{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".
في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح كتاب "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، ومرحبًا بكم.
{في هذا الدرس سنشرع -بإذن الله- في باب المبتدأ والخبر، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (بابٌ: المبتدأُ والخبرُ مرفوعانِ، كـ "اللهُ ربُّنا")}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد؛ فحيَّاكم الله وبيَّاكم في الدرس العاشر من دروس شرح "قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى" لابن هشام -عليه رحمة الله تعالى- ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس يُبث من الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة من مدينة الرياض.
بحمد الله تعالى انتهينا من الأحكام الإفرادية للكلمة، أي:
- انقسام الكلمة إلى اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ.
- ثم انقسام الكلمة إلى معربٍ ومبني.
- ثم انقسام الاسم إلى نكرة ومعرفة.
في هذا الدرس سنشرع في القسم الثاني في النحو، وهو الكلام على الأحكام التركيبيَّة -يعني أحكام الجُمل- فإذا ألَّفتَ بينَ الكلمات فإنَّك ستخرج بجُمل، فإن بدأتَ باسمٍ فالجملة جملةٌ اسميَّة، وإن بدأتَ بفعلٍ فالجملة جملةٌ فعليَّة، ولا يُمكن أن تبدأ بحرفٍ فتُكوِّن بذلك جملةً، فإن بدأت الجملة بحرفٍ فهذا الحرفُ إمَّا:
- أن يكون مقدَّمًا من تأخيرٍ، كقولك: "في البيت جلسَ زيدٌ" أي: "جلسَ زيدٌ في البيت"، أو تقول: "في البيتِ زيدٌ جالسٌ" أي: "زيدٌ جالسٌ في البيت".
- أو يكون هذا الحرف بدلًا من الفعل، مقولهم: "يا محمدُ" أي: "أدعو محمدًا".
من باب الترتيب والتنظيم: يبدأ النحويون إمَّا بالجملة الاسميَّة وأحكامها، ثم الجملة الفعلية.
أو بالعكس: الجملة الفعليَّة وأحكامها، ثم الجملة الاسميَّة.
وابن هشام في قطر الندى بدأ بالجملة الاسميَّة، فلهذا بدأ بالمبتدأ والخبر، ولهذا سنجد أنه بعد المبتدأ والخبر سيذكر نواسخ الابتداء: "كان" وأخواتها، و "إنَّ" وأخواتها، و "ظننت" وأخواتها، فإذا انتهى من الجملة الاسميَّة وأحكامها النحويَّة سينتقل بعد ذلك إلى الجملة الفعليَّة، فيذكر الفاعل ونائب الفاعل، ثم يُكمل بقيَّة أحكام النحو.
فبدأ ابن هشام بالكلام على باب المبتدأ والخبر.
وقول ابن هشام وكثير من المصنفين (بابٌ) بالرفع، ثم يشرع في الكلام: (... المبتدأ والخبر مرفوعان)، فإعراب كلمة: "بابٌ" كإعراب كلمة "فصلٌ" السابق، أي: خبرٌ لمبتدأ محذوف، يعني: هذا بابٌ.
وابن هشام في باب المبتدأ والخبر ذكر عشر مسائل، سنأخذها تباعًا على ترتيب شيخنا ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- ونشرحها، إلا أنه لم يذكر من هذه المسائل تعريف المبتدأ والخبر، كأنه اكتفى بتعريفهما في شرح المبتدئين، فلا زيادة في ذلك، والحقيقة أنه ليس هناك زيادة في الكلام على تعريف المبتدأ والخبر عمَّا قيل في شرح المبتدئين.
فالمبتدأ: هو الاسم المجرَّد من العوامل اللفظيَّة. وشرحنا ذلك.
والخبر: هو الجزء المتم لفائدة المبتدأ. ولا زيادة على ذلك.
ربما نذكر وننصُّ على بعضِ الأساليب التي يأتي عليها المبتدأ والخبر:
- فالمبتدأ والخبر يأتيان من الأسماء المعربة، كقولنا: "محمدٌ كريمٌ"، وكمثال المؤلف: "اللهُ ربُّنا".
- ويأتي من الأسماء المبنيَّة، كقولنا: "سيبويه الذي ألَّف الكتاب"، فـ "سيبويه" مبتدأ. و"الذي" خبر. وكلاهما اسم مبني.
- وقد يختلف المبتدأ والخبر في البناء والإعراب:
* تقول: "محمدٌ هذا".
* أو تقول: "سيبويه نحويٌّ عظيمٌ".
فإذا كان مُعربًا فيُعرب إعراب المعربات، فتقول: مبتدأٌ مرفوعٌ.
