{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حَلقات البناء
العلمي، وكما لا أنسى أن أُرَحِبَ باسمي وباسمكم بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر
الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يرزقنا
جميعًا علمًا نافعًا وعملًا خالصًا، ونيَّةً صادقةً.
{انتهينا في الدرس الماضي من كتاب الحج، ولعلنا في هذا الدرس -بإذن الله- نبدأ في
كتاب الصَّيد والذَّبائح.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي
هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا -إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَو صَيْدٍ
أَو زَرْعٍ- انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ». قَالَ الزُّهْرِيُّ:
فذُكِرَ لِابْنِ عُمرَ قَولُ أَبي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا
هُرَيْرَةَ، كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ .
وَعَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «إِذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ
عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فاذْبَحْهُ، وَإِنْ
أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَكُلْهُ، وَإِنْ
وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ -وَقَدْ قَتَلَ- فَلَا تَأْكُلْ، فَإنَّكَ
لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ
اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ
فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ فَلَا تَأْكُلْ».
مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ .
وَلَهُ وَعَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ-
قَالَ: «إِذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ، مَا
لَمْ يُــنْـتِـنْ»)}.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياءِ والمُرسلين،
أمَّا بعد:
فهذا الكتاب يتعلق بأكل الحيوانات البريَّة، والحيوان البرِّي لا يجوز أن يُؤكل إلا
بذكاة، وهذه الذكاة على ثلاثة أنواع:
النَّوع الأول: الصَّيد: وذلك بأن يُرْسِلَ جَارِحًا كَالكَلْبِ، أو سَهمًا
مُحدَّدًا على حيوان فيقتله وَيَخْزِق ذلك الحيوان، فيكون من الحيوانات المأكولة.
النَّوع الثاني: الذَّبح والنَّحر، ويكون في الرقبة.
النَّوع الثالث: ما كان ممتنعًا من الحيوان، كما لو كان هناك جمل فسقط في بئر؛
فحينئذٍ لا يتمكنون من تذكيته، فلا بأس أن يقوموا باقتطاع أجزائه جزءًا جزءًا.
ذكر المؤلف أولًا حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- قال: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا -إِلَّا كَلْبَ
مَاشِيَةٍ أَو صَيْدٍ أَو زَرْعٍ- انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ».
في هذا الحديث تحريم اتِّخاذ الكلاب أيًّا كان مُراد مَن اتَّخذها، سواء اتَّخذها
لزينةٍ أو لِفُرجَةٍ، أو نحو ذلك، إِلَّا للأغراض التي ذُكرت في هذا الخبر.
وقوله: «إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ»، يعني: الكلب الذي يحرس الأغنام ونحوها.
قوله: «أَو صَيْدٍ»، يعني: كلب الصَّيد الذي يصيد الحيوانات.
قوله: «أَو زَرْعٍ»، هذه الأنواع الثلاثة يجوز اتِّخاذ كلبها.
وابن عمر روى هذا الخبر بدون لفظ «زرع»، وأبو هريرة رواه بزيادة هذا اللفظ، والنبي
-صلى الله عليه وسلم- قد يتكلم بالحديث في موطنين، فَيَسمَع أَحَدُ الصَّحابة
لفظًا، وَيَسمع الآخر شيئًا، وبالتالي تكون هذه الزيادة مقبولة.
وفي هذا جواز اتِّخاذ الكلب لهذه الأغراض الثلاثة، وألحقَ بعض العلماء ما كان
مماثلًا لها، كالحراسة، وفي زمننا الحاضر الكلاب التي تكون لملاحقة المجرمين
والتَّمكُّنِ من شمِّ المتفجرات ونحوها؛ فهذا مُستثنًى من هذا الخبر؛ لأنَّه مُلحق
بما ذُكِرَ، والتَّخصيص قد يكون بالنَّصِّ كما في قوله: «إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ
أَو صَيْدٍ أَو زَرْعٍ»، وقد يكون التَّخصيص بواسطة القياس على المنصوص.
وقوله: «انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ»، القيراط في الأصل واحد من
أربعة وعشرين جزءًا، ولذلك فسَّر بعض أهل العلم هذا اللفظ بأنَّ هذا المقدار -أو
هذه النسبة- من عمل ذلك العامل الذي اتَّخذ الكلب.
