الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سليمان بن عبدالعزيز العيوني

إحصائية السلسلة

5471 22
الدرس الثامن عشر

قطر الندى

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".

في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.

أهلًا وسهلًا وحيَّاكم الله وبياكم أنتم والإخوة المستمعين والمستمعات والمشاهدين والمشاهدات.

{في الحلقة الماضية توقفنا فضيلة الشيخ عند تمييز "كم" الاستفهاميَّة، قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (ومنه تمييزُ كَمِ الاستفهاميةِ نحوُ "كَمْ عبدًا ملكتَ؟". فأما تمييز الخبريةِ فمجرورٌ، مفردٌ كتمييز المئةِ وما فوقَها، أو مجموعٌ كتمييز العشرةِ وما دونها. ولك في تمييز الاستفهاميةِ المجرورةِ بالحرفِ جرٌّ ونصبٌ)}.

بسم الله الرحمن الرحيم.

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد؛ فحيَّاكم الله في الدرس الثامن عشر من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -عليه رحمة الله-، ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبثُّ من مدينة الرياض في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.

كنا في الدرس الماضي توقفنا عند هذه المسألة، فتكلمنا على تمييز "كم" الاستفهاميَّة، وتمييز "كم" الخبرية، لكن بقي الكلام على تمييز الأعداد التي أدخلها في داخل الكلام، فنحن نحرر ذلك ونقول: إن تمييز الأعداد فيه تفصيل سهل وواضح:

- الواحد والاثنان: لا تمييز لهما، تقول: "جاء رجلٌ واحدٌ، جاء واحدٌ من الرجال" لا يأتي بعدها تمييز لا منصوب ولا مجرور.

- الثلاث إلى العشرة: فتمييزها مجموعٌ مجرورٌ، فتقول: "جاءني خمسةُ رجالٍ، وهذه سبعةُ أبوابٍ".

- الأعداد من أحد عشر إلى تسعةٍ وتسعين، ويشمل الأعداد المركبة وألفاظ العقود، والأعداد المتعاطفة: كلها تمييزها واحد وهو مُفردٌ منصوبٌ، كما في قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف/4]، وقوله: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور/4]

، وقوله: ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص/23].

- أما المائة والألف: فتميزها مفردٌ مجرورٌ، "مائةُ رجلٍ، وألفُ امرأةٍ".

هذا تمييز الأعداد، وأمرها واضح، وقلَّما يقعُ فيها الخطأ؛ لأن السليقة ما زالت تأتي به على الصواب.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويكون التمييزُ مفسِّرًا للنسبة مُحَوَّلًا كـ ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾، ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾، ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا﴾، أو غيرَ مُحَوَّلٍ نحوَ "امتلأ الإناء ماءً")}.

النوع الثاني في التمييز هو: تمييز النسبة، ويكون إذا كان الإبهام ليس في كلمةٍ معيَّنةٍ، وإنَّما في نسبةِ فعلٍ إلى اسمٍ، مثال ذلك: "طابَ زيدٌ" فـ "زيدٌ" شخص معروف، و"طاب" من الطيبة وهي ضد الخبث وهي معروفة.

والإبهام في الجهة التي نسبت منها الطيبة إلى "زيد"، فزيدٌ طابَ من جهة النسب أو من جهة العلم أو من جهة الخلق؟ فالإبهام من الجهة التي نسبتَ الفعل منها إلى الاسم، فيُمكن أن تقول: "طابَ زيدٌ نسبًا، أو: طابَ زيدٌ خلقًا، أو: طابَ زيدٌ فعلَا، أو: طاب زيدٌ علمًا، أو: طابَ زيدٌ نفسًا".

ولكي نفرق بين تمييز النسبة وتمييز الذات، نقول: إن تمييز الذات هو الذي تُقدِّر معه "من"، وتمييز النسبة تقدر معها "من جهةِ"، فقولك: "جاء عشرون رجلًا" يعني: جاء عشرون من الرجال. وفي قوله: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾، يعني: رأيتُ أحدَ عشر من الكواكب.

أما النسبة فتقدِّر "من جهة" فتقول: "طابَ زيدٌ نفسًا" يعني: من جهة النفس، وفي قوله: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم/4]، يعني: اشتعل الرأسُ من جهةِ الشَّيب. وفي قولك: "تصبَّبَ زيدٌ عرقًا"، يعني: تصبَّبَ من جهة العَرَقِ.

فهذا هو المراد بتمييز النسبة، وهذا ضابطها.

وتمييز النسبة له مواضع، منها:

الموضع الأول: أنَّ كل اسمٍ محوَّلٍ من فاعلٍ فهو تمييز، فإذا جاءك اسمٌ منصوبٌ محوَّلٌ من فاعل -يعني: كان في الأصل فاعلًا لهذا الفعل المتقدم- فهو تمييز، وسمَّاه ابن هشام (مُحوَّلًا) كقوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾، فالذي اشتعل هو شيبُ الرأسِ.

فالأصل في الكلام "اشتعلَ شيبُ الرأسِ"، ثم أخذنا الفاعل وأخَّرناه ونصبناه، فقلنا "اشتعل الرأسُ شيبًا"، فـ "شيبًا" اسمٌ منصوب، لكنه محولٌ من فاعل.

وكذلك في قولك: "طابَ زيدٌ نفسًا"، فالأصل: طابتْ نفسُ زيدٍ.

وكذلك "تصبَّبَ زيدٌ عرقًا"، الأصل: تصبَّبَ عرقُ زيدٍ.

