الدرس التاسع عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3605 24
الدرس التاسع عشر

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكُم إخواني وأخواتي المُشَاهدين الأَعِزَّاء في حَلقةٍ جَديدةٍ مِن حَلقاتِ البناء العلميِّ، وأُرحبُ بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحيِّيك، أرحبُ بِكَ، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسألُ الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نبدأُ في هذه الحلقة -بإذنِ الله- من باب "الحجر" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (بَابُ الحَجْرِ
عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» فَتصدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلم يَبْلُغْ ذَلِك وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُم وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ». رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بنِ مَالكٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْن ٍكَانَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهمَا، وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيرُهُ.
وَعَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ -أَو إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ- فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلم يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ». رَوَاهُ مَالكٌ وَأَبُو دَاوُد هَكَذَا مُرْسلًا، وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ غَيرِ قَوِيٍّ.
وَعَنْ عُمرَ بنِ خَلْدَةَ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنا قَدْ أَفْلَسَ؟ فَقَالَ: لأَقْضِيَنَّ فِيكُم بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَفْلَسَ أَو مَاتَ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ-، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبدِ الْبَرِّ)
}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد:
فالمراد بالحَجْر: المنع من التَّصرُّفات، بحيثُ يُمنَع الإنسان مِن البيع، والإجارة، والشِّراء، ونحو ذلك مِن التَّصرُّفات التي توجب في رقبته وذمَّته حقوقًا للآخرين.
والحَجرُ على نوعين:
الأوَّل: حجرٌ على الإنسان لحظِّ نفسه، وهذا يكونُ في الكبيرِ الخَرِفِ، فإنَّه إذا وصلَ إلى درجةٍ لا يُحسنُ معها التَّصرُّف فإنَّه يُشرَعُ حينئذٍ أن يُحجَرَ عليه، وكذلك الصَّغير الذي لا يُحسِنُ التَّصرُّف، ومثلِه السَّفيهُ الذي لا يُحسنُ التَّصرُّف.
الثَّاني: حجرٌ لحقوقِ الآخرين، وذلك في المَدين الذي كانت دُيونه أكثرَ مِن أمواله، فإنَّه يُحجَر عليه.
والناس في هذا ثلاثة أنواع:
النَّوع الأوَّل: إنسان عليه دُيون، ولكن أموالَه أكثر مِن دُيونه، فهذا لا يُحجَر عليه، ويُؤمَر بالسَّداد لأصحابِ الحقوقِ والدُّيون.
النَّوع الثَّاني: مَن تساوت أموالُه وديونُه، فهذا أيضًا لا يُحجَر عليه، ويُؤمَر بالسَّداد.
النَّوع الثَّالث: مَن كانت دُيونه أكثر مِن أمواله، ففي هذه الحال يُحجَر عليه، ويُوزَّع ماله بين أصحاب الحقوق بحيث يُعطى كلُّ واحدٍ مِن أصحابِ الحقوقِ بمقدارِ حقِّه بحسبِ النِّسبة.
مثال: إذا كانت دُيونه مائة، وليس عنده إلا خمسون، فنقول: إنَّه يُحجَر عليه بطلبٍ الغُرماء، ويُعطى كلُّ واحدٍ مِن الغرماء نصف حقِّه.
وهنا مسألة: أنَّ الحَجرَ لابدَّ أن يكونَ بحكمٍ قضائيٍّ، فليسَ الحجرُ من عندِ أولاد الشَّخص، ولا مِن عند غرمائه، وإنَّما يكونُ من طريق القضاء، إِلَّا في الصَّغير فإنَّه يُحجَر عليه أصالة، فيبقى الحَجر حتى يرتفع عنه ببلوغه.
ويُلاحَظ هنا في الكبير أنَّ بعضَ الآباء يُوكِّل ابنه في التَّصرُّفات، ثم بعدَ ذلك يصل الخَرَفُ للأبِ، فإذا خرِفَ الأبُ وجبَ على الابن أن يتوقَّف عن التَّصرُّفات، لأنَّ الوكالة الآن لم تعد سارية، وحينئذٍ لابدَّ من التَّوجُّه للقضاء لأخذ صكِّ ولايةٍ على ذلك الخَرِف ويتصرَّف في المال بحسبه.