واستُدلَّ بهذا على المنع من بيع الكلب إمَّا مُطلقًا، وإمَّا في غير ما أُبيحَ
اتِّخاذ الكلب فيه.
ثُمَّ ذكر المؤلف حديث عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- قال: «إِذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ»، استدل
بلفظ "كلبك" على جواز تملُّك الكلب، وبعض المالكيَّة استدلَّ به على جوازِ شرائه،
والجمهور يقولون: لا يجوز بيع الكلاب، وإنما مَن انتهت حاجته أهداه لغيره، ومَن
أراده فإنه يقوم بتهيئته وتدريبه. وقول مالك في هذه المسألة أقوى -كما أشرنا إليه
بما سبق.
قال: «فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ»، في هذا ذِكْر شُروط الحيوان المَصيد بواسطة
الكلب:
- أن يكون الكلب مُرسلًا: فلو انطلق الكلب بنفسه لم يَحل صيده، فلابد أن يكون
مُرسلًا أي: يُؤمر بالانطلاق على الصَّيد.
- وَيُشترط أن يكون مُعلَّمًا لقوله: «كَلْبَكَ»، وقد جاء في النُّصوص ذكر أنَّ
التَّعليم يكون لكلبٍ يأتمر إذا أُمر بالانطلاق، ويكفَّ عن الانطلاق متى أُمرِ، ولا
يأكل مِن الصَّيد. هذا بالنسبة للكلاب المعلَّمة.
- واشترط أيضًا أن يُذكر اسم الله قبل انطلاق الكلب، أو قبل صيد الكلب، ولذا قال:
«فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ».
قال: «فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فاذْبَحْهُ»، فيه دلالة على
أنَّ الصَّيد متى أُدركَ قبل الوفاة فلابدَّ من تذكيته، ولا يجوز أن يُؤكل إذا
أُدرِكَ حيًّا حتى يُذكَّى.
قوله: «وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ»، يعني: إن أدركت الكلب المُعلَّم قد قتلَ
الصَّيد ولم يأكل منه شيئًا فكُله -وهذا الشَّرط الثالث كما تقدَّم- وهذا الشَّرط
خاص بالكلاب وَمَا مَاثَلها، أمَّا مَن كان يصيد بواسطة الطُّيور فإنه لا يُشترط
فيه هذا الشَّرط؛ لأنَّ الطير -كالصقر- لا يُمكن تعويده على عدم الأكل.
قال: «وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ -وَقَدْ قَتَلَ- فَلَا
تَأْكُلْ»، يعني: إذا وجدت مع كلبك كلبًا آخرًا ولم يُقتل الصَّيد بعد فإنه لابد من
تذكيته وبالتالي يحل، أمَّا إذا وجدت كلبك المعلم ومعه كلبًا آخرًا، ووجدت الصَّيد
قد مات؛ ففي هذه الحال لا يحل الصَّيد، لاحتمال أن يكون الكلب الأجنبي هو الذي قتل
وصاد.
وفي هذا دلالة على أنَّه إذا اجتمع سبب تحريم وسبب إباحة؛ فإنه يُقدَّم جانب
التَّحريم والحظر؛ لأنَّ الكَلبَ المُعَلَّم سَبَبُ إِبَاحةٍ، والكَلبُ الأجنبي
سَبَبُ تحريمٍ؛ فلمَّا اجتمعا هُنا مُنع مِن الأكل مِن هذا الصَّيد، ولذا قال:
«فَإنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ».
ثم ذكر الصَّيد بالسِّهام، فقال: «وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ
اللهِ»، هذا مُتَعَلِّق بالصَّيد بالسَّهم؛ فحينئذٍ قال جماهير أهل العلم: إنَّ
الصَّيد يُشترط فيه التَّسمية.
وبعض أهل العلم فرَّق بين النَّاسي والذَّاكر؛ ولكن هذا الخبر ظاهره أنَّ الصَّيد
لابُدَّ فيه من تسمية، بخلاف الذكاة، فقد يَنسى الإنسان التَّسمية ومع ذلك تحل
ذبيحته -كما سيأتي.