الموضع الثاني: الاسم المنصوب المحوَّل من مفعول به، كقوله: تعالى ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر/12]، يعني: فجرنا عيونَ الأرضِ. وكقولك: "زرعتُ الأرضِ شجرًا"، يعني: زرعت شجرَ الأرضِ.

الموضع الثالث: الاسم المنصوب المحوَّل من مبتدأ. أو نضبط الكلام فنقول: الاسم المنصوب بعدَ "أفعل" التفضيل، مثل: "أكبر، أصغر، أجمل، أقبح"؛ فإذا جاء بعدها اسم منصوب فهو تمييز؛ لأنه محوَّلٌ من مبتدأ، كقوله تعالى: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا﴾ [الكهف/34]، فـ "مالًا" اسم منصوب بعد "أكثر" وهو على وزن "أفعل".

والأصل: "مالي أكثر من مالك"، ثم حذفنا المبتدأ "مالي" وأخرناه ونصبناه، فقلنا: "أنا أكثر منك مالًا".

وكقولك: "زيدٌ أجمل من محمدٍ وجهًا"، يعني: وجه زيدٍ أجمل من وجه محمد.

وقد يأتي تمييز النسبة غير محوَّلٍ من شيء، لا من فاعل، ولا من مفعولٍ به، ولا من مبتدأ؛ وهذا قليل، كقولهم "امتلأ الإناءُ ماءً"، وليس الأصل: امتلأ ماءُ الإناء. وكقولك: "امتلأ القصرُ رجالًا.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقد يؤكِّدان نحوُ ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وقولِه: "من خير أديانِ البرية دينًا"، ومنه "بئس الفحلُ فحلُهم فحلًا" خلافًا لِسِيبَوَيْهِ)}.

هنا ذكر أمرًا يتعلق بالمعنى وليس بالنحو، فيقول: إنَّ الحال تبين صفة صاحبها وقت الفعل، والتمييز يرفع الإبهام عن شيءٍ سابق؛ لكنهما قد يأتيان للتوكيدِ، يعني أن هذه الكلمة لا تأتي بمعنًى جديد، ومعنى الجملة مفهوم من دونها، وأُتيَ بها لتقوية المعنى وتأكيده وتحقيقه.

مثال ذلك: "أيام الشهر ثلاثون يومًا"، فلو قلت: "أيام الشهر ثلاثون" وسكت، فواضح أنها ثلاثون يومًا، فـ "يومًا" للتوكيد، وليس لمعنى جديد، وليس كقولك: "جاءني عشرون" لا تعرف حتى أقول "رجلًا، أو امرأة، أو مهندسًا".

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، فـ "مفسدين" حال من فاعل "تعثوا"، لكن واضح أنهم مفسدين لأنهم عثوا في الأرض.

ومن ذلك قول الشاعر أبو طالب عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا

فـ "دينَا" اسم منصوب وقع تمييزًا؛ لأنه بعد "أفعل" للتفضيل؛ لأن "خير" أصلها: أخير.

وقوله: "مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا" فواضح أنه أراد "دين"؛ لأنه قال في الأول: "أديان".

ومن ذلك أيضًا قول الشاعر في الذم:

وَالتَغلِبِيّونَ بِئسَ الفَحلُ فَحلُهُمُ ... فَحلًا وَأُمُّهُمُ زَلّاءُ مِنطيقُ

فـ "فحلًا" تمييز، وهو تمييز معروف، لأنه قال "بِئسَ الفَحلُ فَحلُهُمُ".

فهذا من التمييز الذي للتوكيد وليس لمعنى جديد.

ومن ذلك أن تقول: "تبسَّمتُ ضاحكًا"، فـ "ضاحكًا" دلَّ عليه ما قبله من قولك: "تبسَّمتُ".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والمستثنى بـ "إلا" من كلامٍ تامٍّ موجَبٍ نحو ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾. فإن فقد الإيجاب تَرجَّحَ البدلُ في المتصل نحو ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ والنصبُ في المنقطع عند بني تميمٍ -ووجب عند الحجازيين- نحو ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾،ما لم يتقدم فيهما فالنصبُ، نحوُ قوله: "وما لي إلا مشعب الحق مشعبُ"، أو فقد التمام فعلى حسب العوامل نحو ﴿وما أمْرُنا إلا واحدةٌ﴾ ويسمى مُفَرَّغًا.

ويستثنى بـ "غير وسوى" خافِضَيْنِ، مُعْرَبَيْنِ بإعراب الاسم الذي بعد "إلا". وبـ "خلا وعدا وليس وحاشا" نواصبَ وخوافضَ. وبـ "ما خلا" وبـ "ما عدا" و "ليس" و "لا يكون" نواصبَ)}.

هذا هو باب الاستثناء، وسبق شرحه في شرح المبتدئين، وبيان أداوته وحكم المستثنى، وليس فيما قاله ابن هشام هنا جديد، إلا في مسائل معينة هي التي سنقف عندها.

المسائل الجديدة التي زادها ابن هشام هنا:

- الكلام على الاستثناء المنقطع.

- الكلام على حكم المستثنى إذا تقدَّمَ على المستثنى منه.

- الكلام على الاستثناء بـ "ليس" و "لا يكون".

فهذا الذي سنركز عليه، وما سوى ذلك سنمرُّ عليه بسرعة.

المسألة الأولى: أداوت الاستثناء.

كما ذكرنا من قبل أن أداوت الاستثناء هي: "إلا، غير، سوى، خلا، عدا، حاشا".

وزاد ابن هشام هنا "ليس" و "لا يكون"؛ ولهذا سنخصهما بكلام.

نبدأ بالاستثناء بـ "إلا" لأنها أم أداوت الاستثناء.

وليس فيما ذكر ابن هشام جديد، فالاستثناء إما أن يكون:

- تامًّا موجبًا: فيجب نصب المستثنى، نحو "جاء الرجال إلا خالدًا".

- تامًّا غير موجب: ويكون في المستثنى حينئذٍ وجهان:

* البدل -وهو الأكثر: "ما جاء الرجال إلا خالدٌ"

* النصب على الاستثناء: كقولك: "ما جاء الرجال إلا خالدًا"

- الاستثناء المفرغ: عندما لا نذكر المستثنى منه، فالمستثنى حينئذٍ يُعرب بحسب العوامل التي قبل "إلا" كأن "إلا" غير موجودة، فتقول: "ما جاء إلا خالدٌ" كقولك: "جاءَ خالدٌ"، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر/50]، يعني: "أمرنا واحدة" مبتدأ وخبر.

المسألة الثانية في الاستثناء المنقطع، وابن هشام زاد الكلام على الاستثناء المنقطع.

والاستثناء إما متصل وإما منقطع:

المتصل: أن المستثنى داخل في جنس المستثنى منه، كقولك: "جاء الرجالُ إلا خالدًا"، فـ "خالد" من الرجال.

المنقطع: عندما يكون المستثنى ليس من أفراد المستثنى منه، كأن تقول: "جاء القوم إلا حمارًا" فـ "الحمار" في الحقيقة ليس من افراد القوم، ولكنه على التَّوسُّع، فسُمي بالاستثناء المنقطع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ [الحجر/30]، على القول بأن إبليس من الجن وليس من الملائكة.

حكم الاستثناء المنقطع:

- في الاستثناء التام الموجب: يجب نصبه عند الجميع، كقولك: "جاء القوم إلا حمارًا".

- في الاستثناء غير الموجَب: كقولك: "ما جاء القوم إلا حمارًا".

* فعند الحجازيين: يجب نصبه لأن الحجازيين ينصبون في الاستثناء المنقطع دائمًا، فيقولون "ما جاء القومُ إلا حمارًا"، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء/157]، يعني: "ما لهم علمٌ إلا اتباعَ الظن" فاتباع الظن ليس من العلم؛ فهذا الاستثناء منقطع؛ فلهذا نصب وجوبًا، مع أن الاستثناء كما نرى تامٌّ منفي -يعني غير موجب.

* وأمَّا التميميون: فإنهم يُجيزون نصبه -وهذا الأكثر- ويُجيزون إتباعه على البدل، كما يُفعل في الاستثناء المتصل، فيقولون "ما جاء القومُ إلا حمارًا، ما جاء القومُ إلا حمارٌ".

- وأمَّا في الاستثناء المفرغ فهذا لا يُتصوَّر؛ لأنَّ الاستثناء إنما يتضح هل هو متصل أو منقطع بدخوله أو خروجه من المستثنى منه.

المسألة الرابعة: حكم المستثنى إذا تقدَّم، وهذا مما زاده ابن هشام هنا.

لو جاء الاستثناء على ترتيبه الأصلي كقولك: "ما جاء الرجال إلا خالدًا" فإذا تقدَّم المستثنى فإن الأداة ستتقدم معه على المستثنى منه، فستقول: "ما جاء إلا خالدًا الرجالُ"؛ فتقدَّم المستثنى على الأداة على المستثنى منه؛ فحكمه حينئذٍ وجوب النصب.

وكقولك: "الطلابُ ناجحونَ إلا المهملَ"، فإذا قدَّمتَ المستثنى فتقول: "الطلابُ إلا المهملَ ناجحون" فليس فيه إلا النصب على الاستثناء.

ومن ذلك قولهم: "ليس لي إلا اللهَ ناصرٌ" والأصل أن يُقال: "ليس لي ناصرٌ إلا اللهَ"، فلو أخرته جاز فيه الوجهان؛ لأنه تام غير موجب، فلمَّا تقدَّم المستثنى فليس فيه إلا النصب، فتقول: "ليس لي إلا اللهَ ناصرٌ".

ومن ذلك قول الشاعر الكميت:

وما لي إلا آلَ محمد شيعةٌ ... وما لي إلا مذهبَ الحق مذهبُ

وقوله:

............... ... وما لي إلا مشعب الحق مشعبُ

الأصل "ما لي شيعةٌ إلا آلَ أحمد" فلما تقدم المستثنى، قال: "ما ليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ"، فوجب النصب.

المسألة الخامسة: الاستثناء بـ "ليس" و "لا يكون"، وهذا مما زاده ابن هشام هنا أيضًا.

و"ليس" و "لا يكون" المذكورتان في باب "كان" وأخواتها، إلا أنهما قد يُستعملان في الاستثناء بمعنى "إلا"، فتقول: "جاء الطلابُ إلا محمدًا" أو "جاء الطلابُ ليسَ محمدًا" أو "جاءَ الطلابُ لا يكونُ إلا محمدًا"؛ وتقصد بذلك الاستثناء.

وحينئذٍ يبقيان على عملهما السابق، فلهما اسمٌ مرفوعٌ وخبر منصوب، والمستثنى هو الخبر المنصوب، وأما اسمهما فهو ضمير مستتر، فتقول: حينئذٍ "جاء القومُ ليس زيدًا" يعني: "جاء القومُ ليس الجاؤون زيدًا، أو: ليس هم زيدًا".

وتقول: "جاء القوم لا يكونُ زيدًا"، يعني: "لا يكون الجاؤون زيدًا".

