بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقة جديدة من حلقات البناء العلمي،
وكما لا أنسى أن أرحب باسمي واسمكم جميعًا بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر
الشثري، أهلا ومرحبًا بكم}.
حيَّاك الله، وأهلاً وسهلًا، أرحب بك، وأرحب بأحبتي ممن يشاهد هذا اللقاء، رزقهم
الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا، ونية خالصة، وهيأ لهم من أمورهم رشدًا.
{ابتدأنا في الحلقة الماضي بحديث جابر في صفة الحج، ولعلنا -إن شاء الله- في هذه
الحلقة نختم الحديث.
توقفنا عند قول جابر: (وَقَدِمَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْيَمَنِ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
في حديث جابر قال: (وَقَدِمَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْيَمَنِ)؛ لأنَّ
النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسله إلى اليمن قاضيًا ومُعلمًا ومُفتيًا.
قال: (بِبُدْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي: قَدِمَ بِبُدْنِ
النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهي جمع "بدنة" وهي ناقة الإبل، من أجل أن يُهدي
النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هذه البدن في حجَّته.
فلما قدم ذهب إلى زوجته فاطمة -رضي الله عنها- بنت النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
وفاطمة لم تَسُق الهديَ، وكانت تريد الحج، فلمَّا طافت وسعت أَمَرَها النَّبي -صلى
الله عليه وسلم- فيمن أمر من النَّاس بقلب النُّسُك من الإفراد إلى التَّمتُّع، وفي
هذا دلالة على أنه يجوز قلب النُّسك من الإفراد إلى التَّمتع حتى بعد السَّعي، وهو
الأصح من أقوال أهل العلم.
لما قَدِمَ عَليٌ دخل على فاطمة، فوجدها قد تزينت وتعطَّرت، هي حلال، ولكنه يظنها
أنها لازالت محرمة.
قال: (فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا
صَبِيْغًا واكْتَحَلَتْ)، فأنكر ذلك عليها، وفي هذا دلالة على أنَّ المرأة المُحرمة
لا تكتحل، ولا تلبس الثياب الجميلة المصبوغة، وكذلك تجتنب الطيب حال الإحرام، فأنكر
عليٌّ ذلك عليها، وقال: كيف تفعلين هذا وأنتِ مُحرمة أتيتِ للحج؟.
قال: (فَقَالَتْ: إِنَّ أَبي أَمَرَنِي بِهَذَ)، أي: أمرني بالحل، وفي هذا دلالة
على مشروعية انتقال مَن لم يَسُق الهديَ من الإفراد إلى التَّمتُّع.
الظاهرية قالوا: قولها: "أمرني" دلَّ على الوجوب.
والجمهور يصرفون هذا ويقولون: إن هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث
أبي ذر -كما ذكرنا قبل. وبعضهم يستدل ببعض الآثار عن الصحابة وغيرهم.
قال: قَالَ: (فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُول بِالعراقِ)، يعني: بعدما ذهب إلى العراق.
قال: (فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ)، لماذا تحل وهي لم تقف بعرفة بعد؟!
قال: (للَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنهُ)، مِنْ أَنَّه أَمَرَها أن تَقلِبَ نُسُكَها مِنَ
الإفراد إلى التَّمتُّع.
قال عليٌّ: (فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:
«صَدَقَتْ، صَدَقَتْ» )، أي: صدقت في دعواها بأنه أمرها بقلب النُّسك من الإفراد
إلى التَّمتُّع.
وخاطب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عليًّا في موضوع آخر، فقال له: «مَاذَا قُلْتَ
حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟»، يعني: هي قلبت النُّسُك من الإفراد إلى التمتع، لكن أنت
يا علي ماذا نويت؟ هل نويت الإفراد أو القِران أو التمتع؟ لأن الأنساك ثلاثة:
- إفراد: وهو حج وحده.
- وتمتع: وهو عمرة، ثم تحلل، ثم حج.
- وقران: وهو جمع بين العمرة والحج في نسك واحد.
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا قُلْتَ؟»، أي: ما هو النُّسُك الذي
اخترته.
قَالَ: (قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أُهِلَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فأخذ من هذا أنَّ ذكر نوع النُّسُك ليس شرطًا،
فلو قال: أحرمتُ، أجزأ، ولو لبَّى مع لبس المخيط أجزأ، ثم بعد ذلك يختار من الأنساك
ما يريد.