قال: «وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ
يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ»؛ لأنَّه
لم يُوجد إلَّا السَّبب المُبيح وهو سَهمُ الصَّيد، ولو طالت المدة.
واشترط في حديث أبي ثعلبة الآتي أَلَّا يكون قد أَنتن، بأن تتغير رائحته؛ لأنَّه
إذا تغيرت رائحته يكون حينئذٍ مِمَّا يَضر أَكله.
قال: «فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ
فَكُلْ إِنْ شِئْتَ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ»، أي: إذا وجدت الطَّير
والصَّيد الذي رميته بسهمك غريقًا في الماء «فَلَا تَأْكُلْ»؛ لأنَّه قد اجتمع فيه
سببان: السَّهم والغَرَق، فالسَّهم سبب إباحة، والغرق سبب تحريم؛ فَغَلَّبَ جانب
التحريم على ما تقدَّم من ذكر القاعدة السابقة.
وأشار المؤلف إلى حديث أَبي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
َسَلَّمَ- أنَّه قَالَ: «إِذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ
فَكُلْهُ»، ذلك أنه لم يوجد إلا سبب الإباحة، ولكن اشترط «مَا لَمْ يُــنْـتِـنْ».
{قال -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ:
أَنَّ أَعْرَابِيًّا -يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ
إِنَّ لي كِلابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِني فِي صَيْدِها، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ لَكَ كِلابٌ مُكَلَّبَةٌ، فَكُلْ مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ»، قَالَ: ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ، قَالَ: «ذَكِيٌّ وَغيرُ
ذَكِيٍّ» قالَ: وَإِن أَكَلَ مِنْهُ؟، قَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» قَالَ يَا
رَسُول الله أَفْتِنِي فِي قَوْسِي؟ قَالَ: «كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ»،
قَالَ: ذَكِيٌّ وَغيرُ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: «ذَكِيٌّ وَغيرُ ذَكِيٍّ»، قَالَ: وَإِن
تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: «وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ، مَا لَم يَصِلَّ، أَو تَجِدْ
فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِكَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيُّ،
وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى عَمْرو، وَقدْ أُعِلَّ)}.
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف أصله حديث أبي ثعلبة الذي سبق، وهو في صحيح مسلم، وقد
اختُلِفَ في هذا الخبر:
فمرَّة رُويَ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
ومرة رُويَ من طريق عمرو بن شعيب عن رجل من هذيل.
ولذلك وقع التَّردد في هذا الخبر، وحكم عليه بعضهم بأنه حديث معلول كما أشار إليه
المؤلف.
وقوله: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا -يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ- قَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ إِنَّ لي كِلابًا مُكَلَّبَةً)، يعني: مُعلَّمة.
قوله: (فَأَفْتِني فِي صَيْدِه)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
َسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ لَكَ كِلابٌ مُكَلَّبَةٌ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكَ»، فيه حِل صيد الكلاب بالشروط السَّابقة: أن يكون الكلب مُعلمًا، وأن يكون
مُرسلًا، وأن يكون قد ذُكر اسم الله عليه.
قال: (قَالَ: ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ)، يعني: سواء كان مُذكَّى بأن يُذبح في
رقبته، أو غير ذَكي يعني: لم يتعرض للذَّكاة.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «ذَكِيٌّ وَغيرُ ذَكِيٍّ».
قالَ: (وَإِن أَكَلَ مِنْهُ؟)، هذا موطن الشَّاهد، فإن أكل منه؛ فإنَّ الجمهور يرون
أنَّ كَلب الصَّيد إذا أكل من الصَّيد فلا يجوز أن يُؤكل مِنَ الصَّيد؛ لأنه إنَّما
صَادَ لِنَفسه وَلَم يَصد لِصَاحِبه، ولذلك هذه اللفظة قد تُكُلِّمَ فيها؛ لأنها
زيادة عن رواية أبي ثعلبة التي أشار إليها المؤلف قبل قليل.
قوله: (قَالَ يَا رَسُول الله أَفْتِنِي فِي قَوْسِي؟ قَالَ: «كُلْ مَا رَدَّتْ
عَلَيْكَ قَوْسُكَ»)، أي: ما صدته بالقوس، وتمكنت من إيقافه من الطيور.