وإذا كان مبنيًّا يُعرَب إعراب المبنيات، فتقول: مبتدأٌ في محل رفع.
- ويكون المبتدأ والخبر من الأسماء الصَّريحة والأسماء المؤوَّلة. وتكلمنا من قبل على الحروف التي ينسبك منها المصدر المؤوَّل، وهي: "أنْ، أنَّ، ما، كي"؛ فهذه مع صلتها تسمى اسمٌ مؤوَّل، أو مصدر مؤوَّل، أو اسم منسبك، أو متكوِّن من حرفٍ مصدريٍّ وصلته.
فقد يكون المبتدأ والخبر اسمين صريحين، كقولك: "محمدٌ مجتهدٌ".
وقد يكونا اسمين مؤوَّلين، كأن تقول: "أنْ تجتهد خيرٌ لك"، أي: اجتهادُكَ.
أو "الصلاحُ أنْ تطيعَ الله"، فـ "الصلاح" مبتدأ. و "أنْ تطيع الله" مصدر مؤوَّل خبر.
- وكذلك المبتدأ والخبر قد يكونان من الأسماء الظاهرة أو من الأسماء المضمرة -يعني الضَّمائر.
فتقول: "هو كريمٌ". فالمبتدأ ضمير.
وتقول: "محمدٌ كريمٌ" المبتدأ والخبر اسم ظاهر.
وننبه إلى اجتماعهما -المبتدأ والخبر- مع شبه الجملة، فقد تجتمع هذه الجملة الاسمية مع شبه الجملة، مثل: "محمدٌ جالسٌ في الدار". فـ "محمدٌ" مبتدأ. و "جالسٌ" خبر، وهو وصف، واجتمع مع شبه الجملة، وهنا يجوز لك أن تجعل أحدهما خبرًا والآخر حالًا:
فجاز أن تقول: "محمدٌ جالسٌ" خبر مرفوع، و "في الدار" شبه جملة متعلقة بالخبر.
وجاز أن تقول: "محمدٌ في الدارِ جالسٌ" على أنَّ "جالسٌ" خبر مؤخر. و "في الدار" شبه جملة متعلقة بجالس.
وجاز أن تقول: "محمدٌ في الدار جالسًا"، يعني أخبرتَ عن محمد أنه في الدار حالة كونه جالسًا.
فيقولون: إذا كان الخبر وصفًا، واجتمع مع شبه الجملة؛ فإن تقدَّم فالأفضل أن يكون هو الخبر، "محمدٌ جالسٌ في الدار"، وإن تأخَّر جاز فيه الوجهان على حسب المعنى المراد:
- إما أن تجعله خبرًا: "محمدٌ في الدار جالسٌ".
- أو تنصبه على أنه حال، وشبه الجملة هي الخبر: "محمدٌ في الدارِ جالسًا".
ومن ذلك أن تأتي مثلًا بـ "أين" فتقول: "أينَ محمدٌ جالسٌ". فـ "محمدٌ" مبتدأ. و "جالسٌ" خبر. و"أين" ظرف مكان. والظروف شبه جملة؛ فهنا اجتمعت الجملة الاسمية مع شبه الجملة، وشبه الجملة تقدَّمت، فيجوز لك في الخبر "جالسٌ":
* أن ترفعه على أنه هو الخبر، و"أين" ظرف زمان مقدَّم وجوبًا لأنه اسمٌ له الصدارة.
* أن تنصب "جالسًا" على أنه حال، والخبر هو شبه الجملة مقدَّم.
فهذا ما يُمكن أن يُذكر في الزيادة على تعريف المبتدأ والخبر.
ثم نريد أن نذكر المسائل العشر التي ذكرها ابن هشام، وسنتابعه على هذه المسائل وشرحها.
فذكر أولًا: حكم المبتدأ والخبر.
ثانيًا: وقوع المبتدأ نكرة.
ثالثًا: ذكر نوعي الخبر.
رابعًا: وقوع الخبر شبه جملة.
خامسًا: وقوع الخبر اسم زمان.
سادسًا: نوعا المبتدأ.
سابعًا: تعدد الخبر.
ثامنًا: تقدُّم الخبر.
تاسعًا: حذف المبتدأ والخبر جوازًا.
عاشرًا: حذف الخبر وجوبًا.
