{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء
العلمي، وكما لا أنسى أن أُرحب باسمي وباسمكم بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر
الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن
يَرزقنا وإِيَّاهم عِلمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
{انتصفنا في الدَّرسِ الماضي في باب صفة الحج من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
وفي هذا الدرس -بإذن الله- سنبدأ من حديث القاسم (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَة تَدْفَعُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ،
وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً -يَقُولُ الْقَاسِمُ: والثَّبِطَةُ: الثَّقِيلَةُ-
قَالَتْ: فَأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَحَبَسَنَا حَتَّى
أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنا بِدَفْعِهِ وَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ
أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الثَّقَلِ -أَو قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ- مِنْ جَمْعٍ
بِلَيْلٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَة أُغَيْلِمَةَ بَنِي عبدِ الـمُطَّلبِ
عَلَى حُمُراتٍ لَنا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَخُ أَفْخَاذَنا، وَيَقُولُ:
«أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ». رَوَاهُ
أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ
انْقِطَاعٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَة النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ
قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْيَوْمَ
الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللهِ -تَعْنِي- عِنْدهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد،
وَرِجَالُه رِجَالُ مُسلمٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادهُ صَحِيحٌ لَا
غُبَارَ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لـمِيقَاتِهَا إِلَّا
صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الـمَغْربِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ
يَوْمئِذٍ قَبلَ مِيقَاتِهَا، وَفِي لَفظٍ: قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسِ بنِ حَارِثَةَ بنِ لَامٍ الطَّائِيِّ قَالَ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالـمُزْدَلِفَة حِينَ
خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ
طَيءٍ أَكْلَلْتُ رَاحِلَتي وأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللهِ مَا تَركْتُ مِنْ جَبلٍ
إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَل ليَ مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ, وَوَقَفَ مَعَنَا
حَتَّى نَدْفَعَ, وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ
وَصَحَّحَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْط ِكَافَّةِ
أَئِمَّةِ الحَدِيثِ".
وَعَنْ عَمْرو بنِ مَيْمُونٍ قَالَ: شَهِدْتُ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَلَّى
بِجمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْركينَ كَانوا لَا
يُفِيْضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَفَهُم، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ
أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَزَاد أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ:
أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ أُسَامَةَ بنَ زيدٍ كَانَ
رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى
الْمُزْدَلِفَة، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَة إِلَى مِنَىً،
قَالَ: فَكِلاهُما قَالَا: لم يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ
وبِلالًا, وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وعَنْ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ يَزِيدَ أَنَّهُ حَجَّ معَ عبدِ اللهِ قالَ: فَرَمَى
الجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وجَعَلَ البَيْتَ عنْ يَسارِهِ، ومِنىً عنْ
يَـمِينِهِ، وَقالَ: هَذا مَقَامُ الّذي أُنْزِلَتْ عَلَيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ.
مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَهذا لَفظُ مُسلمٍ.
وَعَنْ أَبي الزُّبيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُول: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ:
«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ
حَجَّتِي هَذِهِ».
وَعَنْهُ قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَمْرَةَ
يَوْمَ النَّحْرِ ضُحَىً، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذا زَالَتِ الشَّمْسُ. رَوَاهُمَا
مُسلمٌ.
وَعَنْ سَالمٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي
الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ،
ثُمَّ يتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ
طَويلًا وَيَدْعُو وَيرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ
ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَيَقُومُ
طَويلًا وَيَدْعُو وَيرْفَعُ يَدَيْهِ وَيقومُ طَويلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ
ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ
فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ» قَالُوا: والـمُقَصِّرِينَ
يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ» قَالُوا:
والـمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «والمُقَصِّرِينَ»)}.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمُرسلين،
أمَّا بعدُ:
فهذه الأحاديث التي ذكر المؤلف هي تتمَّة أحاديث سياق حج النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحكام الحج.
أول هذه الأحاديث: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ)،
سودة: هي سودة بنت زمعة زوجة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
استأذنته: أي طلبت مِن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإذن.
قالت: (لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَة)، وهي ليلة العيد، بعد أن غادروا عَرفة إلى
مُزْدَلِفَة وباتوا بها، استأذنت أن تَدْفَعُ قَبْلَهُ، أي: أن تذهب مِن
مُزْدَلِفَة إلى مِنَى قبل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالت: (وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ)، أي: قبل وفود النَّاس الكثيرة التي تخشَى من
أن تزحمها وتحطمها، وذلك أنَّ الذين حجُّوا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كانوا أعدادًا كثيرة.
قالت: (وَكَانَتِ امْرَأَةً ثَبِطَةً)، يعني: كبيرة ثقيلة.
(فَأَذِنَ لَهَ)، أي: أذن لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تدفع
مِن مُزْدَلِفَة قبل طلوع الفجر وذهاب الناس، وفي هذا دلالة على أنَّه لا يَلزم
أداء صلاة الفجر في مُزْدَلِفَة، وأنه يجوز -خصوصًا لأهل الأعذار- أن يتركوا صلاة
الفجر بمُزْدَلِفَة وأن يصلوها بعد ذلك.
قال: (فَخَرَجَتْ. قَبْلَ دَفْعِهِ) يعني: خَرَجَت سودة قبل دفع النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَحَبَسَنَ)، أي: أمرنا أن نبقى في مُزْدَلِفَة.
قال: (حَتَّى أَصْبَحْنَ)، أي: حتى طلع الفجر علينا.
قال: (فَدَفَعْنا بِدَفْعِهِ)، أي: ذهبنا من مُزْدَلِفَة إلى مِنَى بعد فعل النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذلك.
تقول عائشة: (وَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ)، يعني: في الدفع من مُزْدَلِفَة قبل
الفجر.
قالت: (فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ)، هي لم
تمنع أن يُغادر الإنسان من مُزْدَلِفَة بليلٍ قبل الفجر، وإنما تقول: إنها لم
تستأذن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتالي فإنها ستفعل بعد زمانه
كما كانت تفعل في زمانه بأنها لم تستأذن منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم.
ثم أورد المؤلف من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان سِنُّه قرابة
الأربعة عشرة سنة أو الثلاثة عشرة سنة في ذلك الزمان، قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الثَّقَلِ)، أي: مَن قدَّمهم من ضَعَفةِ أهله
ممَّن يثقل عليهم المشي.
قال: (أَو قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ)، أي: مِن مُزْدَلِفَة.
كلمة "بليل" هذه تردد النَّاس في تفسيرها:
فقال بعضهم: إنَّ المراد بها آخر الليل.
وقال آخرون: ليل هنا نكرة جاءت في سياق الإثبات، وبالتالي تصدق على متتصف الليل،
ولذلك رأى جماعة أنَّ الحُكمَ يتعلق بمنتصف الليل.
والقول بأنَّ الدَّفع مِن مُزْدَلِفَة يكون بمنتصف الليل هو مَذهب الإمامين
الشَّافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى.
وكان الإمام مالك يُجيز الدَّفع مِن مُزْدَلِفَة بمجرد وضع الرَّحل في مُزْدَلِفَة،
ولا يُلزم البقاء إلى منتصف الليل.
ولكن ظواهر هذه الأحاديث أنه في أواخر الليل، وبالتالي جعلوا الضابط في هذا منتصف
الليل.
وأمَّا بالنسبة لرمي جمرة العقبة، فهناك ثلاثة أقوال مشهورة:
- القول الأول: لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الشمس.
- القول الثاني: لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الفجر.
وهذين القولين مذهبي الإمامين مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله تعالى.
- القول الثالث: قول الإمام أحمد والشَّافعي أنه يجوز رمي جمرة العقبة من منتصف
ليلة العيد؛ لأنَّه أجاز للضعفة أن يغادروا مُزْدَلِفَة من منتصف، فإذا أجاز لهم
الذهاب إلى مِنَى فأول عملٍ يُعمَل في مِنَى هو رمي جمرة العقبة، وبالتالي هذا يدل
على جواز رمي جمرة العقبة بانتصاف الليل.
ثم أورد المؤلف من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بإسناد لأهل العلم فيه كلام،
لأنه من رواية الحسن العُرنيّ عن ابن عباس، والحسن هذا لم يروِ عن ابن عباس شيئًا،
ولذلك ضعَّف أهل العلم هذا الخبر.
قال: (قَدَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ
الْمُزْدَلِفَة)، أي: ليلة العيد.
قال: (أُغَيْلِمَةَ بَنِي عبدِ الـمُطَّلبِ)، يعني: صغارنا.
قال: (عَلَى حُمُراتٍ لَن)، نوع من أنواع الحمير.
قال: (مِنْ جَمْعٍ)، يعني من مُزْدَلِفَة.
قال: (فَجَعَلَ يَلْطَخُ أَفْخَاذَن)، أي: يضربها ضربًا ليِّنًا.
قالك (وَيَقُولُ: «أُبَيْنِيَّ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ»)، وهذا حجَّة مَن يرى أن جمرة العقبة لا تُرمَى إلا بعد طلوع الشمس،
ولكن الحديث -كما تقدَّم- ضعيف الإسناده، ففي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ، وبالتالي لا
يصحُّ أن يُعوَّل عليه في بناء هذا الحكم.
ثم أورد المؤلف من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: (أَرْسَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَة النَّحْرِ)،
يعني: طلب من مندوبٍ له أن يذهب بأم سلمة ليلة النَّحر مِن مُزْدَلِفَة إلى مِنَى.
قالت: (فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ)، فدلَّ هذا على جواز وصحَّة الرمي
قبل الفجر -كما هو مذهب الإمامين الشَّافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى.
قالت: (ثُمَّ مَضَتْ)، يعني: سارت على وجهها في الطريق؛ لأنَّ عرفة تأتي أولًا، ثم
مُزْدَلِفَة، ثم مِنَى، ثم أمامهم مكَّة بعد ذلك.
قالت: (ثُمَّ مَضَتْ)، أي: سارت وواصلت الطريق.
قالت: (فَأَفَاضَتْ)، أي: طافت طواف الإفاضة.
وفي هذا دليل على جواز أن يكون طواف الإفاضة قبل طلوع الفجر يوم العيد، بحيث أنَّ
طواف الإفاضة يجوز أن يكون بعد منتصف الليل، وهذا مذهب الشافعي وأحمد.
وعند مالك وأبي حنيفة: أنه لا يصح أن يكون طواف الإفاضة بليل.
وحديث الباب دليل لمذهب أحمد والشَّافعي.
قالت: (وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْيَوْمَ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللهِ
-تَعْنِي- عِنْدهَ)، أي: في ليلتها عادة.
قال المؤلف: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَرِجَالُه رِجَالُ مُسلمٍ، وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: إِسْنَادهُ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ).
ثم أورد من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (مَا رَأَيْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى صَلَاةً إِلَّا
لـمِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ)، فيه وجوب أداء الصَّلوات في أوقاتها، قال
تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتً﴾
[النساء: 103].
واستثنى من ذلك صلاتين: (صَلَاةَ الـمَغْربِ وَالعِشَاءِ بِجَمْعٍ)؛ لأنَّه في تلك
الليلة قدَّم العشاء مع المغرب، أفاض بعد أن غربت الشمس من عرفة، فلما وصل إلى
مُزْدَلِفَة صَلَّى المغرب والعشاء، فَصَلَّى العِشاء قبل وقتها، وذلك لأنه كان
مُسافرًا فجمع بين الصَّلاتين، أو أنه جمع من أجل النُّسك.
والحالة الثانية التي صَلَّى فيها الصَّلاة قبل مِيقاتها عادة: صلاة الفجر في يوم
العيد حينما صلاها بمُزْدَلِفَة قال: (وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمئِذٍ قَبلَ
مِيقَاتِهَا، وَفِي لَفظٍ: قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ)، وذلك أنَّ صلاة الفجر يبتدئ
وقتها بطلوع الفجر، فظاهر هذا النَّص أنه ابتدأ صلاة الفجر بأول وقتها.
والعُلماء لهم ثلاثة مناهج في تحديد بداية وقت الفجر:
- منهم مَن يقول: بمجرد بزوغ النور والضياء من جهة المشرق في الفجر الصادق.
- ومنهم مَن يقول: لا تُصلى الفجر إلا إذا توسَّط النور كبد السماء.
- ومنهم مَن يقول: لا يدخل وقتها إلا إذا انتشر الضوء في الأفق، وكثير من الحنفية
يختارون هذا القول الثالث.
ولكن الأظهر أنه يبتدئ وقت صلاة الفجر بمجرد بزوغ الضوء.
وقوله: (قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ)، يعني في وقت ظلمة قبل أن يكون هناك نور للصبح.
{شيخ أحسن الله إليكم..
الدفع من مُزْدَلِفَة في منتصف الليل، ثم رمي الجمرة، وطواف الإفاضة؛ كل هذه
الأحكام المتعلقة بالضَّعفة فقط؟}.
رُخصة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للضَّعَفَةِ وأتباع الضَّعَفَةِ،
ولكن ما دام أنه جاز هذا للضَّعَفَة فدلَّ هذا على أن هذا الوقت وقت للرمي ووقت
للطواف، فمن فعله قلنا يصح ذلك الفعل؛ لأنه وقع في وقته المقدَّر شرعًا.
أورد المؤلف بعد حديث عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسِ قَالَ: (أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالـمُزْدَلِفَة)، يعني لم يقف معهم في عرفة،
وإنما جاء إليه في مُزْدَلِفَة ليلة العيد حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
قال: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيءٍ أَكْلَلْتُ
رَاحِلَتي وأَتْعَبْتُ نَفْسِي)، أي: أتعبتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي.
قال: (وَاللهِ مَا تَركْتُ مِنْ جَبلٍ)، يعني: ما تركت جَبَلاً مِن جِبَال عرفة
إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ.
قال: (فَهَل ليَ مِنْ حَجٍّ؟) وقوفه هناك كان بليلٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا
هَذِهِ»، فيه دلالة على أنَّ الوقت الواجب في مُزْدَلِفَة هو: أيُّ لحظةٍ بعد
مُنتَصَف الليل، فمن وقف في مُزْدَلِفَة لحظة بعد منتصف الليل أجزأه، من منتصف
الليل إلى طلوع الشمس يوم العيد.
قال: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ»، قال بعض أهل العلم: صلاة الفجر بمُزْدَلِفَة
ركنٌ، وبعضهم يقول واجب، ولكن ما دام أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رخَّصَ للضَّعَفَةِ ومَن كان في حُكمِهم ومن كان معهم بالدفع من مُزْدَلِفَة قبل
طلوع الفجر دَلَّ هذا على أنَّ صَلاة الفَجر في مُزْدَلِفَة ليست ركنًا ولا واجبًا.
قال: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ, وَقَدْ
وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، فيه
أنَّ وقت الوقوف بعرفة مِن فَجر يَوم عرفة -اليوم التَّاسع- وهذا هو قول أحمد.
والجماهير يقولون: لا يبتدئ إلا بعد الزَّوال؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يدخل عَرَفَة إِلَّا بَعد الزَّوال.
وحديث الباب حُجَّة لمذهب الإمام أحمد، والقول مقدَّم على الفعل.
قال: «وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا »، فيه دلالةٌ
على أنَّ الواجب الوقوف بعرفة بليلٍ، يعني: في أي جزء من أجزاء الليل من غروب
الشَّمس إلى طلوع الفجر.
قال: «وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ
حَجُّهُ»، استدل به بعض الشَّافعية على أنَّ البقاء في عَرفة حتى تغرب الشَّمس ليس
من الواجبات.
قال: لأنَّه ربَطَ صحة الحج بالوقوف ساعة من أي ساعة شاء من ليل أو نهار.
والجمهور على أنَّ البقاء في عرفة واجب من واجبات الحج؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلَه وقال: « لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» .
وقال بعض المالكية: إنه ركن، ولا يتم الحج إلا بالوقوف ولو للحظةٍ في الليل بعرفة.
قال: «وَقَضَى تَفَثَهُ»، أي: ما يتعلق بنسكه، وما يتعلق بما يحتاج إلى إزالته.
ثم روى المؤلف عَنْ عَمْرو بنِ مَيْمُونٍ قَالَ: (شَهِدْتُ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- صَلَّى بِجمْعٍ الصُّبْحَ)، جمع: أي مُزْدَلِفَة، سميت بجمعٍ؛ لأنَّ
النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع فيها بين المغرب والعشاء.
قال: (صَلَّى بِجمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْركينَ كَانوا
لَا يُفِيْضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)، يعني: من هدي المشركين أنهم يبقوا في
مُزْدَلِفَة حتى تطلع الشمس، فغيَّرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الحكم وطلبَ منهم أن يُغادروا ويُفيضوا من مُزْدَلِفَة قبل طلوع الشمس.
قال: (وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ) ثبير: أحد الجبلين المطلين على مُزْدَلِفَة،
وأكثرهم يقول: الجنوبي؛ لأنَّ الشَّمس تُشرق مِن جِهة المشرق، وهذا الجبل مُعترض
بين المغرب والجهة الجنوبية، وبالتالي تسطع الشمس فيه، فإذا سطعت غادروا، هذا ما
كان في الجاهلية.
وبعضهم يقول: ثبير: هو الجبل الشَّمالي الشَّرقي، وقولهم: (أَشْرِقْ ثَبِيرُ)، أي:
اجعل الشمس تشرق من عندك.
قال: (وَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَفَهُم، ثُمَّ
أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ)، أي: ذهب من مُزْدَلِفَة قبل طلوع الشمس
وأورد المؤلف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- (أَنَّ أُسَامَةَ
بنَ زيدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ
إِلَى الْمُزْدَلِفَة)، فيه جواز الإرداف على الدَّابة، وفيه الإرداف في وقت الحج،
وفيه أنهم كانوا يختارون أحسن المراكب في زمانهم، وبالتالي يختار الحاج أحسن
المراكب في زمانه.
قال: (أَنَّ أُسَامَةَ بنَ زيدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَة ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ
الْمُزْدَلِفَة إِلَى مِنَىً)، أي: أردف الفضل بن عباس، وكانوا جميعًا ليسوا كبارًا
في السِّنِّ، وإنَّما كانوا من الشباب اليافعين.
قال: (فَكِلاهُم)، أي: أسامة بن زيد والفضل بن عباس.
قال: (قَالَا: لم يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلَبِّي)،
أي يقول: "لبيك اللهم لبيك" (حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ)، وهي الجمرة
الأخيرة الموالية لمكَّة.
ورورى عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (حَجَجْتُ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَّةَ الْوَدَاعِ)، وهي الحجَّة
الواقعة في السنة العاشرة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مات
بعدها بأشهر.
قالت: (فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وبِلالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، من أجل ألا تهرب.
قالت: (وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ)، فيه أنَّ سِتر
الرأسِ والبدن بغير مُلاصق جائز، ولا يُعدُّ من محظورات الإحرام.
قالت: (حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ)، سُميِّت بــ"العقبة" لأن بجوارها الجبل
الصغير، وفي يوم العيد لا تُرمى إلا هذه الجمرة -جمرة العقبة- بسبع حصيات فقط.
ثم روى عَنْ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ يَزِيدَ (أَنَّهُ حَجَّ معَ عبدِ اللهِ قالَ:
فَرَمَى الجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ)، فيه أنَّ الواجب سَبعَ حصيات.
وبعض أهل العلم قال: الواجب ست، والسَّابعة مُستحبة.
قال: (وجَعَلَ البَيْتَ عنْ يَسارِهِ)، جمرة العقبة قبلها من جهة مِنَى جبيل صغير،
وبالتالي إذا أراد أن يرميها احتاج إلى أن يجعلها على يمينه فيأتي ويعود، وبالتالي
يجعل البيت ومكة عن يساره.
قال: (ومِنىً عنْ يَـمِينِهِ، وَقالَ عبد الله بن مسعود: هَذا مَقَامُ الّذي
أُنْزِلَتْ عَلَيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ)، أي: إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَمَى مِن هذا الموطن.
وقد اختلف العُلماء في هذا الموطن، هل هو مستحبٌّ لذاته أو أنه مستحب لكونه أرفق
للحجيج؛ ولعل الثاني أظهر القولين.
وَروى عَنْ أَبي الزُّبيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُول: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ)، فيه جواز الرَّمي
للإنسان وهو على راحتله، ولا يلزمه أن ينزل، وهذا في المركوبات الحديثة، فيجوز
للإنسان أن يَرمي وهو عليها، ويقول: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُم»، أي: اقتدوا
بأفعالي، وفيه دلالة على أنَّ أفعال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
الحج على الوجوب، إِلَّا مَا أَتَى دليلٌ يَدُلُّ على أنَّ فِعلاً ليس كذلك. وفيه
دلالة على وجوب رمي الجمار.
قال: «فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»، لذلك
سُميت حجة الوداع.
ثم روى عن جابر قَالَ: (رَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحَىً)، يوم النَّحر هو يوم العيد، يوم العاشر،
وقوله: (ضحى)، أي: في أول النهار بعد طلوع الشمس وارتفاعها.
قال: (وَأَمَّا بَعْدُ)، أي: في الأيام الثلاثة الباقية (فَإِذا زَالَتِ
الشَّمْسُ)، فكان لا يرمي إلا عند زوال الشمس بعد الظُّهر.
ثم روى عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي
الْجَمْرَةَ الدُّنْيَ).
الآن سنبحث في كيفية الرَّمي في بقية أيَّام التَّشريق، عندنا ثلاث جمرات:
- الجمرة الأخيرة: هي جمرة العقبة التي رموها يوم العيد.
- وعندنا جمرتان:
• إحداهما أقرب إلى مسجد الخيف.
• والثانية في الوسط.
• والثالثة جمرة العقبة.
قوله: (كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَ)، أي: الجمرة الأولى القريبة من مساكن
النَّاس في مِنَى.
قال: (بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ)، فيه استحباب
التكبير بدون تسمية، فيقول: "الله أكبر".
قال: (ثُمَّ يتَقَدَّمُ)، يعني: إِذَا فَرَغَ مِن رَمي السَّبع حَصَياتٍ يتقدَّم.
قال: (حَتَّى يُسْهِلَ)، أي: يأتي في بطن الوادي الذي سهلٌ فيه المشي.
قال: (فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَويلًا وَيَدْعُو وَيرْفَعُ
يَدَيْهِ)، فيه استحباب رفع الأيدي في هذا الموطن.
قال: (ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى)، وهي التي في الوسط.
قال: (ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ)، أي: يدعو الله -جلَّ وعَلا-
مبتدًا بذكره سبحانه.