قَالَ: «ذَكِيٌّ وَغيرُ ذَكِيٍّ»، قَالَ: وَإِن تَغَيَّبَ عَنِّي؟ قَالَ: «وَإِنْ
تَغَيَّبَ عَنْكَ، مَا لَم يَصِلَّ، أَو تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِكَ»)،
يعني: إذا وُجد سبب للوفاة غير سهمك فحينئذٍ لا يجوز لك أن تأكل منه.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا للنَّبِيِّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنا بِاللَّحْمِ لَا
نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ
أَنْتُمْ وكُلُوهُ» قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيْثِي عَهْدٍ بالْكُفْرِ. رَوَاهُ
البُخَارِيُّ).
قوله هنا: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا
للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ)، يعني: سألوه، وأرادوا أن يستفصلوا
منه عن أحكام اللحوم.
قال: (إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ
عَلَيْهِ أَمْ لَا؟)، يعني: عند ذكاته.
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنَّ هذا اللحم حلال، وقَالَ-صلى الله عليه وسلم:
«سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وكُلُوهُ»، وفي هذا دلالة على أنَّ الأصل في اللحوم هو
الإباحة، وبعض العلماء يقول: إنَّ الأصل هو التَّحريم.
متى يُحتاج للأصل؟
المسائل أربعة أنواع:
مَا فِيهِ دَليل إِبَاحة فقط: فَنحكم عليه بالإباحة.
ما فيه دليل تحريم فقط: فنحكم عليه بالتَّحريم.
ما اجتمع فيه دليل إباحة ودليل تحريم: نُغَلِّب جانب التَّحريم -كما تقدَّم في
حديث عدي بن حاتم السابق.
ما لم يوجد فيه دليل إباحة ولا دليل تحريم: نَحكُم فيه بقاعدة الأصل.
وَهُنا حَكَمَ عليه بالإباحة، فَدَلَّ هذا على أنَّ الأصل في اللحوم هو الحِل
والإباحة.
(قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيْثِي عَهْدٍ بالْكُفْرِ)، استدل جماعة بهذا الخبر على
أنَّ الذَّكاة لا يُشترط فيها التَّسمية.
وبعضهم قال: إنَّ هؤلاء يَغلب عليهم النسيان للتَّسمية، فلذلك سُئِلَ، ولهذا قال
بعضهم: التَّسمية حالَ النسيان ليست مشترطة في حلِّ الذَّكاة.
{أحسن الله إليكم يا شيخ..
ما حكم أكل اللحوم المستوردة من البلاد الغير إسلاميَّة}.
اللحوم التي تُستورد على أنواع:
النوع الأول: ما قام فيه دليل تحريم، كما لو كانت مخنوقة -وهو واضح- أو كانت مضروبة
على رأسها، أو كانت قد أُتيَ عليها بالكهرباء فصعقت؛ فهذه لا تحل بسبب التَّحريم.
النوع الثاني: ما قام الدليل على أنها مُذكاة: كشهادة مركز إسلامي، أو نحوه، فهذه
على الحل والجواز؛ لأنَّه وُجد فيه دليل إباحة فقط.
النوع الثالث: ما وُجد فيه سبب تحريم وسبب إباحة، مثل: أن يكون الغالب على أهل
البلد الكفر الذي لا تحل ذبيحة أصحابه، كالمشركين والمجوس، فحينئذٍ يُحكم عليه بحكم
الأغلبية، فالبلدان التي أغلب أهلها مجوسًا أو وثنيين، أو مُلحدين؛ فلا يجوز أكل
الذبائح التي لا يُعلم عن حقيقتها.
بخلاف البلدان البُلدان التي غالب أهلها ممَّن تحل ذبائحهم، كاليَهود والنَّصارى؛
فهذه يجوز أكل ذبائحهم.
{قال -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ: أَنَّ قَرِيبًا لِعَبدِ اللهِ
بنِ مُغِفَّلٍ خَذَفَ، قَالَ: فَنَهَاهُ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- نهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَصِيْدُ
صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ
العَيْنَ»، قَالَ: فَعَادَ، فَقَالَ أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ َسَلَّمَ- نهَى عَنهُ ثُمَّ تَخْذِفُ؟! لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلم)}.
المراد بالخذف: الرَّمي بالحصى الصغار، وكانوا في الجاهلية يأتون بالحصاة الصغيرة
على حجم الظفر ويضعونها بين السَّبابتين ثم يُحركها، وفي مرات يضعها بين الإبهام
والسبابة فيرمي بها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف- وهو الرمي بهذا
الحصى الصغار- ثم علل فقال: «إِنَّهَا لَا تَصِيْدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ
عَدُوًّ»، يعني: لا تُؤذي العَدو.
قال: «وَلكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ»، لو جئت لأحد أمامك ورميته بمثل هذه الحصاة
فقد تكسر سنَّه.
قال: «وَتَفْقَأُ العَيْنَ»، ومن ثَمَّ فضررها أكثر، وبالتالي يُنهى عن الخذف.
قريب عبد الله بن المغفل خذف فنهاه، وبيَّنَ له الحديث النبوي الوارد في ذلك، فعاد
الرجل وخذف، فقال: (أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
َسَلَّمَ- نهَى عَنهُ ثُمَّ تَخْذِفُ؟! لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدً)، أي: أهجرك لكونك
خالفت النَّهي الوارد عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دلالة على حُجيَّة الأخبار النَّبويَّة، وأخبار الآحاد، ولذلك هَجَرَه
عندما لم يمتثل لما وَرَدَ عَن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وقع إجماع الصحابة
-رضوان الله عليهم- على حُجيَّة أخبار الآحاد في الحديث النبوي.
{قال -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا
شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضً»).
قوله: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضً»، المراد بالشيء الذي فيه
الروح: الحيوانات الحيَّة، فلا يجوز أن تُتَّخذ هَدفًا في الرَّمي بحيث يَرمون
السِّهام ويقول: من يصيد هذا الحيوان؟
وضع مرَّة بطَّةً، ومرةً أرنبًا، ويُمسكونه، ثم يُسدِّدون إليه السِّهام، فهذا
مَنهي عنه، والحيوان الذي يُفعل به ذلك إذا مات فهو ميتة لا يجوز أكله.
وفي هذا دلالة على حِرص الشريعة على ترك إيذاء الحيونات، والعناية بها.
{قال المؤلف: (وَعَن جَابِرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- أَن يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا.
رَوَاهُمَا مُسلم)}.
قوله: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ)، الأصل أنَّ النَّهي
يَقْتَدي التَّحريم والمنع.
وقوله: (أَن يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ)، الدواب: الحيونات التي تَدبُّ على
الأرض.
قوله: (صَبْرً)، يعني: تُحبَس، ثم يأتي القصَّاب فيذبحها وهي تشاهد، وذلك مراعاة
لشعور هذا الحيوان، فانظر إلى ما اشتملت عليه الشريعة من عناية ورفق بالحيوان حتى
في شعوره، فلا يُقتل صبرًا، أي: وهو يُشاهد.
{قال المؤلف: (وَعَن رَافعِ بنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللهِ إِنَّا لاقُو الْعَدوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعنا مُدَىً؟ قَالَ:
«أَعْجِلْ أَو أَرِنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ -لَيْسَ
السِّنَّ وَالظُّفُرَ- وَسَأُحَدِّثُكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا
الظُّفُرُ فمُدَى الْحَبَشَةِ». قَالَ: وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ
مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «إِنَّ لهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ
الْوَحْشِ، فَإِذا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ. قَالَ زَائِدَةُ: يُرَوْنَ مَا فِي الدُّنْيَا
حَدِيثٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْسَنَ مِنْهُ)}.
قوله: (وَعَن رَافعِ بنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللهِ إِنَّا لاقُو الْعَدوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعنا مُدَىً؟)، يعني: ليس معنا
سكاكين نتمكَّن بها من ذبح بهائمنا التي نريد أن نأكلها فنتقوى بها على العدو الذي
سنلقاه غدًا.
وفي هذا مشروعية تقوية الأبدان خصوصًا عند ظنِّ مُلاقاة العدو.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «أَعْجِلْ أَو أَرِنِي».
ثم ذكر قاعدة فقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ»، أي: ما كان سببًا في خروج الدم من
الحيوان عند الذكاة.