أورد المؤلِّف في هذا الباب عددًا من الأحاديث:
أولها: حديث أبي سعيد الخدري، وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلم، قال: (أُصِيبَ رَجُلٌ)، يعني: أنَّه أصابته فاقةٌ وفقرٌ بسببِ ثمارٍ ابتاعها -أي اشتراها- فيبدو أنَّه اشتراها وقبضها، ثم تلِفَت عنده، بعض أهلُ العلم ممَّن لا يقول برفعِ الجوائح قال: هذا دليل على أنَّ الجائحة لم تُرفَع هنا بدلالة أنَّ الدَّين بقيَ على المشتري.
والأوَّلون قالوا: هذا الخبر يحتمل أن يكونَ في ثمارٍ قد استوفَاها وأخذَها، ثمَّ تلفت عنده، بخلاف حديث رفعِ الجوائح فإنَّه فيما إذا كانت الثِّمار لازالت على الشَّجر.
قال: (أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَ)، أي: أُصيبَ في ديونٍ لحقته.
قال: (فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ»)، فيه جوازُ دفعِ الصَّدقة والزَّكاة لأصحابِ الدُّيون الذينَ كثُرَت ديونه عن قدرتهم.
والصَّواب أنَّ اللفظة: «تَصدَّقُو» على الاستحباب المتأكِّد، وليست على سبيلِ الوجوبِ، وإنَّما فيها بيانٌ أنَّ هذا الوجه وجهٌ من مصارف الزَّكاة.
قال: (فَلم يَبْلُغْ ذَلِك)، يعني لم تبلغ تلك الصدقة وَفَاءَ دَيْنِهِ.
قوله: (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِغُرَمَائِهِ)، أي: لأصحاب الدُّيون.
قوله: «خُذُوا مَا وَجَدْتُم»، يعني من الثِّمار الباقية ومن الصَّدقة التي تُصدِّقَ بها عليه.
قوله: «وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ»، قيل في معناه:
القول الأوَّل: أي ليس لكم المطالبة إلا بذلك، وتبقَى الدُّيون في ذمَّتِه حتى يتمكَّنَ من سدادها.
القول الثَّاني: إنَّ الغرماء متى طالبوا المَدين وطالبوا القَاضي بأن يُوزِّع عليهم أموال المَدين فليس لهم إلا ذلك، وبالتَّالِي لا يُطالبون بشيءٍ في مستقبلِ أيَّامهم.
والقول الأوَّل أصوَب لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» .
وقوله: «وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ»، يعني أنَّه ليس لكم حقٌّ في المطالَبة القضائيَّة له ما دامَ على هذه الحال.
أوردَ المؤلِّف بعدَه حديث ابن شهاب الزُّهري عَنِ ابْنِ كَعْبِ بنِ مَالكٍ، عَنْ أَبِيهِ، هكذا في بعض الرِّوايات (عَنْ أَبِيهِ)، بينما روى آخرون بدون لفظة (عَنْ أَبِيهِ)، ولذا قال طائفة إنَّ الخبرَ مرسلٌ لعدمِ ذكر الصَّحابي في هذا الخبر، وقد أخرجه الإمام أبو داود في المراسيل.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ)، معاذ بن جبل الصَّحابي المعروف؛ رُويَ أنَّه لحقته ديونٌ فطالبَ الغرماء بديونهم، فقيل لهم: ليس لكم إلا ما نجد من ماله، فحجَر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على معاذ ماله، ومنعه من التَّصرُّفِ فيه، وباعَ ما لديه من الأموال في الدُّيون التي قد وجب عليه سدادها.
ثم أورد من حديث عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَدْرَكَ»)، أي مَن وجدَ. «مَالَهُ بِعَيْنِهِ»، يعني: ما أعطاه المفلس. قال: «عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ -أَو إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ- فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ».
مثال ذلك: بعتَ سيَّارتك على رجلٍ ثُمَّ أفلسَ، ولازالت السيَّارة مَوجودة بعينها، فحينئذٍ إذا لم يَقُم المَدين بسداد قيمة السَّيَّارة فإنَّ صاحبَ السَّيَّارةِ أحق بالسَّيَّارة من بقيَّة الغُرمَاء، وهذا قول الجماهير، وخالفَ في ذلك الحنفية، وقول الجمهور أصح لهذا الخبر.