قال: (وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، فَيَقُومُ طَويلًا وَيَدْعُو وَيرْفَعُ
يَدَيْهِ وَيقومُ طَويلً)، فيه استحباب إطالة الدعاء في هذين الموطنين، وفيه رفع
اليدين فيهما.
قال: (ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ)، وهي الجمرة الأخيرة الأقرب إلى
مكة. (مِنْ بَطْنِ الْوَادي)، كان سابقًا بجوار جمرة العقبة جبيل صغير، فبعض
النَّاس يرمي من فوق الجبل، وبعض النَّاس يرمي من الأرض، وكان النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرمي جمرة العقبة مِن بَطن الوادي، في الجمرة الوسطى
والصُّغرى، ولما انتهى وقف يدعو، وهنا بعد الجمرة الكبرى لا يقف ولا يدعو ولا
يُستحب له ذلك.
قال: (وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ)، أي: بعد فراغه من دعائه.
قال: (فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَفْعَلُهُ)، فيه حِرصُ الصَّحابة على الاقتداء بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في مناسك الحج.
{شيخنا أحسن الله إليك.
من توكَّل عن أحد في رمي الجمرات، هل يدعو لنفسه أو يدعو له؟}.
الدُّعاء في هذا الموطن غير مُتقيد بأن يكون لأحد، يدعو لنفسه، أو لوالديه، يدعو
لإخوانه، يدعو لذريته، يدعو لقرابته، فإنَّ الدُّعاء هُنا مُطلق، إذا كان يرمي عن
غيره أو يحجُّ عن غيره؛ فإنه يدعو لنفسه ويدعو لمن وكَّله وأنابه، ويدعو لجميع
النَّاس ممَّن يريد الدُّعاء لهم، فلا حصر عليه في ذلك.
{قال المؤلف: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ» قَالُوا:
والـمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ»
قَالُوا: والـمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «والمُقَصِّرِينَ».
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا
يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ,
قَالَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ»، فجَاءَ آخرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ
قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ, قَالَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، فَمَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَنْ
شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ». مُتَّفقٌ
عَلَيْهِمَا.
وَعَنِ الْمِسْوَرِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذلِكَ.
رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْعَبَّاسَ بنَ عبدِ
الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَبِيتَ بِمَكَّةَ ليَالِيَ مِنىً مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ. مُتَّفقٌ
عَلَيْهِ.
وَرَوَى مَالكٌ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا
البَدَّاحِ بنَ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِرُعاةِ الْإِبِل فِي البَيْتُوتَةِ
عَنْ مِنىً يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، أَو مِنْ بَعْدِ
الْغَدِ، لِيَوْمَيْنِ ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفرِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبو
دَاود وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، منْ حَدِيثِ مَالكٍ،
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
قوله هنا: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، يعني: عن الصَّحابي الجليل ابن عُمر
-رضي الله عنهما.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اللَّهُمَّ
ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ»)، أي: المحلقين رؤوسهم في نُسُك الحج، وفيه دلالةٌ على
أنَّ الحَلقَ نُسُك، وأنَّه مِن أَعمالِ الحج.
بعض الفقهاء قال: هو إطلاق من محظور؛ ولكن هذا ليس بصحيح؛ بل هو واجب من واجبات
الحج -الحلق أو التقصير.
قال: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ»، التحليق: هو إزالة جميع الشعر. أمَّا
إزالة بعضه فهذا ليس حلقًا.
قال: (قَالُوا: والـمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ادعُ لهم.
فقَالَ: («اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ» قَالُوا: والـمُقَصِّرِينَ يَا
رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «والمُقَصِّرِينَ»)، فيه فضيلة الحلق وعِظَم أجره، وكثرة
ثوابه، وفيه إجزاء التقصير.
ثم أَورَدَ من حديث عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، وقف من
أجل أن يسأله النَّاس ويستفتونه في أمورهم.
قال: (فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لم أَشْعُرْ)، أي: لم أنتبه.
(فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ)، الأصل هو فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهو:
- أولًا: رَمَى جمرة العقبة.
- ثانيًا: ذَبَحَ هَديه.
- ثالثًا: حَلَقَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- رابعًا: ذَهَبَ إِلَى طَواف الإفاضة.
إذن هذه أعمال ذلك اليوم.
فهذه الأشياء الأربعة واجبة على جميع الحجيج إِلَّا ما يتعلق بالذَّبح؛ لأنَّه لا
يجب إلا على المتمتع أو القارن.
قال عبد الله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ)، يسألونه أسئلة شرعية تتعلق بالحج.
قال: (فَقَالَ رَجُلٌ: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ)، هنا خالف
الطريقة النَّبوية، هناك ذبح ثم حلق، وهنا حلق ثم ذبح.
