{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي
الشيخ}.
حيَّاكَ اللهُ، أهلًا وسهلًا، وأرحبُ بَكَ وأرحبُ بإخواني الأعِزَّاء، وأسألُ اللهَ
-جلَّ وَعَلَا- أن يجعلَ هذا اللقاء لقاءً نافعًا مُباركًا.
{سنبدأ في هذا الدرس -بإذن الله- مِن حديثِ جَابِر بن عَبدِ الله -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُما- قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ
الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ مَكِيْلَتُها بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى
مِنَ التَّمْرِ.
وَعَنْ مَعْمَرِ بنِ عبدِ اللهِ: أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ،
فَقَالَ: بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرًا، فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ
صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ، فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذلكَ
فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ انْطَلِقْ فَرُدَّهُ، وَلَا
تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمعُ رَسُولَ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا
بِمثْلٍ»، وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ الشَّعِيْـرَ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ
لَيْسَ بِـمِثْلِهِ؟ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسَلين،
أمَّا بعدُ:
فتقدَّم معنا أنَّ النُّصوص قد تواترت بتحريمِ الرِّبَا، وأنَّ الرِّبَا على أنواع:
النَّوع الأوَّل: ربا الفضل: وهو بيعُ ربويٍّ بجنسِه مُتفاضلًا.
والمراد بالرِّبوي: كلُّ سلعة وُجدَ فيها علَّة الرِّبا، وهي إحدى ثلاث صفات: إمَّا
الثَّمنيَّة، وإمَّا الكيلُ والطُّعمُ، وإمَّا الوزنُ والطُّعمُ.
وقولنا "بجنسه": أي ما يدخل معه تحت مُسمّى واحد، فتسمِّيه العرب اسمًا واحدًا، ومن
ذلك: بيع البُرِّ بالبُرِّ مُتفاضلًا، والشَّعير وبالشَّعير مُتفاضلًا، والذَّهب
بالذَّهب مُتفاضلًا، والفضَّة بالفضَّة مُتفاضلًا، والتَّمر بالتَّمر متفاضلًا.
إذا اختلفت الأصناف فحينئذٍ لا يكون من رِبا الفَضل؛ لأنَّه لم يُبَع الرِّبوي
بجنسِهِ، وإنَّما بيعَ بجنسٍ آخرٍ.
والنَّوع الثَّاني: ربا النَّسيئة: وهو بيع رِبويٍّ بربويٍّ يُماثله في العِلَّة
أحدهما مؤجَّل أو كلاهما.
ومِن ذلك: بيع الذَّهبِ بالفضَّةِ أحدُهما حاضرٌ والآخر مُؤجَّلٌ، فهذا يُقال له
ربا النَّسيئة، وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ
هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ، فإذا
كان الصِّنفان ربويينِ مِن علَّةٍ واحدةٍ فلابدَّ مِن التَّقابضِ في المجلسِ، ولا
يُشترطُ التَّساوي إلا عندَ اتِّحادِ العلَّة.
النَّوع الثَّالث: ما يُجمع فيه بينَ رِبا الفضل وربا النَّسيئة، ومِن أمثلته: أن
يُعطيَه ألفًا على أن يُعطيه ألفًا وخمسمائة بعدَ شهرٍ أو سَنةٍ، فهنا هو رِبا فضل؛
لأنَّه بيعٌ ربويِّ بربويٍّ مِن جنسه أحدهما مُتفاضلًا، وهو في نفسِ الوقتِ ربِا
نَسيئة؛ لأنَّه بيع ربوي بما يُماثله في العِلَّة أحدهما مُؤجَّل.
وبالتَّالي نفهم مَا وَرَدَ من أحاديث الباب فيما يتعلق بالرِّبَا.
وقد اشتملت الأحاديث أيضًا على النَّهي عن التَّحيُّل على الرِّبَا، فمنعت مِن
الحيل الرِّبويَّة.
أورد المؤلِّف هنا حديث جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنَّ رسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نهَى)، والنَّهيُ يُفيد التَّحريم، ويُفيد عدم
الصِّحة -الفَسَــاد.
قال: (عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ)، الصُّبرة: هي كَومة الطَّعام.