وقوله: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ»، فيه شرط أن يكون لازال بصفاته وبعينه، ولكن لو استبدلَ بمالٍ آخرٍ، كأن يكون قد أخذ سيارة واستبدلها بسيارة أخرى، فحينئذٍ يكون أسوة بالغُرمَاء.
قال: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ»، يعني: أنَّ صاحب المال أحق به من بقيَّة الدَّائنين، ويُشتَرط أَلَّا يكونَ قد سدَّد أيَّ جزءٍ من ثمنه، فإذا سدَّدَ أصبحَ أُسوةَ الغرماء.

ثُمَّ أوردَ من حديث أَبي بَكْرِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، وهو أبو بكرٍ بن عبد الرحمن بن الحارث، وهو تابعيٌّ وليسَ مِن الصَّحابة، ومِن ثَمَّ فهذا الخبر مرُسَلٌ وليس بمتّصلٍ لعدمِ ذكرِ الصَّحابي فيه، وهناك مَن روى هذا الخبر من طريق أبي هريرة، لكنَّ تلك الرِّواية ضعيفة، ولذلك أشار المؤلِّف إليه، فقال: (وَقَدْ أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ غَيرِ قَوِيٍّ)، وقد أخرجه الدَّارقطني، لكنَّه من رواية إسماعيل بن عيَّاش، وإسماعيل بن عيَّاش إذا روى عن غير أهل بلده فإنَّه يضطرب في الرِّواية.
قال فيه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعً»)، هنا لفظ «رجل» ليست مقصودة، وإنَّما المراد بها التَّمثيل والتَّقريب، فلو كانَ الأمر متعلقًا بامرأة لأخذت نفسَ الحكم.
قال: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعً»، أي: سِلعة ممَّا يتمتَّع النَّاس بها.
قال: «فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ»، أي أنَّ المشتري كثُرَت عليه الدُّيون، وحَكَمَ عليه القَاضي بحكمِ الإفلاس.
قال: «وَلم يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئً»، هذا شرطٌ في استردادِ البائعِ عينَ ماله، وهو ألا يكونَ قد أخذَ شيئًا مِن ثمنه.
قال: «فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ»، لابدَّ أن يكون يعينه، لو تغيَّر أو زادَ فيه زيادة فحينئذٍ يكون أُسوةَ الغرماء.
قال: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي»، لو قُدِّرَ أنَّ شخصًا ماتَ وكانت الدُّيون أكثر من التَّرِكَة، فوجدَ إنسانٌ مالَه بعينِه:
فقالَ طائفة: صاحبُ المتاع أُسوة الغرماء -يعني يُماثلهم- فيلحقه من النَّقص مثلما يحلق بقيَّة الغرماء.
بينما رآى طائفة أنَّ مَن مات كمَن أفلسَ، وبالتَّالِي يكون صالحب المال أحق به، وهذا الخبر -كما تقدَّمَ- أنَّ فيه إرسالًا، ولكن الخبر الذي قبله فهل قوله «عِندَ رجلِ»، يشمل عند رجل حيٍّ وعند رجلٍ ميِّتٍ؟ أو أنَّه يستقلُّ به الحي؟
ظاهر الخبر العموم، لأنَّه نكرةٌ في سياق الشَّرط فيكون عامًّا في الحيِّ والميِّتِ.
أوردَ المؤلِّف من حديث عُمرَ بنِ خَلْدَةَ، وقد رَوى هذا الخبرَ عنه ابنه أبو المعتمر، وأبو المعتمر هذا مجهول، ولذلك ضعَّفَ أهلُ العلم هذا الخبر.
قال عمر: (أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنا قَدْ أَفْلَسَ؟ فَقَالَ: لأَقْضِيَنَّ فِيكُم بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وكان أبو هريرة واليًا في المدينة ويقضي فيها.
قال: (مَنْ أَفْلَسَ أَو مَاتَ)، فدخل الحكمان في الخبر.