قوله: «وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ»، في هذا دلالة على أنَّه لابد في الذَّكاة من
إنهار الدَّم، والذي في رَقبة الحيوان أربعة أشياء:
- الودجان: وهما عرقا الدَّم، أحدهما في اليمين، والآخر في الشمال.
- والمريء والحلقوم: أحدهما للهواء، والآخر للطعام.
فحينئذٍ ما هو الذي يجب على المذكي أن يقطعه؟
إن قطع الأربعة حلَّت البهيمة باتِّفاق أهل العلم.
لكن إذا لم يفعل ذلك فحينئذٍ ما الحكم؟
- إن قطع المريء والحلقوم وأحد الودجين فإنها تحل، لكونه أنهر الدم من أحد الودجين.
- وإن قطع الودجين والحلقوم -هو مجرى النفس- فحينئذٍ تحل الذبيحة.
- وإن قطع ودجين ومعه المريء فالظاهر أيضًا أنه يُجزئ، وأنه تحصل الذكاة بذلك.
واستدل بعض أهل العلم بهذا الخبر على أنَّ مِن شَرط حِل الحيوان المُذكَّى أن يُذكر
اسم الله عنده، والعلماء لهم ثلاثة أقوال:
منهم من قال في الذكاة: أنها تحل ولو لم يُذكر اسم الله عليها. وهذا هو مذهب
الإمام الشافعي.
ومنهم من يقول: لا تَحل الذكاة حتى يُذكر اسم الله عليها، ولا يُفرق في هذا بين
النَّاسي والعامد.
ومنهم مَن قال: يُشترط ذكر اسم الله عند تذكر التَّسمية، ولا يشترط ذلك عند
نسيانها.
قال: «فكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ»، في هذا عدم حِل الحيوان المذكى بواسطة
الأسنان، سواء كانت أسنانًا آدميَّة أو أسنانًا حيوانيَّة، وهكذا أيضًا الظفر، فلا
يحل الحيوان المذكى بواسطة الظفر، سواء كانت أظفار بني آدم أو كانت أظفار حيونات
أخرى.
وعلَّلَ ذلك بأنَّ السن عظم، واستدل بهذا طائفة على أنه لا تحل الذكاة بالعظام؛
لأنَّه عَلَّل عدم حِلِّ ذكاة السِّنِّ لكونه عظمًا، قالوا: فهكذا بقيَّة العظام
تأخذ حكمه.
قال: «وَأَمَّا الظُّفُرُ فمُدَى الْحَبَشَةِ»، أي: سكاكينهم التي يستعملونها.
قَالَ رافع: (وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ)، يعني أنهم في غزوة غزوا فيها
عدوًّا من أعدائهم ممَّن بينهم وبينه غاراتٌ وأخذ مالٍ، فوجودا إبلًا وغنمًا
فأخذوها.
قال: (فَنَدَّ)، أي: هرب منها بعير، وحينئذٍ هو معجوز عن تذكيته.
قال: (فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ)، ولعله ما بسبب ذلك، فهنا معجوز عن
تذكيته فيُذكى في أي جزء من أجزاء بدنه -كما تقدم.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «إِنَّ لهَذِهِ الْإِبِلِ
أَوَابِدَ»، قيل إنَّ المراد به: توحُّشٌ أو نفرة من الناس.
وقيل إن المراد بالأوابد: ما يربطها ويمسكها.
قال: «كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ»، أي: كتوحش الحيوانات المتوحشة.
قال: «فَإِذا غَلَبَكُمْ»، أي: عجزتم عن ذكاة شيءٍ منها «فَاصْنَعُوا بِهِ
هَكَذَ»، أي: ارموه بالسهم أو اقطعوه من طرفه.
{قال -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ كَعْب بن مَالكٍ: أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً
بِحجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ-؟ فَأَمَرَ
بِأَكْلِها. رَوَاهُ البُخَارِيّ)}.
في هذا حل الذكاة من المرأة كما تحل ذكاة الرجل، وفي هذا حل الذكاة التي تكون بحجر،
ويظهر أنَّ هذا الحجر كان حادًّا يُمكن ذكاة الشَّاة به، وهذه المرأة كانت تَرعى
الغنم فأصابت إحدى الشياة التي كانت معها الموت، أي: حَلَّت بها مقدمات الموت؛
فأخذت حَجرًا فذبحتها فدكَّتها.
(فَسُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ-؟ فَأَمَرَ بِأَكْلِه)، أي:
أباح أكلها؛ لأنَّ الأمر بعد توهم المنع والتَّحريم يدل على الحِلِّ والإباحة.
{قال المؤلف: (وَعَن شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتانِ حَفِظْتُهُما عَنْ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ
الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا القِتْلَةَ،
وَإِذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ
وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». رَوَاهُ مُسلم)}.
هذا الحديث فيه فريضة الإحسان، فيُحسِنُ الإنسان إلى كل شيء.
وقوله: «عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» يشمل الإنسان، ويشمل المؤمن والكافر، ويشمل الحيوان،
ويشمل حتى الجمادات.
وفي هذا الحديث: الأمر بإحسان القِتلة عند القتل، سواء كان في قصاص أو في حد أو في
جهاد، ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلًا، ولذا نُهيَ عن المُثلة وهي تقطيع أجزاء
الميت.
قال: «وَإِذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»، فيه الأمر بإحسان الذبح، ومن
إحسان الذبح أن يُحدَّ الإنسان شفرته كما في الخبر «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ
شَفْرَتَهُ»، الشفرة هي السكين، وَحَدُّهَا أن تُجعل حادَّة غير كالَّة بحيث يُسرع
بإزهاق روح الحيوان.
قوله: «وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، يعني: أي سبيل يُؤدي إلى إراحة الذبيحة، وطريقة
الذبح بأن يُمر السِّكين بسرعة، أو أن يجعلها على جنبها، فإنه مأمور به شرعًا.
{قال المؤلف: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ
أُمِّهِ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ)}.
قوله: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ»، المراد بالجنين: ما يكون في بطن الحيوان ولم يتم خروجه
بعد، إذا ولدته فله ذكاة مُستقلة، ولابد أن يُذكى، ولكن الجنين الذي في بطن الأم
الشَّاة أو بطن النَّاقة أو بطن البقرة؛ فإِذَا ذُبِحَت البقرة فوجد في بطنها
جنينًا؛ فحينئذٍ نسأل: هل يحتاج هذا الجنين إلى ذكاة أو لا يحتاج إلى ذكاة؟
الجمهور قالوا: لا يحتاج إلى ذكاة.
الحنفية قالوا: لابد فيه من ذكاة.
استدل الجمهور بهذا الخبر لأنه قال: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»، أي:
أنَّ ذكاة أمِّه تَكفي في ذكاته، وهذا مِن أَنواعِ دَلالةِ مفهوم الحَصر، فإنَّ
المبتدأ هنا («ذَكَاةُ الْجَنِينِ») مُعرَّف بالإضافة، فيفيد حينئذٍ انحصاره في
الخبر، وبالتالي تكون ذكاة الأم ذكاةً للجنين، وهذا هو مذهب الجمهور وهو ظاهر هذا
الخبر.
{قال-رحمه الله تعالى: (كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ
عَن مَالكٍ، عَن إِسْمَاعِيلَ بنِ أَبي حَكِيمٍ، عَن عُبَيْدَةَ بنِ سُفْيَان، عَنْ
أَبي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
َسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ»)}.
قوله: (كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ)، المراد به: ما يؤكل من أنواع الأطعمة والمطعومات،
والأصل في باب الأطعمة أنها على الحل والجواز، والأطعمة على نوعين:
حيوانات تحتاج إلى تذكية.
وغيرها من أنواع المأكولات، كالنباتات، والمصنوعات.
وأورد المؤلف في هذا الباب حديث أبي هريرة، وقد أخرجه الإمام مسلم أنَّ النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ»،
المراد بالنَّاب: ما يكون في الأسنان كبيرًا، ويتمكَّن به من أكل الحيونات
واصطيادها، وهذا يشمل: الأسد، والنَّمر، والفهد، والذِّئب؛ وكل هذه من ذوات الأنياب
وهي السِّباع. والمراد بالسِّباع: التي تعدو على غيرها من الحيونات.
أمَّا الفيل فإنَّ له نابًا، ولكنه ليس مِنَ السِّباع، ولذلك وقع الاختلاف فيه،
فمنعه طائفة؛ لأنه من ذوات الأنياب، وأجازه آخرون؛ لأنَّه وإن كان من ذوات الأنياب
إِلَّا أَنَّه ليس من السِّباع.
وقوله هنا: «فَأَكْلُهُ حَرَامٌ»، يعني: يأثم الإنسان بتناوله، واستدل بهذا على
أنَّ ذوات الأنياب نجسة؛ لأنَّه لمَّا حَرَّم أَكله دلَّ ذلك على نجاسته أخذًا من
قاعدة: دلالة النَّهي على الفساد.
وقد ورد في بعض الأخبار في الصحيحين أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل ذي
نابٍ من السباع)، وأعرض المؤلف عن اللفظة المتفق عليها وجاء بلفظة مسلم لتصريحها
بالتَّحريم؛ لأنَّه وإن كان الأصل في النَّهي الدَّلالةِ على التَّحريم، لكنه قد
يُصرف عن التحريم لوجود قرينة.
{قال المؤلف: (وَعَن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ،
وَعَن كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. رَوَاهُمَا مُسلم).
قوله: (عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)، تقدَّم في الحديث الذي سبقه.
قال: (وَعَن كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ)، المخلب: الأظافر التي يصيد بها، وهذا يشمل:
الصقر، والبازي، والنسر، وما ماثلها من الطيور التي تصيد بنابها.
{قال المؤلف: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ- نهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَن لُحُومِ الْحُمُرِ
الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ
البُخَارِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيلِ).
قوله: (نهَى يَوْمَ خَيْبَرَ)، يوم غزو خيبر في السنة السابعة للهجرة في أوائلها،
وفي ذلك اليوم نهى عن الحمر الأهلية، والحمار على نوعين:
النوع الأول: الحمار الوحشي الذي يعيش في الصحراء في جماعات، وَصِفَتُه أنه مُخطَّط
اللون، فهذا حلال ويجوز أكله، وهو نوع من أنواع الصَّيد، وليس من ذوات الأنياب،
وليس من الحمار الأهلي، فيجوز أكله.
النوع الثاني: الحمار الأهلي الذي يعيش بين النَّاس، وفي يوم خيبر أخذ النَّاس
الحمير فذبحوها وطبخوها، فنهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم عن لحوم
الحمر الأهليَّة، وأمرهم بإلقاء ما في القدور، وفي هذا دلالة على التَّشديد في
تحريم الحمار الأهلي.
وقوله: (وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْل) وفي لفظ: (وَرخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْل)،
الخيل جائز أكله عند جماهير أهل العلم، واستدلوا بهذا الحديث، وبحديث أسماء، قالت:
(نحرنا فرسًا لنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلناه).
وذهب فقهاء الحنفية إلى تحريم أكل لحوم الخيل، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها قوله
تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:8]، قالوا: لم يذكر من فوائدها الأكل،
وعطفها على البغال والحمير وهي مما لا يجوز أكله، فدلَّ ذلك على تحريم الجميع،
وأنها تشترك في التَّحريم، وهذا يُسمَّى عند العُلماء بدلالة الاقتران، وهي ضعيفة
عند أكثر العلماء، فإنه إذا عُطف بين شيء وشيء في حكم فلا يعني أنه يأخذ حُكمه في
كل شيء.
وقالوا: إنه قد ذكر في الآية: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل:5]، فجعل الأنعام على شيء، والخيل
والبغال والحمير على شيء، فالأُولى ذَكَرَ فيها الأكل فَدَلَّ على أنَّ الثَّانية
لا تُؤكل.
ولكن الأحاديث الواردة في الباب صريحة، ولذلك فالصواب هو حِلُّ أكل لحوم الخيل وعدم
صحَّة قول مَن قال: إنه لا تَحل الخيل.
بارك الله فيك ووفقك الله لكل خير، وجميع من يشاهدنا ويستمع إلينا أسأل الله لكم
رفعة الدرجة عند ربِّ العزَّةِ والجلال، وصلاح أحوال في دنياكم وآخرتكم، هذا والله
أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما قدمتموه، أسأل الله أن يجعله في موازين
حسناتكم.
وهذه تحيَّة طيِّبة من فريق البرنامج ومنِّي أنا لكم أيها المشاهدون، إلى أن نلقاكم
في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.