ننتقل لأبواب المكملات المخفوضات، بعد أن انتهينا من الكلام على المكملات المنصوبات -بحمد الله.

يُقال: "الخفض" ويُقال: "الجر"؛ كلاهما بمعنًى واحد، وهما استعمالان مشهوران عند العلماء، إلا أنَّ الجر أكثر في الاستعمال عند البصريين، والخفض أكثر في الاستعمال عند الكوفيين.

والمجرورات ثلاثة أنواع:

الأول: الاسم المجرور بحرف جر: كـ "سلمتُ على زيدٍ".

الثاني: الاسم المجرور بالإضافة، كـ "هذا قلمُ زيدٍ".

الثالث: المجرور بالتبعيَّة، كـ "سلمتُ على زيدٍ وخالدٍ".

والمجرور بالتبعية لا نذكره هنا في العادة لأنه سيأتي في التوابع، فيبقى لنا مجروران: المجرور بحرف الجر، والمجرور بالإضافة، وسيذكرهما هنا -إن شاء الله.

وكما نعرف أنَّ الجر من خصائص الأسماء، فلهذا لم نجد إلا اسمًا مجرورًا بحرف الجر، واسمًا مجرورًا بالإضافة.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب: يخفض الاسم إما بحرفٍ مشتركٍ - وهو "من، وإلى، وعن، وعلى، وفي، واللامُ، والباءُ للقسم وغيرِه"، أو مختصٍّ بالظاهر وهو "رُبَّ، ومُذْ، ومُنْذُ، والكافُ، وحتى، وواوُ القسمِ وتاؤُه")}.

الاسم المجرور بحرف جر: هو الاسم الواقع بعدَ حرفٍ من حروف الجر، كـ "سلمتُ على زيدٍ".

حروف الجر كما ذكرها ابن هشام هنا: أربعة عشر حرفًا، وذكر أنها على نوعين:

النوع الأول: المشترَك، يعني الذي يجر الاسم الظاهر والضمير، كقولك: "سلمتُ على زيدٍ وعليه، وجئتُ من زيدٍ ومنه".

وهي سبعة أحرفٍ، ذكرها ابن هشام لنا، وهي: "من، وإلى، وعن، وعلى، وفي، واللامُ"، و "الباءُ للقسم" كـ "أقسمتُ بالله"، أو لغير القسم كـ "محمدٌ بالبيتٍ".

النوع الثاني: أحرف الجر المختصة بجر الظاهر، فلا تجر إلا الاسم الظاهر، ولا تجر الضمير، وهي سبعة أحرف ذكرها ابن هشام لنا، وهي على أنواع:

- الأول: "رُبَّ"، وهي مختصةٌ بجر النكرة، ولا تجر المعرفة، تقول: "ربَّ أخٍ لكَ لم تلده أمك، ربَّ رجلٍ لقيتُه، ربَّ صائمٍ لن يصومه".

- الثاني: "مُذْ ومنذُ"، وهما خاصَّان بجر أسماء الزَّمان، ولا تجر الأسماء الأخرى، تقول: "انتظرته منذُ يومين، أو منذُ يومٍ".

- الثالث: الكاف، وهي خاصَّة بجرِّ المشبَّه به، كـ "زيدٌ كالأسدِ، هندٌ كالقمرِ".

- الرابع: "حتى"، وهي لا تجر إلا الغاية، كـ "انتظرته حتى الصباحِ".

- الخامس: "الواو والتاء"، وهما لا يجران إلا المقسَم به، كـ "واللهِ، تاللهِ".

وقد ذكرنا في الاستثناء أن "عدا، وخلا، وحاشا" يجوز أن تكون أفعالًا فيُنصَب ما بعدها، ويجوز أن تكون حروف جرٍّ فيُجر ما بعدها، فإذا كانت حروف جر فنضيفها هنا، فيكون العدد سبعة عشر حرفًا، وهناك ثلاثة أحرف من حروف الجر مختلف فيها؛ فيكون العدد النهائي للحروف الجر هو عشرين حرفًا.

وحروف الجر من أهم ما فيها معانيها، فكل حرف من حروف من حروف الجر له أكثر من معنى، ودراسة هذه المعاني في الحقيقة ليست من النحو، وإنما هي من العلوم التي تدرس المعاني كالبلاغة، وكذلك أصول الفقه، وهناك كتب خاصَّة لدراستها ومعانيها تسمى "كتب حروف المعاني" كـ "الجنى الداني" للمرادي، و"مغني اللبيب" لابن هشام؛ فلهذا تجد أن هذه العلوم هي التي تتوسع في المعاني، وإن كان بعض النحويين -خاصة في المتأخرين- توسَّعوا في ذكر معاني حروف الجر.

ننتقل بعد ذلك إلى الاسم الثاني المجرور، وهو: الاسم المجرور بالإضافة.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أو بإضافةٍ إلى اسمٍ على معنى اللام كـ "غلامِ زيدٍ" أو "مِن" كـ "خاتمِ حديدٍ" أو "في" كـ "مكرِ الليلِ")}.

المسألة الأولى في باب الإضافة: معاني الإضافة.

نحن شرحنا الإضافة وأطلنا في شرحها في شرح المبتدئين، وقلنا إن الإضافة هي: كل اسمين يدلان على شيءٍ واحدٍ.

والأصل في الأسماء أن كل اسمٍ يدل على معناه، فإذا قلت: "قلم" فالمراد به آلة الكتابة، وإذا قلت: "الأستاذ" فهو الذي يشرح، فكل اسمٍ له معنى، أما إذا قلت: "قلمُ الأستاذِ" فجعلت الاسمين يدلان على شيء واحد؛ فهذه هي الإضافة، ويكون المراد هو الاسم الأول -المضاف- ولكن أضفته لفائدة.

وذكرنا بعض القواعد والضوابط اللفظية التي تعين على ضابط الإضافة.

وذكر ابن هشام هنا أن الإضافة المعنوية تكون على ثلاثة معانٍ من حروف الجر:

- إما أن تكون على معنى اللام -وهو الأكثر- كـ "غلام زيدٍ، قلم زيدٍ" يعني: غلام لزيدٍ، وقلم لزيدٍ.

- وإما أن تكون على معنى: "من" كقولك: "خاتم حديدٍ، باب خشبٍ"، يعني: خاتم من حديد، وباب من خشبٍ.

- وقد تكون على معنى: "في"، كقولك: "مكرُ الليلِ، صيام النهار"، يعني: مكر في الليل، وصيام في النهار.

وهذا أيضًا شرحناه من قبل، لننتقل إلى المسألة التالية في نوعي الإضافة.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وتُسمى معنويةً لأنها للتعريف أو التخصيص، أو بإضافةِ الوصفِ إلى معموله كـ "بالغَ الكعبةِ" و "معمورِ الدارِ" و "حسنِ الوجهِ" وتسمى لفظيةً لأنها لمجرد التخفيف)}.

هذه من المسائل التي زادها ابن هشام في هذا الباب، وهي الكلام على نوعي الإضافة، فالإضافة إما أن تكون:

- معنوية: وهي الأصل والأكثر.

- لفظية: هي إضافة الوصف إلى معموله.

والمراد بالوصف: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة؛ فهذه الثلاثة إذا أُضيفَت إلى معمولها فإضافتها حينئذٍ لفظيَّة.

اسم الفاعل: كقولك: "مُكرمُ زيدٍ" أضفنا "مُكرم" إلى "زيدٍ" الذي عمل فيه.

اسم المفعول: كقولك: "ضاربُ زيدٍ، كاتبُ الرسالةِ".

الصفة المشبهة: كقولك: "حسنُ الوجهِ" يعني: حسُنَ وجهه، وكقولك: "جميلُ الظاهرِ" يعني: يجمُل ظاهرُه. وقولك: "مكسورُ القدمِ" يعني: تُكسرُ قدمه.

ولكي نسهل الإضافة اللفظية: فإن الإضافة اللفظية تكون على معنى الفعل المضارع، فإذا استطعتَ أن تضع مكان المضاف فعلًا مضارع فهذه الإضافة لفظية.

تقول: "أنا مُكرمُ زيدٍ" يعني: أنا أُكرمُ زيدًا.

وتقول: "هذا ضاربُ زيدٍ"، يعني: هذا يضربُ زيدًا.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة/95]، يعني: هديًا يبلغ الكعبة؛ فالإضافة هنا حينئذٍ لفظية، فـ "بالغ" اسم فاعل، وقد أُضيفَت إلى المفعول به "بالغ الكعبة".

وما سوى هذه الإضافة فهي إضافة معنوية.

إذًا؛ الإضافة المعنوية: إضافة ما سوى الوصف إلى معموله، فإذا قلنا: "قلمُ زيدٍ" فهذه إضافة معنوية؛ لأنَّ كلمة "قلم" ليست بوصفٍ.

لكن لو قلنا: "كاتبُ الرسالة" فهذه إضافة لفظية؛ لأنها من إضافة الوصف إلى معمولة، فالإضافة تقع على الرسالة.

أما لو قلت: "كاتبُ المدرسةِ"، فالكتابة لا تقع على المدرسة، فهنا إضافة معنوية؛ لأنه ليس من إضافة الوصف إلى معموله.

وقولك: "قاضي البلدِ"، فالقاضي لا يقع على البلد، فهذه إضافة معنوية.

فلابد أن ننتبه إلى أن الإضافة اللفظية هي إضافة الوصف إلى معموله، وتسمى إضافة غير حقيقيَّة، وتسمى إضافة غير معنويَّة.

فائدة الإضافة المعنوية: التعريف أو التخصيص.

- فإذا أضفتها إلى معرفة كقولك: "قلمُ محمدٍ، قلمُ الطالبِ"؛ فكلمة "قلم" تستفيد التعريف من المضاف إليه؛ لأنه معرفة.

- وأما إذا أضفتها إلى نكرة فتستفيد التخصيص -تضييق التنكير- كقولك: "قلمُ طالبٍ، قلمُ أستاذٍ".

وأما الإضافة اللفظية فإنها لا تفيد لا تعريفًا ولا تخصيصًا؛ لأنها في الحقيقة في نية الانفصال، فبينهما فاصل، فإذا قلتَ: "مُكرمُ زيدٍ" فالأصل فيها "مكرمٌ أنا زيدًا" فهناك الفاعل "أنا" لأن "مُكرم" اسم فاعل، واسم الفاعل يعمل عمل فعله -كما سيأتي في الأسماء العاملة عمل فعلها- فتحتاج إلى فاعل ومفعول به، فقولك: "أنا مُكرمٌ زيدًا" الأصل فيها "أُكرمُ أنا زيدًا"، فـ "أُكرم" بعدها فاعل ومفعول، ثم حولنا الفعل إلى وصف "أنا مُكرم" فلك أن تعمله فتنوِّن وتقول: "أنا مكرمٌ زيدًا"، ومعناه "أنا مكرمٌ أنا زيدًا"، ولك أن تضيف فتقول: "أنا مكرمُ زيدٍ"، وهنا أيضًا فاعل بينهما.

إذًا؛ الإضافة على نية الانفصال ليست إضافة ليست إضافة معنوية، فلا تفيد التعريف ولا التخصيص، يعني حتى لو أضفتها إلى معرفة تبقى نكرة، فلو قلت مثلًا "هذا رجلٌ جميلُ الوجه" فأضفتَ "جميل" إلى "الوجه"؛ ومع هذا فإن "جميل" نكرة، لأنك وصفت بها كلمة "رجل" وهي نكرة.

وكقولك: "هذا طالبٌ جميلُ الخطِّ"، هذا رجلٌ طويلُ الشعرِ"؛ فهي لا تكتسب التعريف من الإضافة.

فائدتها -كما قال ابن هشام: التخفيف، أي: التخفيف بحذف التنوين، بدل أن تقول: "ضاربٌ زيدًا، مكرمٌ زيدًا" تتخفَّف من التنوين وتضيف، وتقول: "مكرمُ زيدٍ". ففائدتها لفظيَّة فقط.

نأتي إلى بعض الشواهد على ذلك:

قوله تعالى: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة/95]، يعني: يبلغ الكعبة. فيجوز ان تأتي بالمضارع "يبلغُ الكعبةَ"، أو تأتي بالوصفِ وتُعمِل، فتقول: "بالغٌ الكعبةَ"، ويجوزُ أن تضيف "بالغُ الكعبةِ.

وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: 8، 9]، يعني: "يثني عِطفَهُ"، أو تقول: "ثانيًا عطفَهُ"، أو تقول: "ثانيَ عطفِهِ"، فلك الثلاثة: المضارع، والتنوين، والإضافة.

وقوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ [إبراهيم/40]، يعني: "رب اجعلني أقيم الصلاة"، أو تقول: "رب اجعلني مقيمًا الصلاةَ" أو تقول: "مقيمَ الصلاةِ".

وكقوله: -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك))، ويجوز أن تقول: "كحاملٍ المسكَ"، أو تقول: "كمن يحمل المسكَ"، أو تقول: "كحاملِ المسكِ".

وقوله تعالى: ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزمر/38]، يعني: "هل هنَّ يُمسكنَ رحمتَه"، وتقول: "ممسكاتٌ رحمتَهُ"، وتقول: "ممسكاتُ رحمتِهِ".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا تُجامِعُ الإضافةُ تنوينًا ولا نونًا تاليةً للإعرابِ مطلقًا)}.

من أحكام الإضافة: أنها لا تُجامع التنوين أو ما يقوم مقام التنوين.

يقولون: ثلاثةُ أعداءٍ لا تجتمع: الإضافة والتنوين و "أل".

هنا تكلم على الإضافة والتنوين، فلا يجتمعان، فإما أن تقول: "هذا قلمٌ" فتنوِّن، أو تقول: "هذا قلمُ زيدٍ"؛ ولا يجوز أن تقول: "قلمٌ زيدٍ"، لأنه لا يجتمع التنوين والإضافة، فإذا جاءت الإضافة حذفت التنوين.

وكذلك النون التي تأتي مكان التنوين في التثنية والجمع "معلمٌ - معلمان - معلمون"، فـ "معلمٌ" فيها تنوين، وأما "معلمان" فنون التثنية مقابل التنوين في المفرد، وكذلك النون في "معلمون" مقابل التنوين في المفرد؛ فتأخذ حكم التنوين فتحذف في الإضافة، فتقول: "هذا معلمٌ، هذا معلمان، هؤلاء معلمونَ" فإذا أضفتَ تحذف النون وتقول: "هذا معلمُ زيدٍ، ومعلما زيدٍ، ومعلمو زيدٍ".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا "أل" إلا في نحو "الضاربا زيدٍ، والضاربو زيدٍ، والضاربُ الرجلِ، والضاربُ رأسِ الرجلِ، وبالرجلِ الضاربِ غلامِهِ")}.

قلنا: إن التنوين و"أل" والإضافة لا تجتمع، وتكلمنا على عدم اجتماع الإضافة مع التنوين، وهنا يتكلم على عدم اجتماع الإضافة مع "أل".

وقلنا: إن الإضافة على نوعين: معنوية، ولفظية.

أما في الإضافة المعنوية فلا تُجامع الإضافة "أل" مطلقًا" تقول: "هذا القلمُ" بـ "أل"، أو تقول: "هذا قلمُ زيدٍ"، ولا يُمكن أن تقول: "القلمُ زيدٍ".

أما في الإضافة اللفظية فيُمكن أن تُجامع الإضافةُ "أل" لأن الإضافة غير حقيقيَّة.

وأيضًا لا تُجامع "أل" مطلقًا؛ لأن التركيب إضافي على كل حالٍ، فهي لا تجتمع مع "أل" إلا فيما سُمع عن العرب، وذلك في مسألتين:

المسألة الأولى: إذا كان المضاف مثنى أو جمع مذكر سالمًا، نحو "جاء الضاربَ زيدٍ، جاء الضاربَ الرجلِ"، فيجوز أن تقول: "جاء الضاربا الرجلِ"، فـ "الضاربا" مضاف وفيها "أل"، و"الرجل" فيها "أل"؛ فاجتمعــا.

وكذلك تقول: "جاء الضاربو زيدٍ، جاء الضاربو الرجلِ" فـ "الضاربو" اجتمع فيها الإضافة و"أل".