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ».
قال: (فجَاءَ آخرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ)، ابتدأ
النَّحر قبل الرَّمي.
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمِ وَلَا حَرَجَ»، (فَمَا سُئِلَ
يَوْمئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلَا
حَرَجَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَ).
قال المؤلف: (وَعَنِ الْمِسْوَرِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
بِذلِكَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْعَبَّاسَ بنَ عبدِ
الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَبِيتَ بِمَكَّةَ)، أي: أن يبقى في مكة بالليل.
قوله: (ليَالِيَ مِنىً)، أي: ليالي أيام التشريق.
قال: (مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ)، لأنهم هم الذين يسقون الحجيج. (فَأَذِنَ لَهُ)،
أذن له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي هذا دلالة على أن المبيت
بمِنَى من الواجبات، لأنه إذا كان أهل الأعذار مأذونًا لهم دلَّ ذلك على أن غير أهل
الأعذار لا يؤذن لهم.
ثُمَّ أَورَدَ حديث مَالك، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، (أَنَّ
أَبَا البَدَّاحِ بنَ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِرُعاةِ الْإِبِل فِي
البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنىً)، أي: يبيتون خارج حدود مِنَى.
قال: (يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، أَو مِنْ بَعْدِ
الْغَدِ، لِيَوْمَيْنِ ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفرِ)، يوم النفر: هو اليوم
الأخير الذي ينفرون منه، وهو اليوم الثَّالث عشر.
{قال المؤلف: (وَعَنْ أَبي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَنَا
النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ... الحَدِيث.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سرَّاءَ بنْتِ نَبْهانَ قَالَتْ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الرُّؤوسِ فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا:
اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بإِسْنَادٍ صَالحٍ.
وعنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لم يَرْمُلْ مِنَ السَّبْعِ الذي أَفاضَ فِيهِ. رواه أَبو داود
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ أُعِلَّ
بِالْإِرْسَالِ.
وَعَنْ أَنَس ِبنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ،
ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالـمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ.
رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ
كَانُوا يَنْزِلُونَ الأَبْطَحَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا لمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَالَتْ:
إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ. رَوَاهُ مُسلمٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ
آخِرَ عَهْدِهِم بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ.
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ
مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِواهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِمِائَةِ صَلَاةٍ»
رَوَاهُ الإِمَام أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَابْنُ حِبَّانَ، وَإِسْنَادُهُ
عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قال المؤلف هنا: إنَّ أَبَا البَدَّاحِ بنَ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ أَخْبَرَهُ عَنْ
أَبِيهِ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لِرُعاةِ
الْإِبِل فِي البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنىً)، يعني: أجاز لهم أن يبيتوا خارج مِنَى،
فجعل رعي الإبل مِن الأعذار التي يُترك بها واجب المبيت بمِنَى.
وفيه دلالة على أنَّ المبيت بمِنَى من الواجبات.
وفيه دلالة على أنَّ أهل الأعذار يُرخَّص لهم في ترك المبيت بمِنَى، بعضهم يكون
للحاجة العامة مثل السُّقاة، وفي زماننا مثل الأطباء، ومثل رجال المرافق الذين
يخدمون الحجيج، وقد يكون للمصلحة الخاصة كما في رعاة الإبل، فهو لمصلحتهم وليس
لمصلحة عموم المسلمين، ومثله عن عجز عن الوصول إلى مِنَى بسبب انسداد الطريق، أو
لكونه قد تاه، أو لكونه كان مريضًا يُتعبه الوقوف بمِنَى.
قال: (رَخَّصَ لِرُعاةِ الْإِبِل فِي البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنىً، يَرْمُونَ يَوْمَ
النَّحْرِ)، يوم النَّحر هو اليوم العاشر. (ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ)، يوم الحادي
عشر. (أَو مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، لِيَوْمَيْنِ)، بحيث يرمي في اليوم الثَّاني عشر عن
اليوم الحادي عشر أولًا، ثم عن اليوم الثاني عشر.
ولهذا قال الحنابلة: يجوز تأخير الرمي ليكون كله في اليوم الثالث عشر، قالوا:
ويعتبر أداء لأنه وقت للرمي.
قال: (ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفرِ)، وهو يوم خروجهم من مِنَى.
قال: (وَعَنْ أَبي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ)، فيه مشروعية خطبة يوم النحر.
ثم روى عَنْ سرَّاءَ بنْتِ نَبْهانَ قَالَتْ: (خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الرُّؤوسِ)، وهو اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجة.
قالت: (فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،
قَالَ: «أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟»)، يعني: يوم الحادي عشر.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بإِسْنَادٍ صَالحٍ.
ثم روى عنِ ابنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما (أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يَرْمُلْ مِنَ السَّبْعِ الذي أَفاضَ فِيهِ)، فطواف الإفاضة
الذي يكون يوم العيد لا رَمَل فيه، إنما الرَّمل يكون في طواف القُدوم، وفي طواف
العُمرة فقط، أمَّا طواف الإفاضة وطواف الوداع فلا رَمَلَ فيها.
قال: (وَعَنْ أَنَس ِبنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ)، يعني: في المحصَّب، رمى الجمرات بعد الزَّوال مُباشرة، ثم ذَهَبَ
إلى المحصَّب، وَصَلَّى هُناك الظُّهر والعَصر والمغرب والعشاء، يقصر الرباعية.
قال: (ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالـمُحَصَّبِ)، بعد أن غادر مِنَ هناك مكان على
اليمين فيه حصباء سهلة، ولذلك سُمِّيَ بهذا الاسم.
قال: ( ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ)، يعني: في آخر الليل.
قال: (فَطَافَ بِهِ)، طواف الوداع، وهذا الطواف من الواجبات عند الجماهير، وبعض
المالكية يقول: إنه مستحب، وقول الجمهور أقوى لهذه الأخبار.
قال: (وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنَ
عُمَرَ -رضي الله عنهم- كَانُوا يَنْزِلُونَ الأَبْطَحَ)، يعني: بعد انتهاء أيام
مِنَى ينزلون الأبطح.
قال: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا أَنَّهَا لمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ)، أي: لم تكن تذهب إلى الأبطح فتجلس
فيه، ولا تنزل فيه، وتقول: هذا المكان ليس سنَّة. قَالَتْ: (إِنَّمَا نَزَلَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا
أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ)، وبالتالي لا يصح التقرب بهذا الفعل.
ومن هنا نأخذ قاعدة: أنَّ مَا فَعَلَه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عادة أو لكونه أسهل، أو لسببٍ من الأسباب الدُّنيوية؛ فإنه لا يكون أمرًا مَطلوبًا
شَرعًا لا على جِهة الإيجاب، ولا على جِهة الاستحباب، وإنما الذي يُطلب الاقتداء به
فيه ما فعله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جهة القُربة.
قال: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ
يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِم بِالْبَيْتِ)، يعني: الطواف بالبيت، وهذا طواف الوداع، وهو
من الواجبات عند الجماهير.
قال: (إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ)، المرأة الحائض لا يجوز
لها أن تطوف، وبالتالي إذا لم يبقَ لها إلا طواف الوداع فإنها تُسافر مع رفقتها ما
دامت لم تطهر بعد.
ثم روى عَنِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَ»)،
يعني: المسجد النبوي.
قال: «أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِواهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»،
وفي هذا فضيلة مسجد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي
بِمِائَةِ صَلَاةٍ»، وفي هذا دلالة على أنَّ الصَّلاة في مكة بمائة ألف صلاة فيما
عداه من المساجد.
ويُلاحظ أنه قال: «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»، هنا قوله: «صَلَاةٌ فِي
مَسْجِدِي هَذَ»، الجماهير على أنها خاصة بالمسجد فقط وما أضيف إليه، وأمَّا
المسجد الحرام فهو عامٌّ في جميع حدود الحرم، وبالتالي فالجميع موطنٌ لتفضيل
الصَّلاة ومضاعفة أجرها.
وهنا إشارة إلى الحديث السابق: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان
يرمي يوم النَّحر ضُحى، وبعده إذا زالت الشمس، وفي هذا دلالة على أنَّ فِعل النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أيَّام التَّشريق رمي الجمرات الثلاث بعد
الزَّوال.
وهل يجوز قبل الزوال؟ وهل يجوز ضحى؟
أَجَازَه طائفة قياسًا على الرَّمي في يوم العيد، واستدلوا عليه بأن الله تعالى
أجاز للحاجِّ أن يُغادر مِنَى في أي وقت في اليوم الثاني، وهذا يصدق على ما كان قبل
الزوال وما كان بعده.
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 203]، ومن ذكر الله: رمي الجمار.
ولذلك رأى طائفة جواز رمي الجمار في هذه الحال قبل الزوال، والجمهور على منع ذلك
وأنه لابد أن يكون بعد الزوال.
هذا خلاصة ما يتعلق بأحكام هذا الباب، بارك الله لي ولكم، ووفقني الله وإياكم لكل
خير، وجعلني الله وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا
محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم معالي الشيخ، وجزاكم الله خيرًا على ما أجدتم به وأفدتم، وفي
الختام نشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في
الحلقة القادة إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.