قال: (فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ)، ولذا قال مَن قالَ إنَّ الموتَ يُماثلُ الإفلاس في ذلك، وهذا الخبر قد تقدَّمَ أنَّه مِن رواية المجهول، فلا تتقوَّى به رواية الضَّعيف السَّابقة، خصوصًا أنَّ الاتِّصال في الحديث السَّابق مُنكَر، وبالتَّالِي لا تتقوَّى الأخبارُ في ذلك، مع وجود التَّعارض فيها، فالأوَّل نفى أخذ الرَّجل لمالِه بعينه عندَ موتِ المَدين، والثَّاني أثبته، وبالتَّالِي نرجع إلى الحديث الصَّحيح، وهو عامٌّ فيشمل حالَ الحياة وحالَ الوفاة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَم يُجِزْني، وعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ والخَطِيْبُ: فَلَمْ يُجِزْنِي وَلمْ يَرَني بَلَغْتُ.
وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيْلِي. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَ)
}.
حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: ( عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ)، وكان هذا في نهاية السَّنة الثَّالثة وبداية السَّنة الرَّابعة.
قال: (وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَم يُجِزْني)، أي: ردَّهُ ولم يُمكِّنه من القتال مع المسلمين في أُحد.
قال: (وعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي)، أي: أذِنَ لي في أن أُقاتل مع النَّاس في يوم الخندق.
وفي لفظٍ عند البيهقي قال: (فَلَمْ يُجِزْنِي)، يعني في يوم أحد (وَلمْ يَرَني بَلَغْتُ)، واستدلَّ العلماء بهذا الخبر أنَّ مِن علامات البلوغ أن يبلغَ المرءُ خمسة عشرة سنَةٍ.
لماذا أتى المؤلف بهذا؟
ليُبيِّن أنَّ الصَّغيرَ المحجور عليه إذا بلغَ فإنَّه يُفكُّ عنه الحَجر.

متى يُعدُّ بالغًا؟
بعلاماتٍ، منها بلوغه السِّن، فمن بلغَ خمسَ عشرة سنة عُدَّ بالغًا، وبالتَّالِي جازت تصرُّفاته، وأمكنَ دفعُ ماله له، وارتفع الحجرُ عنه.
وهناك مِن العلماء مَن قال: إنَّ البلوغ يُحدَّد بسنِّ ثمانية عشر عامًا.
وبعضهم قال: سبعة عشر عامًا، كما وردَ ذلك في مذهب الإمام أبي حنيفة.
وقول الجمهور أرجح، وهذه الحديث حديثٌ صحيحٌ، ويُلاحظ أنَّ قوله (وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً )، أي: دخل في الرَّابعة عشرة، لأنَّ أُحد في الثَّالثة، والخندق في الخامسة، فكأنَّه لما قال (وَأَنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً)، إمَّا أنَّه كان في آخرها، أو أنَّه تجاوز الخمس عشرة سنة.
واستُدلَّ بهذا الخبر على أنَّ المرء إذا دخلَ في بداية السَّنة عُدَّ ابنًا لها، فيُقال هذا في السَّنة الأولى وإن كان لم يمضي عليه إلا شهر أو شهران.
فهذا الحديث يتحدَّث عن علامة من علامات البلوغ.
ثم روى المؤلف من حديث عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ بحديث قد أخرجه الترمذي وقال عنه أنَّه حسنٌ صحيحٌ، قال: (عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ قُرَيْظَةَ)، عطيَّة من بني قريظة، وبنو قريظة غدروا؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَالحهم أوَّل ما قدِمَ إلى المدينة، فلمَّا جاء يومُ الخندق اتَّفقوا مع قريش وقبائل العَرب على أن يغدروا بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحيث تأتي قريش ومَن معها من أمام أهلِ المدينة، ويأتي بنو قريظة من خلف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمزَّقوا وثيقة الصُّلح، واتَّفقوا مع قريشٍ في هذا الباب، فما هي إلى خمسة وعشرون يومًا حتى أرسلَ اللهُ الرِّيح الشَّديدة على قريش وغطفان ومَن معهم، فأكفأت قدورهم، وأسقطت خيامهم، وفرَّقت أوانيهم وأغراضهم، فركب أبو سفيان راحلته وعادَ إلى مكَّة، فحينئذٍ بقي بنو قريظة في أمر وداهية، فلمَّا عادَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة قال له جبريل: "إن كنتَ قد فسختَ سلاحكَ فإنَّا لم نفعل، إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأمركَ أن تأتي هؤلاء"، وأشارَ إلى بني قريظة، فذهب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه إلى بني قريظة وحاصروهم في حصنهم، فطلبوا أن ينزلوا على حكمِ سعدِ بن معاذ، لأنَّه كان أخًا لهم في الجاهليَّة قبلَ الإسلام، فحكمَ عليهم سعدُ بن عبادة بأن تُقتَل مقاتلتهم، وتُسبَى ذراريهم.