وفي هذا أيضًا دلالة على أنَّ تعليق نُسُك الإنسان على نُسُك غيره جائز؛ لأنه قال
له: (قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أُهِلَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: إني أهللت بإهلال لا تحلل معه، ولذا قال: «فَإِنَّ
مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تَحِلَّ»، أي: ابقَ على إحرامك؛ لأنَّك أصبحت مثلي وقد
سُقتَ الهديَ.
النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح أنه حجَّ قارنًا، والقارن بعد طوافه وسعيه
لا يُقصر ويبقى على إحرامه حتى يأتي بالحج معه.
قَالَ: (وَكَانَ جمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ
وَالَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائَةً)،
أي: المجموع مائة ناقة.
قَالَ: (فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُم وَقَصَّرُو)، أي: بعد سعيهم، تحللوا.
قال: (إِلَّا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ
هَدْيٌ)، فإنهم بقوا على إحرامهم.
قال: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ)، وهو اليوم الثَّامِنُ من شهر ذي
الحجَّة قبل يوم عرفة بيوم، وسمي بيوم التروية؛ لأنَّ النَّاس يأتون بالماء فيضعونه
في منى من أجل أن يكفيهم في أيام مِنى، وكانوا في الزمان الأول تلحقهم شدة شديد
فيما يتعلق بتهيأة أمور الماء، فيقتصرون فيه، واليوم من فضل الله -عزَّ وجلَّ-
تهيَّأت أمور المياه للحجيج، والدولة السعودية بذلك في ذلك شيئًا كثيرًا، فأصبح
الحجيج عندهم المياه متيسرة، ومثل: بقيَّة ما يحتاجون إليه من كهرباء، أو من أطعمة،
أو من طرقات، أو من غير ذلك.
قال: (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَىً فَأَهَلُّوا
بِالْحَجِّ)، يعني: الصَّحابة الذين حلُّوا أحرموا يوم التروية، وذلك ضُحى يوم
الثَّامِن.
وقوله: ( تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَىً فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ)، وردت الرويات أنهم
أهلوا بالحج من مكانهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام بالمُحصَّب من اليوم
الرابع إلى الخامس إلى السادس إلى السابع، واليوم الثامن ذهبوا إلى مِنى، وفيه
دلالة على أنه ليس من واجب الحج أن يكون الإنسان قريبًا من المسجد الحرام -مسجد
الكعبة- وأنه إذا سكن بعيدًا كسكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يترك الأفضل.
قال: (وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: إلى مِنَى،
وفيه مشروعية الركوب على الدواب، وبعض الناس يفضل الحج ماشيًا، نقول: الأفضل أن تحج
على أحسن وسائل المواصلات من أجل أن تتمكن من عبودية ربك -سبحانه وتعالى- فإن
الركوب أو المشي هذا وسيلة.
قال: (فَصَلَّى)، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- (بِهَ) أي: بمكة.
قال: (الظُّهْرَ)، صلى الظهر في اليوم الثامن -يوم التروية- ركعتين في وقتها.
قال: (وَالْعَصْرَ)، ركعتين مقصورة في وقتها.
قال: (وَالْمَغْرِبَ)، ثلاثًا.
قال: (وَالْعِشَاءَ)، ركعتين مقصورة في وقتها.
قال: (وَالْفَجْرَ)، في وقته.
قال: (ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا، حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ
شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ).
نمرة: مكان قبل عرفة، فعندك أول شيء مِنَى، ثم مزدلفة، ثم وادي مُحسِّر، ثم مزدلفة،
ثم بعد ذلك الجبال، جبال المأزمين ونحوها، ثم نمرة، وكان فيها نخيل في الزمان
الأول، ثم وادي عُرنة، ثم عرفة.
نمرة وعرنة وعرفة خارج حدود الحرم، مزدلفة ومِنَى داخل حدود الحرم.
قال: (وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا إِنَّهُ
وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، قريش كانوا يقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج
إلى الحل، فلا يقفون في عرفة، يقفون في المزدلفة -المشعر الحرام- ولا يذهبون إلى
الحل، يقولون: نحن اهل الحرم كيف نذهب إلى الحل، فخالف هديُ النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- هديهم وسار على طريقة إبراهيم -عليه السلام.
قال: (كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)، يعني من الوقوف في
مزدلفة.
قال: (فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: ذهب وترك
مزدلفة.
قال: (حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ)، المراد نمرة.
قال: (فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَ)، وهذه
ليست في حدود عرفة، ولا يصح الوقوف بها، جاء -صلى الله عليه وسلم- في نمرة نهارًا
ضحى.