قال: (مِنَ التَّمْرِ لَا يُعْلَمُ مَكِيْلَتُه)، يجمعون تمرًا ويضعونه كومة واحدة
-أو صبرة واحدة- ثم يبيعونه في مقابل تمرٍ آخرٍ، فهنا منع الشَّارع منه؛ لأنَّه
يُخشَى مِن رِبَا الفَضل، إذ أنَّ رِبَا الفَضل هو بيعٌ ربويٌّ بربويٍّ مِن جنسه
أحدهما مُتفاضلًا -أي أحدهما أكثر من الآخر- فهنا لا يُعلم مقدار الصُّبرة،
وبالتَّالي يُمكن أن يكون هناك رِبا؛ ولذا أسَّس الفقهاءُ قاعدة في هذا الباب
فقالوا: "الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ"، فلمَّا جلهنا ما
يتعلق بهذين الصِّنفين هل هما متساويان أو لا؛ كان ذلك بمثابة العلم بالتَّفاضُل.
قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ
مِنَ التَّمْرِ)، التَّمر من الأصناف الرِّبويَّة؛ لأنَّه مكيلٌ مطعوم.
قوله: (لَا يُعْلَمُ مَكِيْلَتُه)، أي: ما يُدرَى كم كيلُها.
قال: (بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ)؛ لأنَّه جُهِلَ التَّساوي حينئذٍ،
وفي هذا دَلالة على أنَّه إذا بيع الرِّبويُّ بربويٍّ مِن جِنسه فلابدَّ من
التَّساوي في المكيالِ الشَّرعي، فهنا اعتُبِرَ المكيل، والمراد به وحدة الحَجم،
وليست وحدة الثِّقل والوزن، ولذا فالتَّمر من المكيلات فلابدَّ من وجود التَّساوي
فيها في الكيل، أمَّا التَّساوي في الميزان فهو غيرُ معتبرٍ هنا.
ولا يُفرَّق بينَ أنواع التَّمرِ في ذلك، فلو باعه تمرًا فاضلًا بتمرٍ مفضولٍ
فلابدَّ من التَّساوي في الكيل، فلا يجوز التَّفاضل، ولا يجوز الجهل بالتَّساوي.
وذكر أيضًا بعد حديث مَعْمَرِ بنِ عبدِ اللهِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (أَنَّهُ
أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ، فَقَالَ: بِعْهُ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ شَعِيرً)،
القمح ربوي، وعلته الكيل والطُّعم، والشَّعيرُ كذلك علَّته الكيل والطُّعم.
قال: (فَذَهَبَ الْغُلَامُ، فَأَخَذَ صَاعًا وَزِيَادَةَ بَعْضِ صَاعٍ)، أي: من
الشَّعير مُقابل صاع القمح، ويظهر أنَّه كانَ مُؤجَّلًا، أو أنَّ من مَذهبِ معمرٍ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ ما شَاركَ في العلَّةِ فلابدَّ مِن التَّقابضِ فيهِ.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ مَعْمَرًا أَخْبَرَهُ بِذلكَ فَقَالَ لَهُ مَعْمَرٌ: لِمَ
فَعَلْتَ ذَلِكَ؟)، أخبرهُ أنَّه أعطى صاعَ قمحٍ مُقابل صاعٍ وزيادةٍ مِن
الشَّعيرِ.
فقال له: (انْطَلِقْ فَرُدَّهُ)، فيه أنَّه يرى أنَّ النَّهيَ يقتضي الفَساد.
قال: (وَلَا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمعُ رَسُولَ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا
بِمثْلٍ»)، فيه أنَّ الطَّعم جزء علَّة في الرِّبَا، وبذلك قال الإمام الشَّافعي
-رحمه الله تعالى.
وفيه أنَّ الكيلَ علَّةٌ، لأنَّه اعتبر التَّساوي في الكيلِ.
وقوله هنا: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ»، هل المراد به نوعٌ من أنواع الطَّعام بعينه
، وتكون الــ "ال" هنا للعهد؛ ولذا قال : (وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمئِذٍ
الشَّعِيْـرَ؟)، أو أنَّ "ال" هنا لاستغراق؛ فكأنَّه قال: "جميع أنواع الطَّعام
يجري فيها الرِّبَا إذا بيعت بطعام آخر.