المسألة الثانية: أن يكون في المضاف إليه "أل"، كقولك: "جاءَ الضاربُ الرجلِ" فـ "الرجل" مضاف إليه وفيه "أل"؛ إذًا فالمضاف كذلك يجوز أن تدخل فيه "أل" فتقول: "جاء الضاربُ الرجل"، وهذا بخلاف "جاء ضاربُ زيدٍ" فـ "ضارب" مفرد، و"زيد" مضاف إليه ما فيه "أل"، فلا يجوز أن تقول: "جاء الضاربُ زيدٍ"؛ فإما أن تقول: "جاءَ ضاربُ يدٍ" أو "جاءَ ضاربٌ زيدًا"، ولا تجمع بين الإضافة و"أل".

ومثل ذلك لو قلت: "جاءَ الضاربُ الرجل، جاء الضاربُ صديقِ الرجلِ"، فـ "الضاربُ" مضافة إلى "صديق" وهي ليس فيها "أل" ولكنها أضيفت إلى "الرجل"؛ فالمضاف إليه في الحقيقة فيه "أل". وكذلك في قولك: "جاء الضاربُ رأسِ الجاني".

وقولك: "جاءَ الضاربُ الرجلِ الضاربِ غلامِهِ"، فـ "غلامه" فيه ضمير يعود إلى "الرجل" الذي فيه "أل"؛ فاكتسب بذلك "أل".

الخلاصة: أن المضاف إليه إذا كان فيه "أل" أو متلبسًا بما فيه "أل" جازَ في المضافِ أن تدخله "أل".

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابٌ: يعملُ عَمَلَ فعلِه سبعةٌ)}.

بعدَ أن انتهينا من الكلام على المكملات المنصوبات والمكملات المجرورات؛ شرع ابن هشام في بابٍ آخر جديد، وهو: الكلام على الأسماء التي تعمل عمل فعلها.

الأصل في العمل: الفعل، ولهذا يعمل الفعل متقدمًا متأخرًا، وظاهرًا ومحذوفًا، تقول: "أكرمتُ زيدًا، وزيدًا أكرمتُ، وتقول: "من أكرمتُ؟ فتقول: "أكرمتُ زيدًا، أو: زيدًا"؛ فالفعل عمل متقدمًا ومتأخرًا ومذكورًا ومحذوفًا؛ وذلك لأنه قوي في العمل؛ لأنه الأصل في العمل.

وأما بالنسبة للحروف: فإنا لحروف على نوعين:

النوع الأول: حروفٌ عاملة: وهذه التي تُدرَس في النحو، فإما أن تجر الاسم كحروف الجر، وإما أن تنصب اسمها وترفع خبرها كـ "إن" وأخواتها، وهكذا..

النوع الثاني: الحروف الهاملة التي ليس لها عمل، وهذه غالبًا لا تذكر في كتب النحو إلا عرضًا، مثل "هل" في الاستفهام، و "قد"، وتاء التأنيث، ونون التوكيد.

هل الأسماء عاملة؟

الأصل في الأسماء أنها معمولةٌ وليست عاملة.

ومعنى أنها معمولة: أنها يقع عليها الرفع فتكون مرفوعة، أو يقع عليها النصب فتكون منصوبة، أو يقع عليها الجر فتكون مجرورة.

فالأصل في المعمولات أنها أسماء، كالفاعل، والمفعول به، والمبتدأ؛ وهكذا..، وقد يكون حكمه النصب أو الجر أو الرفع، ودرسنا كلَّ ذلك.

إلا أنَّ الاسم قد يعمل في حالتين:

الحالة الأولى: إذا وقع مضافًا: فهو الذي يجر المضاف إليه عند الجمهور.

وقيل إنَّ جر المضاف إليه هو الإضافة المعنوية، وقيل حرف جر محذوف -وهذا قولٌ ضعيف.

الحالة الثانية: هذه الأسماء التي ذكرها ابن هشام، وهي الأسماء العاملة عمل فعلها.

فهناك بعض الأسماء قد تعمل عمل فعلها، وفيه تفصيلٌ سيأتي؛ إلا أن القاعدة الإجماليَّة فيها التي يُمكن أن نتمسَّك بها لكي تفيدنا في هذا الباب عمومًا: هو أنَّ الاسم إذا وقع موقع فعله فإنه يعمل، يعني إذا أمكن أن تحذف هذا الاسم وتضع مكانه فعله فإنه يعمل، وإلا فلا.

هذه الأسماء سيذكرها ابن هشام الآن تباعًا، وهي: المصدر، اسم الفعل، ثم الأوصاف، وهي:

- اسم الفاعل: ويدخل فيه صيغ المبالغة.

- اسم المفعول.

- الصفة المشبهة.

- اسم التفضيل.

فهذه الأسماء هي التي تعمل عمل فعلها.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (اسمُ الفعل كـ "هيهاتَ، وصَهْ، ووَيْ" بمعنى بَعُدَ واسكت وأَعْجَبُ)}.

الأول من الأسماء التي تعمل عمل فعلها: أسماء الأفعال، والأغلب فيها أنها سماعيَّة، فهي كلمات سُمعت عن العرب لفظها، فهي ظاهرها اسم، لأنها تقبل شيئًا من العلامات التي تقبلها الأسماء -كما ذكرنا في أول النحو-، كالتنوين، تقول: "صهٍ، آهٍ، أُفٍّ"، فهذه تقبل التنوين، ولا يقبل التنوين إلا الأسماء.

ولكنها في المعنى فإن معناها معنى الفعل، فـ "صه" بمعنى: اسكت، وهذا فعل، ولكن "صه" في اللفظ والظاهر اسم؛ لأنه يقبل التنوين.

فماذا نسميه؟ هل نسميه فعل؟

هذا ليس بفعل لأنه ما يقبل علامات الفعل، وإنما سموه: اسم فعلٍ.

وأسماء الأفعال على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: اسمُ فعلٍ ماضٍ، مثل "شتَّان" بمعنى "افترقَ"، تقول: "شتان ما بينَ الرجلين" يعني" افترقَ ما بينهما.

وكذلك "هيهات"، ومنه قوله تعالى: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ [المؤمنون/36]، يعني: بعُدَ.

النوع الثاني: اسمُ فعلٍ مضارع، مثل: "أُفٍّ" بمعنى "أتضجَّر"، تقول: "أُفٍّ لك، أُفٍّ لكما، أُفٍّ منك".

ومن ذلك كلمة "ويْ"، عندما ترى أمرًا تستنكره أو يسبب الإعجاب والدهشة تقول: "ويْ" يعني: أتعجَّبُ.

النوع الثالث: اسم فعل أمر -وهذا هو الأكثر فيها- مثل "صه" بمعنى: اسكت، و "مه"، بمعنى: انكَفِفْ. ومنه "آمين" بمعنى: استجبْ. وكذلك "نزالي" بمعنى: انزل.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ولا يُحْذَفُ ولا يَتَأَخر عن معموله. و "كتابَ اللهِ عليكم" مُتَأَوَّلٌ. ولا يبرَز ضميرُه. ويُجْزَم المضارعُ في جوابِ الطلبِيِّ منه نحو "مكانكِ تُحْمَدِي أو تستريحي"، ولا يُنْصَبُ)}.

ذكر أن أسماء الأفعال تعمل عمل فعلها، ففعلها قد يكون لازمًا فتحتاجُ إلى فاعلٍ مثله، وقد يكون فعلها متعديًا فتحتاجُ إلى فاعلٍ ومفعولٍ به، فلهذا قولك: "صهْ" تحتاج إلى فعل كقولك: "اسكت"؛ فنقول: الفاعل فيهما ضميرٌ مستترٌ تقديره "أنت".

وإذا قلت: "نزالي" يعني: انزل أنتَ.

ومن ذلك: "دونك" بمعنى: خذ، تقول: "دونكَ زيدًا"، يعني: خذْ زيدًا، فـ "زيدًا" مفعول به منصوب باسم الفعل "دونك" لأنه بمعنى "خذْ".

ومن أحكامه: أنه لا يحذف، يعني: لا تعمل محذوفًا كالفعل، فلا يصح أن تقول: إنَّ هذا الاسم منصوب باسم فعل محذوف.

ومن أحكامه: لا يتأخر عن معموله، يعني أن معموله لا يتقدم عليه كالفعل، ففي الفعل تقول: "أكرمتُ زيدًا، وزيدًا أكرمتُ". أما في "دونك زيدًا" لا يصح أن تقول: "زيدًا دونك"؛ لأن اسم الفعل عمله ضعيف؛ لأنه بالحمل والقياس على الفعل، والضعيف -كما قلنا أكثر من مرة- لا يعمل في الجملة إلا إذا جاءت على أصلها من دون أي مشاكل، فلا يكون فيها حذف ولا تقديم ولا غير ذلك.

فإن قيل: إنَّ قوله تعالى: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء/24]، المعنى: عليكم كتاب الله، أي: الزموه، فـ "كتاب" مفعول به، نصبه اسم الفعل "عليكم" الذي بمعنى: الزم.

قال ابن هشام: إنَّ هذا متؤوَّل؛ لأن قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ليس مفعولًا به، و"عليكم" ليس اسم فعل، وإنما "كتاب الله" مفعول مطلق، فعندما ذكر المحرمات من قبل قال معقبًا بعدَ ذلك ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، يعني: "كتب الله عليكم ذلك كتابةً" فالمصدر يأتي "كتابة" و "كتابًا".

ومن أحكامه: لا يبرز ضميره، يعني لا يُمكن أن تبرز الضمير الذي يتعلق به كما قد تفعل بالفعل، فإن تقول: في الفعل "ذهب - ذهبوا - يذهبون - اذهبوا - اذهبي - ذهبتُ"، فيأتي معه الضمير البارز؛ أما اسم الفعل فلا يأتي معه الضمير البارز، وإنما يلزم حالةً واحدةً، فتقول لزيدٍ: "صهْ"، وتقول لهند: "صه"، وتقول للرجال: "صه" وما تقول: "صهوا"!

ومن أحكامه: أنه يُجزَم في جواب الطلبي منه، فاسم الفعل كالفعل، ولهذا يُمكن أن تجزم في جواب طلبه -كما تكلمنا في جزم الفعل المضارع- فكما تقول: "انزلْ أكرمكَ تقول: أيضًا "نزالِ أكرمك".

ومن ذلك قول الشاعر: "مكانكِ تُحْمَدِي أو تستريحي"، أي: الزمي مكانكِ؛ فجزم الجواب "تُحمدي"، والمعنى: الزمي مكانكِ إنْ تلزميه تُحمدي.

ولا يُنصب الجواب، يعني: لو اقترنَ جوابه بالفاء والواو فإنه لا يُنصب بـ "أن" مضمرة، ففي الفعل تقول: "انزل وأكرمَك، انزل فأكرمَك"، لكن لو أتيتَ باسم الفعل فلا تنصب الفعل بعده، وإنما تقول: "نزالِ فأكرمك"، وذكرنا أن في المسألة خلافًا.

{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدَّمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصولٌ لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، سائلين الله أن نلقاكم في حلقة أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك