يعفونَ" للرجال بحذف اللام في "يفعل" التي تقابل الواو المحذوفة، فنقول "يفْعُونَ" بدل "يَفْعُل".
المثال الثالث: قوله: "ليُنْبَذَنَّ"، فالفعل "يُنبَذ" اتَّصلَت به نون التَّوكيد، فبُني الفعل على الفتح.
ونجد في كلام ابن هشام هنا زيادة على ما شُرِحَ في نحو المبتدئين، وذلك أنَّه زاد في نون التوكيد شرطًا، وهو: أن تكون مباشرة لفظًا وتقديرًا، يعني: يجب أن تكون نون التوكيد ملتصقةً بالفعل دون فاصل بينهما، لا فاصل ملفوظ ولا فاصل مقدَّر، ومثَّل لذلك ابن هشام بأمثلةٍ ستأتي، وسنقف بعدَ ذلك عند أمثلة ابن هشام للمضارع المعرَب، وهو: الذي لم تتصل به نون النسوة ولا نون التوكيد المباشرة، ومثَّل لذلك بخمسة أمثلة، نقف عندها:
المثال الأول: "يقومُ زيدٌ"، وهذا واضح، فــ "يقوم" لم تتصل به نون النسوة ولا نون التوكيد، نقول: فعل مضارع مرفوع.
المثال الثاني: قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 89]، قوله: "تتبعانِّ":
- الفعل قبل أن يتصل به شيء "يتَّبِعْ".
- فإذا وصلناه بألف الاثنين "تتبعانِ" يكون من الأفعال الخمسة، فيُرفع بالنون، ويُنصَب ويُجزَم بحذفها، فنثبت النون عند الرفع، مثل: "أنتما تتبعانِ الحق".
- ثم نأتي قبل الفعل بــ "لا" الناهية الجازمة، وسنحذف النون علامةً للجزم، فتصير "يا محمدان لا تتبعا الهوى"، فـ "تتبعا" فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون.
- ثمَّ نؤكِّد الفعل بنون التوكيد، وهي نون مشدَّدة مفتوحة، إلَّا مع المثنى فتكون مكسورة، فلما تدخل نون التوكيد المشددة المكسورة على "تتبعا" فصارت "لا تتبعانِّ"، ونون التوكيد بينها وبين الفعل فاصل وهو ألف الاثنين، وهذا الفاصل ملفوظ غير مقدر. فهذا مثال للفعل المضارع الذي اتصلت به نون توكيد، ولكنها مفصولة بفاصل.
المثال الثالث: قوله تعالى: {لتبلون}، وهو فعل مضارع اتَّصلَت به في الظاهر نون التوكيد.
نتأمَّل في الفعل:
- الفعل في الأصل: تُبلَا، وهو فعل مبني للمجهول ومختوم بالألف، أي: ُعتل الآخر.
- إذا اتَّصلت به واو الجماعة وهي ساكنة، وآخر الفعل ساكن؛ فالتقى ساكنان، فحذفنا آخر الفعل للتخلص من التقاء الساكنين، فصار "تُبْلَوْ".
- ثم إنَّ الفعل هنا مرفوع لعدم النَّاصب والجازم، لأنَّه جواب لقسم -أي: والله لتبلون- لأنَّ اللام التي قبل الفعل موطِّئة للقسم؛ فدخلت هذه النون لأنها نون الرفع، فصار الفعل "تُبْلَوْنَ".
- ثم نُدخل نون التَّوكيد وهي نون مشدَّدة -يعني عبارة عن نونين والأولى منهما ساكنة- فاجتمعت ثلاث نونات، فلكثرة النونات حذفوا نون الرفع، وبقيت نون التَّوكيد، فالتقت نون التوكيد بواو الجماعة، ونون التَّوكيد أولها ساكن، وواو الجماعة ساكنة؛ فالتقى ساكنان، ولن نحذف الواو لأنَّه لا يجتمع حذفان على كلمة؛ لأنَّ في ذلك إجحاف بالكلمة، ولهذا نُبقي واو الجماعة، ونتخلَّص من الساكنين بالتَّحريك، فنُحرِّكها بالضَّم؛ لأنَّ الضَّم مناسب للواو، فيُقال: "تُبْلَوْ - تُبْلوُوا - تُبلَوُنَّ".
المثال الرابع: قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ [مريم: 26]، وهو خطاب لمريم -عليها الصلاة والسلام:
- أصل الفعل: "ترى" وهو فعل مُعتل الآخر.
- دخلت عليه ياء المخاطبة، وهي من الضمائر الساكنة، فالتقى ساكنان: آخر الفعل، وياء المخاطبة؛ فحذفنا آخر الفعل لالتقاء الساكنين، فصار الفعل "تَرَيْ".
- ولأن الفعل في الأصل من الأفعال الخمسة فيه نون، لكنها حُذِفَت للجزم، لأنَّ الفعل "ترين" واقع في فعل الشرط "إمَّا".
- ثم دخلَت نون التوكيد، وكما نعرف أنَّ نون التوكيد مبدوءة بنون ساكنة، وياء المخاطبة ساكنة، فالتقى ساكنان، وهنا ما تخلصنا من التقاء الساكنين بحذف الأول، وذلك لوجود حذف سابق، ولهذا أثبتنا ياء المخاطبة، وتخلصنا بالطريقة الأخرى وهي التَّحريك، وحرَّكنا بالكسر؛ لأن الكسر مناسب للياء، فقيل "تَرَيْ - تَرَيِ - تَرَيِنَّ".
المثال الخامس: قوله: ﴿وَلَا يَصُدُّنَّكَ﴾، هذا خطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام- والمتحدَّث عنهم هم الكفار، فنقول:
- الأصل هو الفعل "يَصُد".
- اتَّصلت به واو الجماعة، فصار "يصُدُّونَ"، مثل: "يفرُّون، يعدُّون، يصُدَّون"، وهو من الأفعال الخمسة مرفوع بثبوت النون.
- ثم دخلت "لا" النَّاهية، فحذفنا النون علامةً للجزم، فصار "لا يَصُدُّوا".
- ثم دخلت نون التوكيد، ونون التوكيد أولها ساكن، وواو الجماعة ساكنة، فالتقى ساكنان، فنتخلص بالتقاء الساكنين بحذف واو الجماعة، فالحذف هنا ممكن؛ لأن الكلمة ما فيها حذف سابق، فالتقت نون التَّوكيد بآخر الفعل -حرف الدال- فقيل: "لا يَصُدُّوا - لا يَصُدُّنَّكَ"؛ فهناك واو جماعة محذوفة لالتقاء الساكنة هي فاصلة بين الفعل ونون التوكيد، ولكن هذا الفاصل مقدر غير ملفوظ.
فهذه أمثلة ابن هشام، بذلك ننتهي من الكلام على إعراب الفعل المضارع، لننتقل إلى الكلام على الحرف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما الحرفُ: فيُعرف بأن لا يقبلَ شيئاً من علامات الاسم والفعل، نحوُ: "هل" و "بل". وليس منه "مهما" و"إذما"، بلْ "مَا" المصدريةُ و "لَمَّا" الرابطةُ في الأصح)}.
علامة الحرف المميِّزة مما شُرِحَ من قبل، ثم ذكر بعدَ ذلك شيئًا من الكلمات المختَلف في نوعها هل هي حرف أم لا، فذكر أربع كلمات، والخلاف فيها بين النَّحويين.
فائدة: إذا نصَّ على خلاف بقوله: "لغة لفلان، لغة لتميم، لغة لطي"، أو يقول: "عند تميم، عند الحجازيين"؛ فهذا يُعد من خلاف بين العرب.
أمَّا إذا كان الخلاف بين النحويين، فإمَّا أن يذكر النَّحوي الذي قال بذلك، وإمَّا أن يذكر الحكم على هذا القول، كأن يقول: "على الأصح...، أو الضعيف...، أو الصحيح...."، ونحو ذلك.
هنا قال: (في الأصح)، يعني أنَّ الخلاف في هذه الكلمات بينَ النَّحويين.
وذكر أبع كلمات:
- فرجَّح ابن هشام كلمتان عدم حرفيتهما "مهما" و"إذما"، لقوله: (وليس منه "مهما" و"إذما").
- ورجَّح حرفيَّة كلمتان، وهما: "ما" المصدرية"، و "لَمَّا" الرابطة.
نأخذها كلمة كلمة:
الكلمة الأولى: "مهما"، ومعروف أنها من أدوات الشرط، كقولك: "مهما تفعل تُجزَ به" فنحذف حرف العلة من الفعل "تُجزَ"؛ لأنَّه جواب الشرط.
والخلاف في ذلك:
* قيل: إنها حرف شرط؛ لأنها بمعنى: "إن" ولا يعود إليها الضمير.
* والأصح في ذلك عند المحققين أنَّها اسم؛ لأنَّه يعود الضمير إليها. ولا حاجة للتفصيل في ذلك.
الكلمة الثانية: "إذْما"، وهي أيضًا في أسلوب الشرط، ومعناها معنى: "إنْ"، كما تقول: "إنْ تجتهد تنجح" تقول كذلك: "إذْما تجتهدْ تنجحْ".
والخلاف في "إذْما":
- قيل: إنها حرف شرط؛ لأنَّها بمعنى "إنْ" في المعنى والاستعمال، وهذا هو الأصح عند المحققين، كابن هشام في كتابه العلمي "أوضح المسالك".
- وقيل: إنَّها اسم شرط، وهذا الذي رجَّحه ابن هشام في "قطر الندى"، فالعالم قد يختلف رأيه بين كتبه.
الكلمة الثالثة: "ما" المصدريَّة، يعني التي ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كقولك: "يسرُّني ما صنعتَ"، يعني: يسرني صُنعكَ.
والخلاف فيها:
- قيل: إنَّها اسم.
- والأصح أنَّها حرف، كما اختار ابن هشام؛ لأنها لا تحتاج إلى ضمير.
الكلمة الرابع هي: "لَمَّا"، قال ابن هشام عنها: ("لـمَّا" الرابطة)، يعني: "لـمَّا" الحينيَّة؛ لأنَّ "لـمَّا" لها استعمالات، ونحن نريد "لَمَّا" الحينيَّة التي تدل على الحين -يعني الوقت-، كقولك: "لَمَّا جاء زيدٌ أكرمته"، يعني: أكرمته حين جاء، أكرمته في وقت مجيئه، وتُسمَّى: (رابطة)؛ لأنَّ فيها معنى الشرط.
والخلاف فيها:
* قيل: هي اسم؛ لأنَّها بمعنى: "حين"، وتدل على وقت كالظروف.
* وقيل: حرف؛ لأنَّها تربط بينَ أمرين، وهذه وظيفة الحروف، والخلاف في ذلك قوي جدًّا.
والأصح عند ابن هشام هنا وفي كتبه الأخرى أنها حرف.
ثم تكلم بعدَ ذلك على بناء الحروف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وجميع الحروف مبنية)}.
الحروف جميعها مبنيَّة أصالةً وواقعًا، يعني: الأصل في الحروف حقَّها وفي القياس أن تكون مبنيَّة، وفي الواقع اللغوي العام كل الحروف مبنيَّة، كما قال ابن مالك:
وكل حرف مستحقٌ للبناء **...............
إلَّا أن عبارة ابن هشام أفضل من عبارة ابن مالك؛ لأنَّ ابن مالك بيَّن الحق، فقال: "وكل حرف مستحقٌ للبناء"، فأنا مُستحقٌّ لهذا الشيء، وكوني أخذته أو ما أخذته فهذا شيء آخر، ولهذا قال محمد بن محمد الغزي الذي شرح ألفية ابن مالك في عشرة آلاف بيت، فكل بيت شرحه في عشرة أبيات، وطُبعت هذه المنظومة، فيأتي بكلام ابن مالك وكلامه كأنه كلام واحد، ويسمونه الشرح الممزوج، فيقول: (وكـلُّ حـــرفٍ مُــسْــتَــحِـــقٌّ لـلـــبِــنَــا) لو قال: مبنيٌّ؛ لكان أحسنَ
فليس كل مستحق أمر ** يكون موصوفا بذاك الأمر
وبهذا نكون قد انتهينا من أنواع الكلمة -الاسم والفعل والحرف- والآن سينتقل شيخنا ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى الكلام على "الكلام".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (والكلام لفظ مفيد)}.
بعدَ أن عرَّف الكلمة، وعرفنا ما يتعلق بأحكامها كلمة كلمة؛ فإذا أخذنا هذه الكلمات وألَّفنا فيما بينها فإنَّنا سنخرج بالكلام الذي يُسمَّى: "الجُمَل".
والمراد بالكلام عند النَّحويين: اللفظ المفيد.
فقوله: "اللفظ"، يعني: القول الدَّال على معنى.
أما "القول" هو: الحروف الملفوظة من الفم، فكل حرف يُلفظ من الفم يُسمَّى: "قولًا".
لماذا سُمِّيَ القولُ لفظًا؟
لأنَّ الفم يلفظها، يعني: يرميها. لفظتُ الشيء، أي رميته. وتقول: هذا أمرٌ ملفوظ، يعني: مرمي.
فلابدَّ أن يكون الكلام حروفًا وأن يكون من الفم، فإن لم يكن حروفًا، فليس بقول وليس بلفظ وليس بكلام. وإن لم يكن من الفم، فليس قولًا وليس لفظًا وليس كلامًا.
قوله (الدَّالُّ على معنى)، يعني: له معنى، فبعض الكلمات لها معنى وبعضها ليس له معنى.
قوله (مفيد)، يعني: أنَّ هذا القول لابدَّ أن يدلَّ على معنى كامل.
فهذا هو الفرق بين الدلالة على المعنى وبين "المفيد"، فالدلالة على المعنى: يعني أنَّ هذا الشيء له معنى، وقد يكون المعنى كاملًا وقد يكون ناقصًا.
فأنا إذا قلتُ لكم: "قلم"؛ تفهم أن القلم أداة كتابة، وتكون فهمت جزءً من المعنى، ولكن المعنى ما اكتمل إلى الآن، فهذا معنى ناقص، فهذا لفظ -أو قول- دلَّ على معنى ما.
أمَّا الكلام فلا بد أن يكون مُفيدًا، دالًّا على معنًى تام، ونعرف المعنى التَّام بإمكان الوقوف عليه، كأن تقول: "سقط القلم. أو: هذا قلمٌ. أو: رأيتُ قلمًا".
فهذا معنى قولهم: (الكلام لفظٌ مفيدٌ)، يُريدون أن يُخرجوا ما سوى ذلك، كالصُّراخ والصَّفير، ونحو ذلك.
فإن قلتَ: لماذا يُعرِّفون النَّحويون دائمًا في أول كتبهم الكلام؟ هل أحد ما يعرف الكلام؟
الجواب: لأنَّهم يُريدون أن يُبينوا موضع النَّحو، فالنَّحو الذي سندرسه الآن، والأحكام التي سندرسها من رفع وجر ونصب وبناء وإعراب؛ كلها نطبقها على الكلام فقط، فلا تُطبَّق على السيَّارات ولا الذَّوات ولا على الكلام، فالكلام عند النَّحويين هو: اللفظ المفيد، وما ليس بلفظٍ مفيدٍ فلا تطبِّق عليه هذه الأحكام، فلا تُطبَّق الأحكام الكلام من رفعٍ ونصبٍ وجر...، إلى آخره؛ على الصفير أو على الضَّحك أو على اللغات الأعجميَّة، كأن ترفع الفاعل في اللغة الإنجليزيَّة! لأنَّ هذا لا يُسمَّى عند النَّحويين كلامًا، ليس لأنها لا تدل على معنى، بل إنَّها تدل على معنى، فإنَ الإشارة تدل على معنى، وهزَّة الرأس تدلُّ على معنى، ولكن لأن الكلام في اصطلاح النَّحوين هو الذي يُطبَّق عليه الأحكام التي سندرسها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأقلُّ ائتلافه من اسمينِ كـ "زيدٌ قائمٌ"، أو فعل واسم كـ "قامَ زيدٌ")}.
هذا تكميلٌ للفائدة السابقة.
يقول: الكلام الذي نُؤلِّفه من كلمات في الواقع اللغوي من حيث الكثرة لا نهاية له، أمَّا من حيثُ القلَّة فأقل ما يُمكن أن يتألَّف منه أن يتألَّف من اسمين أو من اسمٍ وفعلٍ.
فـ "اسم وفعل" جملة فعلية، مثل: نجح محمد.
و"الاسمين" جملة اسمية، مثل: محمدٌ ناجحٌ.
وهذا أقل ما يُمكن أن يكون عليه، قد تزيد على ذلك حروفًا وأفعالًا، ومعنى ذلك: أنَّه لا يُمكن في الواقع اللغوي أن تتكوَّن الجملة من حرف واسم، أو حرفٍ وفعلٍ، أو من فعلٍ، أو من اسمٍ، أومن حرفٍ.
فإن قلتَ: قولك: "لا تلعب" هذا حرف وفعل، وكلام مفيد!
نقول: هذه ثلاث كلمات، ولكن الكلمة الثالثة مستترة وهي الفاعل، والمستتر كالظاهر، فالمستتر موجود، وعندما نقول "محذوف" فهو موجود؛ لأنَّه لو لم يكن موجودًا لم يكن مستترًا ولا محذوفًا، بخلاف المعدوم، فإنَّ المعدوم غير موجود.
كذلك لو قلتَ: "اجلِسْ"، فلا نقول: إنَّ الجملة مكوَّنة من فعلٍ فقط؛ بل نقول: مكوَّنة من فعلٍ وفاعل مستتر، أي: مكوَّنة من فعلٍ واسمٍ.
وإذا قلتَ: "يا محمد" فهل هو حرف واسم؟
نقول: هذا الحرف أصلًا ما أفاد إلَّا لأنَّه بمعنى الفعل كــ "أدعو. أو: أنادي".
انتهينا من المسألة الأولى وهي: انقسام الكلمة إلى اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ، وميَّز بينها، وذكرَ أهمَّ ما يتعلَّق بها من إعرابٍ وبناء.
والآن سيجعل هذا الباب خاصًّا بالإعراب، سيذكر أحكام الإعراب -أحكام الرفع والنصب والجزم- ويذكر علامات الإعراب، وسيبدأ بالكلام على أنواع الإعراب -يعني الأحكام الإعرابيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصلٌ: أنواع الإعراب أربعة: رفعٌ ونصبٌ في اسمٍ وفعلٍ نحوُ "زيدٌ يقومُ" و "إن زيداً لن يقومَ"، وجرٌّ في اسم نحو "بزيدٍ"، وجزمٌ نحو "لم يقمْ")}.
يقول العلماء دائمًا في كتبهم: "فَصْلٌ" ثم يُكملون. ما إعراب كلمة "فصلٌ"؟
الجواب: خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هذا فصلٌ.
وهذا الأمر نبَّهنا عليه في حذف المبتدأ، فأكثر ما يُحذف المبتدأ في العناوين وما في حكمها:
مثل: "بابُ الصلاةِ"، يعني: هذا بابُ الصَّلاة.
مثل: "قطر النَّدى"، يعني: هذا قطر النَّدى.
مثل: "جامعةُ الإمامِ"، يعني: هذه جامعةُ الإمامِ.
قال ابن هشام هنا: (أنواع الإعراب أربعة)، يعني: الأحكام الإعرابيَّة الموجودة في لغة العرب أربعة، وهي: الرفع والنَّصب والجر والجزم.
والجر: يُعبِّر عنه كثيرٌ من النَّحويين بــ "الخفض"، والمعنى واحد.
سؤال: هذه الأحكام الإعرابيَّة -الرفع والنَّصب والجر والجزم- هل تدخل على كل الكلمات، أي: على جميع الأسماء وجميع الأفعال وجميع الحروف؟ أم على بعضها؟
الجواب: تدخل على بعضها دون بعضٍ.
السؤال التالي -وهو أهم: هذه الأحكام تدخل على بعض الكلمات؛ فما هذا البعض؟
الجواب: تدخل على الأسماء كلِّها، وعلى المضارع كلِّه، أماَّ الفعل الماضي والحروف وفعل الأمر لا تدخلها الأحكام الإعرابيَّة، لا رفع ولا نصب ولا جر ولا جزم، لهذا قال ابن هشام (رفعٌ ونصبٌ في اسمٍ)، أي الأسماء.
قال: (وفعلٍ نحوُ "زيدٌ يقومُ")، أي: الفعل المضارع، ولو قال: "في اسمٍ ومضارع"، لكان أفضل، ولكنه تبع النحويين في ذلك، حتى ابن مالك قال في الألفية:
والرفْعَ والنصْبَ اجْعَلَنْ ... إعرابَا لاسمٍ وفِعلٍ
يريد بقوله: "وفعل" أي: المضارع.
ثم قال: (وجرٌّ في اسم نحو "بزيدٍ")، أي: الأسماء.
قال: (وجزمٌ نحو "لم يقمْ")، أي: الفعل المضارع.
إذًا؛ هذه الأنواع الأربعة تدخل في الإجمال على الأسماء كلها وعلى المضارع كله، ثم نفصِّل فنقول:
- أمَّا الأسماء: فلا يدخلها إلا الرفع والنصب والجر، ولا جزمَ فيها.
- وأمَّا المضارع: فيدخله الرفع والنصب والجزم ولا جرَّ فيه، كما قال ابن مالك في ألفيَّته:
والاسْمُ قدْ خُصِّصَ بالجَرِّ كما ... قدْ خُصِّصَ الفِعْلُ بأنْ يَنْجَزِمَا
وهذا من عدل العربيَّة، فحرمت الأسماء من حكمٍ، وحرمت المضارع من حكم، فحدث التَّعادل بذلك.
ما الدليل على دخول الأحكام الإعرابيَّة على المبني من الأسماء والمضارع؟
قد يُقال: إنَّ الأحكام الإعرابيَّة إنما تدخل على المعرب من الأسماء والمضارع دون المبني من الأسماء والمضارع؛ فلماذا نقول: إن الأحكام الإعرابيَّة تدخل على كل الأسماء المعربة والمبنية وعلى كل المضارع معربًا ومبنيًّا؟
الجواب: هذا واقع اللغة، فأنت إذا قلت مثلًا: "ذهبَ محمدٌ"، إعراب "محمد" فاعل، وحكمه الرفع، فالرفع قد دخل "محمد" لوقوعه فاعلًا.
ذلك لو قلت: "ذهبَ هؤلاءِ" فــ "هؤلاءِ" اسم مبني، وإعرابه فاعل، وحكم الفاعل الرفع، فالرفع قد دخل "هؤلاءِ".
إذًا؛ الأحكام الإعرابية تدخل المعرب والمبني، إلَّا أنَّ الفرق في دخولها:
- أنها إذا خلت على المعرب تؤثِّر في لفظه، أي تُكسبه علامة الإعراب المناسبة رفعًا وجرًّا ونصبًا وجزمًا.
- وإذا دخلت على المبني فلا تُؤثر في لفظه؛ لأنَّ المبني يلزم حالة واحدة، ولا يتأثَّر بالإعراب.
وهذا قد شرحناه من قبل، وفي شرح المبتدئين حصرنا المعربات حصرًا، وحصرنا المبنيَّات حصرًا، فلا حاجةَ لإعادة كل ذلك.
السؤال التالي: سلَّمنا بأنَّ هذه الأحكام تدخل على الأسماء كلها وعلى المضارع كله معربًا ومبنيًّا، فلماذا دخلت هذه الأحكام على المضارع وعلى الأسماء فقط، ولم تدخل على الماضي ولا الأمر ولا الحروف؟
الجواب: لأنَّ هذا واقع اللغة، يعني أنَّ العوامل التي ترفع وتنصب وتجر وتجزم إنَّما تدخل على الأسماء والمضارع فقط، فالاسم يدخله الرافع كالفعل، فالفعل يدخل على الاسم فيرفعه فاعلَا، مثل: الفعل "جاء" يريدُ اسمًا يقع فاعلًا، فتقول "جاءَ محمدٌ"، والفعل "رأيتُ" يريد اسمًا يقع عليه الفعل ليكونَ مفعولا به، تقول "رأيتُ خالدًا"، والفعل "سلَّمتُ على" يُريد اسمًا ينجرُّ، فتقول "سلَّمتُ على المهندسين". كذلك "لنْ" يدخل على المضارع فينصبه، تقول "لنْ أذهبَ" و"لـمْ" يدخل على المضارع فيجزمه "لمْ أُهملْ".
ولكن هذه العوامل -كل ما يرفع أو ينصب أو يجزم- لا تدخل على الماضي، ولا على الأمر، ولا على الحروف؛ يُمكن أن تقول "لنْ أذهبَ"، لكن ما تقول "لنْ اذهب" أو "محمدٌ لمْ ذهبَ"؛ فهذا لا يأتي، ولا يُمكن أن تقول "سلَّمتُ على جلسَ زيد"، أو "سلَّمتُ على في الغرفة"؛ فهذا لا يأتي.
لهذا فإنَّ الأسماء حينما تقع عليها العوامل فإنَّ الإعراب يقع عليها، وكذلك المضارع؛ أمَّا الماضي والأمر والحروف فلا يقع عليها العوامل هذه، فلهذا لا يدخلها حكمٌ إعرابيٌّ.
هل جميع الأسماء لها حكمٌ إعرابي بناء على كلامنا؟
الجواب: نعم، الأصل في الأسماء أن يكون لها حكمٌ إعرابي -رفعٌ أو نصب أو جر- وسيأتي في التفاصيل أن هناك بعض الأسماء ليس لها محل من الإعراب على خلافٍ بين النَّحويين أيضًا، كأسماء الأفعال، فبعضهم قال: إنَّها لا محل لها من الإعراب، وبعضهم قال: إنَّ لها إعراب، مثل: ضمير الفصل "محمدٌ هو القائمُ" فــ "هو" ضمير فصلٍ، ومختلف فيه هل له محل من الإعراب أو لا.
هل الحرف لا محل له من الإعراب اتِّفاقًا؟
نعم، اتفاقًا لا محل له من الإعراب.
هل الماضي لا محل له اتِّفاقًا؟
نعم، اتِّفاقًا لا محل له، إلَّا في موضع واحد اختلفوا فيه، وهو: إذا وقعَ الفعل الماضي فعل شرطٍ أو جواب شرطٍ، كقولك: "إنْ ذهبَ زيدٌ ذهبَ عمرو، وإنْ قامَ زيدٌ جلسَ عمرو"، فالماضي هنا وقع فعل شرطٍ ووقع جواب شرطٍ، فكثير من النحويين المحققين يقولون: إنَّه في محل جزم، يعني: إن الجزم وقع على الفعل الماضي نفسه وليس على الجملة، وبعضهم يقول: وقع على الجملة؛ فاختلفوا في هذا الموضع فقط.
هل فعل الأمر لا محلَّ له اتِّفاقًا؟
فيه خلاف، وقول البصريين هو القول الصَّح وهو أنَّه لا محل له من الإعراب.
وقال الكوفيُّون: له حكم إعرابي وهو الجزم، وعندما نقرأ في كتب الكوفيين إذا أعربوا الفعل المضارع قالوا: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه كذا...؛ لأنَّهم يرونه مجزومًا، كما في إعراب "الطَّارقيَّة" لابن خالويه؛ لأنَّهم يُخالفون في مسألة سابقة، وهي أنَّهم يرون أنَّ الأفعال "ماضٍ ومضارع" فقط، والبصريون يرون أنَّ الأفعال "ماضٍ ومضارع وأمر" ففعل الأمر عندهم قسمٌ مستقل، وبعض الكوفيين يقول: الأفعال ثلاثة "ماضٍ ومضارع ودائم"، ويُريدون بــ "الدَّائم" اسم الفاعل، والصحيح أنَّ اسمَ الفاعل اسمٌ.
أين فعل الأمر عند الكوفيين؟
نقول: هو موجودٌ في اللغةِ، ولكنه ليس قسمًا مُستقلًّا، وإنما هو نفسه الفعل المضارع، فأنت إذا قلت: "اذهب" في الدلالة على الأمر هو نفسه قولك: "لِتَذْهب" حذفنا اللام لكثرة الاستعمال، ثم حذفنا التاء للفرق بين صيغة المضارع والأمر، فبدأ الفعل بساكن، فجئنا بهمزة الوصل، فصارت "تذهب"، وإعراب "اذهب" عندهم: فعل مضارع دل على الأمر، مجزوم وعلامة جزمه السكون، وهو مجزوم بلام الأمر المحذوفة عندهم، وهذا من أقوالهم الضعيفة.
وتكلَّمنا في شرح المبتدئين في النحو الصغير على خط الإعراب، وهو مٌهمٌّ جدًّا لفهم الإعراب، فلهذا أنصح الإخوة بمراجعته، ولا حاجة لإعادة الكلام عليه، فإنَّ الكلام على طريقة الإعراب وأركانه ومصطلحاته وأهم ضوابطه من أهم ما ينبغي أن ينتبه الطالب إليه في هذا الباب؛ لأنَّه يُدرَس في باب المعرب والمبني، ولي محاضرةٌ مستقلَّة بهذا العنوان: "الإعراب: أركانه وطريقته، وبعض ضوابطه"، وهي منشورة في النت.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَيُرْفَعُ بضمةٍ، ويُنصبُ بفتحةٍ، ويُجَرُّ بكسرةٍ، ويُجْزَمُ بِحَذْفِ حَرَكَةٍ)}.
الآن بعدَ أن انتهى من الكلام على الأحكام الإعرابيَّة؛ انتقل إلى الكلام على علامات الإعراب، وسنجد أنَّ ابن هشام سيُقسِّم علامات الإعراب تقسيمين:
التقسيم الأول باعتبار الأصالة إلى: أصليَّة وفرعيَّة.
التقسيم الثاني باعتبار الظَّهور إلى: ظاهرة ومقدَّرة.
وبدأ هنا بالكلام على علامات الإعراب الأصليَّة.
نسأل: لماذا سموها "علامات" ولماذا سموها "أصليَّة"؟
الجواب:
علامات: جمع علامة، والعلامة مأخوذة من العلم، وقيل من العَلَم -وهو الجبل- والمعنى متقارب، يعني أنَّه علامات الإعراب تُعلِمُ بالحكم الإعرابي الذي دخل الكلمة، فعندما نقرأ "محمدٌ رسولُ اللهِ"، فمنذُ أن نجد أنَّ علامة الضَّمة نعرف أن الحكم الإعرابي هو الرفع "رسولُ" حكمه الرفع، ولفظ "اللهِ" حكمه الجر.
وفي قوله: "أتعلمون أنَّ صالحًا مرسلٌ من ربِّهِ":
"صالحًا" علامته الفتحة، فيكون حكمه النصب.
"مرسلٌ" علامته الضمة، فيكون حكمه الرفع.
"ربِّ" علامته كسرة، فيكون حكمه الجر.
فالعلامة تُعلِمُ بالحكم الإعرابي، ولكن علامات الإعراب -كما عرفنا- لا تكون إلَّا على المعربات، والمعربات -كما عرفنا- لا تكون إلا في الأسماء المعربة والمضارع المعرب.
لماذا سُمِّيَت "أصليَّة"؟
الجواب: الأصل في الشيء يعني الأكثر فيه، ولهذا لا نسأل عن سببه؛ لأنَّه جاء على أصله، وإذا خرج الشيءُ عن أصله -يعني عن حالته الكثيرة- صارَ ذلك فرعًا فيه غير أصلي، فأكثر الأسماء المعربة، وأكثر الأفعال المضارعة هذه علامات إعرابها، فالعرب تضع في الرفع الضَّمة "يذهبُ محمدٌ"، وفي النصب تضع الفتحة "إنَّ محمدًا لنْ يذهبَ"، وتضع في الجر الكسرة "سلَّمتُ على محمدٍ"، وفي الجزم يضعون سكونًا "محمدٌ لـمْ يذهبْ".
ابن هشام هنا أغربَ بقوله: (ويُجْزَمُ بِحَذْفِ حَرَكَةٍ)؛ لأنَّه ما استعمل الاصطلاح المشهور "ويُجزَم بسكون"، كأنَّه أراد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُبيِّن وينبِّه الطالب أن السكون ليس بحركة، فإنَّ الحركات ثلاثة "ضمة وفتحة وكسرة: اُ اَ اِ"، أمَّا السكون فليس بحركة، وإنَّما هو خلوِّ الحرف من الحركة، فالحرف إمَّا متحرِّك -أي عليه حركة، ضمة أو فتحة أو كسرة- أو خالٍ من الحركات، فإذا خلا من الحركات فهو ساكن، ولهذا نجد الخليل -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عندما وضع رموز الحركات المستعملة إلى الآن "الضمة والفتحة والكسرة" وضع رمز السكون "رأس خاء" كما يُكتب في المصاحف الآن، يعني: خالي، ثم تطوَّرت السكون إلى الدائرة لأنها أسهل في الكتابة.
فابن هشام يريد بقوله: (ويُجْزَمُ بِحَذْفِ حَرَكَةٍ)، يعني: السكون.
فهذه هي العلامات الأصلية، ثم سينتقل الآن إلى الكلام على علامات الإعراب الفرعيَّة بابًا بابًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلا:- الأسماءَ الستة...)}.
قوله (إلَّا)، هذا استثناء.
قال: (الأسماء الستة)، ثم عطف عليها بقيَّة أبواب علامات الإعراب الفرعيَّة، فقال: (
- والمثنى...
- وجمعَ المذكر السالِمَ...
- وأولاتُ وما جُمِعَ بألفٍ وتاء مَزِيدَتَيْنِ...
- وما لا ينصرفُ...
- والأمثلةَ الخمسةَ...
- والفعلَ المضارعَ المعتلَّ الآخرِ فيجزم...).
فكل هذا بالنَّصب -كما سيأتي- والذين حقَّقوا الكتاب بعضهم يضبطها بالنصب على الصواب، وبعضهم قد يُخطئ، وينسى هذا العطف لطوله فيرفع، فكلها معطوفة على قوله (الأسماءَ الستة)، وهذا منصوبٌ على الاستثناء.
إذًا؛ العلامات الفرعيَّة النِّيابيَّة تكون في سبعة أبواب مذكورة هنا، خمسة من هذه الأبواب أسماء، واثنان من هذه الأبواب أفعال مضارعة، وعرفنا أنَّ الإعراب لا يكون إلا في الأسماء والمضارع أصلًا، ولهذا لا يُتصوَّر أن يكون شيءٌ منها في الماضي أو الأمر أو الحروف.
لماذا سموا هذه العلامات "فرعيَّة"؟
الجواب: لأنَّها ليست أصليَّة، و"فرعيَّة" يعني: قليلة، والفرع قليل بالنَّظر إلى الأصل.
وتسمَّى "نيابيَّة"؛ لأنَّ هذه العلامات نابت عن العلامات الأصليَّة في الدلالة على حكم إعرابي، فأنت إذا قلت في جمع المذكر السالم: "جاء المهندسون" عندما نسمع "المهندسون" نعرف أن الحكم هو الرفع من الواو، فالواو نابت عن الضَّمة في الدلالة على الرَّفع، وهكذا...
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلَّا:
- الأسماءَ الستة، وهي أبوه وأخوه وحموها وهَنُوه وفوه وذو مال، فتُرْفَع بالواو وتُنْصَب بالألف وتُجَر بالياء. والأفصحُ استعمالُ هَنٍ كَغَدٍ)}.
هذا هو الباب الأول من أبواب علامات الإعراب الفرعيَّة: الأسماء الستَّة، عدَّها فقال: (أبوه وأخوه وحموها وهَنُوه وفوه وذو مال).
هل هي خمسة أو ستة؟
بعض النحويين يقول: الأسماء الخمسة. وبعضهم يقول: الأسماء الستة.
والجواب: أنهم اختلفوا في "الهن" والذين اختلفوا في ذلك هم العرب، وتبعًا لذلك اختلفت تسمية النحويين:
- فأكثر العرب يُعربون كلمة "الهَن" بعلامات الإعراب الأصليَّة، يقولون: "هذا هنٌ، ورأيتُ هنًا، ونظرتُ إلى هنٍ"، كما قال ابن هشام: (والأفصحُ استعمالُ هَنٍ كَغَدٍ)، يعني: إعرابه بالحركات الأصليَّة.
- وبعضُ العرب يُعربه بالحروف كالأسماء الستَّة، فيقول: "هذا هنُوك، ورأيتُ هَنَاكَ، ونظرتُ إلى هَنِيكَ". فمَن أخذ بهذه اللغة صارت الأسماء عنده ستَّة، ومن أخذ بلغة أكثر العرب صارت الأسماء عنده خمسة، والخلاف في ذلك سهلٌ.
ما معاني هذه الأسماء؟
"الأب" و"الأخ": معناهما واضح.
"الحم": هو قريب الزَّوج بالنسبة للزَّوجة، فأقرباء الزوج كلهم أحماءٌ للزوجة، أبوه، أمه، أخوه، إخوته، أخواته، أعمامه.
والمفرد منه: حَمٌ. ويُقال: حمو. ويُقال: حمأ. ويُقال: حماءٌ.
ويُجمع على: أحماءٌ.
والمؤنَّث: حماة.
وقال بعض اللغويين: قد تُطلق أيضًا على أقرباء الزوجة بالنسبة للزوج، يعني الزوج يقول لأقرباء زوجته: أحمائي.
ومن ذلك استعمال الناس الآن لأم الزوجة، أن يقول الرجل: حـماة.
والمشهور في اللغة أنَّ أقرباء الزوجة بالنسبة للزوج: أختانٌ.
والمفرد: خَتَن.
والمؤنث: ختَنَةٌ.
والجمع: أختان.
أما الصِّهر -ويُجمع على أصهار: فهو كل مَن بينكَ وبينه زواج، يعني أقرباء الزوجة وأقرباء الزوج كلهم أصهار.
و"الهن": كلمة يُكنَى بها عمَّا يقبُح التَّصريح به، كالعورات والكلمات القذرة وما إلى ذلك، ومن ذلك الحديث «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ بِهِنِّ أَبِيهِ، وَلَا تَكْنُوا»، وهذه الكلمة ما زالت مستعملة عند الناس بهذا المعنى.
و"فوه": هو الفم، فكلمة "فم" قد تُحذف الميم ويُعوَّض عنها بالواو وتدخل في الأسماء الستة، فإذا بقيت الكلمة على أصلها "فم" فتعرب بالحركات الأصليَّة "هذا فمٌ، ورأيتُ فمًا، ونظرتُ إلى فمٍ"، وكبقيَّة الأسماء يُضاف ولا يُضاف، تقول: "هذا فمٌ، وهذا فمُ زيدٍ".
أمَّا لو حذف الميم وعُوِّضَ عنها بالواو فحينئذٍ تكون من الأسماء الستَّة وتلزم الإضافة، فما تقول "هذا فوٌّ" مثل "فمٌ"؛ وإنما تقول "هذا فوه. أو: فو زيدٍ"، ونحو ذلك.
وأما "ذو": بمعنى صاحب.
هذه معانيها، وبقي الكلام على شروطها، فنتوقف على الكلام على شروط الأسماء الستة في الدرس القادم -بإذن الله- نراكم -إن شاء الله- على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما أفدتم.
وفي الختام نشكر لكم أعزائي المشاهدين طيب المتابعة على أمل أن نلقاكم في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.