قوله: (قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِـمِثْلِهِ؟)، يعني هذا بُرٌّ وهذا شَعيرٌ.
قال: (قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَارِعَ)، أي: يكون قريبًا من الأمر المحرَّم.
وقد أخرج هذا الخبر الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- كما أخرج الحديث الذي قبله أيضًا
الإمام مسلم.
{(وَعَنْ فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلادَةً
بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلْتُهَا فَوَجَدْتُ
فِيهَا أَكثرَ مِنْ اثْنَي عَشَرَ دِينَارًا فَذَكرتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ». رَوَاهَا
مُسْلمٌ)}.
هذا الحديث والحديثانِ السَّابقانِ له قد رواهمَا الإمامُ مسلم في صَحيحه.
قالَ فضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ: (اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ)، هذا في السَّنةِ
السَّابعة، وكان بعد صُلحِ الحديبية، فتح الله للمسلمين خيبر، وكانت مِن أسباب
الخير لهم.
قال: (اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَر قِلادَةً)، القلادة: هي ما يُعلَّق على العنُقِ،
وفي الغالب أن يكونَ من الحُليِّ، وهذه القلادة بعضها ذهب، وفيها ما ليس بذَهبٍ.
قال: (بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارً)، والدِّينار من الذَّهب، وهو قُرابة الأربعة
والنِّصف جرام، وعلى ذلك تكون القلادة قرابة الأربعة والخمسين أو الثَّلاثة
والخمسين جرامًا.
قال: (فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ)، يعني اشترى باثني عشر دينارًا -والدِّينار وزنه
أربعة وخمسون أو خمسة وخمسون- في مقابل قلادة فيها ذهبٌ وخرز، وبالتَّالي يكون قد
باع ذهبًا مقابل سلعة مشتملة على ذهب وعلى غيره.
قال: (فَفَصَّلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكثرَ مِنْ اثْنَي عَشَرَ دِينَارً)، أي:
فصل الذَّهب الذي في القلاة عن الخرز.
قال: (فَذَكرتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «لَا
تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ»)، أي: يُميَّز الذَّهب عن الخرز، لأنَّ الذَّهب لا يجوز
أن يُباع إلا بذهبِ مساوٍ له، وبالتَّالي هنا قد جُهِلَ التَّساوي، أو عُلمَ
التَّفاضل.
وهذه المسألة عندَ العلماء يسمُّونها مسألة "مُدُّ عُجوَة" وصورة المسألة: أن يبيعه
مُدَّينِ مِنَ العَجْوة -وهي نوع مِن أنواع التَّمر مَعروف، والمد ملئ الكف
المعتدل- فيبيعه مُدَّين العجوة مُقابل مُدٍّ واحدٍ مِن العَجوة ودينارٍ -أو درهم.
فهنا: باع ربوي بربوي معه سلعة أخرى.
جماهير أهل العلم يقولون: لا يجوز ذلك؛ لأنَّا لا نَدري ما الذي يكون في مقابل
الذَّهب، وما الذي يكون في مقابل التَّمر -أو الخرز- وبالتَّالي منعوا منه.
وهذا من احتياط الشَّريعة في باب الرِّبَا، وقفل الأبواب التي تُؤدي إليه.
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ الْحسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّوَصَحَّحَهُ. وَقَدْ رُوِيَ منْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمرَ وَجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ)}.
ذكر المؤلف هاهنا حديث الحسن عن سمرة، الحسن بن أبي الحسن البصري، من علماء
التَّابعين، توفي سنة مائة وعشرة للهجرة، والحسن يُدلِّس، وإذا روى بالعنعنة
تُوُقِّفَ في روايته حتى نتأكَّد من السَّماع، وقد سمع من سمرة أحاديث، وقيل حديث
واحد، وبقيَّة ما رواه عنه لم يسمعه، ولذلك فالعلماء يُضعِّفون تلكَ الرِّوايات
التي رواها الحسن عن سمُرَة ما لم يُصرِّح بالسَّماع، أو يعرف أهل العلم بأن هناك
سماعًا من الحسن لسمُرة في ذلك الخبر.
قال: (نهَى)، النَّهيُ المراد به: طلب التَّرك على جهةِ الجزم.
قال: (نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً)، أي: أحدهما
مُؤجَّل.
وهذا الحديث -على ما تقدَّم- يكون فيه ضعفٌ، وذلك لانقطاع هذا الخبر، ولكن المؤلِّف
قال: إنَّه قد رُويَ مِن حديث ابن عباس، وحديث ابن عباس اختلفَ العلماءُ في وَصله
وفي إرساله، والجماهير على أنَّه مُرسَل لم يُروَ من طريقِ ابن عباس، وإنَّما من
طريقِ الرَّاوي عنهُ.
وهكذا ذكر المؤلف أنَّه رُويَ مِن طريق ابن عمر، ولكن أسانيده ضَعيفة جدًّا، وقد
عُلِّلَ هذا الخبر، وذُكِرَ له علَّة، وهكذا حديث جابر بن سمُرة.
وعندنا في هذه المسألة أربع مسائل:
المسألة الأولى: بيع لحم حيوانٍ بلحمٍ حيوانٍ مِن جنسه، فلحم الحيوان مَوزون وهو
كذلك مَطعوم، وبالتَّالي هو من السِّلَع الرِّبويَّة، فلا يجوز بيع لحم حيوانٍ
مَأكول بلحم حيوانٍ آخر مِن جنسه، فلا تبيع لحم ضأنٍ بلحمِ ضأن مع وجود التَّأجيل.
المسألة الثَّانية: إذا كان هناك لحمان من جنسين، كلحمِ إبلٍ ولحمِ غنمٍ، فإنَّ
كلًّا مِنهمَا فيهِ علَّة ربا، فهذا مكيلٌ مطعومٌ وهذا مكيلٌ مطعومٌ -أو موزونٌ
مطعومٌ- وبالتَّالي لا يجوزُ التَّأجيل في أحدهما والنَّسيئة، وأمَّا التَّفاضل فهو
جائز؛ لأنَّهما ليسَا من جنسٍ واحدٍ، بل هذا يُقال له: لحم إبل وذاكَ يُقالُ له:
لحمُ غنم، فليسا من جنسٍ واحدٍ، فيجوز فيهما التَّفاضل إذا كانا يدًا بيدٍ، وأمَّا
التَّأجيل فإنه لا يجوز لاتِّحادهمَا في العلَّة، فكلاهما مَوزونٌ مَطعوم.
المسألة الثالثة: بيعُ حيوانٍ كاملٍ حيٍّ بحيوانٍ حيٍّ، وقد منعَ من ذلكَ طائفةٌ
أخذًا بهذا الخبر، ولكن هذا الخبر فيه ضعفٌ، والجمهور على جوازه؛ لأنَّ الحيوانَ
ليسَ من السِّلع المكيلة أو الموزونة، وإنما هو من المعدودات، وبالتَّالي لا يجري
فيه الرِّبَا، لا ربا الفضل ولا ربا النَّسيئة متى كان تامًّا.
المسألة الرابعة: إذا باعَ حيوانًا بلحمِ حيوانٍ يُجانسه، كما لو باع شاةً بعظمٍ أو
بهَبْرَةٍ أو بلحمِ الظَّهرِ مِن شَاة أخرى؛ ففي هذه الحال منعَ طائفةٌ من مثل ذلك،
وقالوا: هو بيع حيوانٍ بحيوانٍ نسيئة، واستدلُّوا عليه بهذا الخبر.
والقول الآخر بالجواز استدلوا عليه بما ورد في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقترض البعير والبعيرين بالاثنين والثلاثة والأربعة من إبل
الصدقة، فهو يشتري ويؤجِّل التَّسديد والاستلام حتى تأتيه إبل الصَّدقة، فهنا أوجدَ
التَّفاضل أو جُهل التَّساوي ومع ذلك جازَ، وما ذاك إلا أنَّها لا تدخل في
الرِّبويَّات.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذا
تَبَايَعْتُم بِالعِيْنَةِ، وأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ
بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَطَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا
يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِيْنِكُمْ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرَوَى
الإِمَامُ أَحْمدُ نَحوَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطاءٍ، عَنِ ابْن عُمرَ، وَرِجَالُ
إِسْنَادِهِ رِجالُ الصَّحِيحِ)}.
حديث نافع عن ابن عمر قد رواه طائفة من حديث عطاء، ولكن مرَّةً عطاء يرويه عن نافع
عن ابن عمر، ومرة يرويه عن ابن عمر مباشرة، ولذلك طعَنَ بعضهم في هذا الخبر، ولكنَّ
هذا الطَّعن لا محلَّ له، فإنَّ رواية الأكثر بذكرِ نافعٍ، فلا يقدح فيها رواية
القلَّة، على أنَّه يُمكن أن يكون الطَّريقان صحيحين، وذلك لأنعطاء مرَّة رواه عن
نافع عن ابن عمر، ومرة لقي ابن عمر فأصبح يروي الخبر عنه مباشرة.
وقوله: «إِذا تَبَايَعْتُم بِالعِيْنَةِ»، المراد بالعِينة: أن يبيع الإنسان سِلعةً
بثمنٍ حاضر، ثم يشتريها بثمنٍ مؤجَّلٍ أكثر منه.
ومثل العينة عكسها: كأن يقول له: أبيعك الكأس بمليون ريال تسدده لي بعد سنةٍ، ثم
بعد ذلك تقوم بإعادة الكأس بثمانمائة أو سبعمائة منها ما هو حالٌّ، فبالتَّالي
كأنَّ المعاملة أنَّك أخذت سبعمائة على أن تسدِّدَ مليونًا وزيادة بعد انتهاء
المدَّة.
ومثل هذا أمر محرَّمٌ ولا يجوز، إذا العِينَة أمر محرَّم ولا تجوز، وبذلك قال
الجماهير، ومنهم الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمة الله عليهم.
واستدلوا عليه بحديث الباب، واستدلوا عليه بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُن
تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6]، واستدلُّوا عليه بنصوصٍ أخرى تمنع من العِينَة، وتوضِّح
عدم جوازه، ومن ذلك ما وردَ عن زيد أنَّه تعامل بالعِينَة، فقالت عائشة-رَضِيَ
اللهُ عَنْها: "أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ" .
وبعضهم طَعَنَ فيه بأنَّه قول صحابيٍّ قد خالفَه غيرُه مِن الصَّحابة.
قوله: «إِذا تَبَايَعْتُم بِالعِيْنَةِ»، التَّبايُع: هو إجراء عقد البيع بالعِينة،
وتقدَّم معنا معناها.
وبعضُ الفقهاء ألحق بالعِينَةِ العينةَ المُنظَّمَة، وتكون عِينَة ثلاثيَّة.
والذي يظهر: أن اسم "العينة" يُطلَق على العِينَة الثلاثيَّة.
قال: «وأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ»، أي: كان همُّكم الزِّراعة واتِّباع آلاتِ
وحيوان الحرثِ.
قوله: «وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ»، أي: بالقيام عليه وتنمِيَته.
قال: «وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَطَّ اللهُ عَلَيْكُمْ»، أي: جعل مَن يولى
السُّلطَةَ عليكُم بحيثُ يُلحق الذُّل بكم.
قال: «سَلَطَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّ»، بحيث يكون متحكمًا فيكم الذُّلُّ الذي
تخافونَ فيه النَّاس.
قال: «لَا يَنْزِعُهُ»، أي: لا يرفعه من قلوبكم.
قال: «حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِيْنِكُمْ»، يعني بترك بيع العينة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ
بِشَفَاعةٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا
عَظِيْمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا
لَفظُهُ، والقَاسِمُ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ يُصَحِّحُ
حَدِيثَهُ)}.
هذا الحديث اختلف أهل العلم في إسناده، وقد ضعَّفه جماعةٌ مِن أهل العلمِ، ومنهم
ابن حجر وابن قطَّان وابن الجوزي، وجماعات أخرى، وقد أشار المؤلف إلى شيءٍ من
الاختلاف في إسناده.
قوله: «مَنْ شَفَعَ»، أي: مَن تدخَّلَ في موضوعٍ يتعلَّق بحاجةِ أحدٍ من المسلمين،
فبذلَ السبيلَ من أجلِ تحقيق هذه الحاجة وتلبيتها، وشفعَ عندَ الآخرين -أي تكلَّم
فيها معهم- فأهدى المشفوعُ له إلى الشَّافعِ هديَّةً عليها -أي على الشَّفاعةِ-
فقبِلَ الهديَّة؛ فقد أتى بابًا عظيمًا مِن أبواب الرِّبَا، وفيه أنَّ الرِّبَا على
مراتب، وأنَّه شنيع، وأنَّ عليه آثارًا شديدة في الدُّنيا والآخرة.
{قال -رحمه الله: (بَابُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرَّطْبِ بِاليَابِسِ والرُّخْصَةِ
فِي الْعَرَايَا.
عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمُزَابَنَةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ،
إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ
بِزَبِيبٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: (بَابُ النَّهْيِ)، النَّهي: طلبُ تركِ الفعلِ على جهةِ الجزمِ.
قوله: (عَنْ بَيْعِ الرَّطْبِ)، لو قلنا "الرُّطَبِ" لاختصَّت بالتَّمر، فالمراد
بالرُّطَب: التَّمر الذي جُنيَ حديثًا من نخلته، جُنيَ وليسَ جُذَّ، والعادة أنهم
يقومون بجنيه من أجل ألا يسقط.
قوله: (عَنْ بَيْعِ الرَّطْبٍ بِاليَابِسِ)، وهذا يشمل جميعَ السِّلع، ولا يختصُّ
بالتَّمرِ فقط.
قال: (والرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَ) العرايا: جزء من بيعِ الرَّطبِ باليابس، ولكنه
جزء خصَّه الشَّارع فأجازه، والأول يُسمَّى: المزابنة.
وأوردَ المؤلف في هذا الباب عددًا مِن الأحاديث، أوَّلها: حديث ابن عمر، قال: (نهَى
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمُزَابَنَةِ)، ثم فسَّر
المزابنة بأنها: (أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ)،
ثمر الحائط هذا رُطَب، ولم يُصبح تمرًا بعدُ، فهل يجوز أن نبيع الرُّطب بالتَّمر؟
نقول: إنَّ الأصلَ عدم الجواز، لعدمِ العلم بالتَّساوي، الرُّطب يكون كبيرًا
منتفشًا، والتَّمر يُرصُّ، وبالتَّالي يصغر حجمه.
قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمُزَابَنَةِ:
أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ)، التَّمر: هو ثمرة
النخلة التي تمَّ تجفيفها ورصُّها. وثمر الحائط هو: الرُّطَب.
قال: (وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلً)، الكَرْم: المراد به
العِنَب، فيُنهَى أن يبيع العنب بالزَّبيب بواسطة الكيل، لأنَّ العنبة كبيرة، فعند
تجفيفها ليُصنَع منها الزَّبيب يصغر حجمها، وبالتَّالي لا نعلم هل تساوى العنب مع
الزَّبيب أو لم يتساوى.
قال: (وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ)، الزرع عندنا: هو ما يخرج من الأرض من ثمار وزروع.
الثِّمار: أشجار كبيرة.
والزَّرع: متعلِّقة بالثَّمرة، فبالتَّالي تخرج هذه الزُّروع من كونها كذلك.
قال: (وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ)، يعني بشعير أو بُر،
لأنَّ حبَّ الزَّرع هذا مكيل مطعوم أو موزون مطعوم، وبالتَّالي يُنهَى عن بيعه بكيل
الطَّعام، وذلك لأنَّه لا يُعلَم هل يحصل التَّساوي أو لا.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ:
سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ
الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؟ فَقَالَ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذا يَبِسَ؟» قَالُوا:
نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ المدِينِيِّ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.
وَعَنْ زَيدِ بنِ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلمسْلمٍ: رَخَّصَ فِي العَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ
الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَها رُطَبًا.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَو فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ
لمسْلمٍ)}.
إذن القاعدة في هذا الباب: أنَّ المزابنة محرَّمة، والمزابنة هي: بيع رُطبٍ جُنيَ
حديثًا بتمرٍ.
لماذا نُهيَ عنه؟
لأنَّه يُشترط حينئذٍ التَّساوي، والتَّساوي بينهما مجهول، وبالتَّالي يُمنَع منه.