ولهذا عندما نقول للطلاب كثيرًا: يجب على الطالب أن لا يقفز في درجات العلم؛ بل يدرس كتابًا صغيرًا للمبتدئين، ثم ينتقل إلى كتاب متوسِّط، ثم ينتقل إلى كتابٍ لكبارٍ، فكتاب المبتدئين يركز فقط على تفهيم أصول الباب دون الكلام على شيءٍ من تفاصيله، فإذا فهمت أصل الباب، ثم الباب الثاني والثالث، ثم فهمت كل أصول النحو؛ فحينئذٍ تدخل إلى كل باب وتأخذ شيئًا من تفاصيله التي يُمكن أن تفهمها في هذه المرحلة، وانظر إلى ابن هشام الآن، ذكر لك عشر مسائل، فعندما تذهب إلى كتاب كبير كألفيَّة ابن مالك ستجد مسائل أكثر من ذلك، وهكذا الإنسان يتربَّى بصغار العلم قبل كباره، لكي يستطيع أن يأخذ العلم بحقِّه.
ننتقل إلى المسألة الأولى، وهي: الكلام على حكم المبتدأ والخبر، وقد ذكره ابن هشام فيما قرأنا، فقال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (المبتدأُ والخبرُ مرفوعانِ)، فبيَّن أنَّ الحكم الإعرابي للمبتدأ وهو الرفع، وما نقول: "مرفوع"؛ لأنَّ الأحكام: الرفع والنصب والجر والجزم، أما كلمة "مرفوع" فهذه مصطلح تبيِّن الحكم، فالمبتدأ الذي اتفقنا على أن حكمه الرفع نقول في إعرابه:
- إن كان معربًا: مبتدأ مرفوع.
- إن كان مبنيًّا: مبتدأ في محل رفع.
فهذه مصطلحات تبين الحكم، وهذا دُرس في باب المعرب والمبني.
وننبه هنا إلى أن المبتدأ وإن كان دائمًا حكمه الرفع، إلا أن لفظه قد يُجرُّ، أي أن لفظه قد تكون عليه علامة جر، فأنت إذا قلت مثلًا: "الطالبُ في المدرسةِ". فـ "الطالب" مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة.
- فإذا أدخلتَ عليه الاستفهام تقول: "هل الطالب في المدرسة؟" فـ "الطالبُ" مبتدأ، و "هل" حرف ليس له عمل، ولكن له معنى وهو إدخال استفهام.
- فإذا نكَّرت كلمة "طالب" فتقول: "هل طالبٌ في المدرسة؟" أيضًا يبقى مبتدأ مرفوع وعلامة رفع الضمة، ويقولون: إن النكرة بعد الاستفهام وبعد النفي تعم.
- وإذا أردتَّ أن تزيد هذا التَّعميم؛ فتزيد قبلها حرف الجر "مِنْ" فتقول:
"هل من طالبٍ في المدرسة". فـ "طالبٍ" من حيث التركيب والإعراب هو نفسه المبتدأ في "الطالبُ في المدرسة" أو "هل طالبٌ في المدرسة"، و "مِنْ" حرف جر أدخلت الجر على لفظه فقط، أما إعرابه ما يتغيَّر، ولهذا يقولون: حروف الجر الزائدة لا تغير الإعراب، فإن دخلت على مبتدأ يبقى مبتدأً، وسيأتي أنها قد تدخل على الفاعل فيبقى فاعلًا، وقد تدخل على المفعول به ويبقى مفعولا به، وهكذا..، فهي حروف جر زائدة تدخل للتوكيد وتقوية المعنى، وهنا دخلت لتقوية التعميم.
ولهذا نقول في إعراب "طالبٍ": مبتدأ مرفوع محلًّا مجرور لفظًا بحرف الجر الزائد، ولا نقول اسمًا مجرورًا.
ومن كلام العرب "بحسبك درهمٌ"، والأصل: "حسبُكَ درهمٌ" فـ "حسبُ" بمعنى كافي، و"حسبك الله" يعني "كافيكَ الله".
فـ "حسبُكَ" مبتدأ مرفوع.
و "درهمٌ" خبر.
ثم إن العرب يقولون "بِحسبِكَ درهمٌ"، فهذه الباء حرف جر زائد، جرَّت اللفظ، أما الإعراب فلا يتغيَّر، فلهذا نقول في "حسبُك" أن "حسبُ" مبتدأ، ونقول في "بحسبِكَ" أنَّ "حسبِ" أيضًا مبتدأ مرفوعٌ محلًّا مجرورٌ لفظًا بالباء الزائدة.
المسألة الثانية التي ذكرها ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- وهي: وقوع المبتدأ نكرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ويقع المبتدأُ نكرةً إن عمَّ أو خصَّ، نحوُ: "ما رجلٌ في الدار" و ﴿أَإِلَهٌ مَعَ الله﴾ ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾ و "خمسُ صلواتٍ كتبهُنَّ الله")}.
في هذه المسألة تكلم ابن هشام على وقوع النكرة مبتدأ، فنقول: وقوع النكرة مبتدأ، أو وقوع المبتدأ نكرة، والمعنى واحد.
كل أمر يتكلَّم عليه العلماء أكيد لهم هدف، وإلا لم يتكلموا عليه! فلماذا يتكلم النحويون على هذه المسألة؟
الجواب: لأن الأصل في المبتدأ أن يكون معرفةً، فعندما تقول: "محمدٌ كريمٌ" فأنت أخبرتَ عن محمدٍ بالكرم، يعني: حكمتَ عليه بالكرم، ولا يصح عقلًا أن تحكم على مجهول، فلا يُمكن أن تنعقد محكمة لكي يُصدروا حكمًا على مجهول، فلابد أن يكون المحكوم عليه معروف، والحكم هو المجهول، ثم تصدر هذا الحكم عليه فيُعرَف، فلأن الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة -وهذا هو الأكثر في اللغة- تكلَّم النحويُّون على أن المبتدأ قد يأتي نكرة في بعض المواضع، والقاعدة العامة لجواز وقوع المبتدأ نكرة هي ما قاله ابن هشام (ويقع المبتدأُ نكرةً إن عمَّ أو خصَّ)، يعني: إن دلَّ على عموم أو دلَّ على خصوص، فأعاد القاعدة إلى أمرين: التعميم والتَّخصيص.
وبعض النحويين أعادوا المسألة كلها إلى أمر واحد وهو: الإفادة. فقالوا: يصح أن يقع المبتدأ نكرة إذا أفادَ، ومن ذلك قول ابن مالك في الألفيَّة:
ولا يَجوزُ الابْتِدَا بالنَّكِرَةْ ... ما لمْ تُفِدْ كعِنْدَ زَيدٍ نَمِرَةْ
متى تفيد النكرة؟
الجواب: إن عمَّت أو خصَّت.
متى تكون عامَّة أو خاصَّة؟
الطلاب مستوياتهم مختلفة، فبعض الطلاب إذا أفادت عنده يفهم، وبعضهم لا يفهم إلا إذا عمَّت أو خصَّت، وبعضهم يحتاج إلى تدقيق أكثر ومواضع أكثر، فنحن نطبق القاعدة ونُخرج المواضع، وبعض النحويين يفعل ذلك، فأهم المواضع التي تخرج لنا إذا طبقنا هذه القاعدة هي المواضع التي ذكرها ابن هشام لنا، وهي أربعة واضع:
الموضع الأول في قوله:
(ما رجلٌ في الدار)، يعني: وقوع النكرة بعد نفي، فإذا وقعت النكرة بعد نفي جاز أن تقع مبتدأً، ففي قولك: "ما رجلٌ في الدارِ": "رجلٌ" مبتدأ. و "في الدار" شبه جملة خبر. و"ما" حرف نفي. وكقولك: "ما سيارة في المعرض".
الموضع الثاني: مثَّل له ابن هشام بقوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ الله﴾، يعني: وقوع النَّكرة بعد استفهام يُجوِّز وقوعها مبتدأً، كقولك: "هل طالبٌ في القاعة؟ هل رجل في البيت؟"
وقولك: "أإله مع الله؟" فالهمزة حرف استفهام لا محل له من الإعراب. و "إلهٌ" مبتدأٌ مرفوع. و "مع الله" شبه جملة خبر.
الموضع الثالث: مثَّل له بقول: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ﴾.
المبتدأ: عبد.
والخبر: خيرٌ. فأخبرَ عن هذا العبد المؤمن بأنه خيرٌ من مشرك.
وكلمة "عبد" نكرة، وسوَّغَ وقوعها مبتدأ كونها قُيِّدَت بالنَّعت، فلما نُعِتَت تخصَّصت.
ومن ذلك أن تقول: "قلمٌ أحمر أحبُّ إليَّ من قلم أصفر".
{هل يُمكن أن نقول في: ﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ أنه من العموم؟}.
لا، التعميم أن تقول: عبدٌ. فإذا خصصته بأي مُخصِّص صارَ متخصِّصًا، وهنا خُصِّصَ بالنَّعت. ولكن في الموضع الأول والثاني هذا التَّعميم "ما رجلٌ، أإله".
الموضع الرابع: مثَّل له بقوله: "خمس صلوات كتبهن الله"، فــ "خمس" مبتدأ نكرة، وأخبر عن هذه الخمس بأنهن "كتبهن الله"، والذي سوَّغ وقوع النكرة مبتدأً كونه معيَّنًا مقيَّدًا مخصَّصًا بالإضافة، "خمسُ صلواتٍ".
وكقولك: "طالبُ علمٍ خيرٌ من طالبِ مالٍ"، فالتخصيص هنا حدث بالإضافة، فجازَ وقوعه مبتدأً.
سنزيد موضعين آخرين مهمين كثيري الاستعمال، فنقول:
الموضع الخامس: إذا كان الخبر شبه جملة متقدِّمًا، فيجوز في المبتدأ أن يكون نكرة، كأن تقول: "في البيت رجلٌ" فــ "رجل" مبتدأ مُؤخر، و "في البيت" خبر مُقدَّم، وقلنا: إنَّ "رجل" مبتدأ لأنه اسم لم يُسبَق بعامل لفظي، و "في" حرف جر، جرَّت "الدار" وانتهى عملها، فصارت "رجل" مجردة من العوامل اللفظية، فهي مبتدأ، والخبر هو شبه الجملة المتقدم.
فلما وقع الخبر شبه جملة متقدم جاز في المبتدأ أن يكون نكرة كما يجوز أن يكون معرفة، كأن تقول "في البيت محمدٌ، وفي البيت رجلٌ، وفي القاعة طلابٌ، وفي المسجد مصلون"، وتقول: "عندي مالٌ، وفي المسألةِ نظرٌ".
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: 7]، فـ "غشاوة" مبتدأ، و"على أبصارهم" شبه جملة خبر مقدم.
وقال تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، فـ "مزيد" مبتدأ. و"لدينا" شبه جملة خبر مقدَّم.
الموضع السادس لوقوع المبتدأ نكرة: إذا تقيَّدَ وتخصَّصَ بشبه جملة، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرٌ بمعروفٍ صدقة»، فأخبر عن "الأمر" بأنه صدقة، و "أمرٌ" نكرة، سوَّغ وقوعه مبتدأ كونه تخصَّص بشبه الجملة -الجار والمجرور- وهو "بمعروف".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (والخبرُ جملةً لها رابطٌ)}.
قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- مع تقدير كلامه: "ويقع الخبر جملة لها رابط"، وقدرنا كلامه بهذه الطريقة لأن قوله "والخبر" الواو حرف عطف معطوف على قوله من قبل (يقع المبتدأ نكرة...)، ثم قال (والخبر)، أي: ويقع الخبر جملة.
أراد ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- بذلك أن يُبيِّن لنا أن الخبر يقع على نوعين:
النوع الأول: خبر مفرد.
النوع الثاني: خبر جملة.
وابن هشام لم يذكر هنا الخبر المفرد، لأنه معروف، ومثله من قبل بقوله: "اللهُ ربُّنا"، و "محمدٌ نبيُّنا"، فلا إشكال فيه، أما الإشكال في وقوع الخبر جملة، ولذلك نصَّ عليه، ولو نصَّ على أن الخبر يقع مفردًا وجملة لكان أفضل، كما يفعل النحويون حتى في الكتب الصغيرة، لكن هذا متن ويُحاول ابن هشام أن يختصر قدر الإمكان.
وقوع الخبر جملة واضح، فإما أن يكون جملة اسمية، وإما أن يكون جملة فعليَّة.
- فإذا أردنا أن نخبر عن "محمد" بجملة فعليَّة نقول: "محمدٌ ذهبَ أخوه" أو "محمد ذهب".
- وإذا أردنا أن نخبر عن "محمد" بجملة اسميَّة، نقول: "محمدٌ أبوه مسافرٌ"، وجملة الخبر لابد لها من رابط.
ما معنى كون الخبر مفردًا؟ وما المراد بمصطلح "مفرد" هنا؟
مصطلح "مفرد" له ثلاثة استعمالات في النحو، والاستعمال المراد يتبيَّن بمعرفة مقابله:
- فإذا قلت: مفرد وجملة، فالمفرد هنا خلاف الجملة.
- ولو قيل في موضع آخر: مفرد ومضاف وشبه مضاف؛ فالمفرد هنا: ما ليس مضافًا أو شبيهًا بالمضاف.
- ولو قيل في موضع: مفرد ومثنى وجمع، فالمفرد ما ليس مثنًى ولا جمعًا.
إذًا؛ المراد بالمفرد هنا: ما ليس بجملة، فأي شيء ليس بجملة يدخل في المفرد.
- فإذا قلتَ: "محمدٌ صديقٌ" فالخبر "صديقٌ" وهو مفرد.
- وإذا قلت: "محمدٌ صديقُ زيدٍ" فالخبر "صديقُ زيدٍ" وهو ليس بجملة اسمية ولا جملة فعليَّة، فيكون مفردًا وهو مضاف ومضاف إليه.
إذًا؛ المضاف والمضاف إليه يدخل في الخبر المفرد؛ لأنه ليس بجملة.
نصَّ ابن هشام هنا على أنَّ الخبر الجملة لابدَّ أن يكون لها رابط، وهذا الذي سيبينه بعد ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كـ "زيدٌ أبوه قائمٌ" و ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ و ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾ و "زيدٌ نعمَ الرجلُ"، إلا في نحو ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾)}.
بعد أن ذكر ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- أن الخبر يقع جملة؛ بيَّن أن الجملة الواقعة خبرًا يُشترط فيها أن يكونَ فيها رابط، وهذا الرابط يربطها بالمبتدأ لتصحيح الكلام، لربط الخبر بالجملة، فيتم بذلك المعنى، كأن تقول: "محمدٌ سافر أبوه" فالهاء ربطت الجملة بالمبتدأ، فصحَّ المعنى، فلهذا لا يصح أن تقول: "محمدٌ زيدٌ قويٌّ" فليست أي جملة تقع خبرًا، حتى يكون فيها رابط ليربط الجملة بالمبتدأ فيصح المعنى حينئذٍ.
فإن قلت: هذا الأمر أصلا لا يحتاج إلى أن يُنص أو يُشترط لأنه لا يُقال، وكما يقولون هو تحصيل حاصل!
نقول: لا، العلم يجب أن يُقيَّد كله من أوله إلى الآخرة، وقد تضعف السَّليقة حتى يُظن أن هذا صواب، وقد ينتشر هذا الأسلوب أو بعضه في مكان أو زما فيُظن أنه صواب، فاللغة العربية مضبوطة كلها بشروطها الواضحة وغير الواضحة، لكيلا يقع أي خطأ بعد ذلك في لغة القرآن والسنَّة.
ما الروابط التي تربط جملة الخبر بالمبتدأ؟
ذكر ابن هشام أربعة روابط، لكنه لم يقل: "أربعة روابط"، وهذه طريقة ابن هشام وكثير من أصحاب المتون، فيذكرون عددًا من الأمثلة، كل مثال على نوعٍ أو شرطٍ، فبدلًا من ذكر الشروط أو الأنواع يستيعضون على ذلك بتعدد الأمثلة.
المثال الأول: "زيدٌ أبوه قائمٌ" الرابط هنا الضمير.
إذًا؛ الرابط الأول بين المبتدأ وجملة الخبر هو: الضمير، وهذا هو الأكثر.
والرابط الثاني مثَّل له بقوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾، فالرابط هو: اسم الإشارة "ذلك".
فـ "لباس التقوى" مبتدأ وهو مضاف ومضاف إليه.
و"ذلك" مبتدأ. و"خير" خبر.
وجملة "ذلك خيرٌ" من المبتدأ والخبرِ خبرٌ لـ "لباس التقوى"، والرابط هو اسم الإشارة، لأنه يشير إلى المبتدأ، فربط بهذا المعنى.
ومن ذلك أن تقول: "الصبرُ على الشدائد هذا من صفات المؤمن".
"الصبر": مبتدأ.
"على الشدائد": جار ومجرور.
"هذا" مبتدأ.
"من صفات المؤمن" شبه جملة خبر.
ثم المبتدأ والخبر "هذا من صفات المؤمن" كله خبر عن المبتدأ الأول "الصبر"
والرابط هو" اسم الإشارة "هذا"، يشير إلى المبتدأ.
الرابط الثالث: مثَّل له ابن هشام بقوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ﴾.
الرابط هنا: تكرير المبتدأ في الخبر بلفظه، فنفس المبتدأ مكرر في الخبر.
فقوله: "الحاقة" مبتدأ" ثم أخبر عنها بأنها "ما الحاقة" وهذا يسمى أسلوب تعظيم وتفخيم.
والخبر "ما الحاقة" مكوَّن من اسم الاستفهام "ما" وهو خبر مقدَّم، ومن "الحاقة" وهو مبتدأ مؤخَّر، كقولك: "ما اسمك؟".
ثم الجملة الاسمية من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخَّر كلها خبر عن المبتدأ الأول، وهذا أسلوب ينبغي أن نعرف إعرابه.
الرابط بين جملة الخبر والمبتدأ: أن المبتدأ مكرر بلفظه في الخبر، فحدث بذلك الرباط، وهذا أسلوب كثير، كقولك "العلم ما العلم" وقد يُقال "ما أدراك ما العلم".
الرابط الرابع: هو تكرير المبتدأ في الخبر بمعناه، وهذا في أسلوب المدح "نعم وبئس"، كأن تقول: "زيدٌ ما باله؟ نعم الرجل"؛ فـ "نعم الرجل" هذه جمله فعلية فعل وفاعل، وهي خبر المبتدأ.
الرابط بين الجملة الخبرية "نعم الرجل" والمبتدأ "زيد" أن المبتدأ "زيد" كُرِّرَ في الخبر بمعناه، وذلك في قوله: "الرجل" لأنَّ الرجل يشمل زيد وغير زيد.
قال ابن هشام: (إلا في نحو ﴿قل هو اللـهُ أحدٌ﴾)، يعني أن هذا الأسلوب جملة الخبر فيه لا تحتاج إلى رابط، لأن الرابط ينبغي أن يُوجد لكي يربط المعنى، فتحدث الفائدة.
أما هنا فلا نحتاج إلى الرابط، لأن الخبر هو هو المبتدأ، فلم نحتجْ إلى رابط حينئذٍ، كأن تقول "قولي الله عظيمٌ" فجملة "اللهُ عظيمٌ" جملة اسمية مبتدأ وخبر؛ ووقعت خبرًا عن قولك "قولي"، وجملة "اللهُ عظيمٌ" ليس فيها رابط، لا ضمير ولا اسم إشارة ولا تكرار، فالرابط أن جملة "اللهُ عظيمٌ" هي نفسها قولي، و"قولي" هو "اللهُ عظيمٌ" فلا تحتاج غلى رابط.
وكذلك في الآية ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فيها عدَّة إعرابات، ولكن الإعراب المشهور الأصح: أنَّ هذه الآية لها مناسبة، وهي أن قريشًا سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخبرنا عن ربِّك ما هو؛ فنزلت الآية ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، فـ "هو" في الآية لا يعود إلى الله -سبحانه وتعالى-، وإنما يعود إلى الأمر المسؤول عنه، يعني: الأمر والشأن الذي سألتم عنه هو الله أحدٌ.
فـ "الله" مبتدأ. و "أحدٌ" خبره، وهذه الجملة وقعت خبرًا عن "هو" التي هي الأمر، يعني: الأمرُ الذي سألتم عنه: الله أحدٌ، الشأنُ الذي سألتم عنه: اللهُ أحدٌ؛ فالمبتدأ هو الخبر والخبر هو المبتدأ في المعنى واللفظ؛ فلذلك لم يحتجْ إلى رابط.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وظرفًا منصوبًا، نحو ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ وجارًا ومجرورًا كـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وتعلقُهما بـ "مستقِرّ" أو "استقَرّ" محذوفتينِ)}.
قوله: (وظرفًا منصوبًا)، الواو حرف عطف، معطوف على قوله (يقع المبتدأ نكرة...، والخبر...، وظرفًا)، أي: يقع الخبرُ ظرفًا منصوبًا، وجارًّا ومجرورًا، والكلام هنا على وقوع الخبر شبه جملة، لأن الطالب مباشرة سيسأل عندما قلنا إن الخبر نوعان -مفرد وجملة: هل يقع الخبر شبه جملة؟
قد يُذكر في بعض كتب النحو للمبتدئين من باب التسهيل أن الخبر يقع مفردًا وجملة، وشبه جملة كقولك: "محمد في البيت، الكتاب فوق الطاولة"؛ ولكن من باب الحقيقة فإن الخبر لا يقع شبه جملة، قد يقع في ظاهر الكلام شبه جملة، وهذا الذي تكلم عليه ابن هشام هنا.
قال ابن هشام (وظرفًا منصوبًا)، يعني: يقع الخبر في ظاهر الكلام ظرفًا منصوبًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾، فـ "الركب" مبتدأ. و "أسفلَ" لو كان خبرًا لرُفع، وإنما هو ظرف مكان، والدليل على أنه ظرف مكان أنه منصوب، وكقولك: "محمدٌ فوقَ السَّطح، الكتابُ تحتَ المنضدة"؛ فلو كان هو الخبر لارتفع؛ فكلمة "أسفل، تحت، فوق" هذه كلمات معربة تقبل الإعراب، تقول: "جئتُ قبلَه، ومن قبلِهِ"؛ فلما لم يُرفَع وإنما بقي منصوبًا علمنا أنه ظرفًا، ولهذا قال ابن هشام (ظرفًا منصوبًا).
وكذلك نقول في الجار والمجرور في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فأخبرنا عن الحمد بأنه لله، وهذا من حيث المعنى العام الظاهر، لكن قولنا: "لله" ليس خبرًا عن الحمد.
وحقيقة الأمر: أن الخبر إذا وقعَ شبه جملة -ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا- فهو كونٌ عام محذوف، وهذا الذي شرحناه من قبل في الأسماء الموصولة، ولهذا قال ابن هشام هنا (وتعلقُهما بـ "مستقِرّ" أو "استقَرّ")، يعني: متعلقان بكونٍ عام محذوف، فتقدِّر أي كلمة تدل على مطلق الوجود، كـ "مستقر، موجود، كائن، حادث، حاصل" من دون بيان لصفته الخاصَّة، فالخبر هو الكون العام المحذوف، وأما شبه الجملة فهي في الحقيقة متعلقة بالكون المحذوف.