قال: (حَتَّى إِذا زَاغَتِ الشَّمْسُ)، أي: زالت من كبد السماء إلى جهة الغروب.
قال: (أَمَرَ بالقَصْواءِ)، ناقته -صلى الله عليه وسلم.
قال: (فَرُحِلَتْ لَهُ)، أي: جُهِّزَت له.
قال: (فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي)، أي: بطن وادي عُرَنة.
قال: (فَخَطَبَ النَّاسَ)، أي: بطن وادي عُرنة، وهذا خارج حدود عرفة، فالخطبة لم
تكن في عرفة، واليوم لا زال خطيب عرفة يخطب خارج حدود عرفة في وادي عُرنة، طرف
المسجد المبني هناك وهو اليوم خارج حدود عرفة، يعني: من جهة الجنوب -طرف الزاوية-
ثم يميل حتى يصل إلى ثلث المسجد تقريبًا، هذا كله خارج حدود عرفة في وادي عُرنة،
ينتبه النَّاس أنه لا يصح الوقوف هناك، ولذلك لابد أن يرجع الإنسان بعد صلاته إلى
حدود عرفة.
خطب الناس -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُمْ
حَرَامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذَ»، تقرير مبدأ عظيم وهو حرمة الدماء
والأموال، والتأكيد والتغليظ في ذلك.
قال: «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذَا فِي شَهْرِكُم هَذَا، فِي بَلَدِكُم هَذَ».
ثم هدم أمور الجاهلية فقال: «أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ
قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»، أي: متروك، فكانوا يفخرون بآبائهم، سعي الإنسان لنفسه
وأبَّهته متروك، وهكذا أيضًا ما يتعلق السعي في الضغط على الناس لتقرير كل واحد ما
يريده؛ هدمه، ومن ذلك ما كان بينهم من الدماء، ولذا قال: «وَدِمَاءُ
الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ»، أي: لا ثأر فيها، انتهت الجاهلية بأوقاته.
قال: «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيْعَةَ بنِ
الْحَارِثِ»، وهو الحارث بن عبد المطلب، وهو عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وابنه
الربيعة هو ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان له ابن صغير أرسله إلى بني سعد،
فجاءت هذيل فغزت بني سعد فقتلت من بني سعد، وكان ممن قتلت هذا الغلام ابن ربيعة بن
الحارث، وكان هذا في الجاهلية، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإهدار هذا الدم،
وعدم أخذ الثأر فيه.
ثم قال: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ»، أي: ما كان في الجاهلية من معاملات
ربوية فإنَّ الزيادة التي في هذه المعاملات نقوم باطراحها، فالرِّبا أمر جاهلي لا
يحقق مصالح الخلق؛ بل يكون سببًا من أسباب فساد أحوالهم.
قال: «وَإِنَّ أَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ
فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ».
ثم قال -صلى الله عليه وسلم: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُم
أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ»، أي: إنما أخذتموهن من بيوت آبائهن برغبةٍ إنشاء
البيت والأسرة التي فيها الأمان وفيها الاستقرار.
قال: «واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»، أي: بعقد النكاح،
فاستحللتم وطء هذه الفروج.
قال: «وَلَكُم عَلَيْهِنَّ»، يعني: من الواجب لكم على الأزواج «أَنْ لَا يُوطِئْنَ
فِي فُرُشِكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ»، لا يُدخِلون بيوتكم أحدًا لا تريدون أن يدخل
إلى بيوتكم، وفيه ولاية المرأة على بيت زوجها، ولكنها مقيدة باستئذان الزوج.
قال: «فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ»، يعني: من المخالفة «فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ
مُبَرِّحٍ»، أي: غير موجع
قال: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُم رِزْقُهُنَّ»، يعني: واجب عليكم مأكلهن ومشربهن وما
يحتجن إليه.
قال: «وَكِسْوَتُهُنَّ»، أي: في ملابسهن، وفي فُرُشهنَّ «بِالْمَعْرُوفِ»، أي: بما
يتعارف الناس على بذله للزوجات.
ثم قال: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ- إِنِ اعْتَصَمْتُمْ
بِهِ- كِتابَ اللهِ»، الهداية والنور في هذا الكتاب العظيم.
ولذلك ينبغي بنا أن نتمسك بغرز الكتاب، وأن نُكثر من قراءته، وأن نستدل به، وأن
نعمل به.
ثم قال: «وَأَنْتُم تُسْأَلُونَ عَنِّي»، أي: يسألكم الله «فَمَا أَنْتُم
قَائِلُونَ؟» قَالُوا: (نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ،
وَنَصَحْتَ).
قال: (فَقَالَ: بإصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُها إِلَى السَّمَاءِ،
وَيَنْكُتُها إِلَى النَّاسِ)، ينكتها: يعني يُميلها إلى الناس.
قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وفيه: مخاطبة
الخطيب لمن يحضر الخطبة.
بعد أن انتهى من الخطبة أَذَّنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ثُمَّ أَقَامَ
فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ)، صلى العصر ركعتين، وفي هذا
تقرير لمذهب أحمد في أنَّ الصلوات المجموعة تكون بأذانٍ واحدٍ وبإقامتين.
قال: (وَلم يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيْئً)، يعني: ليس هناك سنَّة، فهو -صلى الله عليه
وسلم- كان مسافرًا.
قال: (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ركب -صلى الله
عليه وسلم- ناقته؛ لأنه خارج حدود عرفة، فركب جهة عرفة.
قال: (حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ)، يعني وصل إلى عرفة.
قال: (فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ -الْقَصْوَاءِ- إِلَى الصَّخَرَاتِ)، لم يصعد
الجبل، وإنما الصخرات التي في الجبل جعل بطن ناقته تجاهها.
قال: (وَجَعَلَ حَبْلَ المـُشَاةِ)، حبل المشاة: رَمل كان موجودًا أمامه، فجعله بين
يديه.
قال: (واسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفً) لم يزل واقفًا -صلى الله
عليه وسلم- على ناقته، لم ينزل من الناقة وزمامه بيديه.
قال: (حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ
القُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ)، أي: أردف أسامة بن زيد معه على ناقته.
قال: (وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ شَنَقَ
للقَصْواءِ الزِّمَامَ)، أي: شدَّها شدًّا كثيرًا من أجل ألا تسرع في مشيها.
قال: (حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ)، الرحل: ما يجلس عليه،
فشدَّه حتى إنَّ رأسها يأتي إلى الرحل الذي يجلس عليه، وكان يشير إلى الناس ويقول
لهم بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِيْنَةَ السَّكِيْنَةَ»، أي: لا
تسرعوا في مشيكم.
قال: (وَكُلَّمَا أَتَى جَبْلًا مِنَ الجبَال)، وفي لفظ: (حبلًا من الحبال)،
والجبال من الحجارة، والحبال من الرمال.
قال: (أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ)؛ لأنها تحتاج إلى نفسٍ من أجل أن
تصعد عليه.
قال: (حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلم يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئً)، أي: لم
يصلِّ نافلة بينهما.
قال: (ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى
طَلَعَ الْفَجْرُ)، ظاهر هذا أنه لم يصلِّ في مزدلفة، وأنَّه نام من أجل أنه يتقوى
على أعمال مِنَى.
وبعض أهل العلم قالوا: إنه أوتر؛ لأنَّ الوتر يأخذ وقتًا يسيرًا، وبالتالي لم يذكره
الرواة.
قال: (وَصَلَّى الْفَجْرَ -حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ- بِأَذَانٍ
وَإِقَامَةٍ)، وفي هذا دلالة على أنه بمجرد طلوع الفجر وبزوغه يجوز للإنسان أن
يصلي، ولو لم يسفر.
قال: (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ)، المشعر
الحرام المراد به هنا: الجبيل الصغير في طرف مزدلفة، وإن كان الأصل في كلمة "المشعر
الحرام" أن يُراد بها جميع مزدلفة.
قال: (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ)،
وهذا من مواطن إجابة الدعاء. فهنا موطنان:
- بعد الزوال في عرفة.
- وبعد الفجر في مزدلفة قبل أن تطلع الشمس.
قال: (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ
الشَّمْسُ)، كانوا في الجاهلية يقفون حتى تطلع الشمس، فخالفهم ودفع قبل طلوع الشمس.
قال: (وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بنَ عَبَّاسٍ -وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ
أَبْيَضَ وَسِيْمً)، يعني: كان الفضل بن عباس ابن عم الرسول -صلى الله عليه وسلم-
جميل المنظر.
قال: (فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَرَّتْ
بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِيْنَ)، أي: نوقٌ عليهن نساء، أو نساء يسرن على أقدامهن.
قال: (فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ
وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِ الآخَرِ يَنْظُرُ)، وليس فيه أنهنَّ كنَّ كاشفات الوجه،
وإنما ينظر إلى حركاتهن وأبدانهن.
قال: (فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ مِنَ
الشِّقِ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَصَرَفَ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِ الآخَرِ
يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ)، مُحسِّر: وادٍ بين مزدلفة ومِنَى، فيه
جاءت الطير على أبرهة والفيل، فماتوا هناك، فهذا من مواطن العذاب، ولذلك كان -صلى
الله عليه وسلم- يحرك عندما يأتي بطن مُحسِّر.
قال: (فَحَرَّكَ قَلِيلً)، أي: أسرع.
قال: (ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى)، لأن هناك ثلاثة طرق بين مزدلفة ومِنَ
في الزمان الأول، أحدهما على اليمين، والآخر على اليسار جنوب، والثالث في الوسط،.
قال: (الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى)، أي: هذه الطريق الوسطى تخرج
على الجمرة الكبرى. والجمرة: موطن رمي الجمار، وكان هناك ثلاثة جمار، وكانوا في
الزمان الأول مجمَع، ولا يوجد له شاخص، ولا يوجد له حوض؛ إنما بُنيت بعد عهد النبي
-صلى الله عليه وسلم- من أجل أن تُمسك الحجارة، والمطلوب هو رمي الحجارة في مجمع
الحصى يوم العيد -وهو اليوم العاشر- فترمى جمرة العقبة.
لماذا سميت جمرة العقبة؟
لأنه كان بجوارها جبل، وكانوا لا يرمون إلا من جهة واحدة، وبعض الناس قد يصعد على
الجبل ويرمي من فوق، وكان قريب منها شجرة.
قال: (حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ)، هذا هو الواجب، وأخذ هذه الحصيات يكون من الطريق.
قال: (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَ)، لا يقول "بسم الله"، وإنما يُكبر.
قال: (مِثْلِ حَصَا الْخَذْفِ)، يعني على قدر الإظفر.
قال: (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادي)، وليس من الجبل.
قال: (ثُمَّ انْصَرفَ إِلَى الـمَنْحَرِ)، أي: إلى مكان ذبح الهدي.
قال: (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَنَحَرَ مَا غَبَرَ)، ما غبر: أي ما بقي، ومقداره سبعة
وثلاثين ناقة، النبي -صلى الله عليه وسلم- ذبح ثلاثة وستين، وعلي ذبح سبعة وثلاثين.
قال: (وأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ)، لأن هذه نوق، والنوق يجوز فيها الشَّركة.
قال: (ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ)، أي: بقطعة لحم.
قال: (فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكْلا مِنْ لَحْمِهَا وشَرِبَا مِنْ
مَرَقِهَ)، وهذا فيه دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يأكل من لحم هديه.
قال: (ثُمَّ رَكَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَاضَ
إِلَى الْبَيْتِ)، يعني ذهب إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة بسبعة أشواط بدون سعي؛ لأن
القارن إذا قدم البيت قبل يوم عرفة فطاف فسعى، فيكفيه السعي الأول، وهذا هو الصحيح
من أقوال أهل العلم، ولا يلزمه سعي آخر، خلافًا للإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى.
قال: (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ)، صلى مع الناس عند الكعبة.
قال: (فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمٍ، فَقَالَ:
«انزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» )، فيه مشروعية سقي الحجيج، والسقي من زمزم.
قال: «فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ
مَعكُمْ»، فيه ترك الإنسان لشيء من العبادات مراعاة لعواقب الأمور والمصالح
المترتبة على ذلك.
قال: (فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ) -صلى الله عليه وسلم- وقد ورد أنه عاد
إلى مِنَى فوجد أصحابه لم يصلوا صلاة الظهر فأعاد معهم صلاة الظهر في يوم العيد
-يوم الحج الأكبر.
{وقال -رحمه الله: (وَلهُ عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنَىً كُلُّهَا
مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا
مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ».
وَعَنْ أَبي ذَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ
لأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لـمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا وَخَرَجَ مِنْ
أَسْفَلِهَا.
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي
طُوىً حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ فَعَلَهُ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى
يَثْرِبَ، قَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّه يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ
وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى ولَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي
الْحِجْرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ
يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَينَ الرُّكْنَيْنِ ؛ لِيَرَى
الْمُشْركُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّ الْحُمَّى وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْواطَ كُلَّهَا
إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِم. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسْلمٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَسْتَلِمُ غَيرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمانِيَيْنِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَابِسِ بنِ ربيعَةَ، عَنْ عُمرَ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ
فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ،
وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للبُخارِيِّ.
وَعَنْ أَبي الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ويَسْتَلِمُ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ المِحْجَنَ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ يَعْلَى -وَهُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: طَافَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ.
رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ
-وَصَحَّحَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوافُ بِالْبَيْتِ، وَبَينَ
الصَّفَا والمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ». رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذه الأحاديث في سياق وصف الحج في التعريف بشيء من أحكامه وأوصافه.
أولها: حديث جابر -رضي الله عنه- وقد رواه الإمام مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَحَرْتُ هَاهُنَ» )، يعني: في مكان
موجود في مِنَى.
قال: «وَمِنَىً كُلُّهَا مَنْحَرٌ»، أي: يجوز الذبح في كل أطراف مِنَى.
قال: «فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ»، وقد جاءت النُّصوص بأن أي مكان داخل حدود
الحرم يجوز النَّحر فيه. قال تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة:95]،
وقال: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة:196]، أي: مكان ذبحه وزمانه،
وبالتالي يجوز الذَّبح في أي مكانٍ من داخل حدود الحرم.
ومن فضل الله -عزَّ وجلَّ- في عصرنا الحاضر أن وُجدت المجازر الكبيرة التي يقوم
عليها جهات -يشرف عليها من قِبَل الدولة- تتولى النَّحر خصوصًا مع كثرة أعداد
الحجيج، وكونهم كانوا في الزمان الأول يذبح الإنسان هديه ويلقيه، فجاءت هذه المجازر
الكبيرة ليُنتفع بهذه الذبائح والهدي، وتُوزَّع على فقراء العالم الإسلامي.
قال -صلى الله عليه وسلم: «وَوَقَفْتُ هَاهُنَ»، أي: في مكان موقفه في عرفة.
قال: «وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»، أيُّ مكان وقف فيه الإنسان فإن وقوفه صحيح
ومُجزئ.
قال: «وَوَقَفْتُ هَاهُنَ»، يعني: في مزدلفة «وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»، وفي
هذا دلالة على أنَّه لا اختصاص لذلك المكان الذي نَحَرَ فيه أو وقف فيه؛ بل المواطن
متساوية، فلا فضيلة لأحدها على الآخر.
وفي هذا دلالة على أنَّ بعض أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها لخاصية في
ذلك الفعل، وإنما فعلها لكونها الأسهل والأيسر عليه، وبالتالي لا يُشرع الاقتداء
بتفاصيل الفعل وإن كان أصل الفعل مما يُشرع الاقتداء به.
ثم أورد من حديث أبي ذر، قال: (كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ لأَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً)، هذا يحتمل معنيين:
القول الأول: أن يكون مُراده أنَّ قَلبَ الحَجّ من الإفراد إلى التمتع خاص بأصحاب
النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما مَن بعدهم فلا يجوز لهم أن يقلبوا النُّسُك من
الإفراد إلى التمتع. وهذا قول الجمهور.
القول الثاني: قوله: (كَانَتِ الْمُتْعَةُ)، أي: كان وجوب المتعة ووجوب تحويل
النُّسُك من الإفراد إلى التمتع خاصًّا بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمَّا
المشروعية أو الاستحباب فهو باقٍ إلى قيام الساعة.
هذا الاحتمال الثَّاني عندي أنه أظهر، وهو الذي تجتمع عليه النُّصوص، ولذلك قال
لسراقة لما قال: (ألعامنا هذا. قال: «بل لأبد الأبد»).
ثم أورد من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَ)،
أي: من الجهة الشمالية من شمال مسجد الكعبة.
قوله: (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَ)، هذا من جنس الأفعال التي ذكرتُ قبل قليل، هل
هذا الفعل أمر مشروع، وبالتالي يُشرع لنا أن نقتديَ به في ذلك؟ أو إنما فَعَلَه
-صلى الله عليه وسلم- لكونه أسهل لدخوله وخروجه لا على جهة التَّقرب به إلى الله
-عزَّ وجلَّ؟
الظاهر هو الثاني، وبالتالي نقول: كلٌّ يدخل من جهته، وكلٌّ يدخل من الجهة التي هي
أسهل عليه في الدخول، وهكذا في الخروج.
ثم أورد حديث ابن عمر فقال: (عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ
مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوىً)، طُوىً: شمال مسجد الكعبة، إذا تركت التَّوسعة
السُّعودية الثَّالثة في وقت الملك عبد الله، على يمينك تكون حينئذٍ تكون قد وصلت
ذي طُوىً في طرف الزاهر، وكانت هناك بئر يبيت عندها، فإذا أصبح اغتسل فدخل مكة.
قال: (لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوىً حَتَّى يُصْبِحَ)، وابن عمر
كان من مذهبه أنَّ مواطن وجود النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم باتباعها، وقد
خالفه بقية الصَّحابة، وكانوا لا يرون لخصوصية المكان مزيَّة.
قال: (بَاتَ بِذِي طُوىً حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، ثُمَّ يدْخُلُ مَكَّةَ
نَهَارًا، وَيَذْكُرُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
فَعَلَهُ).
ثم أورد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَدِمَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ)، هذا في السنة
السَّابعة في عمرة القضيَّة؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء في السَّنة
السَّادسة وجعلوا صُلح الحديبية، وكان من بنود الصُّلح: أن يرجع ولا يعتمر، وأن
يعتمر السنة القادمة، فجاء بعد سنة فاعتمر في شهر ذي القعدة، فلما قدم النبي -صلى
الله عليه وسلم- وأصحابه مكة.
قال: (وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ)؛ لأنَّ يثرب كان فيها مياه محمومة أو
فيها حمى.
قال: (قَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّه يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ
وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى) الحمى: مرض الحرارة الشديدة التي تتعب البدن.
قال: (ولَقُوا مِنْهَا شِدَّةً)، أي: من الحُمَّى، فقالوا: نريد أن نشاهد محمدًا
وأصحابه وهم مرضى قد وهنتهم الحُمَّى وأضعفتهم.
قال: (فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ)، يعني: من الجهة الشمالية من الكعبة،
ويسمونه الآن "حجر إسماعيل" أو يسمونه "الحطيم" وهو الذي عند مرزام الكعبة، فجلسوا
في تلك الجهة.
فكان النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يأمر أصحابه أن يرملوا من الحجر الأسود إلى
أن يصلوا إلى الركن اليماني من أجل أن يشاهدوهم أهل مكة وهم يرملون، حتى يُبينوا
لهم أنَّ الحُمَّى لم تضعفهم ولم توهنهم.
قال: (وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَرْمُلُوا
ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا مَا بَينَ الرُّكْنَيْنِ؛ لِيَرَى الْمُشْركُونَ
جَلَدَهُمْ)، أي: ليرى المشركون قوتهم، وفي هذا مشروعية إظهار القوة للعدو ليكون
ذلك من أسباب إيقاع الهيبة في قلوبهم.
ثم إنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع رَمَلَ مِن الحجر الأسود إلى
الحجر الأسود، فنُسِخَ ترك الرمل بين الركن اليماني والحجر الأسود.
قال: (فَقَالَ الْمُشْركُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى
وَهَنَتْهُمْ -أي أضعفتهم- هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْواطَ
كُلَّهَ)؛ لأنهم رملوا ثلاثة أشواط فقط.
قال: (وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْواطَ كُلَّهَا
إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِم)، خشي أن يضعفهم. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ ابن عباس قَالَ: (لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَسْتَلِمُ غَيرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمانِيَيْنِ)، سمي بهذا الاسم "الركن
اليماني والحجر الأسود"
والركنان الآخران يقال لهما: الركنان الشَّاميَّان.
والنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قبَّل الحجر الأسود، ومسح الركن اليماني، ولم يقبل
الركنين الآخرين؛ لأنَّ هذين الركنين قد بقيا على طريقة إبراهيم -عليه السلام-
بخلاف الركنين الشَّاميين.
ثم أورد عَنْ عُمرَ، (أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: إِنِّي
أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ
رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)، فيه مشروعية تقبيل الحجر الأسود، وفيه
مشروعية الاتباع لهدي النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه أنَّ الدِّين ليس بالآراء
والاستنتاجات، وإنما بالاتباع.
ثم أورد من حديث أَبي الطُّفَيْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ويَسْتَلِمُ
الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ المِحْجَنَ)، المحجن: عصا في طرفها مثل
الدائرة وحديد.
وفي هذا: أنَّ مَن لم يستطع أن يُقبِّل الحجر الأسود فإنه يَستلمه بشيء ثم
يُقَبِّلهُ، إن استلمه بيده قبَّل يده، وإن استلمه بعصا قبَّل العصا، إذا لم
يتمكَّن فإنه يشير إلى الحجر الأسود، وقد ورد ذلك عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-
ثم أورد من حديث يَعْلَى -وَهُوَ ابْنُ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ:
(طَافَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ
أَخْضَرَ)، الاضطباع: هو إخراج اليد اليمنى، ووضع طرفي الرداء على الكتف الأيسر،
بحيث تكون اليد اليسرى مغطاة، واليد اليمنى واضحة ظاهرة.
وفي هذا: جواز الإحرام بالثياب ذوات الألوان، أخضر، أو غير هذا اللون، ولا يلزم أن
يكون أبيضًا، أهم شيء ألا يكون مفصَّلًا على مقدار العضو.
ثم أورد من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوافُ بِالْبَيْتِ،
وَبَينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ»، في
هذا بيان لمقصد من مقاصد الشريعة في إقامة هذه الشعائر، ألا وهو: أن يكون هناك ذكر
لله في هذه المناسك، وذكر لله -عزَّ وجلَّ- في القلب باستشعار أنَّ الإنسان يعبد
رَب العزة والجلال.
هذا الحديث وقع اختلاف بين أهل العلم فيه، هل هو مرفوع إلى النَّبي -صلى الله عليه
وسلم- أو هو من كلام عائشة؟
وجماهير أهل العلم يرجحون أنه من كلام عائشة -رضي الله عنها.
ولكن بعض أهل العلم قال: إنَّ عائشة لم تتكلم بهذا الكلام إلا لأنها قد سمعته، ومثل
هذا لا يقال في الرأي المجرد.
وعلى كلٍّ فإقامة ذكر الله هذا أمر مطلوب، وذكر الله قد يكون بالقلب، بأن تتذكر رب
العزة والجلال مخافة منه ورجاءً له، وهيبة له -جل وعلا- واستشعارًا لقدرته -سبحانه
وتعالى- وكذلك يكون ذكر الله باللسان تسبيحًا وتهليلًا، ويكون ذكر الله أيضًا
بالجوارح بطاعة رب العزة والجلال.
{قال المصنف: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ
أَنسَ بنَ مَالكٍ -وهُما غَادِيانِ مِنْ مِنَىً إِلَى عَرَفَةَ- كَيفَ كُنْتُم
تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْم مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ،
وَيُكَبِّرُ الـمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنكَرُ عَلَيْهِ.
وَعَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَال: سُئِلَ أُسَامَةُ
-وَأَنا جَالِسٌ- كَيفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ،
فَإِذا رَأَى فَجْوَةً نَصَّ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا.
وَعَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ
سَوْدَةُ رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ
تَدْفَعُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً
-يَقُولُ الْقَاسِمُ: والثَّبِطَةُ: الثَّقِيلَةُ- قَالَتْ: فَأَذِنَ لَهَا،
فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنا بِدَفْعِهِ
وَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ)}.
أورد المؤلف هنا عددًا من الأحاديث، قال: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي بَكْرٍ
الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُ سَأَلَ أَنسَ بنَ مَالكٍ -وهُما غَادِيانِ مِنْ مِنَىً إِلَى
عَرَفَةَ) غاديان: يعني ذاهبان في الصباح.
قال: ( كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْم مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟)، أي: ماذا كنتم تقولون؟
فَقَالَ: ( كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ)، يعني بالتلبية، فيقول: لبيك اللهم
لبيك فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ.
قال: (وَيُكَبِّرُ الـمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنكَرُ عَلَيْهِ)؛ لأنَّ هذه الأيام
أيام تكبير وهي من بداية العشر.
وأمَّا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فكان يُهل، وكان يُلبي، واستمر في التلبية حتى
رَمَى جمرة العقبة، وأمَّا أَصحابه فكان منهم الملبي، ومنهم المكبر، فدلَّ هذا على
مشروعية التكبير في هذه الأيام، وأنَّ غير الحجيج يُشرع لهم أن يُكثروا من التكبير.
ثم أورد من حديث هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَال: (سُئِلَ
أُسَامَةُ -وَأَنا جَالِسٌ- كَيفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟)، يعني: دفع من عرفة إلى
مزدلفة.
قال: (قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ)، وهو سير متوسط بين الإبطاء وبين الإسراع.
قال: (فَإِذا رَأَى فَجْوَةً نَصَّ)، أي: إذا وجد مكانًا خاليًا أسرع قليلًا.
ثم أورد من حديث الْقَاسِمِ، ولعلنا نجعله في لقائنا القادم.
بارك الله فيك، ووفق الله لكل خير، كما أسأل الله -جل وعلا- لإخواني ممن يرتبون هذا
اللقاء التوفيق لكل خير، وأن يجعلهم موفقين في كل أمورهم، كما أسأله -جل وعلا- أن
يصلح أحوال الأمة، وأن يبارك في إخواننا الذين يشاهدوننا، كما أسأله أن يصلح ولاة
أمور المسلمين، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ولا أنسى أن أشكركم أنتم
أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة، إلى
ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.