وأورد فيه حديثسَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (سَمِعتُ
رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ الرُّطَبِ
بِالتَّمْرِ)، فسألهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سؤالًا عن صفةٍ
موجودة في هذا البيه لتكون الصِّفة هذه هي علَّة الحكم، فقال: «أَيَنْقُصُ
الرُّطَبُ إِذا يَبِسَ؟» ، فالرطب كبير، فإذا أردنا تحويله ليكون تمرًا قمنا
بتجفيفه ورصِّه ، وبالتَّالي يصغر حجم التَّمرة، وبالتَّالي يكون من المزابنة
المنهي عنها.
قَالُوا: (نَعَمْ)، أي: ينقص الرُّطب إذا يبس؛ فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن ذلك كلِّه؛ لأنَّه يكون من باب المزابنة.
قال: (وَعَنْ زَيدِ بنِ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ فِي الْعَرَايَ)، كانوا في الزمان الأول يقوم
صاحب النَّخل بإعطاء نخلة لشخص، فيقول: يا فلان، هذه النخلة ثمرتها لك، من باب
الصدقة عليه، يُريد أن يعمل، وبالتَّالي يُرتِّب هذه النَّخلة.
هذا أعاره النَّخلةَ، فالذي يحصل أنَّ الذي أُعيرَت له النَّخلة يكون فقيرًا، فيقوم
ببيع النَّخلة قبل أن يتمَّ نضج نباتها بعد بدوِّ الصلاح، ففي هذه الحال يأخذ في
مرات تمرًا في مقابل الرُّطب الذي سيكون على هذه النَّخلة بعدَ مدَّة.
إذن هذه صورة العرايا، ولكن لها شروط معيَّنة، قال: (رَخَّصَ فِي الْعَرَايَاأَنْ
تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلمسْلمٍ: رَخَّصَ فِي
العَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَها
رُطَبً).
إذن هناك عدد من الشروط:
الشرط الأول: أن يُخرَصَ ما على النَّخلة، يقول أهل الخبرة: نُقدِّر أنَّها إذا
كانت تمرًا يكونُ وزنها الوزن الفلاني، إذا لم يكن هناك خرص له فإنَّه لا يجوز،
لأنَّه لا يُعلَم وجود التَّساوي بينهما في غالب الظَّن.
الشَّرطُ الثَّاني: أن يكون الرُّطب لازال على رأس النَّخلة.
الشَّرطُ الثَّالثُ: تسليم التَّمر في الحال.
ثُمَّ أورد المؤلف حديث أبي هريرة وفيه شرط آخر، وهو: أن تكون العرايا أقل من خمسة
أوسق، والوسق: ستُّون صاعًا، وبالتَّالي يكون ثلاثمائة صاعًا.
قال المؤلف: (أَو فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ)، يعني لو كان خمسة لا زيادة فيه ولو
بشعرةٍ؛ فهل هذا يجوز؟
قال الجمهور: لا يجوز؛ لأنَّ النَّص جاء بمنع العرايا فيما كان أكثر من خمسة أوسق.
القول الثاني: يُتسامح في مثل ذلك.
ولعلَّ القول الأوَّل أقوى، لأنَّه ظاهر هذه الأخبار.
{قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نهَى
البَائِعَ والـمُبْتَاعَ)}.
قوله هنا: (بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ).
الثِّمار: ثمار النَّخل.
الأصول: أصول الشجر. متى يجوز بيعها ومتى لا يجوز بيعها؛ سيأتي تفصيله.
أوَّ مسألة ذكرها المؤلف: مسألة بيع التَّمر قبل بدوِّ الصَّلاح. ما هو بدو
الصَّلاح؟
أن نأمَنَ العَاهةَ فيها، وتبدأ تصلُح للأكل، وفي النَّخل بدوِّ الصَّلاح بظهور
اللَّون، ولذلك قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ
وَيُؤْكَلُ مِنْهَ» ، فهذا هو الذي يُعوَّل عليه في بدوِّ الصَّلاح.
إذا كان عندك حائط فيه نخيل ُمتعدِّدة، فمتى يُعد الصَّلاح قد بدا؟
هل نقول البستان ثمرة واحدة فإذا بدا الصَّلاح في أحدها حكمنا ببدوِّ الصَّلاح في
الجميع؟ أو يكون بدوِّ الصَّلاح باعتبار جنس تلك النَّخلة؟
لابد أن تعلم أنَّ أنواع النَّخيل مُتفاوتة في ثمرتها، بعضها يأتي في أوائل
الصَّيف، وبعضها لا يأتي إلا في أواخر الخريف وبداية الشِّتاء؛ وبالتَّالي هناك
مدَّة طويلة.
القول الأول: إِذا بدت ثمرة نخلة حكمنا بجواز البيع في جميع الأشجار أو الأنواع
المماثلة له.
القول الثاني: الحائط له حكم واحد.
القول الثالث: كل شجرة بحكمها، هذه النَّخلة وهذه النخلة كل واحدة لها بدوِّ صلاح
مُستقل، ولو كان من نوعٍ واحدٍ.
والمقصود: أنَّ الشَّارع نهى عن بيع الثِّمار حتى يَبدوَ صلاحُها، وهذا في جميع
أنواع الثِّمار.
قال: (نهَى البَائِعَ والـمُبْتَاعَ)، المبتاع: هو المشتري، فكلاهما منهي عن مزوالة
هذا العقد بيعًا أو شراءً.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُول: «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا
للَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ، وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا
فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
هذا الحديث رواه الشيخان من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وهو يتعلق
بالتَّوابع -ما الذي يتبع.
قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «مَنِ
ابْتَاعَ»)، يعني: مَن اشترى.
قال: «نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ»، المراد بالتَّأبير: التَّلقيح.
قال: «فَثَمَرَتُهَا للَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ»،
المبتاع: هو المشتري.
متى تكون الثَّمرة للبائع؟ ومتى تكون الثَّمرة للمشتري؟
تكون الثَّمرة للمشتَري: إذا كانَ البيعُ قبلَ التَّأبِير -التَّلقيح.
وتكون ثمرتها للبائع: إذا بيعَت بعدَ التَّأبيرِ -التَّلقيح.
هل التَّأبير مقصود لذاته؟ أو أنه كناية عن صلاحية الثَّمرة لتلقيحها وذلك بظهور
طلعها الذي يُوضَع فيه اللقاح؟
القول الأول: قال الجمهور: المراد بالخبر طلوع الطلح، فمتى وُجدَ طلعها الذي
يُلقَّح فحينئذٍ تكونُ ممَّا أُبِّرَ حُكمًا.
القول الثاني: المراد بالتَّأبير هو حقيقة التَّأبير، وذلك أنَّ لفظة "التَّأبير"
تدور بين معنين:
• أحدهما حقيقي، وهو التَّأبير.
• والثاني: مجازي بوقت التَّأبيرِ.
ولعلَّ الأصوب: تفسير الحديث بالوقت الحقيقي لا المجازي.
قال: «مَنِ ابْتَاعَ»، أي: اشترى «نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا
للَّذِي بَاعَهَ»، أي: للبائع. «إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ»، وهو
المشتري، فيقول: أشترطُ أنَّ هذه الثَّمرة تكونُ لي؛ فحينئذٍ يجوز ولو قبل بدوِّ
الصَّلاح، لأنَّه قد اشترى النَّخلة ولم يشترِ الثَّمر فدخلت تبعًا، ويُغتفر في
التَّوابع ما لا يُغتفر في غيرها.
ومثله قال: «وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدً»، أي: اشترى مملوكًا.
قال: «فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ»، ما عليه مِن أموال ونحوه، فيكون هذا المال
للبائع لا للمشتري؛ لأنَّ المشتري ما اشترى إِلَّا العبد وما اشترى ما له.
قال: «إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ»، فلو قال: ما عليه من ثمرة أو ما عليه
من حليٍّ يكونُ لي؛ فحينئذٍ تكون غلَّتُها للمشتري، ومثل ذلك مالُ العبدِ.
باركَ الله فيك، ووفقك الله لكلِّ خير، وجزاكَ الله خيرَ الجزاء.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعَلى آله وصحبَه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة مِن فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه،
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.