فأنت إذا قلتَ مثلًا: "محمدٌ في البيتِ" فالمعنى: محمدٌ مستقرٌّ وموجود في البيت، ولكنك لم تبيِّن صفته الخاصة، وأنت أصلا لم تُرد أن تبين لنا صفته الخاصة، هل هو نائمٌ في البيت أو مضروبٌ في البيت، أو مسجونٌ في البيت، أو يصلي في البيت؛ وإنما أردتَّ بيان مطلق وجوده في البيت، فهنا يجب أن تحذف الكون العام، فلا يجوز أن تقول: "محمد موجودٌ في البيت، أو محمد مستقرٌّ في البيت"؛ ويجب أن تحذف الكون العام، وذكره والتصريح به من العي.
أما لو أردتَّ أن تبيِّن لنا صفته الخاصة -أي: تبين كونًا خاصًّا فيه- فيجب أن تصرح، فتقول: "محمدٌ نائمٌ في البيت، أو مسجونٌ في البيت، أو يصلي في البيت"؛ فلن نعرف هذا الكون الخاص إلَّا بالتَّصريح به، إلا إن دلَّ عليه دليل، فحينئذٍ يدخل في قاعدة الحذف العام.
وأما الكون العام فيجب أن يُحذَف ونقدره بكونٍ عام، فإما أن تقدره:
- اسمًا، كـ "مستقر، موجود، كائنٌ.
- أو فعلًا، كـ "استقرَّ، وُجدَ، كان"، و"كان" هنا تامَّة وليست ناقصة.
لماذا لا نقول: إن شبه الجملة هي الخبر؟ فإذا قلنا: "محمد في البيت" أننا أخبرنا عن محمد أنه في البيت، فلماذا لم نقل: إنَّ "في البيت" هو الخبر؟
قليل من النحويين يقولون: هو الخبر، ولعل هذا تسمُّح منهم.
والصحيح أنه ليس خبرًا، وإنما هو متعلِّق بالخبر المحذوف -كما شرحنا-، ويمنع ذلك اللفظ والمعنى، فلو أننا بالفعل تأمَّلنا لوجدنا أنَّ اللفظ والمعنى يمنعان من أن نقول إنَّ شبه الجملة هي الخبر.
وأما كون اللفظ يمنع ذلك: فهذا ظاهر في الظرف، كما في الآية ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ﴾ فلو كان هو الخبر لقال: "أسفلُ"، وهكذا "محمدٌ فوقَ السطح، والكتابُ تحتَ".
وأما كون المعنى يمنع ذلك: فالمبتدأ في الحقيقة هو الخبر، والخبر هو المبتدأ؛ فهنا صحَّ الإخبار، فلم يصح أن تُخبر عن المبتدأ بخبر إلا إذا كان الخبر والمبتدأ هو الخبر، كقولك "محمدٌ جالسٌ"، فمحمد هو الجالس، والجالس هو محمد؛ ولذا صحَّ الإخبار. وكقولك "محمد سافر" فمحمد هو الذي سافر، والذي سافر هو محمد؛ فصحَّ الإخبار.
أما لو أتينا إلى شبه الجملة وقلنا "محمد في البيت" فمحمد معروف، أما "في البيت" يعني ظرف البيت أو خلاء البيت؛ فهل محمد هو فضاء البيت وخلاؤه؟
لا، ولكن المعنى يفهمه العربي أنَّ محمدًا موجود في هذا الفضاء وهذا الخلاء، أي: في هذه الظَّرفيَّة، والعربي يحذف الكون العام "موجودٌ"، فهنا ليس المبتدأ هو الخبر.
وإذا قلت "محمدٌ فوق السطح"، فـ "محمد" هذا الرجل، و"فوق السطح" يعني المكان الذي فوق السطح، فهل محمد هو هذا المكان؟
لا، ولكن المعنى الذي يقصد إليه العربي: محمد موجود في هذا المكان، ولكنه يحذف الكون العام.
فبانَ بذلك أن الخبر يقع شبه جملة في الظاهر كما قال ابن هشام والنحويون، ولكن في الحقيقة أن الخبر كونٌ عام محذوف، وشبه الجملة هذه الواقعة في الظاهر خبرًا متعلقة به.
فهذا آخر الكلام على ما أردنا أن نذكره في هذا الدرس، يبقى لنا ستُّ مسائل -بإذن الله تعالى- يُمكن أن نؤخرها إلى ردسٍ قادم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم. والشكر موصول لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، وإلى أمل أن نلقاكم في حلقة أخرة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. والسلام عليكم ورحمة الله بركاته}.