عطيَّة القرظي كانَ صغيرًا في ذلك اليوم، فلم يكن قد بلغَ بعدُ، وبالتَّالِي سَلِمَ من القتل، وأصبح بعد ذلك من علماء الإسلام، وقد وردت روايات كثيرة عنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال عطيَّة: (عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ قُرَيْظَةَ)، يوم قريظة كان في السَّنة الخامسة بعدَ غزوة الأحزاب.
قال: (فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ)، أي: مَن أنبتت عانته الشَّعرَ.
قوله: (قُتِلَ)، لأنه عُدَّ بذلك بالغًا، وسعد بن معاذ حكمَ بأنَّ الرِّجال يُقتلون، فجعلوا علامة هي إنبات الشَّعرِ الخَشِنِ حول القُبُل، فحكم عليهم سعد بأن يُقتلون، فكان مَن أنبتَ قُتِلَ لأنَّه عُدَّ بذلك بالغًا، ومَن لم يُنبِت خُلِّيَ سبيلُه، ولذلك قال طائفةٌ أنَّ إنبات العانة علامة من علامات البلوغ، وهو مذهب أحمد وجماعة من أهل العلم.
وكثير من أهل العلم يقول: إنَّ هذا ليس علامةً مِن علامات البلوغ، وإنَّما استعمل هذه العلامة هنا، لأنَّ هؤلاء ليسوا بمسلمين، فإنَّهم لا يُعرَف هل بلغوا أو لا من جهةِ السِّن، لأنَّه لا يَعرفُ أسنانهم، فلم يبقَ إلا أن يلتفتَ إلى الإنبات.
هناك علامة ثالثة لم تُذكر في هذه الأخبار، وهي: الاحتلام، فمَن احتلمَ عُدَّ بالغًا، ويدلُّ على هذا أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علَّقَ بعضَ التَّكاليف على مَن احتلم، ولذا قال لمعاذ: «خُذْ منْ كُلِّ حالِمٍ دينارَا أو عَدلَهُ مَعَافِرِيٌّ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ، وفي لفظ: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» .
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَجوزُ لامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَ»، وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إِذا مَلَكَ زَوجُهَا عِصْمَتَهَ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَاللَّفْظ لَهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَم يُخَرِّجَاهُ)}.
هذا الحديثُ حسن الإسناد، فإنَّه مِن رواية شُعيب من محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وشعيب هذا صدوق، فالخبرُ حسن الإسناد.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجوزُ لامْرَأَةٍ»، هذا يشمل الصَّغيرة والكبيرة.
قال: «لَا تَجوزُ لامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَ»، ظاهر هذا الخبر أنَّ الزَّوجَة لا تتصرَّف بماله بالهبةِ إلا باستئذانِ الزَّوج، والعلماءُ لهم في ذلكَ ثلاثةُ أقوالٍ مشهورةٍ:
القول الأوَّل: الحديث المراد به حُسن العشرة والاستحباب، وليس المراد به الإيجاب والإلزام، ويستدلِّونَ على ذلك بأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يومِ العيدِ لمَّا خطبَ النَّاس خطبَ النِّساء، وأمرهنَّ بالصَّدقة، وقال لهنَّ: «تَصَدَّقْنَ» ، فكانت المرأة تُلقي بقرطِها وبخاتمهَا، وكان بلال يتلقَّى مَا يُلقونه، فهذه العَطيَّة كانت بغيرِ إذنِ الزَّوجِ، ومع ذلكَ صحَّح النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه العَطيَّة.
القول الثَّاني: لا يجوز للزَّوجة أن تهبَ شيئًا مِن مالها إلَّا بإذن زوجِهَا، واستدلُّوا على ذلك بمثل قوله -جلَّ وعلا: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئً﴾ [النساء: 4]، فقالوا: إنَّ الله أباح للزَّوجِ ما طابَت له نفسُ امرأته.
القول الثَّالث: إن تصدَّقت بالثُّلثِ فأقل أو أهدَت ذلك؛ فإنَّها لا يَلزم أن تستأذن زوجها، لأنَّ المال لم يبلغ حدَّ الكثرة، وأمَّا إذا تصرَّفت بأكثرِ مِن الثُّلثِ فحينئذٍ لابدَّ من إذن الزَّوج. وهذا القولُ نُسبَ إلى الإمام مالك -رحمه الله تعالى.
ولعلَّ الأظهر هو حملُ حديث الباب على أفضل الأمور وأحسنها لتستقيم العشرة بين الزَّوجين.

{قال -رحمه الله: (بَابُ الْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ
عَنِ ابْن إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَحْبَبْتُ التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ، بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي، يَكُونُ ذَلِك آخِرَ مَا أَصْنَعُ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: «إِذا أَتيتَ وَكِيْلِي بِخَيْبَرَ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقً» قَالَ: فَلَمَّا ولَّيْتُ دَعَاني، فَقَالَ: «فَخُذْ مِنْهُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، وَاللهِ مَا لآلِ مُحَمَّدٍ بِخَيْبَرَ ثَمَرَةٌ غَيْرُهَا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تُرْقُوَتِهِ» فَقَدِمْتُ خَيْبَرَ، فَقُلْتُ لِوَكِيْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَمَرَني بِهِ، فَابْتَغَى مِنِّي آيَةً، فَأَنْبَأْتُهُ بِها، فَقَرَّ بِـها إِلَيَّ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا لِآلِ مُحَمَّدٍ بِـخَيْبَرَ ثَـمَرَةٌ غَيْرُهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو بَكْرِ بنُ أَبي عَاصِمٍ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَهُوَ أَتَمُّ.
وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمدُ: حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ شَبِيبٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَيَّ يُخْبرونَ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيةً- وَقَالَ مَرَّةً: أَو شَاةً- فَاشْتَرَى لَهُ اثنَتَيْنِ، فَبَاعَ وَاحِدَةً بِدِينَارٍ، وَأَتَاهُ بِالْأُخْرَى، فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لرَبِحَ فِيهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي ضِمنِ حَدِيثٍ لِعُرْوَةَ البَارِقِيِّ مُتَّصِلٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجهٍ آخَرَ حَسَنٍ مُتَّصِلٍ عَنْ عُرْوَةَ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَنا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذا خَانا خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ قيلَ: إِنَّه مُنْكَرٌ)
}.
الوكالة: تفويضُ الغيرِ في التَّصرُّفات.
الشَّركة: أن يكونَ هناكَ اشتراكٌ في المِلكِ أو في العَمَلِ بين اثنينِ فأكثر.
وهذا يدلُّك على كمالِ هذه الشَّريعة، فما تركت بابًا مِن أبواب التَّعاملِ إلَّا وقد قعَّدته وذكرت فيه أحكامًا.

أوردَ المؤلف في هذا الباب حديثين شريفين:
أولهما: ابْن إِسْحَاقَ قَالَ: (حَدَّثَنِي وَهْبُ بنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ)، وهذا إسناد حسنٌ، فابن إسحاق هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السِّيرة، وهو صدوقٌ، وهو مُعنعن، لكنَّه روى الحديث بالتَّحديثِ، وصرَّح بالسَّماعِ، وبالتَّالِي فالخبر حسن الإسناد.
قال جابر: (أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ)، يعني سيذهب مسافرًا من المدينة إلى خيبر.
قال: (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ)، أي يُريد أن يستأذن منه.
قال: (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَحْبَبْتُ التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ)، فيه الاستئذانُ مِن الكبيرِ في الأسْفَارِ ونحوها، وفيه توديعُ الإنسان لغيرِه متى أراد سفرًا.
قال: (يَكُونُ ذَلِك آخِرَ مَا أَصْنَعُ بِالْمَدِينَةِ)، يعني يكون تسليمي عليك آخر ما أصنع بالمدينة.
فَقَالَ له النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَتيتَ وَكِيْلِي بِخَيْبَرَ»، فيه جواز الوكَالة، وصحَّة التَّصرُّفات المبنيَّة على الوكالة، ويشترطُ في الوكالة أن يكونَ تصرُّف الوكيلِ مبنيًّا على جلبِ المصلحةِ، لا أن يكونَ بضدِّ ذلك.
قال: «إِذا أَتيتَ وَكِيْلِي بِخَيْبَرَ»؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عاملَ أهلَ خيبر بأن جعلهم يزرعون أشجارهم وأرضهم مقابل الشَّطر من ثمار تلك الأرض.
قال: «فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقً»، الوسق: مقدار نصف الصَّاع.
قال: (فَلَمَّا ولَّيْتُ)، يعني لمَّا أردتُّ الذَّهاب. (دَعَاني)، أي: طلب منِّ الرُّجوع.
فَقَالَ: «فَخُذْ مِنْهُ ثَلَاثِينَ وَسْقً»، يعني أضاف خمسة عشر صاعًا.
قال: «وَاللهِ مَا لآلِ مُحَمَّدٍ بِخَيْبَرَ ثَمَرَةٌ غَيْرُهَ»، يعني: لم يبقَ من ثمارهم وتمرهم إلا هذا المقدار، وفيه احتمالٌ أن يكونَ هناك مالٌ لآلِ محمد في غيرِ خيبر، ولكن الحديث فيه رغبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصَّدقة وحرصِهِ عليها، وعدمِ استجابته لدواعي النَّفس التي تدعو إلى الإمساك.
قال: «فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً»، أي: إذا طلبَ منكَ الوكيلُ الذي في خيبر علامة على صحَّة ما نقلتَه عنِّي مِن إعطاء هذا المقدار؛ «فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تُرْقُوَتِهِ»، فيه العملُ بالعلامات الظَّاهرة، خصوصًا إذا لم يُطَّلِع عليها، وفيه أنَّ الوكيل يتصرَّف بمثل هذه العَلامات.
قال: (فَقَدِمْتُ خَيْبَرَ، فَقُلْتُ لِوَكِيْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَمَرَني بِهِ)، يعني قلت له الذي أمرني به.
قوله: (فَابْتَغَى مِنِّي آيَةً)، يعني علامة.
قوله: (فَأَنْبَأْتُهُ بِه)، كأنَّه وضع يده على ترقوته.
قال: (فَقَرَّ بِـها إِلَيَّ)، وفي لفظ (فَقَرَّبِـها إِلَيَّ).
(فَقَرَّ بِـها إِلَيَّ)، يعني رضِيَ بها علامة. أمَّا (فَقَرَّبِـها إِلَيَّ)، أي: قام بتقريبِ الثَّلاثين وسقًا لجابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَقَالَ الوكيل حينئذٍ: (وَاللهِ مَا لِآلِ مُحَمَّدٍ بِـخَيْبَرَ ثَـمَرَةٌ غَيْرُهَ)، فيه صدقة الإنسان بشيءٍ من ماله ثقةً بوعد الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى.
ثمَّ أورد المؤلف من حديث شَبِيبٍ (أَنَّهُ سَمِعَ الْحَيَّ يُخْبرونَ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقيِّ)، شبيب ثقة من رواة الصَّحيح، ولكن هنا إشكال، وهو أنَّه قال: (سَمعتُ أهلَ الحيِّ)، وأهلُ الحيِّ هؤلاء مجاهيل، ولا يُدرَى منهم، ولذلك تكلَّمَ بعضُ أهلِ العلمِ في هذا الخبرِ، وقد وردَ مِن طرقٍ أُخرى زعمَ بعضُ أهل العلم أنَّ الخبر يتقوَّى بها.
قال: (عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقيِّ)، وهو صحابي.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ)، أعطاه دينارًا واحدًا، والدِّينار قرابة الأربعة والنِّصف جرامًا مِن الذَّهب، وفيه جوازُ وضعِ العُملةِ من الذَّهب.
قال: (يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيةً) وفي لفظ (أَو شَاةً)، أي شاة واحدة، ولكنَّ عروة اشترى له شاتين، فاستدلَّ بهذه اللفظة الحنفيَّة والمالكيَّة على أنَّ تصرُّفات الفُضولي صحيحة، إمَّا صحيحة مطلقًا إذا كانت لمصلحة المالك، وإمَّا إذا كانَ ذلك قد أذِنَ المالك الأوَّل فيه، فهنا توكيلٌ من النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعروة بأن يشتري له شاةً واحدةً، فاستدلَّ بعضُ العلماء بهذا الخبر على أنَّ تصرفات الفضولي -وهو الشَّخص غير المالك- تعتبرُ صحيحةٌ ناجزةٌ متى أذن فيها صاحب المال، وهو المنقول عن الحنفيَّة والمالكيَّة، وعند الشَّافعية والحنابلة أنَّ تصرفه باطل، وأنَّه لا يصح.
إذن عروة اشترى شاتين، ثم قامَ ببيع إحدى الشَّاتين، فأتى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدينارٍ يُماثل الدِّينار الذي أعطاه إياه وبشاةٍ، وأخبرَه بسببِ ذلك، فدعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعروة البارقي بالبركة في بيعه، وحينئذٍ كان لو اشترى التُّرابَ لربِحَ فيه، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد دعا له بالبركة.
ثم أورد المؤلف حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ...»، هذا الحديث قد رَواه أبو داود، وكثيرٌ مِن أهلِ العلمِ يُضعِّفُ هذا الخبر، إمَّا لجهالةِ والد يحيى بن سعيد، وهو سعيد بن حيَّان، حيثُ لم يروِ عنه إلا ابنه، وبالتَّالِي قالوا إنَّ الخبرَ مِن روايةِ شخصٍ مجهولٍ.
وقد اختُلف في وصله وإرساله، فإنَّ بعضَ أهل الحديث قد رواه مرسلًا بغير ذكر أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد صوَّبَ ذلك جماعة من أهل العلم.
قال: «قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ: أَنا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ»، أي: أكون معهما مؤيِّدًا مناصرًا مباركًا لهما في مالهما.
قال: «مَا لمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ»، فإنَّه إذا دخلت الخيانة زالت البركة.
قال: «فَإِذا خَانا خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَ»، أي: لم أبقَ معهما مباركًا لهما أفعالَهُمَا.
فهذا شيء ممَّا يتعلَّق بأحاديث الوكالةِ والشَّرِكَةِ، وفي هذه الأخبار دلالةٌ على صحَّةِ الشَّركة، وجواز التَّعامل بها، وقد استدلَّ بعضُهم على جواز الشَّركة بقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: 20]، واستُدلَّ عليه أيضًا بإجماع الصَّحابة العملي على استعمالِ الشَّركة بأنواعها، مرةً يستعملونَ شَركةَ الوجوه، ومرةً يستعملونَ شَركة المضَاربة، ومرة يستعملونَ شركات العَمل، بحيث يكون كلُّ واحدٍ منهما قد قدَّم عمله، ومثل هذا لا زال النَّاس يتعامَلونَ به من عَهدِ النبوَّة إلى عصرنا الحاضر.
أسأل الله -جل وعلا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم مِن الهداة المهتدين، وأشكُركَ على حسنِ تقديمك -بارك الله فيك- وأسألُ الله لإخواني الذين يُشاركوننا في ترتيب هذا اللقاءِ التَّوفيقَ لكلِّ خيرٍ، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يجعلَهم موفَّقينَ في كلِّ أمورهم، وأسألُ الله لمن يشاهدنا أن يكونَ مُوفَّقًا وأن يكونَ مرضيًّا عنه، وأن يكونَ رفيعَ الدَّرجة عند ربِّ العزَّة والجلال، وأسأله -جلَّ وعَلا- لجميعِ المسلمينَ في مَشارقِ الأرضِ ومغاربها أن يُوفَّقوا لكلِّ خير، وأن تكونَ البركة معهم في جميعِ أمورهم وأموالهم. هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكُركم فضيلةَ الشَّيخ على ما تقدِّمونه، أسألُ اللهَ أن يجعلَ ذلكَ في مَوازينِ حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عَطِرَةٌ مِن فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكُم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك